آخِر المُناضِلينَ الأمميّين: منافي مارك رودِن العربية

تصميم محمد شحادة.

آخِر المُناضِلينَ الأمميّين: منافي مارك رودِن العربية

الإثنين 07 آب 2023

«لست نادمًا على شيء. لقد حظيت بحياة طيبة».
– مارك رودِن (جهاد منصور)

كما يتقدم الغريب نحو شواطئ مجهولة، كان مارك رودِن يمشي بحذر على خطوط التماس السورية التركية. في أرض منبسطة، وليس هناك غير البيداء، بلا شجر ولا ماء ولا رفيق، يسير ويلقي بين الحين والآخر نظرة حسرة إلى الوراء، حيث دمشق، التي أحب، تبدو بعيدةً كنجمة في السماء. كانت ليلة خريف هادئة، سيقطع سكونها ضجيج حرس الحدود، يلتفون حول رودن فجأةً. بعد ساعاتٍ سافرت صورته مكشوفًا أمام أعين الشرطة التركية، ومجموعة من متعلقاته بجانبه على الأرض، العالمَ من خلال وكالات الأنباء.

لقد وقع المناضل الأممي في الشباك بعد عقود من الملاحقة والتخفي والقتال والرسم والالتزام. سقط جهاد منصور -الاسم الحركي الذي حمله مارك رودِن لسنوات- في زمن السقوط. كان العالم في العام 1991 يحبس أنفاسه، تتساقط فيه الأنظمة والقيم والسرديات كالقناني، وتموت فيه الثورات على قارعة الطريق دون منقذ، ويكثر فيه الحديث عن نهاية التاريخ.

مخلفًا وراءه عقدين من الكفاح في صفوف الثورة الفلسطينية، مقاتلًا وفنانًا، يذهب الرفيق مارك إلى سجنه التركي ثم الدنماركي واثقًا بما كان يفعله، دون أن يقدم اعتذارًا واحدًا حتى وفاته في نيسان 2023. سحنته الهادئة، وملامح وجهه الطفولية، وصمته المديد، توحي للوهلة الأولى بليونةٍ في الطّبع، لكنها تخفي وراءها طبقات من الصلابة، أثبتتها التجارب والساحات: كفاحًا ونفيًا واعتقالًا. لكن طريق النضال الأممي، الذي اختاره الفتى العشريني الماركسي مارك رودن، أواخر ستينيات القرن الماضي، لم يكن إلا تعبيرًا عن رهافة فنية قادته مجبولًا إلى ما أسماه معسكر العدالة.

كيف يكون الفنان في صف القاتل؟ مدفوعًا بثورية الماركسي وحساسية الفنان وجد رودِن نفسه في معسكرات الثورة ومخيمات اللجوء ومكاتب مجلّات المقاومة. لكنه خلافًا لرعيل واسع من المناضلين الأمميين، الذين ساندوا الثورة الفلسطينية في مواقع عسكرية وسياسية، كانت مساهمة مارك فنيةً، لذلك كانت خالدةً على الصفحات وفي الأرشيفات وعلى جدران المخيم.

إحدى ملصقات مارك رودِن بعنوان «الأرض». المصدر: أرشيف ملصق فلسطين.

من أوروبا إلى بيروت: طريق الثورة

فيما كانت ثورة الشباب اليساري تدق أبواب باريس عام 1968، كان الشاب مارك رودِن، بالكاد يبلغ 23 عامًا، متأثرًا بأجواء التمرد، حتى إن الحماس قاده إلى رفع علم المقاومة الفيتنامية (الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام) على قمة برج الكاتدرائية الذي يبلغ ارتفاعه 100 متر في مدينة برن السويسرية في حزيران 1968. ولد رودِن في عائلة من الطبقة المتوسطة في برن، وانخرط باكرًا في التعليم المهني كمصمم، مدفوعًا بموهبة فنية رافقته من سنوات الطفولة الأولى. داخل مدرسة التدريب المهني بدأ الاهتمام بالسياسة، ثم كانت ثورة أيار 1968 التي قلبت فكره وسلوكه جذريًا. في ذلك الوقت، تم تطوير الأشكال المرئية، والملصقات نحو مسار نقدي قصوَويّ وأشد تعبيرًا على نظام اللاعدالة السائد.

مهووسًا بالتمرد، استبدت بمارك المغامرة إلى حد كبير، فترك منزل العائلة وتحول إلى رحالة ينتقل من مدينة إلى أخرى في نوع من حياة الهيبيز. كان يعزف التشيلو والفيول والباس المزدوج ويصنع بنفسه الآلات الوتريّة. عزف بمفرده وفي مجموعات، في الشارع، وفي المهرجانات والاحتفالات، منتصرًا للموسيقى الشعبية في مواجهة كل ما هو رسمي ونخبويّ. يضرب الدف بيد واحدة وينفخ الفلوت بيد أخرى. أصبح مارك أبًا في سن مبكرة جدًا. لكنه سرعان ما انتقل إلى باريس، مركز الفعل السياسي، حيث عرضت عليه وكالة إعلانات وظيفة جيدة الأجر. لم يبرع في دور الزوج ولا في دور الموظف المطيع. كانت سنوات باريس من 1969 إلى 1971 أساسية في تكوين مارك السياسي، فقد نشط ضمن تنظيم «اليسار البروليتاري»، ذو التوجه الماوي، والذي كان معاديًا للشيوعية التقليدية التي يمثلها الحزب الشيوعي الفرنسي وربيبته النقابة العمالية الكبرى (CGT).

إحدى ملصقات مارك رودِن بعنوان «نجوم في سماء الوطن». المصدر: أرشيف ملصق فلسطين.

كان رودن مهتمًا بالعمل الشعبي، متنقلًا بين أعمال كثيرة أهمها في مصانع رينو للسيارات، حيث كان متصلًا بشكل مباشر بالعمال، ولاسيما مهاجري شمال إفريقيا، والذين تعرّف من خلالهم على الاستعمار والقضية الفلسطينية. وفي تلك الفترة بدأ رودن في نشر رسوماته وملصقاته في مجلة الهدف التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. لكنه ما لبث أن عاد إلى مدينته برن في عام 1972، حيث واصل نشاطه داخل مجموعات اليسار الراديكالي، وفي الوقت نفسه كان عاملًا على خط التجميع في مصنع شركة جنرال موتورز. في برن ستبدأ مشاكل مارك مع السلطة، وسيتحول إلى ملاحق بدايةً من منتصف السبعينيات، بتهم تتعلق بعمليات سطو وتخريب نفذتها مجموعات يسارية في مدن أوروبية.

متخفيًا، يتجه رودن إلى إيطاليا. وخلال عمله على جداريات كبيرة في مبانٍ احتلتها مجموعات شبابية يسارية في منطقة بورتا تيسينيزي بميلانو، سيلتقي بأعضاء في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذين دعوه إلى لبنان، حيث تم الترحيب به بأذرع مفتوحة. يذهب وليد عبد الرحيم، في مقال نشره حول مارك رودن، في مجلة «الهدف»، إلى أن بداية تعرّف رودن على الجبهة الشعبية كانت «في بداية حزيران 1972 حين التقى بغسان كنفاني، وأن وديع حداد قد ضمّ مارك بين 1970 و1971 إلى مجموعته وبقي في أتون العمل السري حتى عام 1975 وظهوره العلني في بيروت». لكن رواية مارك رودن نفسه، في مقابلة مع مجلة «الشبيبة الثورية بزيوريخ» السويسرية، تؤكد أنه لم يلتقِ بقيادة الجبهة الشعبية إلا في خريف 1975، عندما وصل في نهاية شهر أيلول إلى ميناء صيدا على متن قارب صيد، حيث كان المطار مغلقًا بسبب الحرب الأهلية، ثم نحو مكاتب جريدة الهدف التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الواقع في منطقة كورنيش المزرعة في القسم الغربي من بيروت، حيث سيطلق عليه رفاقه اسم: جهاد منصور.

غلاف أحد أعداد مجلة الهدف من تصميم مارك رودِن، عام 1980، المصدر: أرشيف ملصق فلسطين.

بين بيروت ودمشق: ملصقات الثورة

في بيروت الغربية استقر المقام بجهاد منصور في غرفة صغيرة على سطح مبنى من سبعة طوابق. لم يكن لديه شيء سوى قصاصات من الورق -كانت أحيانًا الصفحات المقلوبة من الملصقات القديمة- وبعض أقلام الفلوماستر للعمل بها. كان ذلك قبل سقوط مخيم تل الزعتر بقليل، لذلك طُلب منه إنشاء ملصق بعنوان: تل الزعتر، رمز المقاومة ضد الفاشية. كانت بندقيته الكلاشينكوف متروكةً في زاوية الغرفة. التقطها وألقى نظرة وعرف أن لديه موضوعًا لملصقه الأول. أثناء العمل، اضطر إلى مغادرة المبنى طوال الوقت لأن الشرفة كانت تتعرض للقصف المتواصل. صباح اليوم التالي ظهر الملصق على جدران المخيم وعلى صفحات «الهدف»: يد فدائي فلسطيني ترتفع من تحت الركام حاملةً بندقية الكلاشينكوف والدم المنبعث منها يرسم زهرةً على أرض المخيم. كانت وشائج القربى بين جهاد منصور وجمهوره قويةً، ولم يكن يحتاج إلى وسائط كي يدرك رأي هذا الجمهور في ملصقه. الفنان وجمهوره يعيشان في بيئة واحدة، كانت ردود الفعل مباشرة وصريحة، فالمسافة بينه وبين الأشخاص الذين أحبهم ورسم لهم كانت أصغر بكثير مما كانت عليه في أوروبا. متحدثًا عن ذكريات بيروت يقول جهاد منصور:

كنت واحدًا منهم. لقد دفعوا إيجار الغرفة التي عملت فيها وعشت فيها. كلما كنت مريضًا، اعتنوا بي بلطف شديد. لم أضطر أبدًا إلى الدفع مقابل أي طبيب أو دواء. كما تلقيت موادًا لعملي. غالبًا ما كان هناك ما يكفي من الملابس الجيدة القادمة من تبرعات الملابس المستعملة. بالإضافة إلى ذلك، حصلت على راتب ضئيل للغاية، مثل كل من عمل من أجل القضية. كان أشبه ببدل، يكفي فقط لدفع ثمن الطعام والمواصلات. كنا نعيش على القليل جدًا، مثل أي شخص آخر في المخيمات. نكيّف احتياجاتنا مع احتياجات جيراننا. سعداء إلى حد ما لأننا هربنا جزئيًا من الضغوط الغربية للمجتمع المادي. كنا بخير. كان بإمكاني القيام بعمل غير منفرد، ولم يكن لديّ مال مطلقًا، لكنني لم أواجه صعوبات مالية أيضًا.

كانت يوميات رودنّ في بيروت ومخيمات اللاجئين في الجنوب صاخبةً. لم يكن ملتزمًا فقط بالعمل للمجلة، بل مشاركًا في أغلب النشاطات التي تقيمها الجبهة وحتى فصائل ثورية فلسطينية أخرى، خاصة مع منظمة الشبيبة الفلسطينية، الذراع الشبابي للجبهة، حيث نشر ملصقاته في مجلتها، وشارك في المعسكرات التي كانت المنظمة تقيمها لفائدة شباب المخيمات، كما كان لديها فرقة موسيقية وغنائية وفرقة دبكة وفرقة نحاسية. ونظم دورات الرسم والتصميم. ورغم هذه الحياة الجماعية المثيرة، كان رودن في خضم العمل ميّالًا إلى العزلة:

«أحببت العمل بشكل أفضل في غرفتي الخاصة، حيث كان لدي أضواء جيدة. غالبًا ما كان هناك انقطاع في التيار الكهربائي. لذلك أحببت العمل أثناء النهار، خاصة في ساعات الصباح الأولى. كلما اضطررت إلى العمل في الليل، كان لدي مصباح كيروسين يعطي إضاءة جيدة في حالة انقطاع التيار الكهربائي. لم تكن هذه مشكلة في الشتاء، ولكن في الصيف عندما كان الجو حارًا بالفعل، كان المصباح يرفع درجة حرارة الغرفة».

لعب الملصق دورًا دعائيًا وتعبويًا كبيرًا في تاريخ الثورة الفلسطينية. كان تقريبًا في كل مكان، في الأزقة الضيقة، وداخل منازل الفلسطينيين. وفي الحملات الإعلامية في الخارج. لذلك كان على الفنان أن يتنازل عن استخدام الرموز الغامضة والنصوص الطويلة. على إحدى الملصقات رسم مارك جدارًا به شق طويل على شكل خريطة فلسطين. لم يفهم رفاقه غير الفلسطينيين التلميح في البداية، لكن عندما سأل فلسطينيًا يبلغ من العمر 50 عامًا، سيستشهد لاحقًا في مذبحة صبرا وشاتيلا -ولم يكن قادرًا على القراءة أو الكتابة- يقف حارسًا على مكتب الجبهة الشعبية أجاب على الفور بفخر: «فلسطين».

كانت ملصقات جهاد منصور تجوب العالم، وتطبع دائمًا بلغتين باستخدام تقنية الأوفسيت، في حوالي 5000 نسخة، حيث توزع في كل مكان تطاله يد الثورة. وكانت تعجّ برموز لم يتخل عنها إلا قليلًا؛ مثل نبتة الصبار، التي يرمز بها إلى الصبر الفلسطيني، وأغصان البرتقال والزيتون، وكذلك ملامح من خريطة فلسطين الأصلية وقبة الصخرة بطلائها المذهّب. كما كان الكلاشينكوف، بسماته المميزة، بمثابة رمز لنضالات التحرير في العالم الثالث، حاضرًا دائمًا كنايةً عن الكفاح المسلح. كذلك تحضر النساء في ملصقات جهاد منصور، بوصفها رمزًا للمقاومة، كما يصورها في ملصق أعده للمؤتمر الثاني لاتحاد المرأة الفلسطينية، والذي يصوّر امرأة تدير ظهرها للمشاهد وتحمل على رأسها سلة مليئة بالحجارة بدلًا من الفاكهة، متوجهةً إلى صورة ظليلةٍ للقدس، ولا يشعّ من الإطار سوى ثوبها التقليدي المطرز بألوان زاهية.

ملصق أعدّه مارك رودن للمؤتمر الثاني لاتحاد المرأة الفلسطينية.

في عام 1982 جاء القدر الإسرائيلي لإخراج الثورة من لبنان. شغل جهاد منصور موقعه النضالي طيلة فترة الغزو دون كللٍ، لكنه غادر في النهاية حاله حال المئات من رفاقه. فيما توجهت قيادة منظمة التحرير غربًا نحو تونس، اختارت قيادة الجبهة الشعبية التوجه شرقًا نحو سوريا. على متن باخرةٍ توجه رودن مع رفاقه إلى ميناء اللاذقية السوري ثم نحو العاصمة دمشق، ليستقر به المقام في غرفة صغيرة في مخيم اليرموك. لم يكن فضاء الحرية في سوريا رحبًا كما هو الشأن في لبنان، خاصة بالنسبة لفنان متمرد مثل مارك رودن، وترافق ذلك مع صعود قوي لحزب العمل الشيوعي المعارض، والذي كانت تربطه وشائج قوية بالفصائل اليسارية الفلسطينية، خصوصًا داخل مخيم اليرموك. متحدثًا عن تلك الفترة يقول مارك:

خلال هذه الفترة، أغلقت المخابرات السورية عدة مكاتب للفلسطينيين. أصبح من الصعب للغاية إنتاج مواد مطبوعة. كان كل نشاط يحتاج إلى إذن، والذي لم يتم منحه في كثير من الأحيان. غالبًا ما تم الاستيلاء على المسودات والتخطيطات من قبل الرقباء وإبقاؤها سرية بحيث لا يمكن طباعة أي شيء في الخارج أيضًا. لتجنب المصادرة، اضطررت للذهاب إلى وسط دمشق مع ملصقاتي. كان هناك المصورون الذين يلتقطون صورًا للسياح بكاميرات بولارويد. لقد قمت بتثبيت الملصق على الحائط وتركت أحد هؤلاء المصورين يصوره، كي أحتفظ منه بنسخة. ربما اعتقد الناس في الشارع أنني مجنون. المطابع أيضا لا تطبع بدون إذن. يمكن العثور على عدد قليل فقط من المصورين الذين ما زالوا يصورون الفيلم (وليس اللوحات) دون إذْن.
نطلب عادة مجموعتين من الأفلام، يتم تهريب إحداها إلى لبنان، حيث تطبع ملصقات للبنان وسوريا. وتذهب البقية إلى دولة غربية، لتوزع على قسم الإعلام الدولي وحملات التضامن. في عام 1988، أطلقت وحدة الإعلام في تونس التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية مشروع سلسلة من الملصقات لفنانين مختلفين في حركة المقاومة الفلسطينية كان من المفترض أن يدعموا الانتفاضة، كنت من بينهم.
كان من الصعب جدًا إخراج النسخ الأصلية من سوريا. كان دائمًا خطر فقدانها هاجسًا بالنسبة لي. إذا حدث ذلك مع ريبوفيلم، يمكنك عمل واحدة جديدة. لكن وحدة المعلومات أرادت الحصول على الأصل، حيث سيتم الاستنساخ والطباعة في تونس. لذلك خطرت لي فكرة تجربة نقش خشبي بثلاثة ألوان. إذا فقدت قالب طباعة ما، يمكنني بسهولة إنشاء قالبٍ آخر. كان عليّ أن أذهب إلى التجار الذين يبيعون الأخشاب للنجارين. اضطررت إلى البحث لفترة طويلة للعثور على لوحة كستنائية جيدة. وفي صيف عام 1991، طُلب مني إنشاء ملصق ضد قمع وطرد الفلسطينيين من الكويت. نظرًا لأن الحكومة السورية انحازت إلى الولايات المتحدة وحلفائها في حرب الخليج، لم يتم العثور على طابعة سورية لطباعة الملصق. كان المصورون أيضًا خائفين جدًا من التعاون. بعد الركض لبعض الوقت، وجدت هاويًا غريب الأطوار من هذا النوع ممن عملوا بمفردهم وليس لديهم موظفين. كان مستعدًا للقيام بذلك مقابل سعر إضافي بسيط. كانت الساعة الثانية بعد الظهر وكان الجميع في دمشق يقضون قيلولتهم. وافق بشرط أن أحصل على الأفلام عند الساعة الرابعة وأدفع نقدًا. لم يكن يريد أن يكون لديه «أشياء مشبوهة» في متجره لفترة طويلة.

العودة إلى أوروبا: خريف النضال الأممي

مخفورًا بالحديد، معصوب الرأس، تجره أيادي حرس الحدود وتدفعه بنادق الترك، كان جهاد منصور يذهب إلى سجنه والمرارة في حلقه. كان كل شيء من حوله ينهار: الاتحاد السوفياتي يعيش آخر أيامه، والقوات الأمريكية تملأ أراضي الشرق، وياسر عرفات يسير رويدًا نحو توقيع اتفاق السلام مع العدو. الجبهة الشعبية تخبو كنجمةٍ بعيدة، وكارلوس يغادر سوريا هائمًا على وجهه بلا ملاذ، وأحلام السبعينيات تتحول إلى كوابيس.

بعد سنة ونصف في سجن تركي قررت حكومة مسعود يلماز تسليمه إلى الدنمارك، حيث وجهت إليه تهمة التورط في عملية سطو على مكتب بريد نفذتها مجموعة بليكينغد اليسارية الثورية في كوبنهاغن عام 1988، توفي فيها ضابط شرطة. أرسلت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مارك باعتباره «الرجل الخامس» لهذه العملية. ونفى هو نفسه أنه كان في الدنمارك في ذلك الوقت. دعمت مجموعة بليكينغد حركات التحرير الوطني عن طريق سرقة البنوك ومكاتب البريد.

وفي شباط 1997، سُلم إلى سويسرا، حيث أمضى عشرة أيام في السجن، لكن السلطات اضطرت لإسقاط تهمة قديمة ضده بسبب هجوم بقنبلة على أحد البنوك، لسقوط الحكم بالزمن. ليتزوج من حبيبته السويسرية التي واعدها قبل ذهابه إلى الثورة، ويستقر به الحال مدرسًا في المدرسة المهنية للتصميم في زيورخ حتى تقاعده في عام 2011، حين تم تشخيصه بمرض باركنسون، الذي حاربه كما حارب الإسرائيليين في بيروت عام 1982.

ظل رودِن وفيًا لقناعاته، مشيرًا ذات مرةٍ إلى أنه يشعر أنه في «جوهره فلسطيني». وحين سئل مارك رودن هل بقيت إحدى ملصقاتك الخاصة بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عالقةً في ذاكرتك؟ قال بضحكة صدئة: «هذا سؤال صعب، لأنني صممت حوالي 200 ملصق للجبهة الشعبية. لكن من المحتمل أن يكون ملصق مذبحة صبرا وشاتيلا والأيدي مقيدة وبركة الدماء». 

ملصق لمارك رودِن عن مجازر صبرا وشاتيلا، عام 1982، المصدر: أرشيف ملصق فلسطين.

  • هوامش
    يمكن الاطلاع على معرض أعمال مارك رودِن (جهاد منصور) (1971-1991) في أرشيف ملصق فلسطين عبر هذا الرابط.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية