الدولة المتهالكة

الأربعاء 07 تشرين الثاني 2012

 تلك اللحظة الحزينة التي تكتشف فيها أنك لن تستطيع أن تشارك في خدمة بلدك
بقلم: مواطن أردني

استغرب الموظف من فكرة أن المراجع الواقف أمامه يراجع دائرة ضريبة الدخل للمرة الأولى رغم أنه في التاسعة والعشرين من العمر.

الموظف: “ما إشتغلتش قبل هيك؟”

المراجع: “كنت بدرس برّه”.

الموظف: “وشو رجعك إذا كنت برّة؟”

المراجع: (مازجاً المزاح بالجد): “رجعت أخدم البلد”.

الموظف: (بابتسامة استنكارية مازجاً المزاح بالجد أيضاً): “طب روح صف آخر واحد عشان تخدم البلد منيح”.

تشاء الظروف بعد بضع سنوات بأن تتاح الفرصة لخدمة البلد من موقع  مؤثر في إحدى الهيئات الحكومية. مبررات كثيرة للقبول بمهمة صعبة: ليس هناك أسهل من التنظير والنقد والتشكيك من الخارج، بدلاً من التخطيط والبناء من الداخل. هناك تأكيد على وجود الدعم الكامل على كافة المستويات لعمل كل ما يلزم عمله بحرية كاملة. خدمة الوطن واجب مقدس كل من موقعه وحسب قدراته.  إنها فرصة العمر لاختبار النوايا الإصلاحية على أرض الواقع. عشرات الأفكار المتناقضة، أفضت إلى مجموعة من الأسباب الموجبة لرفض الفكرة في مهدها:

-التعيينات في الهيئات والمؤسسات الحكومية خارج إطار المنافسة والتعليمات ليست عادلة، إن لم تكن مخالفة للقانون.

ربما كانت المؤسسات الحكومية تعاني من عدم قدرتها على استقطاب الكفاءات لخلل في أنظمة وقوانين التعيينات (وربما خلل في سلم الرواتب)، لكن الحل لا يكون بكسر هذه القوانين أو التحايل عليها باختراع مؤسسات وهيئات رديفة تعمل خارج إطار أنظمة الخدمة المدنية وسلم رواتبها. فمثلاً مع كل التحليلات الاقتصادية التي تنتقد الهيئات المستقلة وتطالب بتقليص نفقاتها ودمجها وإعادة هيكلتها، فانها تستمر بالعمل بموازنات ضخمة وعاجزة، ويكفي النظر، كمثال آخر، على “تجاوزات” أمانة عمان في تقرير ديوان المحاسبة وملف التعيينات فيها (المحال إلى دائرة مكافحة الفساد والقضاء) للاستنتاج بأن تجاوز القوانين (حتى وإن كانت القوانين بيروقراطية ومعيقة) ليس مقبولاً حتى لو كان عن حسن نية. الحل هو في تعديل القوانين والوصول إلى آلية تجعل النظام الحكومي ككل فاعلاً بدون طرق مختصرة وبطريقة مستدامة. لقد تركت آلية عمل هذه الهيئات والمؤسسات والتعيين فيها ورواتبها العالية نسبياً انطباعاً عاماً بأن كل من يعمل ضمنها هو شريك في الفساد ومنتفع.

-الانطباع السائد بأن الوظيفة الحكومية ليست سوى منفعة حوّل خدمة الوطن إلى تهمة ووسيلة اجتماعية وسياسية لتكميم الأفواه. 

فلا يحق لمن حصل على راتب شهر واحد من الموازنة الحكومية مهما كانت مهمته أن يسجل أي ملاحظة سلبية على الجهة التي عمل معها أو على الحكومة أو على النظام أثناء أو بعد ممارسة هذه المهمة، ولثلاثة أجيال على الأقل، فلن يحق لأبنائك أو أحفادك الإشارة إلى أي مشكلة بنظام “صرف عليكم، ولحم كتافكم من خيره” . فالمطحنة جاهزة وعلى أعلى المستويات “لتعييرك” بفترة “خدمتك”، فلا يحق لك أن تراجع تجربتك من الداخل أو تنتقدها أو تكشف عن آلية العمل الحكومية، وإذا افشلتك المنظومة المهترئة والوضع القائم رغم كل جهودك، فقد حصلت على فرصتك، وعليك أن تسكت إلى الأبد.

-المنظومة المهترئة والخلل في إدارة المؤسسات والهيئات الحكومية أكبر من أن يتم تداركه وإصلاحه من خلال فريق إداري جديد ومتحمس. 

كيف يمكن تجاوز بعض الحقائق العامة حول بعض المؤسسات والهيئات الحكومية، والتي تشير إلى مهمة مستحيلة، والقفز عنها بسذاجة على أمل لعب دور الرجل المنقذ؟ هذه أمثلة قليلة عامة على ما يجري في داخل مؤسسات الدولة، حتى “الرشيقة” منها:

-بعض الهيئات المستقلة فعلياً عاطلة عن العمل منذ عدة سنوات، ولا تقوم بأي وظائف.

-في بعض المؤسسات الحكومية أكثر من ثلثي الموظفين تم تعيينهم لاعتبارات مناطقية و”انتخابية” بدون الحد الأدنى من التأهيل للقيام بواجباتهم.

-إحداث أي تغيير جذري على مستوى الاختلالات في الموارد البشرية شبه مستحيل (حقوق مكتسبة) وبالتالي الحل هو “احتواء” هذه المشاكل، والعمل بالرغم منها وليس معها.

-العرف السائد في مؤسسات الحكومة هو وضع استقالة من يرغب بالترشح للانتخابات في الأدراج لحين ظهور النتائج، أو قبولها مع بقاء المنصب شاغراً على أحسن تقدير.

-بعض المؤسسات تقوم بوضع صحافيين وإعلاميين من وسائل الإعلام الرسمية على جداول رواتبها لضمان تغطية ايجابية لأخبارها.

-معظم الهيئات والمؤسسات الحكومية تعمل وفقاً لرؤية ملكية بدلاً من أهداف واضحة خاضعة للمساءلة.

 في المحصلة، فإن إتخاذ أي قرار محكوم بموازنة الحسنات والسيئات. تحية لمن استطاع أن يرى جزءًا ممتلئاً من الكأس، جعله ينكب على العمل العام آخذاً المخاطرة بما تحمله من مشاكل وميزات. لكن في ضوء الأسباب المذكورة أعلاه وغيرها يبقى التغيير الحقيقي الجذري في بنية الدولة وأسلوب إدارتها العنصر الأولي لدفع أبناء الوطن للانخراط في خدمته. وحتى الآن فالبوادر على وجود النية الصادقة لهذا التغيير الجاد ما زالت للأسف موضع شك.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية