خمس دراسات في الضجيج

الأحد 28 كانون الثاني 2018
بيير شيفر (وسط)، مصدر الصورة: quietstormmusic.com

من سقيفة مكتظة بالمعدات الإذاعية والأشرطة وسط باريس، أعلن مجموعة شباب عبر أثير إذاعتهم عن دخول مقاتلي المقاومة إلى الشوارع، ودَعوا الكنائس إلى قرع أجراسها لإعلان تحرير المدينة المنتظر من الاحتلال النازي. عُرف ذلك التجمع باسم «استديو التجريب»، ولم يكن نقلهم للأخبار والشعر والموسيقى الممنوعة إلا نشاطًا طارئًا اقتضته أشهر الحرب الأخيرة عام 1944، أما هدفهم الأصلي فقد كان ثورة طويلة الأمد من نوع مختلف.

كانت فكرة بيير شيفر، المؤلف ومؤسس الاستديو، أنه مثلما لا يمكن لنشرة أخبار أن تأخذ شكل إلقاء شعري أو مسرحي، كذلك لا يمكن للموسيقى الإذاعية أن تقتصر على اجترار صيغ أقدم مثل الموسيقى الحية، والتي مهما سُجلت جيدًا ونُقلت عبر الإذاعات، لن تنوب عن العرض الأصلي بعناصره البصرية والنفسية، فالراديو يحدد علاقة جديدة بين الفنان والمستمع تختلف عن العلاقة في الصالات والمسارح، ولذلك يحتاج، حسب كلمات شيفر، إلى «فن راديوفوني» خاص به.

ولد ذلك الفن المنتظر بعد سنوات من البحث والتجريب عام 1948، يوم خرج شيفر مع عُدة تسجيل إلى محطة قطارات على أطراف المدينة، ولاحظ منذ دخوله إلى الفضاء الواسع للمحطة، أن القطارات تدخل في حوار بين بعضها، وأن لها أصوات شخصية خاصة بها تمامًا مثل البشر. قام شيفر بتسجيل تلك الأصوات ومعالجتها في الاستديو، مستخدمًا إياها لخلق إيقاعات موسيقية، ومن ثم لصناعة سرد موسيقي متكامل. عرف ذلك التسجيل باسم «دراسة في السكك الحديدية»، وهي الدراسة الأولى من «خمس دراسات في الضجيج» شكلت إعلان ولادة لفن جديد سماه شيفر بالموسيقى الخرسانية، وهي موسيقى تقوم على معالجة أصوات مسجلة مسبقًا بدلًا من أن تقوم على نوطات مكتوبة.

تأمل شيفر أن الجمهور سينسى القطار بحد ذاته ولن يسمع إلا «تسلسلاً من الألوان الصوتية»، وهي الفلسفة التي قامت عليها الموسيقى الخرسانية: تجاوز مصدر الصوت نحو الصوت بحد ذاته، أي بكلمات أخرى، الفصل بين ما سماه شيفر «الجسم الصوتي» أي القطار، وبين «الغرض الصوتي»، صوت القطار، والذي يخبئ برأي شيفر إمكانات مهولة لا يمكن استثمارها إلا بتحريره من تلك العلاقة السببية. بتعاملنا مع الصوت منذ ثانية تسجيله ككيان مستقل لا يدين بشيء إلى مصدره، نبدأ بسماعه في سياق جديد، ويصير بإمكانه لعب دور تعبيري جديد كموسيقى، وليس كمرافقة خلفية لفعل ما.

تبقى أهمية الدراسة الأولى رمزية، خصوصاً وأنها تُعتبر فقيرة بالمواد الأولية وطرق المعالجة مقارنة بما فعله شيفر لاحقًا. ففصْل الغرض الصوتي عن مصدره لم يكن إلا خطوة أولى، والتسجيل في الموسيقى الخرسانية لا يكافئ إلا سلمًا موسيقيًا من النوطات في الموسيقى التقليدية، أي مجرد مادة أولية لا تكتفي بذاتها، ولا تنقل إلا العناصر السطحية للصوت والتي ندركها بأذننا المجردة.

الخطوة التالية كانت إخراج ما بداخل الصوت، وهو ما فعله شيفر باستخدام تجهيزات الإذاعة الفرنسية، حيث أخضع التسجيلات لعمليات مونتاج وتعديل على كثافتها وسرعتها والنسب المختلفة لموجاتها الصوتية، كما أدخلها في «loop»، أي حلقة مفرغة يكرر فيها صوت قصير نفسه لخلق إيقاع. وفجأة، بدأت أصوات يومية عابرة مثل قطرة مياه أو دورة بلبل بتوليد إمكانات مهولة لا تمت بصلة إلى الصوت الأصلي، «الصوت لديه ما يقوله لنا، إذا استطعنا جعله يقوله»، حسب كلمات شيفر، فهو كائن معقد يمكن تشريحه وتشكيله كالصلصال لخدمة نيّة موسيقية معينة.

هكذا يصبح انفصال الغرض الصوتي مزدوجًا، عن مصدره وعن معناه الأصلي، ويبدأ بتوليد معانيه الخاصة وخطابه الموسيقي المستقل، كما في الدراستين الثالثة والرابعة، «الدراسة البنفسجية» و«الدراسة السوداء». في البنفسجية، يطبق شيفر تقنية الأصوات المعكوسة، في هذه الحالة البيانو المعكوس، والذي بدلًا من أن نسمع ضربة نوطته متبوعة بصداها كما في الواقع، نسمع الصدى أولاً، ينبثق من العدم ويعلو حتى الضربة (1:09)، خدعة تمكنت ببساطتها من عكس عملية خلق الصوت، كأنه يولد بعد أن يموت. بسماعنا لأصوات مألوفة كهذه تتصرف بطرق غير مألوفة أو حتى مخالفة لطريقة عمل مصدرها، تعبث الموسيقى الخرسانية بإدراكنا للواقع، تفككه وتعيد تركيبه وفق قواعدها النحوية الخاصة كما في لوحة سريالية، وتنتزع الأصوات اليومية من الفيزياء التي تحكمها نحو زمن بديل مرهون بمخيلة المؤلف.

بينما تشكل الدراسات الأربعة الأولى باعتراف شيفر محاولات نصف ناجحة، تبدو «الدراسة العاطفية» الأخيرة كلحظة يقظة تبدأ فيها الموسيقى الخرسانية بإدراك إمكاناتها الحقيقية. تتوسع دائرة المواد الأولية لتشمل مزيجًا غنيًا من آلات موسيقية وأوعية الطبخ والقوارب النهرية، وللمرة الأولى أصواتًا بشرية، تغني وتتكلم بلغة كانت يومًا مفهومة وأصبحت بعد المعالجة غريبة عن مصدرها كباقي الأصوات، تواصلها مع بعضها يتجاوز الحاجة إلى كلمات مفهومة.

لو كانت أجهزة الراديو كالبشر، تحلم ليلًا بعد أن نغلقها، فمن المرجح أن تبدو أحلامها مشابهة لهذه الموسيقى، شريط يراجع كل ما بُث عليه خلال النهار، أو تركيب من ذاكرة سمعية ضاعت عن مواطنها الأصلية وعلقت في تشابك من الأصوات بعضها يكرر نفسه بهوس بينما يلمَع آخر بسرعة خاطفة أو يهمس في الخلفية، أو حسب وصف مؤلفها، تتابع من الأفكار «كوميدي وإيروتيكي، وأخيرًا، مثير للقلق».

في الوقت الذي كان فيه الأدباء واللغويّون يعملون على تفكيك الكلمات ودلالاتها، حررت الموسيقى الخرسانية الأصوات أيضًا من دلالاتها ومعانيها، ومن الأحكام الاجتماعية التي لطالما صنفتها إلى أصوات «موسيقية» وأخرى «غير موسيقية». فقد آمن شيفر أن الفرق بين الموسيقى والضجيج مركب ثقافيًا ويمكن تجاوزه، فأي موسيقى هي صوت قبل أن تكون موسيقى، وبالتالي فإن كل صوت يحمل بطبيعته قابلية موسيقية يمكن استخراجها.

إضافة إلى ذلك، صاغت الموسيقى الخرسانية علاقة جديدة بين العمل والمُستمع، يمكن أن تتوجه مباشرةً إلى المستمع في منزله، كونها غير قائمة على الأداء الحي، وهي بذلك تنبع من منطق عمل الإذاعة دون الحاجة إلى إعادة إنتاج أعمال حية تقنيًا، وبالتالي سلبها سحرها ودورها كطقس اجتماعي.

تكتسب تلك الأفكار قيمة مضاعفة في سياقها التقني الأصلي، عصر ما قبل الحواسيب، حين كان المؤلف إذا ما أراد صوتًا، لا يحصل عليه بكبسة زر ولا حتى بصيغ رياضية جاهزة، كل صوت يتخيله هو صوت لم يسمعه إنسان من قبل، وعلى عاتقه هو أن يجد الطريقة لخلقه، كل فكرة موسيقية هي وليدة سلسلة من التكهنات والتجارب، ومحصلة ساعات من التسجيل على بكرات الماجنيتوفون وقصقصة الأشرطة وتلصيقها في عمل يدوي دقيق ومرهق.

وصف شيفر لاحقًا تلك المرحلة البطولية في كتاباته: «تحمل بداية التقنيات الجديدة فترة رائعة ومليئة بالارتباك، حين لم يكن أحد يعرف شيئًا، وكان على كل أحد أن يعلّم نفسه أصول المهنة (..) مَن عرف إذاعة البث في بداياتها، الأدراج المتداعية للبناء رقم 97 في شارع جرينيل، وغرف برج إيفيل المظلمة، وأقبية مؤسسة البريد، والتلغراف، والهواتف، فقد شارك في مغامرة ملحمية وبائسة».

بُثت الدراسات الخمس على الإذاعة الفرنسية عام 1948، وتصاعدت شهرة شيفر ليساهم لاحقًا بأعمال مثل أورفيوس 53، وسيمفونية لرجل وحيد، بينما عاشت الموسيقى الخرسانية حياةً قصيرة قبل أن تذوب في التيار الأكبر المسمى بالموسيقى «الإلكترو-أكوستيكية»، التي تجمع الموسيقى الخرسانية بالموسيقى الإلكترونية والعروض الحية، الشيء الذي لم يمنع استمرار جماليتها وتقنياتها اليوم في خلفيات بعض البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي اكتسبت صوتًا جديدًا بفضلها، فضلًا عن السينما.

صارت حواسيب اليوم قادرة على تصنيع أي صوت تقريبًا دون الحاجة لتسجيله، وهو انتصار تقني لم يكن ليعني الكثير لشيفر بدون مكتسباته الفكرية والجمالية، خصوصًا لو عاش ليرى هوس بعض البرامج بتقليد صوت جيتار أو بيانو «بأكثر واقعية ممكنة»، أو الأسوأ، استخدام بعض الموسيقيين لتلك الأصوات المزيفة في أعمال فنية بدلًا من الآلات الطبيعية. فالتحدي الذي خاضه شيفر لم يكن فقط لصناعة الصوت، بل لصناعته من أجل غاية، وبدافع الحاجة لقول شيء جديد وليس لقول ذات الأشياء القديمة. وهنا تُثبت الموسيقى الخرسانية، بالرغم من تواضع تقنياتها، أنها امتلكت البصيرة الكافية لتفادي ذلك الفخ، وتذكرنا بأن معركة التكنولوجيا اليوم لمنافسة الواقع في الفن هي معركة وهمية، بينما تكمن المعركة الحقيقية في تحررها من الواقع لتقدم مضمونها الخاص بها.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية