حققت منظمات المجتمع المدني والحقوقيون في الولايات المتحدة الأسبوع الماضي انتصارا لحقوق مستخدمي شبكة الإنترنت، إذ صوّت مجلس الهيئة الفدرالية لتنظيم الاتصالات (FCC) على إعادة تصنيف خدمة النطاق العريض (Broadband) في قانون الاتصالات الأمريكي من «خدمة معلوماتية» الى «مرفق عمومي».
عارضت الشركات المشغلة للخدمة مثل AT&T وVerison وComcast وTime Warner Cable هذا القرار بشدة، بحجة أنه «سينتج عنه تدخل حكومي أعمق في اقتصاديات الانترنت»، لكن الحقوقيين يرون في القرار نصراً لأحد أهم المبادئ التي قامت عليها شبكة الإنترنت وهو «حيادية الشبكة» أو ما يسمى بـ «Net Neutrality».
ماذا يعني مبدأ «حيادية الشبكة»؟
لفهم هذا المبدأ، تخيّل أن البلدية قررت أن تحجز مسارب شوارع المدينة لمن يدفع أكثر من الشركات والمحال التجارية. فمثلاً، مقابل مبلغ مالي يدفعه سوق تجاري، يتم تخصيص مسرب للسيارات التي تقصده حتى تصل إليه بسرعة أكبر. تنتهي هنا حيادية الشوارع بالنسبة لمن يستخدمها بتمييز السيارات التي تقصد ذلك السوق عن غيرها. أما باقي المحلات التجارية التي لا ترغب الدفع، أو الناس الذين لا يرغبون التردد على ذلك السوق، فلهم المسرب البطيء. إذا كنت كسائق ترفض أن يتم تحديد سرعتك ومسارك حسب وجهتك، فأنت بنفس الطريقة سترفض أن يتم تحديد سرعتك على الإنترنت حسب الموقع أو المحتوى الذي ترغب بالوصول اليه.
تعريف خدمة النطاق العريض كـ «مرفق عمومي» بدلاً من «خدمة معلوماتية»… يمنع شركات الاتصالات ومزودي خدمة الإنترنت من التلاعب بسرعة المسارات حسب ما يدفعه مقدمي المحتوى.
في العام الماضي ثار جدل حول مبدأ «حيادية الشبكة» بين الحقوقيين ومنظمات المجتمع المدني من جهة، وشركات الاتصالات في الولايات المتحدة من جهة أخرى. ففي محاولة خامسة منذ عام 2005، قدّمت الشركات المزودة لخدمة الإنترنت مقترحاً جديداً لقانون اتصالات يسمح لها بتصنيف سرعة خدمة النطاق العريض (broadband) إلى نطاقين: مسارات سريعة وأخرى بطيئة.
هاجمت منظمات المجتمع المدني هذا المقترح لأنها اعتبرت أنه سيضرب مبدأ حيادية الشبكة ويصنف المحتوى إلى مستويات حسب ما يدفعه مزود المحتوى لمشغّل الخدمة. مقابل مبلغ من المال، تتمكن مثلاً شركة تبث أفلام على الإنترنت مثل NetFlix من الحصول على معاملة تفضيلية من مشغل الخدمة على حساب المحتوى الذي تنتجه المواقع أو الشركات الأخرى الصغيرة. قدمت الهيئة الفيدرالية لتنظيم الاتصالات اقتراحاً آخر: تعريف خدمة النطاق العريض كـ «مرفق عمومي» بدلاً من «خدمة معلوماتية»، كما تصنف خدمة الهاتف، أو الكهرباء أو الغاز. يمنع هذا التصنيف شركات الاتصالات ومزودي خدمة الإنترنت من التلاعب بسرعة المسارات حسب ما يدفعه مقدمي المحتوى. كانت الهيئة قد تعاملت مع نطاق الإنترنت العريضمنذ عام ٢٠٠٢ تحت مصنف «خدمة معلوماتية»، الأمر الذي حدد من مدى قدرتها على التنظيم القانوني لشركات الاتصالات وفرض المساواة في تقديم الخدمة لجميع المستخدمين أو المحتوى على الشبكة.
بالنسبة للهيئة، لم يؤثر عدم قانونية المحتوى الذي تم التفرقة ضده على أهمية الالتزام بمدأ الحياد. ففي عام ٢٠١٠، بعد أن اكتشف مجموعة من مشتركي مشغل الخدمة الأمريكي كومكاست Comcast أن الشركة تبطئ سرعة خدمة الـ BitTorrent، غير القانونية في الولايات المتحدة، رفعوا دعوى ضد كومكاست لدى الهيئة الفدرالية لتنظيم الاتصالات، وحكمت الهيئة على الشركة بدفع غرامة بسبب تبطيئها لمسارات مستخدمي خدمة الـ BitTorrent. لم تستطع الهيئة فرض هذه العقوبات لأن محكمة التمييز طعنت بالقرار، لا لعدم قانونية BitTorrent، بل لأن تصنيف خدمة النطاق العريض (ADSL) آنذاك حدد من صلاحيات الهيئة في التدخل القانوني بجودة الخدمة. قانون الاتصالات كان يصنف خدمة النطاق السريع تحت: «خدمة معلوماتية» بدلا من «مرفق عمومي»، وألمحت المحكمة أن القرار كان سيكون قانونياً لو كان تصنيف الخدمة مغايرا. التصنيف الجوهري للشبكة جعل الهيئة تخسر قضية أخرى رفعتها شركة Verizon بعد أن أطلقت الهيئة «أمر الانترنت المفتوح» في ٢٠١٠ وألزمت فيه مشغلي الانترنت بقواعد تضمن شفافية عملهم، وتمنع حجب المواقع وأي تفرقة ضد المحتوى. لم تستطع الهيئة تطبيق هذه المبادئ حيث أن نفس المحكمة السابقة حكمت بعدم صلاحيتها في التطبيق بسبب التصنيف ذاته.
في الأردن، ظهر مبدأ «الحيادية» في قطاع الاتصالات في عام ٢٠٠٧، عندما استخدمت وثيقة السياسيات العامة لقطاع الاتصالات مصطلح «حيادية التكنولوجيا» للدلالة على إتاحة أنواع جديدة من تكنولوجيات الاتصالات مثل Voice Over IP دون التفرقة بينها. تطور هذا المبدأ في وثيقة السياسات العامة لعام ٢٠١٢-٢٠١٧ لكن التعريف حصر مبدأ الحيادية بـ «تحيز مشغل الشبكة الى المحتوى الخاص به»:
«تعتقد الحكومة أنه سيكون هناك على الأرجح حاجة لاستمرار قيام الهيئة باتخاذ خطوات للحد من آثار الهيمنة خلال الفترات الانتقالية للبيئة للمندمجة وأيضاً في الوقت الذي يكون فيه استخدام الشبكات المندمجة والنفاذ اليها قد تم بشكل كامل. وبهذا الصدد، تعتقد الحكومة أن القضايا المتعلقة باختيارات المستهلك والنفاذ إلى خدمات الإنترنت (التي يطلق عليها في بعض األحيان «حيادية الشبكة») هي أيضا ذات صلة، وذلك لأن مشغلي الشبكات قد يكون لديهم الحافز للتحيز إلى خدمات المعلومات الخاصة بهم مقابل خدمات المعلومات التي يقدمها الآخرون. و علاوة على ذلك، يجب أن يتم تحديد وحماية اهتمامات المستهلكين بحيث لا تتأثر سلبا سواء خلال الفترة الانتقالية أو في الوقت الذي يتم فيه تحقيق البيئة المندمجة.»
أما في قانون الاتصالات، نرى زاوية أخرى من هذا التعريف متعلقة بعدم التمييز بين الخدمة المتاحة للمستخدمين، فيتعهد المزود:
«..بتقديم الخدمة لطالبيها أو المستفيدين منها على قدم المساواة وعدم التمييز بينهم، باستثناء ما يتطلبه الامن الوطني أو ما يعتبر من قبيل التسامح لأسباب تشغيلية أو اجتماعية أو إنسانية.»
هذه التعريفات المتواضعة والمبعثرة لمبدأ الحيادية لا تمس الجوهر: أن كافة البيانات سواسية على الشبكة بغض النظر عن مالكها.
سواء كانت البنية التحتية التي تستخدمها هي شبكة الانترنت أو شوارع المدينة، فانت كمستخدم دفعت ما يلزم لتمويلها، برسوم الاشتراك أو بالضرائب. ولا يحق للبلدية أو لمشغلي الشبكة أن تستغل هذه البنية التحتية في تقديم عروض تفضيلية لشركات كبرى قد تضعك في «المسرب البطيء». لكن قد تكون الإجابة على سؤال «من يملك شبكة الإنترنت؟» أصعب من الإجابة عن سؤال من يملك شبكة المواصلات، أو الكهرباء، أو الهاتف. ذلك بسبب العلاقة المعقدة بين مشغلي الشبكة والشركات المنتجة للمحتوى ومستخدمي الإنترنت. لكن في وقت فيه يزيد اعتماد الملايين على شبكة الإنترنت ويعتبر النفاذ إليها حق من الحقوق التي يجب أن توفرها الدولة لمواطنيها، لا يمكن إغفال أهمية التعريف القانوني لجوهر علاقة شبكة الانترنت مع مستخدميها.
في الأردن مثلاً، على الرغم من أن البنية التحتية لشبكة النطاق العريض ADSL تم تمويلها من ضرائب المواطن قبل خصصة شركة الاتصالات لتصبح أورانج الآن، يتم التعامل القانوني معها، حتى وإن لم يذكر ذلك بشكل مباشر، وكأنها «خدمة معلوماتية خاصة». من المفترض أن هيئة تنظيم قطاع الاتصالات عن القيام تمارس دوراً رقابياً على جودة خدمة الإنترنت المقدّمة، لكن آخر تقارير الجودة* التي نشرت على موقع الهيئة كانت في عام ٢٠١١ للشبكة الخلوية GSM، وفي عام ٢٠١٣ لخدمة النطاق العريض (ADSL). حالياً تعتمد الهيئة في مراقبة الجودة على تقارير التقييم الذاتي التي ترسلها الشركات، والتي لا تؤكد فقط على توفر شبكتها بنسبة 99٪، بل وتفتقد إلى أي معايير لقياس التزامها بمبدأ الحيادية.
الأسبوع الماض نصرت الهيئة الفيدرالية لتنظيم الاتصالات في الولايات المتحدة أهم مبادئ شبكة الإنترنت، التي لولاها لم تكن لشركات مثل فيسبوك وويكيبيديا، عندما كانت مشاريع صغيرة، نفس فرص ظهور شركات أكبر على الانترنت. نحتاج لمثل هدا الانتصار في الأردن. لم تستطع الهيئة الفيدرالية لتنظيم الاتصالات تحديد صلاحيات مزودي الخدمة وضمان حقوق المستخدم الممول لهذه الشبكة من رسوم اشتراكه الا عندما تغيّر تصنيف النطاق العريض من «خدمة معلوماتية» إلى «مرفق عمومي». أدركت الهينة الأمريكية أن حاجة المواطن للنفاذ إلى الإنترنت لم تعد تختلف كثيراً عن الحاجة للوصول إلى خدمات الكهرباء والماء التي على الحكومة ضمان إتاحتها وحيادها بغض النظر عن خصخصة القطاع. لا نتحدث فقط عن حاجاتنا كمستخدمين ومواطنين، بل أيضا كمستثمرين ورياديين في بيئة تشجع اقتصاد إبداعي على الانترنت، لا تحكمه الشركات والمواقع الأكبر التي تستطيع شراء سرعة وصول محتواها إلى المستخدم، أو مشغلي خدمة خارج نطاق الرقابة.
—-
*تعذّر وضع روابط للتقارير التي تنشرها هيئة تنظيم قطاع الاتصالات بسبب تصميم الموقع الذي يندرج في فئة الوب العميقة (Deep Web). بإمكانكم الوصول إلى تقارير الجودة بالدخول إلى الموقع -> خدمات -> قطاع الاتصالات -> تقارير جودة.