أمريكا و«إسرائيل» في الحـرب: خلاف داخل البيت الواحد

الإثنين 08 نيسان 2024
في مخيم للنازحين في رفح جنوب قطاع غزة. تصوير محمد عابد. أ ف ب.

ستة شهور مرّت على بدء معركة طوفان الأقصى، وما تلاها من عدوان إسرائيلي غير مسبوق على القطاع، عدوان مستمر بات الحرب الأطول في تاريخ الصراع مع الاحتلال. وعلى مدى ستة شهور طرحت الكثير من الأسئلة، وإن كان بعضها قد استفيض في الإجابة عليها، فإن الأحداث الأخيرة قد طرحت أسئلة جديدة. ومن هذه الأسئلة، الخلافات الأمريكية الإسرائيلية وأسبابها، ومدى دورها في تحديد مستقبل الحرب، وهو ما يدفع لاستعادة السؤال القديم حول دور الولايات المتحدة في هذه الحرب أساسًا، وأشكال انخراطها فيها، وطبيعة علاقتها بدولة الاحتلال. 

كما طرح الحديث المستمر لأطراف مختلفة في حكومة الاحتلال حول العزم على اجتياح مدينة رفح، والتي تضمّ اليوم، في مساحة محدودة جدًا، 1.5 مليون فلسطيني، أسئلة حول أسباب تحقق ما يشبه الإجماع الإسرائيلي على غزو المدينة، رغم اختلاف الفرقاء الإسرائيليين على الكثير من الملفات الأخرى، وعلاقة هذا الاتفاق الإسرائيلي بصورة الجيش داخل المجتمع الإسرائيلي ومقدرته على حماية مجتمع المستوطنين. 

فلسطينيًا، لوحظ مؤخرًا، أن نخب السلطة الفلسطينية بدأت الحديث بشكل أكثر صراحة حول طموحها في الحصول على أدوار ما في غزة بعد الحرب ضمن سيناريوهات ما يسمى اليوم التالي، وهنا يطرح السؤال حول أسباب هذا الحضور المفاجئ، والتنافس الحاضر بين أطراف مختلفة داخلها على لعب دور مستقبلي ما.  

وفي قلب الحرب في غزة، كان لافتًا قدرة الحكومة على تنفيذ مهام في إدارة حياة الناس رغم إصرار الاحتلال على استهداف كلّ مظاهر الإدارة المدنية، ومساعيه الحثيثة لاجتراح أجسام فلسطينية تتعاون معه، ليطرح هذا تساؤلات حول أسباب هذا الاستهداف، ومعاني رفض المجتمع الغزي لأي تساوق مع الاحتلال ولو على مستوى المساعدات الإنسانية. 

وفي قلب الحرب كذلك، كانت الأسئلة حول معاني قدرة المقاومة على التكيّف رغم اختلاف وتيرة الحرب وشكلها ما بين مرحلة وأخرى، وكذلك حول صفقة تبادل الأسرى، وما تأمل المقاومة من تحقيقه عبرها، وأسباب تعثّرها حتى اليوم، رغم اقتراب الوصول إليها، بحسب تقارير إعلامية أكثر من مرة، ومعاني تعنّت الاحتلال في الموافقة عليها. 

هذه الأسئلة وغيرها، طرحناها على الباحث والكاتب الفلسطيني ساري عرابي، مع مرور ستّة شهور على الحرب.

حبر: مرت شهور من المفاوضات غير المباشرة بين دولة الاحتلال وفصائل المقاومة من أجل التوصل لصفقة تبادل جديدة، تأمل المقاومة عبرها الوصول لوقف إطلاق نار شامل. لكن رغم الجولات المتكررة، يبدو وكأننا ما نزال نراوح في المربع الأول. ما الذي يعيق التوصل لصفقة حتى الآن؟

ساري عرابي: حتى تنجح المفاوضات بين أي طرفين، لا بد وأن تكون هناك قاعدة ما مشتركة بينهما. القاعدة المشتركة قد توجد بقدر ما من التفاهم الضمني بين الطرفين، بحتمية وجود قاعدة ما للتفاهم، أو بحكم أن هناك وساطةً حقيقية تَفرض على الطرفين الاتفاق على قاعدة مشتركة. أو أن يتنازل أحد الطرفين، بمعنى أن يحصل نوع من الهزيمة الضمنية لأحدهما، وليس بالضرورة الهزيمة الصريحة. حاليًا لا وجود لقاعدة كهذه بين المقاومة والاحتلال.

يمكن القول إن القاعدة التي تجري عليها المفاوضات ما بين الصفقة الأولى والصفقة الثانية قد اختلفت تمامًا من الناحية الجوهرية، ولا سيما من طرف حركة حماس. الصفقة الأولى كانت صفقة تبادل أسرى، ولكن حركة حماس الآن تبحث عن صفقة لوقف الحرب. 

في الصفقة الأولى، راهنت حماس على أن صفقة لتبادل الأسرى يمكن أن توفر بوابة نحو وقف الحرب، وهو ما لم يحصل. وقد أدركت الحركة أن المشكلة في الصفقة الأولى كانت في حصر الصفقة في تبادلٍ للأسرى، دونما اعتبارٍ للجانب السياسي، ودون أن تكون هناك نوايا من طرف الاحتلال لوقف الحرب أو الانطلاق من الصفقة نحو هدنٍ طويلة مثلًا، ثم الذهاب لوقف الحرب. 

في المقابل، كان الاحتلال، ومن ورائه الولايات المتحدة، رافضًا لأي حديث عن هُدنٍ، حتى الإنسانية منها، والتي تتم عادة لتحسين الظروف الإنسانية للمدنيين في الحرب. وما كان يريده هو هدنة لتبادل الأسرى فقط. 

ما يريده نتنياهو هو صفقة لتبادل الأسرى في ظلّ الحرب، يتخفف عبرها من الانقسام المجتمعي الحاصل في الكيان الإسرائيلي على ملف الأسرى، ويجرّد المقاومة من هذا الملف الذي تحاول استثماره في سياق هذه الحرب

أدركت حماس خطورة إتمام صفقة بهذا الشكل، ما يعني سلبها الأوراق الموجودة بين يديها، وهي أسرى الاحتلال، في ظل اختلال فادح في موازين القوى بين المقاومة والاحتلال، على المستويين العسكري والجيوسياسي، واتضح لها أن ما يريده الاحتلال هو تبادل للأسرى واستمرار للعدوان لا يسعى منه للقضاء على حماس والمقاومة فقط، وإنما لتدمير الحياة العمرانية والحضرية داخل قطاع غزة.

ما يريده نتنياهو هو صفقة لتبادل الأسرى في ظلّ الحرب، صفقة يتخفف عبرها من الانقسام المجتمعي الحاصل في الكيان الإسرائيلي على ملف الأسرى، ويجرّد المقاومة من هذا الملف الذي تحاول استثماره في سياق هذه الحرب. ولذا رأينا المقاومة تقدّم مرونة واضحة في الورقة التي قدمتها للاحتلال، وجاء فيها أنه لا حديث في المرحلة الأولى من الصفقة عن وقف شامل لإطلاق النار، لكن في المرحلة الثانية، لا بد أن تستند إلى مبدأ وهو أن تنتهي إلى وقف لإطلاق نار شامل ودائم، والاحتلال يرفض ذلك، ويتحدث في تعديلاته على ورقة حماس عن هدوء في المرحلة الثانية، وليس عن وقف لإطلاق نار، ودون أدنى أي حديث عن انسحاب قوات الاحتلال.

في المحصلة، لا يريد الاحتلال إنهاء الحرب، وكل المؤسسة الإسرائيلية تعتقد أن الحرب لم تنجز أهدافها بعد، ولا يمكن أن نتوقف الآن، بقطع النظر عن اختلافهم في الرؤى السياسية المرتبطة باليوم التالي للحرب. فبينما لا يريد نتنياهو وجود أي ممثل سياسي فلسطيني في غزة، ولا يريد أي جهة ترفع شعارًا سياسيًا فلسطينيًا، هناك في المقابل جهات إسرائيلية تتفق مع الولايات المتحدة في أن «إسرائيل» لا يجب أن تعيد احتلال غزة، ولا أن تستوطن فيها، وأن من الممكن ترتيب الأمر بعد القضاء على حركة حماس من خلال صفقة سياسية أشمل على المستوى الفلسطيني وعلى المستوى الإقليمي.

البون شاسع بين الطرفين، وهذا ما أعنيه بفقدان القاعدة الأساسية للتفاوض. يضاف إلى هذا أن الوسيط هي الولايات المتحدة، وهي كما نعلم طرفٌ في الحرب، أمّا الدول العربية الوسيطة فهي ليست وسيطة بالمعنى الحقيقي للكلمة، وإنما دول -في أحسن الأحوال- تنقل المعلومات ما بين الطرفين. 

وبناء على هذا، ما تراهن عليه المقاومة هو الصمود في الميدان وورقة الأسرى، فيما يراهن الاحتلال على الفارق في القوة والاستمرار في الضغط على عصب المقاومة من خلال ضرب المدنيين، وهذا الذي حاول ممارسته مثلًا في مجمع الشفاء، وهذا الذي يمارسه في الشمال، وهذا الذي يمارسه حتى في قتل هيئات إغاثة إنسانية غربية.

رغم وجود خلافات عديدة بين النخب السياسية الإسرائيلية حول مسار الحرب، إلا أن اجتياح رفح يبدو وكأنه يحظى بإجماع سياسي يصعب التراجع عنه، إلى حد أن نتنياهو ربط ما أسماه بـ«انتصار إسرائيل المطلق» به. ما الذي تمثله هذه العملية بالنسبة لـ«إسرائيل»، وما مستقبل اجتياح المدينة باعتقادك؟

اجتياح رفح ليس مجرّد شعار يرفعه نتنياهو. إلحاحه على الموضوع يعطي المسألة مقدارًا من الجدية والمصداقية، وليس من السهل بعد كل هذا الحديث عن اجتياح المدينة أن يتراجع عنه. والأهم ربما هو أن هناك اتفاقًا بين كافة الأوساط الإسرائيلية على اجتياح المدينة، ولذا لم يخرج أي تسريب حول رفض جهة ما لدى الاحتلال لاجتياح رفح. لم يكن هناك اعتراض من المؤسسات العسكرية والأمنية. وفي مجلس الحرب كذلك، لم نسمع أي اعتراض، ولا حتى من غادي أيزنكوت، والذي عادة ما يكون الأكثر حرصًا على منح الأولوية لاستعادة الأسرى.

مردّ هذا الاتفاق سببان؛ الأول استراتيجي يرتبط بأنه لا يمكن للمؤسسة الإسرائيلية أن تقنع جمهور الاحتلال بتحقيق إنجاز في الحرب دون أن تقول له إن الجيش لم يترك موطئ قدم داخل القطاع لم يدخله. هذه القضية شديدة الأهمية لأن المؤسسة الإسرائيلية معنية بترميم صورة الجيش بعد السابع من أكتوبر، لأن استمرار وجود مجتمع الاحتلال وتماسكه مرتبط بالتفافه حول العامود الفقري للدولة والمتمثل بالمؤسسة العسكرية والأمنية، والفشل في استعادة الثقة فيهما يعني احتمالية تفكك المجتمع والهجرة العكسية. وبالتالي تحتاج هذه المؤسسة أن تقول لجمهورها إنها دخلت رفح وفككت كتائب حماس.

فشل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية في استعادة ثقة الجمهور الإسرائيلي بها يعني تزايد احتمالية تفكك كيان الاحتلال وتصاعد الهجرة العكسية.

السبب الثاني مرتبط بمسعى «إسرائيل» لتفكيك حكم حركة حماس. ولا يمكن لـ«إسرائيل» أن تدعي أمام جمهورها أنها فككت الحركة وحكمها دون أن تدخل رفح، وهنا لا يجري الحديث فقط عن التشكيلات العسكرية التي تملكها الحركة داخل المدينة، وإنما كذلك عن البنية التنظيمية المدنية، والتي يمكن لها من خلالها أن تنطلق لترتيب الأوضاع عمومًا بما في ذلك في شمالي قطاع غزة، وهذا كان واضحًا من خلال بعض الأحداث الأخيرة التي ظهر خلالها أن الحركة لا تزال تمتلك بنية تنظيمية، سواء على المستوى الحكومي والمستوى الإداري، وليس فقط على المستوى العسكري. 

طبعًا اجتياح رفح مهم كذلك لمسألة ضبط الحدود مع مصر، إذ تقول «إسرائيل» إن السلاح لا زال يصل للحركة من خلال تهريبه عبر مصر، وبالتالي لا بد من السيطرة على محور فيلادلفيا. 

وطالما أنه لا يوجد رفض أمريكي للعملية، فلا أرى سببًا يحول دون حصولها. والخلاف بين الولايات المتحدة و«إسرائيل» حولها هي خلافات حول شكل الاجتياح وتفاصيله وحول الخطط والتصورات، لا حول مبدأ الحرب. تطالب الولايات المتحدة «إسرائيل» بخطط «إنسانية» وتارة تطالبها بعمليات عسكرية مركّزة لا عمليات موسعة. ومؤخرًا تم الحديث عن اقتراح رئيس هيئة الأركان المشتركة في الجيش الأمريكي على نظيره الإسرائيلي إنشاء غرفة عمليات مشتركة لإدارة العملية، بمعنى أن الولايات المتحدة ستكون منخرطة بشكل أكثر مباشرة في الحرب، وبالطبع ستروّج لهذا التدخل على أنه لضبط السلوك الإسرائيلي.

هل ثمّة شيء يمكن أن يكبح الهجوم الإسرائيلي على رفح؟ 

ضمن موازين القوى القائمة اليوم، في غزة والإقليم، لا يوجد ما يوحي بإمكانية انتهاء الحرب، إلّا إذا حصلت تحولات غير متوقعة في المجتمع الإسرائيلي بحيث تصير الانقسامات الإسرائيلية أكثر حسمًا، أو أن يجري تحول ما على الموقف الأمريكي، ولكن هذا غير وارد. وبالنسبة للموقف الإقليمي العربي فهو في أحسن أحواله عاجز أصلًا أن يفعل شيئًا.

بالاتصال بالجدل الدائر حول اجتياح رفح، تصاعدت في الشهر الماضي المناوشات الأمريكية الإسرائيلية حول أداء حكومة نتنياهو، خاصة مع الانتقادات التي وجهها له زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأمريكي، تشاك شومر، ثم الغضب الإسرائيلي من غياب الفيتو الأمريكي ضد قرار مجلس الأمن الأخير. كيف تقرأ حالة العلاقات الإسرائيلية الأمريكية اليوم؟ وكيف يمكن أن تؤثر على مسار الحرب في المدى المنظور؟

منذ بداية الحرب، كان الموقف الأمريكي منها مُحيّرًا للكثير من المراقبين، إذ إن هذه الاندفاعة الأمريكية وراء «إسرائيل» كانت غير منضبطة من الناحية الواقعية والعقلانية. ولفهم هذه الاندفاعة لا بد من العودة للخلف قليلًا لفهم طبيعة الموقف الأمريكي قبل الحديث حول الخلافات بين الاحتلال والولايات المتحدة. 

إذا انطلقنا من أن الولايات المتحدة إمبراطورية، فـ«إسرائيل» ليست دولة تابعة للإمبراطورية، وإنما ذراعٌ لها، وبالتالي فإنها تملك هوامش واسعة للحركة والتصرف، وهذه العلاقة مختلفة عن علاقة الولايات المتحدة بالدول التابعة لها مثل الدول العربية. وبالتالي فإن أي تباين أمريكي إسرائيلي هو تباين داخل البيت الواحد. 

في الخلاف الحاصل اليوم بينهما، أعتقد أن هنالك قاعدة تحكم السلوك الأمريكي، وهي أنه طالما «إسرائيل» في حرب فالولايات المتحدة ستستمر في دعمها لا سيما في الجانب التسليحي والأمني والعسكري والاستخباراتي، بغض النظر عن الخلافات بينهما. 

أمّا أسباب الخلافات الإسرائيلية الأمريكية فيمكن ردّها بداية إلى سبب إجرائي حول شكل الحرب؛ كانت فكرة الولايات المتحدة منذ البداية أنه على «إسرائيل» أن تلجأ لنموذج حرب الولايات المتحدة والناتو على صربيا خلال حرب البوسنة، عندما تم حصارها وقصفها بشكل مركز حتى أُجبرت على الاستسلام، وبالتالي كانت وجهة النظر الأمريكية أنه ليس على «إسرائيل» حشد طائراتها ودباباتها والقيام باجتياح بري. هذه الفكرة رفضها الاحتلال، وهنا مَنح الأمريكيون لهم فرصة، ولكن النتيجة كانت كارثية وأفضت إلى اختلاف في وجهات النظر حول الترتيبات المتعلقة بالمشهد الفلسطيني عمومًا، وبقطاع غزة على وجه الخصوص، أو ما يسمى باليوم التالي. 

في الخلاف الحاصل اليوم بينهما، أعتقد أن هنالك قاعدة تحكم السلوك الأمريكي، وهي أنه طالما إسرائيل في حرب فالولايات المتحدة ستستمر في دعمها لا سيما في الجانب التسليحي والأمني والعسكري والاستخباراتي، بغض النظر عن الخلافات بينهما.

منذ البداية قال بايدن لنتنياهو، دعنا نتفق على صفقة سياسية شاملة، ولو على المستوى الخطابي والدعائي والإعلامي، والاعتراف بدولة فلسطينية ما، وبسلطة فلسطينية في غزة، وهكذا نضمن تطبيع العالم العربي مع «إسرائيل». 

في أحد لقاءات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن ونتنياهو، قال بلينكن إنه لا يمكن لـ«إسرائيل» أن تقضي على حماس بشكل كلي، وأن هذا قد يستغرق عقودًا، وهنا كان ردّ نتنياهو ألّا مشكلة، وأن «إسرائيل» يمكن أن تظل طويلًا في القطاع، وهذا يقلق الولايات المتحدة بشكل استراتيجي، لأن إعادة احتلال القطاع تعني إعادة القضية الفلسطينية إلى نقطة الصفر. 

يعني هذا من وجهة نظر أمريكية، قتل أيّ فرصة للتطبيع، لأنه حينها، وفي ظل احتلال القطاع، سيُنظر إلى كلّ من يطبع مع «إسرائيل»على أنه حليف لها، فيما مشروع التسوية هو من يجلب التطبيع، وهذا ما حصل مع أوسلو ومع بدايات الحل السلمي الذي أفقدنا العديد من الأصدقاء حول العالم، من الذين طبعوا مع الاحتلال بعده، وهنا نتحدث عن الهند واليونان وغيرهما، وكذلك عن دول عربية طبعت تحت شعار لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين. 

تخشى أمريكا أن الحرب الإسرائيلية بالشكل الذي أديرت به ستتسبب بقلق دائم في المنطقة وأنها ستُفشل كلّ مشاريع الولايات المتحدة لإعادة هندسة المنطقة وتكريس «إسرائيل» دولة قائدة. ومن هنا نفهم تصريحات وزير الدفاع الأمريكي عندما قال إن «إسرائيل» تحقق إنجازات تكتيكية، ولكنها تخسر استراتيجيًا.

في المقابل، يقول نتنياهو إن هزيمة حماس هي مدخل التطبيع مع العالم العربي، لا مشروع التسوية. وبقطع النظر عن الألاعيب السياسية التي يمارسها، فإنه لا يؤمن بوجود ممثل سياسي للفلسطينيين، ولا بكينونة سياسية لهم، وبعد أن كان مؤمنًا بفكرة السلام الاقتصادي، أي أن يعيش الفلسطينيون حياة اقتصادية ولكن دون هوية قومية ذاتية مختلفة عن الكيان الإسرائيلي، صار يريد اليوم وبعد تحالفه مع الصهيونية الدينية وكيلًا أمنيًا عن الفلسطينيين مع عدد أقل منهم، وحسمًا للصراع

هذا هو سبب الخلاف الإسرائيلي الأمريكي. أمّا الحرب فلا خلاف عليها، وطالما أن «إسرائيل» في حرب فستحظى بدعم الولايات المتحدة. 

فلسطينيًا، رغم استمرار المجازر والمجاعة خاصة في شمال غزة، ما زالت المقاومة قادرة على تنفيذ عمليات، كما شهدنا في محيط مجمع الشفاء، وإن بوتيرة مختلفة. كيف تقرأ هذا الحضور الميداني اليوم، وكيف يتكيف هذا الحضور مع متغيرات الواقع بعد ستة شهور من العدوان؟

قدرة المقاومة على الصمود كلّ هذا الوقت، وقدرتها على التكيف مع مجريات الحرب، كل هذا مثير للإعجاب. وهذا ليس خطابًا عاطفيًا، وإنما قراءة واقعية للميدان. منذ بداية الحرب، استعملت «إسرائيل» أسلوبًا قتاليًا معتمدًا على الكثافة والزخم، بمعنى تنفيذ الهجوم بأكبر عدد من الطائرات والدبابات والقذائف، وهذا الشكل من القتال ليست دوافعه غريزية وانتقامية وعقابية فقط، ولكن جزء منه نابع من ضرورة حربية بالنسبة للاحتلال، إذ لم يكن بإمكانهم أن يدفعوا قواتهم ضمن هذه الكثافة السكانية وضمن غابة الأنفاق التي لا يعرفون عنها شيئًا، دون إبادة كلّ ما أمامهم.

وبعد كلّ هذا، وبعد أكثر من 150 شحنة سلاح أمريكية للكيان، نجد أن المقاومة لا زالت فاعلة، في محيط مستشفى الشفاء، وفي بيت حانون، لا على شكل جيوب مقاومة، وإنما نرى أن هنالك استمرارًا لغرف قيادة وسيطرة، وهذا حقيقة مثير للإعجاب. واستمرار غرف القيادة والسيطرة واضح من خلال الأداء الإعلامي لكتائب القسام على وجه التحديد، إذ يعني قدرتها على الاتصال مع خلاياها، وعلى أخذ الصور منها، ثم إعادة بثها للعالم.

وحتى ما حصل في مجمّع الشفاء، ينمّ عن إرادة وقدرة عند حماس، إذ بالتعاون مع الفصائل ومع العائلات الغزية، عملت على فرض شكل من أشكال الضبط في شمال قطاع غزة، وهذا كان مقلقًا جدًا للإسرائيليين. وهذا يدل لا على وجود إمكانيّات فقط، وإنما على وجود إرادات. وهذا من نقاط قوة المقاومة، أنها بعد كلّ ما حصل لم تنكسر، ولم ترفع الراية البيضاء، وهو ما صدم الاحتلال والأمريكيين. 

اشتدت في الأسابيع الأخيرة استهدافات الاحتلال للعناصر الإدارية المدنية في غزة العاملة على إدارة الحياة وبالأخص تنظيم وصول المساعدات. وبالتوازي مع ذلك، جرت محاولات إسرائيلية عديدة لاستقطاب بعض العناصر خاصة من العشائر لتشكيل جهاز مدني بديل. إلى أين وصلت هذه المحاولات؟ وكيف تقرأ قدرة أجهزة الحكم المحلي في غزة حاليًا على لعب دورها في إدارة الحياة في القطاع وتوفير ما تمكن من خدمات، ضمن ظروف الحرب الاستثنائية؟

يتطلب الشعار الذي رفعته دولة الاحتلال بالقضاء على حماس إنهاء أي مظهر إداري للحركة في القطاع، وبالتالي فإن إفشال هذا الأمر، واستمرار المظاهر الإدارية يعني إفشالًا لجزء من الأهداف الإسرائيلية للحرب، كما أنه يضعف السياسات الإسرائيلية التي تريد أن تضغط على المقاومة من خلال الجانب الإنساني.

فيما يتعلق بخلق جهاز مدني بديل قائم على العشائر، فهنا من الواضح أنه ورغم طول احتلال «إسرائيل» لفلسطين إلّا أنها لا زالت تفكر بذات العقلية الاستشراقية، ولم تفهم أن المجتمع الفلسطيني مسيّس، وأن الجانب النضالي لا يلبث أن يبرز ويتجدد، وبالتالي فإن أي جهة تعمل بشكل منفصل، ولو عبر إدخال المساعدات، فإنها ستظهر وكأنها متعاونة مع الاحتلال. بل وحتى أولئك الذين يتعاونون مع الاحتلال فإنهم لابد أن يتغطوا بمقولة سياسية ما، مثل حلّ الدولتين ورفض الاحتلال، وبالتالي وفي ظل إعلان الاحتلال أن هدفه القضاء على حركة حماس، يصبح أي تعاطٍ مع الشأن الإنساني دون غطاء من حماس تساوقًا مع الاحتلال، وهو ما تدرك العشائر أنها إن انخرطت به فستخسر للأبد. وليس سبب هذا أن حماس تريد ضمان مستقبلها السياسي، وإنما أن الرسالة التي تفهم من التعاطي مع الشأن الإنساني بمعزل عن المقاومة معناه ألّا مشكلة لدى هذا الطرف بالقضاء عليها. 

منذ بداية الحرب، كان التعويل الإسرائيلي على أن حجم القتل والدمار ومحو البنى التحتية الصحية وتشديد الحصار إلى حد المجاعة من شأنه تفتيت صمود أهل غزة ودفعهم للانقلاب على خيار المقاومة. إلى أي مدى ما تزال عوامل الصمود قائمة بعد ستة شهور؟

عند الحديث عن هذا الصمود الذي يبديه أهل غزة، من المهم الالتفات إلى مسألة، وهي أنه بين الضفة الغربية والقطاع، أهل غزة هم الأكثر تسييسًا، بمعنى أن دوائر الانتماء التنظيمي الصلب في غزة أكبر منها في أي مكان آخر. في الضفة الغربية قد تتفاوت الأصوات على مستوى التأييد العام، بمعنى هناك أشخاص لا ينتمون للتنظيمات، يغيرون مواقفهم وآراءهم بحسب التحوّلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لكن في غزة هناك نوع من الانتماء التنظيمي الصلب والثابت، حتى حركة فتح قواعدها التنظيمية الكبرى والقوية تاريخيًا كانت أصلًا في قطاع غزة، وليست في الضفة الغربية. وبالتالي نحن هنا نتحدث عن مجتمع منقسم من الموقف من حماس، وفيه أطراف ليست فقط مختلفة عن حماس سياسيًا وأيدولوجيًا، وإنما هي في خصومة معها، والانقسام الفلسطيني أصلًا كانت بيئته الجغرافية هي القطاع.

تخشى أمريكا أن الحرب الإسرائيلية بالشكل الذي أديرت به ستتسبب بقلق دائم في المنطقة وأنها ستُفشل كلّ مشاريع الولايات المتحدة لإعادة هندسة المنطقة وتكريس «إسرائيل» دولة قائدة

هذه المسألة، أعني خصومة بعض الأطراف الفلسطينية في القطاع مع حماس، راهن عليها الاحتلال والولايات المتحدة وأطراف عربية بل وحتى فلسطينية. ورغم هذا، ورغم مرور كل هذا الوقت والدمار لا زال الناس صامدين بغض النظر عن أي موقف نقدي من الممكن أن تتبناه شرائح داخل قطاع غزة تجاه الحرب أو حماس أو خيارها وتقديرها السياسي.

ما تراهن عليه «إسرائيل» هو الاستمرار في الضغط على الفلسطينيين، ولذا ترفض مثلًا عودة النازحين إلى شمال قطاع غزة إلّا بأعداد محدودة، ليسهل عليها ضبطهم عسكريًا في حال طالت الحرب أكثر، أو في حال اضطرت لاحتلال شمال القطاع بشكل مطوّل، وكذلك لخلق حالة ألمٍ إنساني مستمرة لدى الفلسطينيين للضغط على المقاومة أطول فترة ممكنة.

هنا يطرح سؤال أخلاقي، وهو إذا كانت المقاومة قادرة على الصمود لفترة أطول، وقادرة على التكيف وإعادة ترتيب أوراقها، هل عليها أن تصمد في ظل كلّ هذا الضغط الإسرائيلي على الفلسطينيين داخل القطاع؟ هنا، تفهم المقاومة -برأيي- أنه إن كان ثمّة عامل ضاغط على الفلسطينيين، وتمت الاستجابة للاحتلال لأجل تفكيك هذا العامل، فإنه سيستغله لتحقيق مزيد من المكاسب له، وهذه المسألة ربما تكون غائبة عن النقاشات. باعتقادي أن ما يدور في عقل القيادة السياسية لحماس اليوم هو ألّا خيار سوى العضّ على الجرح. لكن الشيء الوحيد الذي لا يخدم الفلسطينيين اليوم، سواء المقاومة أو عامة الناس، هو الجغرافيا السياسية، وهو أكثر ما يضعف الموقف الفلسطيني اليوم. 

هل ثمّة أفقٌ لكسر الحصار على القطاع، خصوصًا على الصعيد العربي؟

في تشرين الثاني الفائت أصدرت القمة العربية الإسلامية قرارًا بكسر الحصار عن غزة، لكن الذي حصل بعد ذلك هو تشديد للحصار حتى من الجانب العربي. وهو ما نراه من خلال تكدس الشاحنات في الطرف المصري من معبر رفح. وللأسف، لا يجري الحديث حول هذا الموضوع، ولا حتى في الإعلام. صحيح أن هنالك حديثًا عن الجوع، وعن الحصار، لكنه حديث خافت. وأخشى أن اللعبة الأمريكية نجحت في صرف الأنظار عن الحصار من خلال الحديث عن ميناء بحري ومساعدات جوية وخلافه. وبهذا تجد الدولة المصرية نفسها أكثر تحررًا من الضغط الأخلاقي والدبلوماسي والدعائي أمام العالم على هذا الصعيد.

الخلاصة هي أنه لا توجد تحركات رسمية عربية لكسر الحصار، رغم أن الإمكانية متوفرة، إذ إن «إسرائيل» باعتقادي لن تغامر باتفاقيات السلام الاستراتيجية مع الدول العربية في مقابل تجويع الفلسطينيين أو اجتياح رفح. فمثلًا اتفاقية السلام الإسرائيلية المصرية أهم بالنسبة للاحتلال حتى من تقويض حكم حماس داخل غزة، لأن اتفاقية السلام تحيّد 110 مليون عربي، وتجعل سيناء كلها عمقًا استراتيجيًا للكيان وفق طبيعة الترتيبات الأمنية والعسكرية، ورغم هذه الأهمية، لا تتحرك مصر للأمام في مسألة كسر الحصار رغم أنه تم اقتراح حلول عليها، مثل أن تسير قوافل لكسر الحصار تقودها شخصيات دينية وسياسية واعتبارية.

هنا، يبقى الأمر معقودًا على المستوى الشعبي، والذي إن فُعّل فيمكن أن يشكل ضاغطًا على الأنظمة العربية بحيث تضطر لاتخاذ مواقف من أجل حفظ ماء الوجه، وليس بالضرورة مواقف جذرية واستراتيجية، لكن لا يبدو أيضًا أن التحركات تسير بهذا الشكل الحثيث.

قبل شهور جرى الحديث حول أسطول حرية جديد يأتي إلى القطاع كسرًا للحصار، لكن يبدو وبحسب المنظمين أن صعوبات واجهتهم، وأخرت العملية. لو تم وقدم هذا الأسطول، سواء أسمحت له «إسرائيل» بكسر الحصار، أو لم تسمح له وضربته، ستتخذ الحرب بعدًا آخر.  

على المستوى السياسي الفلسطيني، شهدت الشهور الأولى من الحرب نوعًا من الحذر من قبل السلطة الفلسطينية إزاء التجاوب مع مخططات ما سمي بـ«اليوم التالي». لكن الآونة الأخيرة شهدت تصريحات أوضح حول موقف السلطة من الحرب عمومًا ومن مستقبل حكم غزة، خاصة مع تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة محمد مصطفى، وهو ما اعتبرته حركة حماس تناقضًا مع مخرجات حوار الفصائل الأخير في موسكو. ما الدور المتوقع حاليًا للسلطة، وكيف تتوقع أن يتفاعل هذا الخلاف الفلسطيني في إطار واقع الحرب؟

أهمّ ما دلّت عليه هذه الحرب هو أن النخبة التي تقود السلطة الفلسطينية لا يمكن أن تغير في رؤيتها وموقفها السياسي إطلاقًا. 

وإذا كانت السلطة لم تغير موقفها من الاحتلال والتعاون معه رغم كل قرارات هيئاتها المختلفة بوقف التنسيق الأمني، ورغم مشروع ترامب ومشروع بايدن المتشابهين إلى حد كبير، ورغم الاقتحامات الإسرائيلية لمناطق (أ) في الضفة والشهداء والأسرى، رغم كل هذا لم تغيّر السلطة من رؤيتها للصراع والاحتلال، فهل ستغير من سياساتها إذا كان خصمها السياسي الذي أعطت الخصومة معه أولوية حتى على الصراع مع الاحتلال، يتعرض لاحتمال القضاء عليه والتخلص منه؟ ما أثبتته هذه الحرب هو أن الإجابة لا. 

في بداية الحرب أخذت السلطة موقفًا انتظاريًا، إذ كانت تتوقع أن هذه الحرب من شأنها أن تقضي على حماس بشكل جدي، وبالتالي قالت لنفسها: «ليش نستعجل ونحكي في اليوم التالي من أول يوم؟ ما هي شهرين ثلاثة بتسقط حماس وبنحكي في اليوم التالي».

ومع طول الحرب، وصمود المقاومة، خرجت للعلن المواقف التي كانت مضمرة، وتحديدًا مع الحديث عن الجهة التي ستحكم غزّة بعد الحرب، ويمكن تفسير هذا على أنه جزء من تنافس داخلي داخل حركة فتح، وتنافس بين السلطة وتيار محمد دحلان، وهذا قد يفسر بعض ما يجري داخل قطاع غزة، مَن يُدخل المساعدات، مَن هي القوى الأمنية التي تدخل هناك، بمعنى أن هذه التيارات تسعى لإثبات جدارتها وقدرتها على تحقيق الشروط المطلوبة منها للحصول على فرصة في المرحلة القادمة. 

لكن على أي حال، لا حماسة لدى نتنياهو واليمين الإسرائيلي لمنح دور للسلطة في غزة بعد الحرب. لو سلمنا جدلًا أن «إسرائيل» حققت أهدافها من الحرب وانتصرت الانتصار الذي يتحدث عنه نتنياهو، وفي حال حصل هذا السيناريو، واحتلت «إسرائيل» القطاع، وعاد الاستيطان إليه، كما يأمل اليمين الإسرائيلي، ما الموقف الذي ستتخذه السلطة؟ هذا يتناقض تمامًا مع أي غطاء سياسي يمكن لها أن تتغطى به، وستتحول إلى مجرد وكيل أمني بلا مشروع سياسي وطني، لو فرضنا كذلك أن المشروع الحالي وطني، ومن دون أي شرعية نضالية أو انتخابية أو حتى مالية، إذ السلطة اليوم عاجزة تمامًا، وهي تعيش على الضرائب التي تتحصل عليها من الفلسطينيين، وما بقاؤها إلّا لأجل السلطة، إذ إن الواقع خلق نخبة مستفيدة من الواقع الموجود حاليًا بشكله الراهن، وهذه هي الخطورة التي يعاني منها الوضع الفلسطيني.

لكن ماذا لو انتهت الحرب دون أن يحقق الإسرائيلي أهدافه بشكل واضح، وبقيت حركة حماس واقفة على قدميها؟ أعتقد أن السلطة ستلجأ حينها إلى الأسلوب القديم ذاته، بحيث تلجأ للحديث عن الوحدة الوطنية، وعن الانتخابات، سواء أكانت حقيقية أم انتخابات لا تتم، بحيث تتمكن عبر هذا السيناريو من إعادة إنتاج ذاتها.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية