فصول من التاريخ السياسي للنفط في إيران (3): دروس عملية الانقلاب على محمد مُصدّق وأسئلتها

لوحة للفنان أمين روشان بعنوان «امرأة وأسطوانة»، 2019. عن موقع معرض جانيت ريدي، لندن.

فصول من التاريخ السياسي للنفط في إيران (3): دروس عملية الانقلاب على محمد مُصدّق وأسئلتها

الأربعاء 02 أيلول 2020

في 19 آب/أغسطس عام 1953، سيطرت وحداتٌ من الجيش الإيراني على المراكز الحسّاسة في العاصمة طهران مُعلنة الانقلاب على حكومة الدكتور محمد مُصدّق، وذلك بعد معركة دامية دارت على مشارف بيته مع الوحدات العسكريّة التي بقيت على ولائها له. جاء هذا الانقلاب بعد ما يزيد عن عامين على قرار البرلمان الإيراني بتأميم أصول الشركة «الأنجلو إيرانية» الذي أنهى احتكارها لإنتاج النفط في البلاد، وهو القرار الذي فتح الباب أمام سلسلة من التطوّرات التي عصفت بإيران وحدّدت ملامح مستقبلها السياسيّ لفترة طويلة من الزمن.

 تستعرض هذه الدراسة، التي تُنشر في ثلاثة أجزاء، فصولًا من تاريخ إيران في النصف الأول من القرن العشرين، والذي كان الصراع على النفط في صُلبه، وصولا إلى الانقلاب على حكومة مُصدّق والذي مهّد الطريق لزلزال الثورة الإسلاميّة التي أطاحت بالنظام الملكيّ في العام 1979، ليكون بذلك أحد أهم الأحداث التي شكّلت المنطقة في النصف الثاني من القرن.

لقراءة الجزء الأول: فصول من التاريخ السياسي للنفط في إيران (1): بزوغ سؤال السيادة

لقراءة الجزء الثاني: فصول من التاريخ السياسي للنفط في إيران (2): مصدّق، التأميم، والانقلاب

***

لقد حظيتْ أزمة تأميم النفط في إيران 1951- 1953 وعمليّة الانقلاب على رئيس الوزراء محمد مُصدّق، عبر عقودٍ طويلة، بعددٍ كبيرٍ من الدراسات والأبحاث ومحاولات الاستقصاء الحثيثة بالنظر للسياق التاريخيّ الغنيّ والطويل الذي أفضى إليها، وربما، وهو الأهم، بالنظر للعقابيل السياسيّة طويلة الأمد التي ترتّبت عليها في إيران والمنطقة. ولا يزال إرث تلك الدراما وإرث بطلها يرزح بثقله على العلاقة بين إيران والعالم، ولا يزال يشكّل ميدانًا للتنازع بين تيّاراتٍ فكريّة وسياسيّة مُختلفة في حقل الأكاديميا وحتّى في السياسات المحليّة الإيرانيّة.

ولا شكّ أنّ كتابة تاريخٍ مُكتملٍ ودقيقٍ لعمليّة الانقلاب سيبقى مسألة عسيرة بالقطع، لا لأنّ الكتابة التاريخيّة مُهمّة لا تكتمل بطبيعتها، بل لأنّه، وبعد ما يزيد عن 60 عامًا على إسقاط الحكومة الإيرانيّة المُنتخبة ديمقراطيّا، لا يزال الغموض يكتنفُ الكثير من الجوانب المُحيطة بعمليّة «TP-AJAX»، التي دبرت عبرها الـ«CIA» الانقلاب، والمُساهمين المحوريين فيها والمسار الدقيق الذي اتّخذته أحداثها في صيف العام 1953. ويمكن القول بمقدارٍ ما من اليقين أنّ جانبًا من هذا الغموض لن ينجلي مُطلقًا. فغالبيّة المُساهمين في العمليّة والذين عاصروها عن قرب رحلوا عن عالمنا، كما أنّ الكثير من الوثائق السريّة المُتعلّقة بها أُتلف (أو هكذا قيل)، فيما لا يزال بعضها الآخر حبيس الأدراج المُغلقة لأجهزة الاستخبارات البريطانيّة والأمريكيّة.

وعلاوة على ذلك، فقد أضافت التطوّرات السياسيّة التي أعقبت قيام الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران عام 1979، مزيدًا من التعقيد على المشهد. إذ يرى المسؤولون الأمريكيّون، الذين تجنّبوا طويلًا الاعتراف بدور بلادهم في إسقاط مُصدّق، أنّ أيّ كشفٍ جديدٍ حول العمليّة من شأنه أن يُشكّل إضافة للذخيرة الحيّة للنظام الإيرانيّ في حربه الدعائيّة ضدّ الولايات المتّحدة وإضفاء للشرعيّة على مُنطلقاته الأيدولوجيّة المرتكزة على العداء للهيمنة الغربيّة وفي القلب منها الهيمنة الأمريكيّة.[1] 

وبمقدار ما ساعدتْ الوثائق والتواريخ الرسميّة والمراسلات الدبلوماسيّة والسير الذاتيّة والاستقصاءات الأكاديميّة في كتابة قصّة ما جرى في الأيّام الفاصلة من صيف العام 1953، فقد تركت الكثير من الأسئلة المُثيرة مُعلّقةً دون إجابة. ويجد المرء على نحوٍ خاصٍ صعوبةً كبيرةً في تقبّل السهولة التي انقلبت بها الكفّة لصالح أعداء مُصدّق في يومي الثامن عشر والتاسع عشر من آب، والسرعة التي تمّ فيها حشد المُتظاهرين من البازار ليرافقوا وحدات الجيش المؤيّدة للشاه للسيطرة على المراكز الحسّاسة في العاصمة، خاصّة في ظلّ التأييد الذي كان يحظى به مُصدّق في أوساط قادة وضبّاط الألوية الخمسة المُحيطة بطهران.

متظاهرون موالون للشاه على ظهر دبابة عقب نجاح الانقلاب في طهران، أغسطس 1953. أ ف ب.

هل كانت الدعوة لإسقاط النظام الملكيّ الذي بدأت العناصر الراديكاليّة من حزب «توده» والجبهة الوطنيّة بترويجها خلال المظاهرات التي أعقبت فشل المحاولة الانقلابيّة الأولى كفيلة بتخويف الشارع والجيش إلى حدّ تحرّكهم بسرعة لإنقاذ مليكهم خشية من المجهول القادم؟ أم أنّ الدعاية التي لعب فيها رجال الدين دورًا كبيرًا في التخويف من مخاطر الشيوعيّة هي التي قادتْ العامّة للتحرّك لإنقاذ الموقف ودعم الحركة الانقلابيّة؟ أم لعلّها حالة الفوضى التي يختلط فيها الحابل بالنابل في مثل هذا النوع من الأحداث، فيكون من الصعوبة تحديد المسؤوليّات الواقعة على كلّ طرفٍ بدقّة؟ وكيف حدث أن انهارت دفاعات أنصار مصدّق العسكريّين بهذا الشكل؟

بكلّ الأحوال، فإنّ تفاصيل الأحداث في الأيّام الحاسمة من صيف العام 1953، والتي تُشبه إلى حدّ كبيرٍ أحداث فيلمٍ سينمائيّ مشوّق، لا يجب أن تُعمينا عن رؤية السياقات الأوسع لما جرى في نهاية المطاف. لقد تعرّضتْ حكومة مُصدّق لانقلابٍ دُبّر بليل، وعن سبق إصرار وترصّد، من قبل أجهزة الاستخبارات الأمريكيّة والبريطانيّة، لأنّها كنت تُمثّل خطرًا على المصالح الاقتصاديّة والسياسيّة للقوّتين الكبيرتين آنذاك.

البنية التحتية للتدخّل الخارجي في إيران

لقد حظيتْ بريطانيا بموطئ قدمٍ في بلاد فارس منذ أواسط القرن التاسع عشر وتزايد دورها في السياسات الإيرانيّة منذ ذلك الوقت وصولًا إلى احتلالها البلاد عام 1941. وقد استطاعت أجهزتها عبر تلك العقود أن تنسج شبكة علاقاتٍ ونفوذ واسعة اخترقت قطاعاتٍ من الطبقة السياسيّة والعسكريّة والبيروقراطيّة والإعلاميّة، ناهيك عن التأثير الذي كانت تمتلكه شركتها النفطيّة على مسار التنمية الاقتصاديّة في البلاد. أمّا الولايات المتحدة، فقد بدأت اهتمامها بإيران بالتزايد بعد أزمة أذربيجان 1945-1946 واجتياح الجيش السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا عام 1948، ضمن استراتيجيّتها لمواجهة تمدّد النفوذ السوفييتيّ في إطار الحرب الباردة.

وقد أطلقت الأجهزة الأمريكيّة في نهاية الأربعينيّات عمليّة سريّة في إيران تحت اسم «TPBEDAMN» أشرف عليها دونالد ويلبر، المُهندس المركزيّ لعمليّة الانقلاب على مُصدّق وخبير الحرب النفسيّة، بُغية مُهاجمة حزب «توده» والاتّحاد السوفييتي عبر حملة بروباغندا ضخمة جرى خلالها نشر مقالاتٍ ورسوماتٍ كاريكاتوريّة مناوئة للطرفين في عشرات الصحف الإيرانيّة وتوزيع كتب دعاية وملصقات ومطويّات على نطاق واسع حول ظروف الحياة البائسة في الاتّحاد السوفييتيّ وحول التهديد الشيوعيّ للقيم الإسلاميّة.

لم تستطع بريطانيا استيعاب حقيقة أنّ الدوافع الإيرانيّة وراء قرار التأميم كانت تنبثق من اعتباراتٍ سياسيّة بحتة بالنسبة للحركة الوطنيّة ومُصدّق.

بهذا المعنى، كانت الأجهزة الأمريكيّة والبريطانيّة عشيّة قرار التأميم تمتلك «بنية تحتيّة» تُؤهلها لتقويض الاستقرار في إيران والتلاعب في شؤونها الداخليّة وصولًا إلى الإطاحة العنيفة بحكومتها. وكانت الإمكانيّات والموارد المتاحة للحكومة الإيرانيّة بطبيعة الحال أكثر تواضعًا من أن تجابه أو تحتوي هذا النوع من الأنشطة، ناهيك عن كشفه أصلًا.

ولم تكن التدخلات عبر العمليّات السريّة والمكائد التي كانت تُدبّر من وراء ستار هي النهج الوحيد الذي تبنّته بريطانيا لإضعاف مُصدّق. فبالإضافة للحصار الاقتصاديّ المدعوم بالقوّة العسكريّة والدبلوماسيّة، اتّخذت حكومة المُحافظين البريطانيّة موقفًا مُتشدّدًا في مفاوضاتها مع إيران بخصوص تأميم أصول الشركة «الإنجلوإيرانيّة»، رافضة في الواقع كلّ المبادرات التي من شأنها التوصّل إلى حل، ناهيك عن رفضها لمبدأ التفاوض المباشر مع الحكومة الإيرانيّة. ولم تستطع بريطانيا استيعاب حقيقة أنّ الدوافع الإيرانيّة وراء قرار التأميم كانت تنبثق من اعتباراتٍ سياسيّة بحتة بالنسبة للحركة الوطنيّة ومُصدّق. فقد كانت تُفاوض بعقليّة رجل الأعمال الإنجليزيّ المهجوس بحسابات الربح والخسارة الرقميّة، مشترطة توقيع عقد امتيازٍ جديد أو قيام الحكومة الإيرانيّة بتعويضها عن أصولها المؤمّمة وعن الأرباح التي كانت ستجنيها لو أنّ التأميم لم يحدث واستمرّ عقد الامتياز حتى نهايته بشكلٍ طبيعيّ في العام 1993. ومع أنّ مُصدّق أبدى الموافقة على الشرط الأخير مقابل تحديد بريطانيا لقيمة التعويض المطلوب، إلا أنّ الأخيرة وجدت طريقة من التهرّب من هذا الالتزام، إذ كان هدفها الرئيسيّ هو إسقاط مُصدّق بأيّ وسيلة.

الديناميّات الداخلية التي سهّلت الانقلاب

بالرغم من ذلك، تبقى الحاجة مُلحّة لتناول الديناميّات الداخليّة التي رافقت التدخّل الخارجيّ وسهّلتْ مهمّته، وكذلك الأخطاء التكتيكيّة والاستراتيجيّة التي وقع فيها الدكتور مُحمّد مصدّق والتي ساعدت بشكلٍ أو بآخر على إسقاطه.

لقد بنى الدكتور مُصدّق حساباته على الوزن النسبيّ الكبير الذي كان يُمثّله نفط إيران في إمدادات الطاقة العالميّة، وافترض على هذا الأساس أنّ وقف الإنتاج الإيرانيّ من النفط سيكون مؤثّرًا اقتصاديًّا إلى الحد الذي سيدفع معه بريطانيا للرضوخ والتنازل لشروط حركته. لكن الرجل كان غافلًا على ما يبدو عن التطوّرات التي وصلت إليها الصناعة النفطيّة في البلدان المجاورة مثل العراق والكويت، وعن الاستثمارات التي أنفقتها الشركة «الإنجلوإيرانيّة» لزيادة الطاقة الإنتاجيّة في تلك البلدان. فقد ارتفع إنتاج الكويت من 12 مليون برميل عام 1950، عشيّةَ قرار التأميم، إلى حوالى 42 مليون برميل في العام 1953، بينما ارتفع إنتاج العراق من 4 ملايين برميل إلى 27 مليون برميل في الفترة ذاتها.[2]

ولا شكّ أن هذه الزيادة في الطاقة الإنتاجيّة للبلدان الواقعة على الحدّ الآخر من مياه الخليج، معطوفة على زيادة طاقة التكرير في المصافي النفطيّة في البرّ الأوروبي، لعبت دورًا مُهمًّا في تحييد الآثار السلبيّة التي كان من الممكن أن تترتّب على غياب النفط الإيرانيّ من السوق العالميّ وسهلت مهمّة بريطانيا، بالتعاون الوثيق مع تحالف الشركات الأمريكيّة، في منع تسويقه، الأمر الذي وضع مُصدّق تحت ضغط انهيار الاقتصاد الوطنيّ. وقد عوّل الدكتور مُصدّق على إمكانيّة إعادة تشغيل المرافق النفطيّة من خلال التعاقد مع تقنيين غربيين، لكنه لم يفطن على ما يبدو إلى احتماليّة رفض الدول الغربيّة التعاون معه تحت تأثير القوّة الدبلوماسيّة البريطانيّة. وعلاوةً على ذلك، فقد افترض أن بإمكانه المناورة من خلال لعب ورقة التأثير الشيوعيّ في إيران أمام الأمريكيين، وأنّ الأمريكيين سيذهبون تبعًا لذلك إلى حد منع بريطانيا من فرض حظرها النفطي على إيران أو تخفيفه، لكنّ حساباته في هذا الصدد لم تكن دقيقة أيضًا.

بالإضافة إلى ذلك، فشل الدكتور مُصدّق وأنصاره المُخلصون من الاستفادة من الزخم الشعبيّ الذي حظيت به خطوة تأميم النفط من أجل بناء تنظيمٍ قويّ قادر على القيام بمهام الحزب السياسيّ في تجنيد الأنصار وبثّ الدعاية السياسيّة والتصدّي لحملات الخصوم السياسيين في الشارع وفي الصحافة. كانت الجبهة الوطنيّة التي قادها مُصدّق صيغة جبهويّة تضمّ مكوناتٍ سياسيّة متباينة جمعتها مبادئ عريضة على رأسها تأميم النفط ومناهضة الهيمنة الغربيّة، لكنّ هذه الصيغة لم تكن مُتماسكة إلى الحدّ الذي يُؤهلها للصمود حتّى النهاية للدفاع عن الشعارات التي رفعتها. وقد تآكلت تجربة الجبهة وانشقّت بعض مكوّناتها الرئيسيّة عنها لتنتقل إلى معسكر أعداء مُصدّق خلال وقتٍ قياسيّ مُشاركة في التحريض عليه ومُساهمة بفعاليّة في إسقاطه.

مصدّق في مدينة أحمد أباد في إيران عام 1965 قبل عامين من وفاته. ويكيمديا.

وكانت مناقبيّة مُصدّق الرفيعة والتزامه المثاليّ بقيم الديمقراطيّة وحريّة التعبير تحول دون قيامه باتّخاذ إجراءاتٍ صارمة ضدّ معارضيه، حتّى أولئك الذين ثبت تورطهم في التآمر مع الاستخبارات الأجنبيّة ضدّ حكومة بلادهم، أو أولئك الذين اشتركوا في عمليّات اغتيالٍ وتخريب من أجل تقويض دعائم الاستقرار وبثّ الفوضى في الشارع الإيرانيّ. كما أنّه لم يسعَ لاحتواء حملة الدعاية الصاخبّة والشنيعة التي انطلقت ضدّه منذ اتّخاذ قرار التأميم في الصحافة المحليّة. إذ كانت صحف طهران المعارضة في عهده قد وصلت في هجائه حدودًا تجاوزت كل القيم والمبادئ التي تنظم هذا الحقل. ولم يستطع الدكتور مُصدّق الخروج من عالمه التقليديّ كدستوريٍّ قديمٍ آمَنَ إلى أبعد حدّ بمبادئ الملكيّة الدستوريّة كناظمٍ للحياة السياسيّة في إيران. وقد جعلته خلفيّته هذه مُقيّدًا وعاجزًا عن المبادرة والتفكير خارج الصندوق واتّخاذ مواقف ثوريّة عندما تطلّب الأمر ذلك، وتحديدًا بعد إفشال محاولة الانقلاب الأولى، أي حين كان النظام الإيرانيّ برمّته على المحك.

وقد ارتكب مُصدّق في الأيام الأخيرة من عمر حكومته خطأين تكتيكيين ساهما إلى حدّ كبير في إضعاف موقفه في مواجهة الحركة الانقلابيّة. تمثّل الأوّل في دعوته للاستفتاء الشعبيّ على حلّ المجلس النيابيّ. فبالإضافة إلى أنّ هذه الدعوة كانت محلّ معارضة شديدة من قِبل بعضٍ من أقرب معاونيه وأنصاره البرلمانيين ما دفعهم إلى الانفضاض عنه، وأنّها صبّت الوقود على نار التحريض الموجّه ضدّ من قِبل أعدائه الذين قدّموها بوصفها إثباتًا عمليّا على دكتاتوريّة مُصدّق، فإنّ حلّ المجلس أفسح المجال للشاه (بتحريض من الأجهزة الغربيّة) لاستخدام صلاحيّاته الدستوريّة لعزل مُصدّق مباشرة.

ولربما كان لاستمرار وجود المجلس، حتّى وإن لم يكن يعملُ بشكلٍ فعّال آنذاك، أن يشكّل قوّة موازنة للمعسكر الانقلابيّ وأن يُحصّن الموقف الدستوريّ لمُصدّق. أمّا الخطأ الثاني فقد تمثّل في القرار الذي اتّخذه مُصدّق يوم الثامن عشر من آب/أغسطس 1953 بحظر المظاهرات وإعطاء الأوامر لشرطة العاصمة لفضّها. فقد كانت هذه الخطوة بمثابة هديّة مجانيّة للانقلابيين مكّنتهم من استعادة زمام المبادرة للاستيلاء على العاصمة بعد فشل محاولة الانقلاب الأولى. ولربما كان من شأن استمرار التظاهرات المؤيدة لمُصدّق في الشارع ورفدها بالمزيد من الأنصار أن يُشكّل ظهيرًا شعبيًّا للحكومة يحول دون تقدّم الانقلابيين ونجاحهم في استكمال مخططهم أو أن يقود إلى تأخيره على الأقل.

هكذا، كان مُصدّق في أشهره الأخيرة يستقطب لأسبابٍ متنوّعة عداء مكوناتً رئيسيّةً في السياسة الإيرانيّة. فأنصار القصر الملكيّ المتعاونون في أغلبهم مع بريطانيا كانوا يستعدونه لأنّ حركته كانت تُهدّد مصالحهم التقليديّة كطبقة أرستقراطيّة استطاعت إعادة إنتاج النظام الإقطاعيّ مُجدّدًا من خلال علاقتها بسيّد القصر ومن خلال التلاعب بالعمليّة الانتخابيّة. كما كانت الشعارات التي طرحتها حركة مُصدّق حول الديمقراطيّة والسيادة الشعبيّة ومحاربة الاحتكارات الأجنبيّة تُناقض فكرتهم عن السياسة بوصفها ممارسة تتمّ في صالونات النخبة بعيدًا عن رعاع الشوارع والساحات العامّة.

كان مُصدّق في أشهره الأخيرة يستقطب لأسبابٍ متنوّعة عداء مكوناتً رئيسيّةً في السياسة الإيرانيّة.

أما عناصر المؤسسة الدينيّة وعلى رأسهم آية الله محمّد بهبهاني -الذي لعب دورًا كبيرًا في التحشيد ضدّ مصدّق أثناء الانقلاب وقبله- وبدرجة أقل آية الله أبو القاسم كاشاني، فقد كانوا يعارضون مُصدّق على أرضيّة الموقف الدينيّ، إذ كانوا يرون فيه بأفكاره الوطنيّة العلمانيّة تهديدًا للقيم الراسخة للمجتمع الإيرانيّ وتقاليده العريقة المرتكزة إلى مدوّنة الإسلام الشيعي، كما كانوا يرون في تسامحه مع أنشطة حزب «توده» تمهيدًا لاستيلاء الشيوعيّة على السلطة. أمّا أنصار حزب «توده»، وتحديدًا الراديكاليون منهم، فقد كانوا يعادون الرجل على أرضية موقفه «البراغماتي» وسياسته في «الحياد السلبيّ» إزاء القوى الكبرى وتمنّعه عن إحداث قطيعة كاملة مع الأمريكيين. وقد رأى أنصار الحزب أنّ برنامج مُصدّق لم يكن جذريًّا بما فيه الكفاية، وأنّه في جوهره يسعى لإحلال الهيمنة الأمريكيّة محلّ الهيمنة البريطانيّة في نهاية المطاف. وبهذا المعنى، فقد كان مُصدّق وحيدًا إلى حدّ ما وتحديدًا في الأسابيع الأخيرة التي سبقت محاولة الانقلاب عليه.

إنّ التشديد على الدور المركزيّ الذي لعبته الأجهزة الأمريكيّة والبريطانيّة في إسقاط حكومة مُصدّق مهمٌ من الناحية التاريخيّة، لا لأنّ الوقائع العيانيّة لما جرى في إيران بين العامين 1951 و1953 تُؤكّده بشكلٍ دامغ، ولا لأنّ عمليّة «TP-AJAX» ستكون في الواقع، الدافع وراء حقبة نوعيّة من التدخلات الأمريكيّة السريّة في بلدان العالم الثالث فحسب، بل لأنّ بعض المُعالجات التاريخيّة الرائجة للحدث تُحاول تحميل مصدّق و«ديماغوجيّته» المسؤوليّة عن المصير المأساويّ الذي لقيه، وتحاول إعطاء الفاعلين الإيرانيين دورًا كبيرًا في مسار الأحداث بطريقة تُظهر الدورين الأمريكيّ والبريطانيّ كعاملين مُساعدين لا أكثر. وينطوي التشديد المذكور على أهميّة سياسيّة أيضًا، لأنّه يكشفُ بجلاء عن الجذور الكامنة وراء المسار الذي اتّخذه التاريخ السياسيّ لإيران مُذّاك وصولًا إلى اندلاع الثورة الإسلاميّة في العام 1979 ووراء الشعارات والسياسات التي تبنّاها النظام الجديد في طهران منذ ذلك الوقت.

متظاهرون ضد الشاه أمام جامعة طهران في 13 كانون الثاني/يناير 1979. أسوشيتد برس.

ما بعد هزيمة مشروع تأميم النفط

لقد أفضت هزيمة مشروع تأميم النفط الذي قادته الجبهة الوطنيّة إلى عمليّة إعادة هيكلة جذريّة لقطاع الطاقة في إيران. فقد فُكّك احتكار الشركة «الإنجلوإيرانيّة» (التي سيُصبح اسمها منذ العام 1954 «بريتش بتروليوم»)، وشُكّل عوضًا عنه «كونسورتيوم» جديد استحوذت فيه الشركات الأمريكيّة النفطيّة الكبرى على حصّة 40% من الامتياز مقابل حصول الشركة البريطانيّة على نفس النسبة، فيما وُزّع ما تبقى من حصص على شركاتٍ فرنسيّة وهولنديّة وأمريكيّة أخرى.

وقد أُعيد إدماج إيران بشكلٍ تدريجيّ في سوق الطاقة العالميّ لتتحوّل مع الوقت إلى واحدة من أكبر مُنتجي الخام في العالم. وجاءت عمليّة إعادة الهيكلة هذه، والتي تبعتها حزمة مساعداتٍ ماليّة كبيرة، في إطار مشروعٍ أمريكيّ استراتيجيّ تضمن فيه إيران الجديدة استمرار تدفّق إمدادات الطاقة بدون تعطيل وتحمي أمن الخليج وتُشكّل حائط صدّ قويّ لمجابهة النفوذ السوفييتي. وقد شكلت هذه الديناميّات الجديدة الأساس الماديّ لقيام نظامٍ سلطويّ يقف الشاه على رأسه بسلطة لا ينازعه فيها أحد.

كان الشاه مهووسًا بتحديث إيران على الطريقة الغربيّة، وقد آمنَ بأنّه يمكن تحقيق هذا الهدف، إذا استُخدمتْ عوائد بيع النفط لشراء السلاح والتكنولوجيا والخبرات والسلع الغربيّة وللإنفاق على المشروعات الكبرى لعجلة التنمية والتصنيع. لكنّ هذا النمط التحديثي ربط مصير الاقتصاد الإيرانيّ بشكلٍ أكبر بالنفط وتقلّبات أسعاره. وكان بتركّزه على صفقات التسلّح الضخمة والمشروعات الكبرى يستنزف الموارد الماليّة لإيران، ويُذكي نار التضخّم، ويعجز عن خلق فرص عملٍ جديدة، ويشرخ المجتمع الإيرانيّ أفقيًّا بين الأغلبيّة المُفقرة التي بدأت زحفها من الريف إلى ضواحي المُدن، والشريحة الصاعدة المُرفّهة من الأعضاء الرفيعين في البيروقراطيّة العسكريّة والمدنيّة ومجموعات الخبراء التقنيين والسماسرة وحاشية الشاه وعائلته.

لم تستطع قبضة النظام الأمنيّة التي أصبحت أكثر سطوة وتشعبًا بفضل المساعدة الأمريكيّة والإسرائيليّة أن تمنع جيلًا جديدًا من المناضلين السياسيّين الإيرانيين من البزوغ، ولم تستطع البهرجة التي أحاط بها الشاه مشروعاته وخططه الكبيرة أن تمحو من الذاكرة الوطنيّة حركة التأميم التي كانت القابلة التي سمحت بولادة أوسع حركة تسييس في إيران في النصف الثاني من القرن العشرين مُمهدة الطريق للزلزال الكبير الذي سيطيح بالنظام الملكيّ مرّة واحدة وإلى الأبد في العام 1979. لقد تجرّع الدكتور محمّد مصدّق مرارة الهزيمة لكنّه ارتاح على الأقل في تراب بلاده، أمّا الشاه فقد خرج من إيران جارًّا ذيول الخيبة باحثًا عن منفى يأويه مُطاردًا بأشباح مُصدّق حتّى آخر أيّام حياته.[3]

  • الهوامش

    [1] في العام 2000 اعترفت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة آنذاك بدور بلادها في إسقاط الحكومة الديمقراطيّة في إيران. وفي نفس العام، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» أجزاء كبيرة من التاريخ الرسمي للعمليّة الذي كتبه دونالد ويلبر في العام 1953. وفي العام 2013 أفرجت الـ«CIA» للمرّة الأولى عن وثائق تثبت مسؤوليّتها عن العمليّة، قبل أن تنشر وزارة الخارجيّة الأمريكيّة في العام 2017 مجموعة كبيرة من الوثائق من أرشيف الوكالة عن الملابسات التي أحاطت بالانقلاب.

    [2] The Persian settlement. (1954). The Round Table, The Commonwealth Journal of International Affairs, 44(176), 326–335.

    [3] كانت رحلة المنفى الخاصّة بالشاه مليئة بالدراما. فقد انتقل أوّلًا إلى القاهرة ثمّ إلى المغرب ثم إلى جزر الباهامس مُنتظرًا عطف الإدارة الأمريكيّة عليه ومنحه تأشيرة دخول للولايات المتّحدة. وفي حركة مُهينة، منحته السلطات الأمريكيّة أخيرًا تأشيرة علاجيّة تحت اسم شخصٍ آخر، ثم أجبرته على مغادرة البلاد بعد اندلاع أزمة الرهائن في السفارة الأمريكيّة في طهران في تشرين الثاني/نوفمبر 1979. انتقل الشاه إلى بنما قبل أن يعرض عليه الرئيس المصريّ أنور السادات الإقامة في مصر. توفّي الشاه بعد صراعٍ طويل مع السرطان عام 1980، ودُفن بمسجد الرفاعي بالقاهرة إلى جانب الملك فاروق، شقيق زوجته الأولى الملكة فوزيّة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية