«خارج التغطية»: كيف يسيطر الاحتلال على اتصالات غزة؟

الأربعاء 15 تشرين الثاني 2023
أحد أبراج الاتصالات في رفح، جنوب قطاع غزة، في 28 تشرين الأول 2023. تصوير محمد عابد. أ ف ب.

ليلة السابع والعشرين من تشرين الأول الماضي، توقفت المكالمات الواردة إلى الدفاع المدني في قطاع غزة، وإن ظلّت سماء القطاع تومض أحيانًا جراء القصف الشديد على أماكن مختلفة. لم تتمكن سيارات الإسعاف من تحديد وجهتها بدقة، فاصطفّت على أبواب المستشفيات بانتظار وصول مدنيين ينقلون الشهداء أو الجرحى ليعرف منهم المسعفون مكان القصف قبل التوجه إليه.

وفي الوقت نفسه، أعلن الهلال الأحمر، ومعه معظم هيئات الإغاثة الدولية، فقدان الاتصال بفرقها العاملة في القطاع. أما الطواقم الصحفية، فتناقلت الأخبار ليلتها بشكل شفوي. نزار السعداوي مثلًا، وهو مراسل قناة TRT العالمية، صار يتنقل بين مستشفى وآخر، ويخبر بقية الزملاء من الوكالات الأخرى المتواجدين في المستشفيات عن مستجدات القصف في المناطق التي مرّ عليها، قائلًا «الخبر اللي كان يوصلني بثلاث دقايق، صار يوصلنا بساعة».

شمل قطع الاتصالات في تلك الليلة الخطوط الأرضية وشبكات الإنترنت والهواتف النقالة، بحسب ما أعلنت عنه شركة الاتصالات الرئيسية في غزة (بالتل)، والشركة المزودة للانترنت الأرضي (مدى)، على منصات التواصل الاجتماعي.

«جبنا رسيفر من تلفزيون البيت، طلعنا منه كيبل خط الصوت ووصلناه بسماعة في الأذن زي كأني بتفرج على التلفزيون، لحد ما أسمع المذيعة تنادي على اسمي وبصير أحكي»، هكذا تمكن السعداوي من التواصل مع قناته لتسجيل رسالة واحدة كان يكررها بشكل مستمر: «أنا مراسلكم، قُطعت الاتصالات عن غزة، نحن الآن منفصلون عن العالم، الرجاء إعلامي إن وصلتكم الرسالة». ويؤكد غازي العالول، مراسل قناة رؤيا في غزة، أن الصحفيين لم يستطيعوا إرسال المواد الصحفية أو متابعة العمل، فيما استخدمت بعض وسائل الإعلام أجهزة الثريا التي تتصل عبر الأقمار الصناعية لبث بعض الرسائل من غزة.

وقد لجأ البعض لخيارات أخرى للتواصل، منها شرائح الشركات الإسرائيلية سلكوم (Cellcom) أو شرائح الشركات المصرية (Vodafone)، والتي كان أصحابها قد اشتروها من الشركات مباشرةً قبل الحرب، لكنها بكل الأحوال لم تكن خيارات فاعلة، حالها حال الشرائح الرقمية (e-sim) التي تتيح ميزة تجوال البيانات العابر للحدود (Data Roaming) ويمكن تفعيلها من شركة الاتصالات عن بعد دون الحاجة لاستخدام شريحة فعلية. حيث يتطلب التقاط التغطية عبر هذه الشرائح إما الاقتراب من المناطق الحدودية والتي غالبًا ما تكون عرضة للقصف، أو الصعود إلى نقاط عالية لالتقاط التغطية. «نحتاج نطلع على بنايات عالية وبتكون الإشارة قوية في هذه المناطق. على الأرض وبالشوارع تكون الإشارة ضعيفة»، يقول العالول.

عمومًا، لم تبدأ مشكلة انقطاع الاتصالات في القطاع ليلة السابع والعشرين من الشهر الفائت، وفقًا لحنّا قريطم، مهندس الاتصالات ومستشار الشبكة التحتية في مؤسسة جمعية الإنترنت،[1] إذ سجلت المؤسسة بداية فقدان جزئي في حركة شبكة الاتصال (الترافيك) لأربعة من مزودي الخدمة في القطاع بعد ساعات من انطلاق عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول. ولكن في ليلة 27 تشرين الأول، حدث الانقطاع التام الذي استمر لـ36 ساعة حتى تمكنت شركات الاتصالات من القيام بأعمال الإصلاح. وقد عادت الشبكة للانقطاع جزئيًا عن شمالي القطاع في الثلاثين من الشهر الماضي بسبب قصف مولد الكهرباء الأساسي في حي الشيخ رضوان، ثم انفصلت كليًا صباح الأول من الشهر الحالي، قبل أن تعود تدريجيًا في الليل من اليوم نفسه.

تتعدد الأسباب المؤدية لقطع الإنترنت في غزة، لكن المؤكد أن القطع الأول والأطول كان بسبب القصف الإسرائيلي المتعمد لمعدات شبكات تزويد الإنترنت أو الأبراج أو مولدات الكهرباء التي تشغّل الابراج. أمّا الانقطاعات التي تلتها، والتي استمرت لتسع ساعات، فقد تضاربت المعلومات حول أسبابها ما بين استهداف البنية التحتية في غزة بالقصف، أو قيام الاحتلال بفصل «المسارات الدولية» التي تربط غزة بالضفة الغربية والمناطق المحتلة عام 1948 عبر خطوط فايبر تمتد من الكيبلات الإسرائيلية، إذ لا تدير شركة بالتل قناتها الدولية الخاصة بها، إنما تعمل جميع شركات الاتصالات الخلوية الفلسطينية عبر شركة مسجلة في «إسرائيل» من أجل إجراء الاتصالات الدولية. وسواء كان السبب القصف أو فصل مصدر المسارات الدولية، فقد هندست دولة الاحتلال البنية التحتية للإنترنت في غزة، والضفة الغربية، عبر عشرات السنوات لتتمكن من السيطرة عليها، بحسب قريطم، حتى وإن كانت تديرها شركات فلسطينية.

إحكام السيطرة على الشبكات الفلسطينية

مثلما يتحكم الاحتلال بالغذاء والدواء والوقود وحركتها من القطاع وإليه، يمكن له كذلك التحكم بالاتصالات التي تشمل الخطوط الأرضية وخط النطاق العريض (adsl) وشبكة الهواتف النقالة في غزة والضفة الغربية.

تدخل على غزة ثلاثة كوابل فايبر أرضية تملكها شركة بالتل، أو مجموعة الاتصالات الفلسطينية، وتتيح نقل الإشارة والبيانات عبر الضوء بدلًا من الكهرباء. تمر جميع الاتصالات في الضفة وغزة وما بينهما في هذه الخطوط عبر شركات اتصالات إسرائيلية، تجني منها أرباحًا سهلة وتمكّنها من التجسس واعتراض الشبكة وقطع موجات الأثير اللاسلكيّ.

تملك شركة بالتل البنية التحتية لخطوط النقل العريض (adsl) والهاتف الأرضي، وتؤجرها للشركات المزودة للإنترنت في القطاع التي يصل عددها لـ15 شركة، وإن كان لا يمكن معرفة نسبة الانتشار الحقيقية للإنترنت في غزة، إذ كثيرًا ما يشترك الجيران بخط واحد حيث تسمح طبيعة غزة المكتظة بتوزيعه عبر اللاسلكي (واي فاي). تدخل هذه الخطوط غزة عبر مدن إسرائيلية، و«بما إنه ما في حدود حقيقة لمنطقة السلطة الفلسطينية مع أي جهة خارجية إلا حدود معبر رفح»، يقول قريطم، ولعدم حيازة شركة بالتل رخصةً لمدّ كوابل خاصة بها على الأراضي المحتلة عام 1948، فإن بالتيل تستأجر كوابل الفايبر من شركات الاتصالات الإسرائيلية.

تتعدد الأسباب المؤدية لقطع الإنترنت في غزة، لكن المؤكد أن القطع الأول والأطول كان بسبب القصف الإسرائيلي المتعمد لمعدات شبكات تزويد الإنترنت أو الأبراج أو مولدات الكهرباء التي تشغّل الابراج.

بشكل أساسي يعتمد سكان غزة على شركة الاتصالات الفلسطينية بالتيل (جوال) وشبكة أوريدو لتقديم خدمات شبكة الهاتف الأرضي والهاتف النقال. إلا أن تقنيات إنترنت الهاتف المحمول ما زالت عالقة في أوائل الألفية حيث لا يسمح الاحتلال الإسرائيلي لشركات الاتصالات الفلسطينية في غزة تقديم خدمات أحدث من الجيل الثاني للدخول للإنترنت عبر الهاتف النقال، ولذلك يكتظ أثير غزة باللاسلكي (الواي فاي) الموصول على شبكة خطوط النطاق العريض الأرضية (adsl). وبنسبة قليلة جدًا، يتصل بعض سكان غزة بالإنترنت عبر اشتراكات لشرائح مدفوعة مسبقًا من الشركات الإسرائيلية، خاصة شركة سلكوم (Cellcom) التي تقدم خدمات الجيل الرابع والخامس وتغطي شبكتها مناطق القطاع الشرقية فقط، نظرًا لقربها من حدود مناطق الاحتلال.

لا يعني هذا الحال في غزة أن خدمات الإنترنت عبر الهاتف في الضفة أكثر تطورًا. فقد سمحت «إسرائيل» بدخول الجيل الثالث للضفة عام 2015، واستطاعت الشركات الفلسطينية تشغيلها على شبكاتها عام 2018، أي بعد 12 عامًا من تطوير خدمات هذا الجيل في العالم. إن هذا التأخر في تقنيات الإنترنت، الجوال والفايبر، كان سببًا في تأخر النمو الاقتصادي الرقمي في الضفة بحسب تقرير للبنك الدولي عن الوضع الاقتصادي في الضفة الغربية وقطاع غزة لعام 2020. يشير التقرير -عرضيًا- للقيود التي يضعها الاحتلال على معدات شبكة الاتصالات الخاصة بالجيل الثالث والرابع، واستمرار سيطرته على ترددات البث التي تعتمد عليها تقنيات هذه الأجيال، رغم حق السلطة الفلسطينية قانونيًا ببناء شبكة اتصالات مُستقلة وقوانين مُستقلة تحكمها.

ورغم أن الضفة الغربية متقدمة نسبيًا عن غزة بخدمات الإنترنت عبر الهاتف المتنقل، إلا نسبة كبيرة من سكانها تعتمد على خطوط شركات الاتصالات الإسرائيلية، التي تُتيحها بسهولة طمعًا بحُصة أكبر في سوق الاتصالات، فطبيعة المنطقة الجغرافية المُعقدة في فلسطين وانتشار المستوطنات في مناطق «أ» و«ب» من الضفة الغربية تجعل من التحديد الجغرافي لمدى تغطية الأبراج مستحيلة بين شركات الاتصالات الفلسطينية والإسرائيلية، وفقًا لقريطم. وبحسب تقرير البنك الدولي فإن حصة شركات الاتصالات الإسرائيلية من سوق الاتصالات الفلسطيني هو 20%.

يذكر أن بوادر إفراج «إسرائيل» عن ترددات الجيل الرابع والخامس للسلطة الفلسطينية بدأت بالظهور عندما أعلن البيت الأبيض قبل زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للاحتلال في تموز 2022 عن مجموعة مبادرات لزيادة «ترفيه المواطن الفلسطيني». وفي تشرين الثاني 2022 أعلن رئيس صندوق الاستثمار الفلسطيني التوصل لاتفاق مع الاحتلال بتخصيص ترددات الجيلين الرابع والخامس من الاتصالات اللاسلكية للهواتف النقالة. وكانت وزارة الاتصالات الفلسطينية قد أعلنت، مطلع العام الجاري، أنها تعمل مع الشركات الفلسطينية على إتاحة هذه الترددات مع نهاية عام 2023.

أضرار لا يمكن إصلاحها

قبل أيام أعلن وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الفلسطيني، إسحق سدر، في مؤتمر صحفي، أن خدمات الاتصالات والإنترنت ستتوقف في غزة بشكل كامل يوم الخميس، 16 تشرين الثاني 2023، بسبب نفاد كمياتِ الوقود اللازمة لتشغيل الأبراج.

يقول سدر لـ«حبر» إن بعض مناطق غزة، خصوصًا في الشمال، انقطعت تمامًا عن شبكة اتصالات الهواتف النقالة حتى بعد إعلان عودة الاتصالات. فيما يؤكد المراسل الصحفي، العالول، أن هذا الوضع يشمل أيضًا المناطق الشرقية من القطاع حيث توقفت فيها أعمال الإصلاح والصيانة نظرًا للقصف المدفعي. أما شرقيّ المناطق الوسطى والمنطقة الشمالية الغربية من القطاع -مثل العطاطرة والكرامة- فقد تدمرت فيها المقاسم المزودة للطاقة وشبكات الاتصالات.

وقد أعلنت شركات الاتصالات الفلسطينية تعطل 70% و65% من الخدمات التي تقدمها شركتا أوريدو وجوال، على التوالي، جراء التدمير الكلي أو الجزئي الذي استهدف القطاع. وتعمل هذه الشركات على خطط طوارئ منذ 37 يومًا معتمدةً في تشغيل الأبراج على بطاريات أو مولدات تعمل بمخزوناتٍ من السولار أو شرائح الطاقة الشمسية بعد وقف إمدادات خطوط الكهرباء الرئيسية وعمل شركة توليد الكهرباء في غزة، بحسب عبد المجيد ملحم، الرئيس التنفيذي لمجموعة الاتصالات الفلسطينية.

سواء كان سبب انقطاع الإنترنت عن غزة هو القصف أو فصل مصدر المسارات الدولية، فقد هندست دولة الاحتلال البنية التحتية للإنترنت في غزة والضفة الغربية، عبر عشرات السنوات لتتمكن من السيطرة عليها، حتى وإن كانت تديرها شركات فلسطينية.

وشملت خطط الطوارئ أيضًا تقديم حزم اتصال وإنترنت مجانية، والحفاظ على فاعلية كامل خطوط الدفع المسبق والخطوط المستحقة للفصل الكلي، وإلغاء شروط عمليات تحويل الرصيد إلى مشتركي القطاع، في ظل تضاعف حجم استخدام الشبكة والذي يعتبر الأعلى منذ تأسيسها، وفقًا لنعيم نزال، الرئيس التنفيذي والتقني لشركة أوريدو.

يقول ملحم لـ«حبر» إن شبكة الاتصالات في قطاع غزة مصممة وفق معايير قياسية للتعامل مع هذه الظروف الصعبة، حيث لكل موقع مسار اتصال رئيس ومسارات بديلة: «تعلمنا من الحروب السابقة، كل شركات الاتصالات بتحفر لتثبيت خطوطها على عمق 80 سم، إحنا حفرنا في غزة حتى عمق 20 متر». لكن نفاد الوقود الاحتياطي وتعرّض ألواح الطاقة الشمسية للتلف جراء القصف الواسع والشظايا، «ألحق أضرارًا غير مسبوقة بالشبكة لا يمكن صيانتها بشكل بدائي».

شهد الصحفي السعداوي محاولة مهندسي شركات الاتصالات إصلاح الأماكن المتضررة، قائلًا إنه رأى «المهندسين ماشيين بالسيارة تبعتهم حاطين علم، عشان ما ينقصفوا، لأنهم بشتغلوا بالرعب»، وحتى لو افترضنا توقف القصف، فإن مهندسي الاتصالات لا يملكون المعدات الكافية للصيانة، فبالإضافة لقصف المقرات الرئيسية لشركة الاتصال بالتل شمالي القطاع ووسطه، دمر القصف الإسرائيلي مخزن الاتصالات في منطقة الرمال الذي يحوي معدات وكوابل الصيانة، بحسب السعداوي.

يشير ملحم إلى أن الطواقم الفنية لشركات الاتصال تتحرك سيرًا على الأقدام بسبب تدمير الشوارع ووسائل التنقل، ولذلك فهي تحمل معدات خفيفة لا تتجاوز إمكانياتها إصلاح المولدات أو جلب السولار لها: «مثلا دمروا مولّد بس لسة فيه بقايا وقود، بروح الموظف بوخذ الوقود على أساس يشغل فيه مولد ثاني». ويضيف نزال أن هذه الطواقم تخاطر بحياتها للقيام بصيانة بدائية ربما تفلح في استدامة الاتصالات ساعات قليلة فقط: «هذول مش موظفين بمكاتب، إحنا بنظل نجرب نرن عليهم عشرين مرة حتى نعمل مكالمة».

تطالب وزارة وشركات الاتصالات المؤسسات الدولية والاتحاد الدوليّ للاتصالات بضرورةِ التدخلِ الفوري لإدخال الوقود إلى غزة من أجل تشغيل كافة القطاعات الحيوية بما فيها الاتصالات. يقول سدر إن وزارة الاتصالات خاطبت الجهات المعنية في مصر لتقوية البث باتجاه الأراضي الفلسطينية، وفتح التجوال للشرائح الفلسطينية على الشبكات المصرية، لكنها حتى اليوم لم تلقَ استجابة عملية لذلك.

أما رئيس لجنة إدارة اتحاد شركات أنظمة المعلومات (بيتا)، تامر برانسي، فيؤكد أن انقطاع الاتصالات في غزة سيؤثر على الخدمات الإغاثية التي تنتشل العالقين من تحت الأنقاض والمصابين في محيط القصف، محذرًا من إخفاء جرائم الحرب التي يرتكبها الاحتلال وتعميق الكارثة الإنسانية المتفاقمة حيث استشهد حتى الآن 11,500 شخصًا وأصيب ما يزيد عن 28 ألف، عدا عن 3250 مفقودًا أو تحت الأنقاض، بحسب وزارة الصحة التي ذكرت في تقريرها اليومي صعوبة الحصول على المعلومات المحدثة جراء انقطاع خدمات الاتصال. «اليوم، الفرق بين توفير خدمة الاتصالات في غزة من عدمها هو الفرق بين الموت والحياة»، يقول برانسي.

  • الهوامش

    [1] مؤسسة دولية، مقرها الولايات المتحدة، مختصة في رصد انقطاعات الإنترنت وظروف الاتصالات.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية