كيف نفكر نحن في «الفن الإسلامي»

الأحد 01 شباط 2015
islamic-art-baghdad

يعرف العديدون الفن الإسلامي استنادًا إلى عدد من المنطلقات، أحد أبرزها هو أن الاسلام شكّل حضارة وثقافة ودينًا في الوقت ذاته، وأن الفن الذي انتجته تلك الحضارة/الثقافة يسمى «الفن الإسلامي».

صحة هذه الفرضية تصطدم بالعديد من المشكلات، أولها وأهمها هي استحالة تصنيف فنون نشأت خلال أكثر من أربعة عشر قرنًا وفي مساحة تكاد تضم ثلث العالم بمصطلح واحد والحفاظ على دقته في الوقت ذاته. وحتى إذا حاولنا اعتبار هذا التصنيف شاملًا وقابلًا للتقسيم إلى أقسام أصغر، فنحن نفترض بذلك أن الإسلام يشكل عاملًا مشتركًا كافيًا لتوحيد كل هذه الثقافات في مصطلح واحد. إلى جانب عدم دقة افتراض كهذا، توجد مشاكل عديدة في مصطلح الفن الإسلامي تعود بمجملها إلى تاريخ دراسة الفنون والثقافات غير الاوروبية والخطاب المتضمن في دراسة شعوب «العالم الإسلامي».

الفن الإسلامي والاستشراق

يعود تاريخ مساق «الفن الإسلامي» إلى حقبة الاستشراق وهي الفترة التي درس ووثق فيها علماء وباحثون أوروبيون الفنون والعمائر الإسلامية. انطلقت دراسة المستشرق للعالم الإسلامي من افتراض أن شعوب هذا العالم شعوب متدينة وروحانية، وكل ما يخرج عنها هو تعبير عن تدينها وعلاقتها بالله. ذلك الافتراض لم يكتفِ بتسطيح الظواهر الثقافية والاجتماعية، بل تجاوزه إلى افتراض أن المنجزات الحضارية لتلك الشعوب هي مجرد نسخ عن المنجزات الحضارية عند الشعوب المفكرة في أوروبا. إذا انطلق الباحث من هكذا افتراض، فهو بالضرورة غير معني بالفروق ما بين الهند وباكستان أو ما بين سوريا ومصر مثلًا، فكل تلك الشعوب هي شعوب متشابهة بقدر تشابه معتقداتها الدينية، وفي النهاية كل ما هو مهم هو فهم تلك المعتقدات.

بعكس التاريخ الإسلامي لا يشار إلى التاريخ الأوروبي بالتاريخ المسيحي ولا إلى فنون أوروبا بالفنون المسيحية، رغم أن عامل الدين لا يقل في معظم التاريخ الأوروبي عنه في تاريخنا.

المدهش في الموضوع أن تسمية الفنون الإسلامية لم تكن دارجة حتى مؤخرًا، فالعديد من الباحثين سموا فنون المنطقة الفنون المسلمة أو المحمدية أو العربية، وللأسف لم تعتمد تسمية  الفن الإسلامي حتى تبناها الباحثون العرب، ظنًا منهم أنها تخدم الإسلام أو تبرهن على الأثر الجمالي للإسلام على نفس المؤمن.

تقدم الرؤى العلمية للتاريخ نظرة مختلفة تمامًا لهذه المسألة. فالفنون هي أحد الظواهر الاجتماعية الثقافية وتشكِّلها العديد من العوامل المرتبطة بمجتمع وبمنطقة قابلَين للتحديد والدراسة. يمكن فهم الفنون في أوروبا مثلاً من منطلق استنادها إلى حقبة كلاسيكية مرتبطة بروما واليونان وتطورها من تلك الحقبة. وبعكس التاريخ الإسلامي لا يشار إلى التاريخ الأوروبي بالتاريخ المسيحي ولا إلى فنون أوروبا بالفنون المسيحية (رغم أن عامل الدين لا يقل في معظم التاريخ الأوروبي عنه في تاريخنا). هذا التفريق هو المفتاح لحل مسألة الفن الإسلامي، فالإسلام أحد خواص المجتمع وليس هويته، خصوصًا إذا كان المجتمع متنوعًا.

يحاول الباحث الفرنسي أوليغ غرابر (وهو آخر من أضافوا إلى مساق الفن الإسلامي من المستشرقين) فهم الفنون الإسلامية من منطلق جديد في كتابه «كيف نفكر في الفن الإسلامي». ويخلص غرابر في الكتاب إلى أن الفن الإسلامي ليس دينيًا بالضرورة، وإلا لما كان له أن ينتشر إلى ما وراء انتشار الدين الإسلامي. ويخلُص غرابر أيضًا إلى أهمية تحديد الحقبة الكلاسيكية للفن الإسلامي، إلا أنه يعتقد أنها نسبية ويصعب تحديدها. والحقيقة أن غرابر أو غيره لن يكون قادرًا على تحديد تلك الحقبة من دون إعادة سرد تاريخ الثقافة في المنطقة.

نشوء الفن الجديد

كغيرها من الظواهر الثقافية، يجب دراسة عدد من العوامل المسببة والموازية لظهور الظاهرة الفنية من أجل فهمها. إذ أن الظاهرة الفنية ليست كافية لتفسير نفسها، فهناك عدد من العوامل الجغرافية والثقافية -اما سابقة للظاهرة أو موازية لها- تؤثر عليها، إلى جانب الأهمية الكبيرة لتحديد منطقة أساسية لظهور الحقبة الكلاسيكية لتلك الظاهرة الفنية.

تلك المنطقة المكونة للفن الجديد يجب أن تحتوي على عناصر الوحدة الثقافية الكافية لانتشار عامل جديد يحوّل ويدمج العوامل الثقافية معًا وينتج نمطًا جديدًا نموذجيًا يسمى كلاسيكيًا للحقب اللاحقة له. تلك المنطقة الأساسية لنشوء ما سمي لاحقًا بالفن الإسلامي هي منطقة المشرق العربي (شبه الجزيرة العربية وسوريا* والعراق)، فالعناصر الفنية والثقافية المتشابهة آنذاك في تلك المنطقة شكلت متحدًا ثقافيًا ملائمًا لظهور حقبة كلاسيكية جديدة، وكان ظهور الإسلام اللحظة المناسبة لبدء هذه الحقبة. ففي اللحظة التي ظهر فيها الإسلام، انتشر بسرعة في كل من سوريا والعراق، وسرعان ما وعت السلطة السياسية الأموية أهمية إشراك الثقافات والمهارات المحلية في عملية بناء الدولة الجديدة. تلك المهارات والفنون السابقة للإسلام تفاعلت مع عدد من العناصر الجديدة كالمسجد والمدن العسكرية الحديثة (الأمصار) والقرآن. ونتيجةً لكل ذلك التفاعل الذي دام حتى العصر العباسي المبكر، نشأ فن جديد أسّميه الفن المشرقي، فالمشرق هو المكان الذي نشأ فيه هذا الفن وظهر من عناصره وثقافته.

ما هو الفن الإسلامي حقًا؟

أما بالنسبة لمصطلح الفن الإسلامي، فهو بكل بساطة يصلح فقط لوصف الفنون المرتبطة بشكل مباشر بالدين الإسلامي، كتصميم المساجد وبنائها أو التجويد والرسم القراني. ويمكن أن يسمى المسجد مثلاً فنا إسلاميًا مهما اختلف المكان أو الزمان. وفي حال احتوى المسجد على مئذنة أو قبة -والتي هي ليست عناصر منصوص عليها في أصول الإسلام، ولم تكن حاضرة في عهد الرسول- يسمى المسجد مشرقيًا.

كما أن انتشار فنّ المشرق الجليّ إلى المناطق المحيطة به، والذي بدأ بمصر وتركيا وإيران (أو ما أسمّيه المشرق الكبير) ثم أوروبا وآسيا والمغرب العربي، لا يعني أبدًا أن هذا الفن هو فن كل هؤلاء على حد سواء، لأن الانتشار الطبيعي للثقافة والفن يقوم على التمازج والبناء على القديم، فالفن في المغرب يسمى مغربيًا وفي الأندلس يسمى أندلسيا وكلاهما هما شكلان متقدمان من الفن المشرقي، وهذا التدرج في التسمية بحسب الأقدمية أدق من إطلاق مصطلح واحد يصف كليهما كفن إسلامي مثلًا.

إن الخروج من النظرة التقليدية للعالم (شرق/غرب أو دار الاسلام/دار الكفر)، والتي سادت كل من البحوث الاستشراقية والاسلامية حول هذا الموضوع، هو المفتاح لدراسة الظواهر الثقافية والفنية بشكل بعيد عن عدم الدقة ومركزية الخطاب الأوروبي أو الإسلامي.

_______________

* هذا المقال مبني على رسالة ماجستير يعدّها الكاتب.

** سوريا تاريخيًا هي المنطقة التي يسميها البعض بلاد الشام أو سوريا الكبرى، ويقصد بها المنطقة ذات الثقافة الهلنستية والممتدة تاريخيًا لمناطق تتجاوز بلاد الشام إلى أجزاء من الجزيرة العربية والإسكندرية.

الصورة أعلاه للمدرسة المستنصرية في بغداد.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية