رفيق اللحام: التشكيلي الذي صنع حظوظه في الحياة والفن

لوحة «القدس»، جرافيك، طباعة على ورق، لرفيق اللحام. المصدر: مؤسسة عبد الحميد شومان.

رفيق اللحام: التشكيلي الذي صنع حظوظه في الحياة والفن

الثلاثاء 29 آب 2023

ليس من السهل عليَّ أن أعود للكتابة عن الفنان التشكيلي الراحل رفيق اللحام، الذي مرت الذكرى السنوية الثانية على وفاته في الثلاثين من تموز الماضي. فقد سبق وأن أشرفت عام 2010 على إعداد سيرته الذاتية ونشرها في كتاب، كما كنت كتبت عدة مقالات عنه، كان آخرها بعيد رحيله بقليل.[1]

لكن تبقى دائمًا جوانب هامة في شخصية هذا الفنان تشجع على العودة لتسليط الضوء عليها، وهو ما حفزني على استعادة بعضها هنا، خاصة وأنني عرفته مبكرًا، في مطلع الستينيات من القرن الماضي، حين جمعتني به عضوية «لجنة المعارض»، التي كان يرأسها اللحام وضمّتني إلى جانب الفنان الكبير صالح أبو شندي، أمد الله في عمره وعافاه. ولم تنقطع علاقتي باللحام وأسرته الكريمة خلال العقود الثلاثة الأخيرة من حياته.

وإذا جاز لي أن أختزل خلاصة معرفتي الطويلة برفيق اللحام بكلمات فإنني أجزم أنني لم أعرف شخصًا آخر صنع حظوظه بيديه مثلما فعل الفنان الراحل، وينطبق هذا على سيرته الوظيفية كما على سيرته الفنية، التي امتدت لنحو سبعين عامًا، وهو ما يفسر الغنى الشديد بالتفاصيل التي ميزت سيرته الحياتية والفنية على حد سواء.

من صالحية دمشق إلى عمان

كان اللحام في سن السادسة عشرة حين رافق عائلته في رحيلها من دمشق إلى عمان، عام 1947. وهو ابن أسرة تنتمي إلى الطبقة الوسطى، ولد في حي الصالحية الشهير بدمشق عام 1931، وتلقى تعليمه الأساسي في مدارس الحي المذكور، ثم في دار الصناعة والفنون، حيث تزود على أيدي معلميها بمبادئ الرسم والخط العربي.[2]

في عمان تلقى اللحام دورات تعليمية مختلفة، لعلّ أحدها تساعده في الحصول على وظيفة، وهكذا تعلم الطباعة أو «الدق على الآلة الكاتبة»، كما درس المحاسبة ومسك الدفاتر، فضلًا عن تلقيه دورات في اللغتين الإنجليزية والإيطالية.

في معهد النهضة العلمي بعمان، حيث تلقى اللحام بعض الدورات التعليمية، شغل أولى الوظائف في مستهل حياته المهنية، وهي وظيفة تدريس الرسم المعماري، الذي كان قد تلقى مبادئه في دار الصناعة والفنون بدمشق. لكن علاقة اللحام بمعهد النهضة وصاحبه كمال عودة، تجاوزت حدود الوظيفة إلى تنظيم النشاطات الثقافية والفنية.[3]

المحطة الوظيفية الثانية كانت في كلية الحسين الحكومية، التي انتقل إليها ليدرس طلابها المحاسبة ومسك الدفاتر. وفي تلك الأثناء أعلنت وزارة الأشغال العامة عن حاجتها إلى رسام معماري، فتقدم اللحام إلى مسابقتها وفاز بالوظيفة التي شغلها لمدة عامين، جنبًا إلى جنب مع عمله في كلية الحسين، معلمًا للمحاسبة ومسك الدفاتر. وهكذا عمل اللحام في مطلع الخمسينيات تحت إشراف المهندسين المعماريين الرواد، من أمثال سمعان شامية، والأيقونة المعمارية المهندس جعفر طوقان.

لم تطل خدمة اللحام في وزارة الأشغال، إذ انتدب للعمل في القصور الملكية رسامًا معماريًا، ليستمر في هذه الوظيفة مدة ثماني سنوات ونصف، احتك خلالها بكبار المسؤولين الذين تعاقبوا على الديوان الملكي وكسب صداقتهم، من أمثال رؤساء الوزراء بهجت التلهوني وأحمد اللوزي، والشريف عبد الحميد شرف، وشقيق الأخير الشريف فواز شرف.

في مطلع الستينيات انتقل رفيق اللحام إلى آخر محطاته الحكومية، وهي «سلطة السياحة» ووزارة السياحة لاحقًا، وخلال أربعة عقود متتالية تدرج رفيق اللحام في السلم الوظيفي للوزارة، وانتهت مسيرته فيها بتقاعده في مطلع الألفية الجديدة، برتبة أمين عام مساعد لوزارة السياحة.

اللحام هاويًا

خلال هذا المسار الوظيفي الرسمي، البعيد عن الفن التشكيلي، كانت لرفيق اللحام مسارات موازية جمعت ما بين الفنون التشكيلية والتطبيقية وردمت الحدود بينهما. ففي عام 1951، وكان حينها في العشرين من عمره، شارك اللحام في أول معرض جماعي لهواة الفن في الأردن، وذلك في «المنتدى العربي»، الذي كان يضم حشدًا من السياسيين والمثقفين ذوي الاتجاهات القومية، لتليه مشاركات في جناح الفنون في «المعرض الصناعي الزراعي الأردني»، في عمان عامي 1952 و1953. ثم ليكون واحدًا من مؤسسي «ندوة الفن الأردنية»، وأحد أبرز المشاركين في معرضها الأول عام 1953.[4]

وبينما كان يتابع عرض أعماله في المعارض الجماعية التي أقيمت في السنوات اللاحقة، من الخمسينيات، كان اللحام ينشط في مجالي الرسم والخط في الصحافة الأردنية. وفي ستينيات القرن الماضي افتتح مكتبًا خاصًا به، كان ينفذ من خلاله الرسوم والتخطيطات المعمارية، لبعض المكاتب الهندسية الخاصة. وأقام بعد ذلك مرسمًا مارس فيه تدريس الرسم للهواة المحليين والأجانب.

لوحة «من تراثنا»، عمل جرافيكي، طباعة على ورق. نسخة واحدة. مثال على حروفيات رفيق اللحام. المصدر: مؤسسة عبد الحميد شومان.

في عام 1963، وكان قد أنهى خدمته رسامًا معماريًا في القصور الملكية، وبعيد انتقاله وظيفيًا إلى «سلطة السياحة»، حصل اللحام على منحة لدراسة للفنون في كلية أناليك (ENALC) ومعهد سان جياكومو (San Giacomo) في روما، وتحقق له حلمه الذي تطلع له طويلًا، ألا وهو تعزيز موهبته في الرسم بالدراسة الأكاديمية.

عززت تلك المنحة مهارات رفيق اللحام أثناء عمله في القسم الفني في وزارة السياحة، حيث صمّم ونفّذ عشرات الملصقات والنشرات السياحية، ولا سيما عن طريق طباعتها بواسطة الشاشة الحريرية. ولاحقًا صمم العديد من الملصقات الرسمية في مناسبات هامة، مثل استضافة إحدى القمم العربية، أو إطلاق خطة جديدة للتنمية.

ومن المصادفات التي صنعت حظوظ الفنان اللحام، أنه بينما كان يدرس في روما، عام 1964، كان البابا بولص السادس يزمع زيارة الأراضي المقدسة في الضفة الغربية الخاضعة حينها للسيادة الأردنية، فكان أن كُلف بتصميم ميدالية خاصة بالمناسبة، وصمّم الميدالية التذكارية التي حملت في أحد وجهيها صورًا جانبية لكل من الملك حسين والبابا بولص السادس، وفي وجهها الثاني ظهر مجسمان لقبة الصخرة وواجهة كنيسة القيامة في القدس، يفصل بينهما غصن زيتون. وقد نفَذت نسخ الميدالية في ميلانو، تحت إشراف اللحام. وصكت من الذهب والفضة والبرونز، وشكلت هذه الميدالية فاتحة سلسلة من الميداليات التي قام اللحام بتصميمها في السنوات اللاحقة.

لوحة «العزة» من آلهة الأنباط لرفيق اللحام.

اللحام فنانًا محترفًا

على أن شهرة رفيق اللحام في التصميم جاءت في مجالين رئيسيين، صرف فيهما جزءًا وافرًا من طاقاته الفنية؛ الطوابع البريدية التذكارية، وشعارات المؤسسات والمناسبات المختلفة (Logos). إذ يعد اللحام ثاني مصمم للطوابع في الأردن، بعد يعقوب سكر، الذي شجعه على ممارسة هذا النوع من الفن ووجّهه في تصاميمه المبكرة. وقد نفذ اللحام في حياته أكثر من مئتي طابع تذكاري، معظمها أردني، وبعضها صدر عن دولة الكويت.

أما في مجال تصميم الشعارات، فتعود أقدم مساهماته إلى مطلع الخمسينيات، حين وضع شعار المعرض الزراعي الصناعي الأردني لعامي 1952 و1953. ومنذ ذلك الحين صمم اللحام مئات الشعارات للجامعات والشركات والبلديات والمؤتمرات والجمعيات وغيرها. وكان أحيانًا يصمم بعض الشعارات تطوعًا ودونما مقابل، مثل شعار «ندوة الرسم والنحت الأردنية» وشعار «معرض الخريف الكبير» لعام 1963.

حروفية وعناصر زخرفية. إحدى لوحات رفيق اللحام.

وعمومًا، يكاد لا يوجد جنس من أجناس الفنون التطبيقية إلا وكان لرفيق اللحام مساهمة فيه، كبيرة، أو صغيرة. من ذلك تصميمه أغلفة عدد من الكتب وتخطيط عناوين فصولها وأبوابها. كما كان اللحام صاحب أول نصب فني يقام في عمان، ولا زال قائمًا في الدوار الثالث لجبل عمان، وكان ذلك في العام 1963. وفي نفس العام كان رفيق اللحام يساهم في تأسيس ندوة الرسم والنحت الأردنية، ويشارك، بعد عودته من إيطاليا، في تنظيم «معرض الخريف الكبير» (تشرين الأول 1963)، إلى جانب أكثر من خمسين فنانًا وهاويًا للرسم والنحت، وهو المعرض الذي شكل علامة فارقة في مسار الحركة التشكيلية الأردنية.

لوحة «الديك» لرفيق اللحام.

في عام 1967 حصل رفيق اللحام على فرصته الثانية بدراسته الجرافيك في معهد روتشستر التكنولوجي (RIA) في نيويورك، لتعزيز تأهيله الفني، وذلك من خلال بعثة دراسية على حساب الحكومة الأردنية، وتلقى خلال دراسته التي امتدت حتى عام 1968 دروسًا في الرسم والخزف (السيراميك) بالإضافة إلى فن الحفر والطباعة. وبعد عودته من الولايات المتحدة أقام اللحام، عام 1969، أول معارضه الشخصية في فن الجرافيك، وفي الوقت نفسه شارك في دورة متخصصة في تقنيات الحفر على مادة اللينوليوم أقامها الفنان الأمريكي بول لنجرن من متحف سيمثسونيان في واشنطن، وقد رافق اللحام الفنان الأمريكي وساعده في تنفيذ دورة الجرافيك في بيروت، التي ضمت عشرات الفنانيين اللبنانيين.

من هنا، اكتسب رفيق اللحام أحد أبرز مهاراته، باعتباره أول فنان أردني درس فن الجرافيك وأنتج أعمالًا جرافيكية، حظيت بالتقدير والعرض في معارض إقليمية ودولية، ونالت جوائز وميداليات تقديرية عدة. وقد علم اللحام فن الحفر لطلبة معهد الفنون التابع لوزارة الثقافة، ودرب فنانين آخرين في المشغل التابع للمتحف الوطني الأردني وفي مشغل دارة الفنون بعمان.

إحدى لوحات رفيق اللحام للقدس.

سبعون عامًا من الفن

ابتدأ اللحام رحلته مع اللون والفرشاة هاويًا متأثرًا بالمدرسة الانطباعية، أما موضوعات رسمه فقد كانت المناظر الطبيعية والمواقع الأثرية والوجوه، لا سيما الوجوه البدوية، وفيما بعد استلهمت أعماله الخط العربي والزخارف الإسلامية، وشغلت القدس اهتمامه بشكل خاص، حيث استلهمها في العديد من أعماله، سواء المنفذة بألوان الزيت أم بالحفر. ورغم أن شغف الفنان اللحام بالتجريب والتنقل بين موضوعات عديدة لم يتوقف، حتى رحيله عن تسعين عامًا، إلا أن أعماله المنفذة في العقود الأخيرة تحررت من الطابع الواقعي-التسجيلي، مثل المشهد التراثي أو الطبيعي، لتحل محلها أعمال تعتني أكثر بالتكوين الفني، كما أصبح توظيف الحروفية والعناصر الزخرفية في أعماله أكثر رهافة وانسجامًا مع متطلبات الحداثة الفنية.

وعمومًا بلغ عدد المعارض التي أقامها رفيق اللحام أو شارك فيها 86 معرضًا، ما بين عامي 1951 و2010، كان العديد منها معارض إقليمية أو عالمية، هذا دون احتساب المعارض التي أقامها خلال العقد الأخير من حياته.

رفيق اللحام بريشة الفنان جورج البهجوري.

ترك الفنان رفيق اللحام بصمات قوية في مسار الحركة التشكيلية الأردنية، أولًا باعتباره أحد الرواد القلائل الذين واصلوا عطائهم الفني دونما انقطاع، منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي وحتى وفاته عام 2021. كما تنوعت مساهماته وتعددت في حقول وأجناس فنية عدة، لم يتردد في تعلمها وممارستها وتوظيفها في المجالات الوظيفية العديدة التي مارسها في حياته.

كما ساهم اللحام في تنظيم صفوف الفنانيين التشكيليين على الصعيد المحلي، من خلال ندوة الرسم والنحت الأردنية عام 1962، ورابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين عام 1977. وكان أحد مؤسسي اتحاد الفنانين التشكيليين العرب عام 1971، مع نخبة من كبار فناني العالم العربي. ويعد اللحام واحدًا من رواد توظيف الحرف العربي وكان من مؤسسي (جمعية محبي الخط العربي) التي تأسست عام 1994، والتي سعت الى نشر الوعي بأهمية الخط العربي وتراثه العريق، والاعتناء به، وأقامت هذه الجمعية، التي لم تعمر طويلًا، عدة معارض لفناني الخط من أردنيين وعرب وأتراك.

رفيق اللحام في صغره وكبره.

ولعل أفضل ما يمكن أن نختم به الحديث عن مكانة رفيق اللحام، هو ما كتبه الروائي والمترجم الكبير جبرا إبراهيم جبرا فيه:

«لا أحسب أن في الأردن رجلًا يجمع في شخصه كما يجمع في نتاجه من الطاقة على الحركة والإبداع ما يجمعه الفنان رفيق اللحام، ويذهل المرء عندما يدرك مبلغ ما صنع هذا الفنان، وما ترك من أثر في الحياة الفنية الأردنية منذ أواسط هذا القرن حتى اللحظة الراهنة، بحيث يكاد يكون المرجع الأهم في معظم ما حققه هذا البلد من تقدم في الرسم أسلوبًا ومحتوى، متميزًا بحماسته واندفاعاته من أجل خلق رؤية تتشابك فيها مفاهيم التراث العربي مع تيارات الحداثة، فيظفر رؤية العين البصيرة، وينشط الذاكرة في اتجاه ما يبدعه المستقبل. إنه من تلك الفئة القليلة الرائدة التي ما زالت تعطي الفن العربي اليوم ذلك الزخم الذي يجعله وسيلة فاعلة في تعبير الأمة عن ذاتها، تأكيدًا على وهج حضورها».[5]

رفيق اللحام مع زوجته مقبوله العساف في شبابهما.

  • الهوامش

    [1] انظر/ي: رفيق اللحام، رحلتي مع الحياة والفن، مذكرات، إشراف وتحرير هاني الحوراني، دار السندباد للنشر والتوزيع، عمان، 2011.

    انظر/ي أيضًا: هاني حوراني، رفيق اللحام: سبعون عامًا من الرسم، مجلة فنون الصادرة عن وزارة الثقافة، العدد 48، خريف 2021.

    [2] تلقى رفيق اللحام مبادئ الخط العربي على يد الخطاط السوري المعروف حلمي حباب، أما معلمه في مجال الرسم فقد كان الأستاذ ميشيل كرشة، وكان الاثنان من معلمي دار الصناعة والفنون بدمشق. انظر/ي: رحلتي مع الحياة والفن، المصدر نفسه، ص 30-31.

    [3]  أسس معهد النهضة العلمي وأداره ابن الفحيص كمال عودة، والذي جعل منه صرحًا لرعاية الفنون والثقافة، من خلال تنظيم المسابقات والمعارض الفنية، وفي رحاب المعهد المذكور نشأت أول جمعية لهواة الفن بالأردن هي «ندوة الفن الأردنية» عام 1953.

    [4]  شارك في معرض الخريف الكبير ستة نحاتين و 52 فنانًا وفنانة تشكيلية من ضفتي الأردن الشرقية والغربية، عرف منهم بمواصلة الرسم كلا من: مهند الدرة ، توفيق السيد، صالح أبو شندي، فاروق لمبز، كمال بلاطة، محمد خطار، رفيق اللحام، منى السعودي، وهاني الحوراني. انظر/ي: دليل المعرض، ص 6-13.

    [5] انظر/ي: رحلتي مع الحياة والفن، المصدر نفسه، ص 206.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية