طاعون في يافا: الفن في خدمة البروبغاندا

أنطوان-جان چروه، «نابليون يزور مرضى الطاعون في يافا»، 1804، زيت على قماش، 532*720 سم، متحف اللوفر، باريس. مصدر الصورة: ويكيبيديا.

طاعون في يافا: الفن في خدمة البروبغاندا

الأربعاء 01 كانون الأول 2021

مرّ عام 1804 على فرنسا كغمامة فوضى سياسية. في الربيع، أعلن القنصل الأول نابليون بونابارت نيته وأد الجمهورية الوليدة بتنصيب ذاته إمبراطورًا. أثار الخبر هلع معارضيه، سواء من الجمهوريين الذين رأوا في استفراده بالسلطة خيانة للثورة الفرنسية، أو الملكيين ممن ظلوا موالين لآل بوربون المخلوعين، أو حتى الدول المجاورة، خصوصًا بريطانيا، التي لم يفارقها للحظة الشعور بالخوف على سيادتها ومشاريعها الاستعمارية، منذ انتصار الثورة وحتى صعود الجنرال الشاب إلى الواجهة.

احترامًا للشرعية الدستورية، حضّر نابليون لاستفتاء وطني يمهد لتحويل فرنسا إلى إمبراطورية، وترافقت الفترة تلك بحرب إعلامية حاول فيها معارضو نابليون زعزعة شعبيته بكل أنواع الإشاعات. إحداها شكلت مصدر قلق جديّ، وتعلقت بسلسلة فظائع كانت قد حدثت قبل خمس سنوات، بعيدًا في مدينة مشرقية لم يكن قد سمع بها إلا قلة من الفرنسيين حتى ذلك الوقت. إن كانت المنظومة البونابارتية الصاعدة قد أرادت تمكين ذاتها لدى الرأي العام، فقد كان من الضروري تحريك كل الوسائل الممكنة لطمس حقيقة ما حدث في يافا عام 1799.

في الوقت ذاته، كانت باريس تتحضر لـ«صالون الرسم والنحت»، وهو معرض ضخم نظمته أكاديمية الفنون الجميلة مرة كل سنتين منذ نهاية القرن السابع عشر، هذا الحدث شكّل منذ ذلك الحين المحرك الأساسي لتطور الفن في البلاد. جرت العادة بتنظيم الصالون في قصر اللوفر وسط العاصمة باريس، وكان حدثًا مجانيًا مفتوحًا للجميع، من أغنى برجوازيي المدينة وحتى صغار العمال والباعة، كما ترافق الصالون بمشهد صحفي نشط، دُعي فيه الجميع لإبداء رأيهم بالأعمال والحكم عليها. وفي عام 1804، كان افتتاح الصالون سيسبق استفتاء نابليون بشهرين، وبهذا بدا مناسبة مثالية لتبديد أي شكوك متبقية تجاهه.

قبل ذلك بسنتين، في عام 1802، كان نابليون قد عين حليفه فيفان دينون (Vivant Denon) مديرًا عامًا للمتحف المركزي للفنون، وبالتالي مسؤولًا مباشرًا عن الصالون. كان دينون شخصية مركزية في المنظومة الإمبريالية الفرنسية، حيث رافق نابليون إلى مصر مصدرًا كتابه الضخم «رحلة في مصر السفلى والعليا». ومنذ تعيينه في باريس، عمل دينون بشكل ممنهج على تغيير السياسة الفنية للبلاد، خصوصًا فيما يتعلق بـ«الرسم التاريخي» الذي شكل مركز ثقل المؤسسة الفنية. تقليديًا، تميزت اللوحات التاريخية عن غيرها (المشاهد الطبيعية أو البورتريهات مثلًا) بمقاساتها الضخمة وتعقيدها البصري والفكري، حيث قامت على تمثيل أحداث تاريخية أو أسطورية غابرة، يونانية ورومانية بشكل أساسي، من أجل تمرير تلميحات سياسية إلى الحياة المعاصرة، دون التعرض لها بشكل مباشر أو الحكم عليها، مما دفع المشاهد نحو التفكير وإجراء المقارنات بين الماضي والحاضر وتشكيل رأيه الشخصي.[1] 

دفع دينون باتجاه إنهاء تلك العادة مقابل تمثيل أحداث سياسية معاصرة ومألوفة يمكن لعامة الناس فهمها دون الكثير من التفكير أو النقاش، لا احتفاءً بالحداثة بقدر ما هو رغبةً بتمرير قيم سياسية صريحة لا لبس فيها، بدلًا من غموض اللوحات التاريخية ومجازاتها المعقدة. وبالفعل، توافقت سياسات دينون مع حاجة نابليون للبروباغاندا، وبُهرت جماهير صالون عام 1804 بلوحة تاريخية من نوع جديد حملت عنوان «نابليون يزور مرضى الطاعون في يافا»، لوحة لا تزال إلى اليوم معلقة في متحف اللوفر، في ذات الجناح الذي عرضت فيه للمرة الأولى منذ أكثر من مئتي عام.

تعود قصة اللوحة إلى الحملة المصرية. عندما قرر السلطان العثماني سليم الثالث الزحف ضد نابليون في مصر، قرر الجنرال الفرنسي مباغتته بالذهاب للقاء جيوشه في بلاد الشام، فزحف عبر سيناء شمالًا فيما عرف بالـ «الحملة السورية»، والتي صمد فيها الفرنسيون بالكاد أربعة شهور من عام 1799، قبل أن يسجلها التاريخ هزيمةً مخزية، هي الأولى في تاريخ نابليون.

بعد دخولهم غزة سلمًا، احتل الفرنسيون يافا بالقوة وتلا ذلك يومان من القتل والاغتصاب. وعندما لجأ بضعة آلاف من الجنود العثمانيين إلى القلعة معلنين استسلامهم، لم يتردد نابليون بإعدامهم جميعًا وبالحراب، توفيرًا للبارود. وفي آذار، بدأ الفرنسيون حصارًا حول عكا استمر لشهرين عصيبين. كانت المدينة آنذاك مقرّ أحمد باشا الجزار، حاكم إيالة صيدا العثمانية اسميًا، والحاكم الفعلي لإمارة شامية شبه مستقلة عن الباب العالي شملت معظم بلاد الشام.[2] تولى الجزار قيادة الجيوش العثمانية، بينما أخذ وزيره الدمشقي حاييم فارحي بتحصين عكا بمساندة بريطانية، محبطًا المحاولات المتكررة لدخولها.

للزيادة من يأس الفرنسيين، تفشت موجة من الطاعون حصدت المئات منهم في غضون أسابيع. رفض نابليون الاعتراف بالوباء، مصرًا على أنه مجرد «حمى» غير معدية، وأن السبب الأساسي للإصابة بها هو الخوف وضعف العزيمة. وليثبت ذلك أمام الجميع، زار بعضًا من جنوده المصابين بالطاعون في دير القديس نقولا وسط يافا، والذي حُول إلى مشفى ميداني، الحدث الذي صورته اللوحة الشهيرة لاحقًا عام 1804. أثناء عرضها، قام كتيب الصالون باختصار القصة كالتالي:

«بونابارت، الجنرال قائد جيش الشرق، لحظة لمسه لورم طاعوني أثناء زيارته المشفى في يافا (..) من أجل إبعاد الفكرة المخيفة لعدوى مفاجئة لا شفاء منها، طلب بأن تُفتح أمامه بضعة أورام طاعونية ولمس بعضها. بولائه الكبير هذا، ضرب مثالًا بشجاعة لا سابق لها حتى الآن».[3]

دير القديس نقولا، يافا. المصدر: ويكيبيديا.

خلال شهر أيار، فقد الفرنسيون أي أمل بدخول عكا، وقرر نابليون رفع الحصار والانسحاب من كافة الأراضي السورية. من بين أكثر من 10 آلاف رجل رافق نابليون، النصف فقط عاد حيًا إلى القاهرة. أما الأسوأ، فهو ما حدث أثناء الانسحاب، حين أمر الجنرال أطباءه بتسميم ما تبقى من الجنود الفرنسيين المصابين بالطاعون سرًا لكي يتخلص من عبء إعادتهم إلى وطنهم، وهو ما جرى فعلًا، موديًا بحياة عشرات الفرنسيين (تتراوح التقديرات بين 25 و580 قتيلًا). اكتشف البريطانيون ما حدث عند دخولهم يافا، ولم يتوانوا عن فضح القصة في صحافتهم، مشيرين إلى جرائم نابليون ضد المدنيين وضد جنوده.

كانت الفضيحة لا تزال حاضرة في أذهان الفرنسيين عام 1804. ووقعت مهمة تبييض سمعة القنصل على عاتق الفنان أنطوان-جان چروه (Antoine-Jean Gros)، الذي ربطته علاقة قوية بنابليون منذ أن رسمه للمرة الأولى عام 1796 في إيطاليا، وصار منذ ذلك الوقت أحد فناني السلطة الرسميين. بدأ چروه بالتحضير للوحته بمسودة أولى ظهر فيها المرضى مكدسين في غرفة مغلقة، غالبًا ما قاربت الغرفة الحقيقية في الدير، يتوسطهم نابليون بلباسه الرسمي وهو يساند جنديًا متهاويًا.

أنطوان-جان چروه، مسودة أولية للوحة «نابليون يزور مرضى الطاعون في يافا»، 1804، زيت على قماش، 94*113 سم، متحف نيو أورليانز للفن، المصدر: متحف نيو أورليانز للفنون.

لسبب غير واضح، غير الفنان مشروعه، وجاءت اللوحة النهائية مختلفة تمامًا. چروه -الذي لم ير في حياته لا دير القديس نقولا ولا غيره من العمارة اليافاوية- ابتدع في لوحته مكانًا متخيلًا أقرب إلى صحن مسجد مملوكي مصري (مسجد السلطان المؤيد شيخ في القاهرة مثلًا)، بأقواس مدببة و«شرفات» نباتية تعلو جدرانه، بل وحتى مئذنة! وفي عمق اللوحة جبل محصن يرفرف فوقه العلم الفرنسي. وبدل الضوء الساطع والمتجانس للمسودة الأولى، تنفذ هنا الأضواء المتقطعة لشمس غاربة عبر الغيوم (أو هي غبار المعركة؟) لتسقط على الجنرال، تمامًا كما على خشبة مسرح، بينما يغرق الباقون في الظلام، وفي وضعيات يائسة، كلما ابتعدوا عنه. يدير نابليون جسده نحونا في حركة استعراضية ولامبالية معًا، تعلّمها چروه مباشرة من التماثيل اليونانية. بتعابير جليدية، يمسك قفازه بيمناه بينما تمتد يده اليسرى عارية لتلمس جسد أحد المرضى.

من غير المستغرب أن تكون اللوحة قد ذكّرت جمهورها بصور المسيح الذي يشفي المرضى، أو بصور ملوك فرنسا القدماء الذي ادّعوا قدرات خارقة مشابهة. ففي الحقيقة، تجسد لوحة «يافا» التناقض الجذري لسياسة دينون «التحديثية»: قد يكون محتوى اللوحة معاصرًا وشعبويًا، لكن كل ما تبقى من تكوين وألوان وتلميحات ظلّ خاضعًا للأعراف التقديسية ذاتها التي ميزت اللوحات الأسطورية والتاريخية التقليدية. في لوحة أخرى من عام 1801 بعنوان «قتال الناصرة»، قام چروه بشكل مشابه بتضخيم معركة غير مهمة في الحقيقة، مضيفًا سلسلة من التلميحات الدينية مثل جبل طابور في الخلفية، أو حتى اسم «الناصرة» في العنوان (في حين أن المعركة قد حدثت في الحقيقة قرب قرية لوبيا)، مما ساعد في إثارة عواطف الفرنسيين الدينية، وربط نابليون بالصليبيين الذين حلّوا على الشام لإنقاذها من بربرية المسلمين.[4] أتى تناقض لوحات چروه هذا على صورة تناقض نابليون وإمبراطوريته، والتي كانت حداثتها مجرد غطاء شكلي للرجعية نحو قيم دينية وطبقية كانت الثورة الفرنسية قد حاولت القضاء عليها.

واشنطن آلستون، «المسيح يشفي المرضى»، 1813، زيت على خشب، 73*102 سم، متحف ورشستر للفن. المصدر: ويكيبيديا.

كان نجاح اللوحة ساحقًا. لكن ذلك لم يمنعها من إثارة تحفظات بعض النقاد، وحيرة مؤرخي الفن اليوم، حيث أشير إلى غرابة تمثيل چروه للجنود الفرنسيين بوضعيات أنثوية وأجساد رخوة وخاضعة، وهو دور محجوز عادة للشرقيين بجنسانيتهم الهائجة وغير الصحية، كما يذكر إدوارد سعيد.[5] تعقد مؤرخة الفن دارسي جريجسبي، بتوصيف لوحة چروه كلوحة استشراقية مثل غيرها، وذلك لكونها لا تقوم على التفريق بين الفرنسيين والشرقيين، بل بين نوعين من الفرنسيين، من جهة نابليون وحاشيته الذين يصورون كعقلانيين وأقوياء بكامل فحولتهم ولباسهم الرسمي الحديث، ومن جهة أخرى، الجنود الضعفاء والعراة، المصابون بالطاعون بسبب ضعف إيمانهم بقائدهم (كما حاول نابليون إقناعهم)، والذين يقتربون بضعفهم و«خنوثتهم» من العدو الشرقي الذين كان من المفترض بهم قتاله. باختصار، يوظف چروه فصلًا استشراقيًا بالأصل في سياق أهلي بحت، معطيًا درسًا في الوطنية لأبناء بلده.[6]

إضافة إلى ذلك، تميزت لوحة چروه بعنف بصري غير مألوف آنذاك، خصوصًا بالنسبة للوحة يفترض بها أن تكون «إيجابية». حتى إن بعض النقاد طالبوا بأن توضع صور الجثث والمرضى مستقبلًا في الظل، لعدم تشويه كرامة الفرنسيين. لكن چروه، بدل التعتيم على قصة الطاعون أو التخفيف من عنفها، قام -على العكس من ذلك- بتمثيلها بكامل فظاعتها، من أجل زيادة الشحنة العاطفية للصورة وتحويلها لصالح السلطة، ما ميزه عن أي فنان بروباغاندا عادي.[7] بكلمات أخرى، قد تكون حملة نابليون فشلًا عسكريًا، يقول لنا چروه، لكنها نصر لإنسانية الفرنسيين، إنسانية تتجلى في شجاعتهم وضعفهم معًا. بتنصيبه إمبراطورًا، سيقود نابليون البلاد عبر المخاطر، تمامًا كما قاد جنوده في رحلة بطولية إلى أرض مدهشة وموبوءة، كل ما فيها غرائبي باستثنائه هو، الجنرال الفرنسي الشاب بلباسه الأنيق، الوجه النيّر للحضارة الذي يعيد إلى جنوده قواهم بلمسة منه. بهذا يكون چروه أحد مدشني موضة صور الحكام الذين يزورون رعاياهم المرضى، موضوع محبب لدى الصحافة الرسمية حتى اليوم، لكن تعقيد لوحته يكمن في نجاحها في احتواء فظاعة الحدث، عبر تمثيلها بدل إنكارها.

في 21 آذار عام 1799، زار نابليون بالفعل جنوده المرضى في يافا. لكن اختيار ذلك الحدث دون غيره عام 1804 يجعل من لوحة چروه أبعد ما يكون عن حقيقة ما حدث في الحملة السورية. فالفنان لم يترك لوحة بعنوان «اغتصاب فتاة عربية» أو «تسميم نابليون لجنوده». من بين تلك الأحداث، فقط زيارة المستشفى تحولت إلى لوحة، الفقرة الوحيدة السلمية في حملة لم تكن إلا سلسلة بشاعات، الفقرة الوحيدة التي يمكن عزوها إلى «القدر» لا إلى قرارات يتحمل مسؤوليتها البشر. أما الأحداث الأخرى، ورغم معرفة الجميع بها، فقد بقيت نظرية لغياب أي تمثيلات قوية لها. الإيديولوجيا لا تقوم إذًا بالضرورة على اختلاق الأحداث من العدم، بل على اختيار صورة معينة تختصر دون غيرها مرحلة تاريخية معقدة، بحيث تصبح تلك الصورة أول ما يحضر إلى الذهن عند الحديث عن تلك الحقبة، وهو ما أظهرته بوضوح ذكرى مرور قرنين على وفاة نابليون هذا العام، حيث لا تزال عيون الكثيرين من المثقفين والسياسيين الفرنسيين (خصوصًا اليمينيين منهم) تتطلع دامعة إلى الجنرال الشاب والمضيء الذي علمتهم اللوحات تبجيله كرمز لعظمة وإنسانية الإمبراطورية الفرنسية.

  • الهوامش

    [1] David O’Brien, Antoine-Jean Gros, painting and propaganda under Napoleon, Pennsylvania State University Press, 2006.

    [2] Kamal Salibi, A House of Many Mansions: the History of Lebanon Reconsidered, London, I.B. Tauris, p. 156.

    [3] Darcy Grimaldo Grigsby, «Rumor, Contagion, and Colonization in Gros’s Plague-Stricken of Jaffa (1804)»Representations, summer, 1995, No. 51, p. 1-46.

    [4] David O’Brien, Antoine-Jean Gros, painting and propaganda under Napoleon, Pennsylvania State University Press, 2006.

    [5] Edward Said, Orientalism: Western Conception of the Orient, London, Penguin Books, 1978, p. 188.

    [6] Darcy Grimaldo Grigsby, «Rumor, Contagion, and Colonization in Gros’s Plague-Stricken of Jaffa (1804)»Representations, summer, 1995, No. 51, p. 1-46.

    [7] David O’Brien, Antoine-Jean Gros, painting and propaganda under Napoleon, Pennsylvania State University Press, 2006.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية