نشر المقال لأول مرة باللغة الإنجليزية على موقع الإنتفاضة الإلكترونية، بتاريخ 23 تشرين أول 2020.
يومًا ما، كان في مدينة جنين، الواقعة شمالي الضفة الغربية، محطة قطار وقاعدة جوية وثلاث دور سينما وشارعان حيويان يربطانها بمدينتي حيفا والناصرة المجاورتين.
اليوم، في عام 2020، لا نجد إلا بقايا تلك المنشآت، بعد أن توقف استعمالها جميعها لغرضها الأصلي. في المقابل، تشكّل في المدينة مخيم لاجئين، وباتت محاطة بسياج عسكري إسرائيلي، هو جزء من الجدار الفاصل الذي بني حول الضفة الغربية.
أُلقيت جنين في زاوية ميتة، حرفيًا.
تحدد شكل المدينة المعاصر بفعل العديد من الاضطرابات السياسية، التي بلورت طابعها الحضري القائم حاليًا. قبل ذلك، كانت جنين بلدةً زراعيةً صغيرةً، وفق ما ذُكر في رسائل «تل العمارنة»، التي تعود للقرن الثاني عشر قبل الميلاد. أبرز تلك الاضطرابات نتج عن خلق الدولة الإسرائيلية وما خلفته من نفي قسري للفلسطينيين عام 1948.
بعكس المدن في الدول القومية حديثة التشكل منذ حقبة «ما بعد الاستعمار»، والتي خُلقت خلال الأربعينيات والخمسينيات، واستطاعت أن ترث مساحات حضرية ومنشآت قائمة لتعيد تشكيلها، باتت جنين -كما مدن وبلدات أخرى في الضفة الغربية- معزولة عن محيطها الجغرافي الطبيعي، مما أعاق الاستمرار الطبيعي لدوران عجلة التحضر.
في المقابل، أعادت «إسرائيل» تشكيل المدن التي تقع داخل حدودها، وضمنها القدس والجولان، وتم تحويل منشآتها الحضرية بما يخدم مجتمع المستوطنين الجديد.
عندما يتم التطرّق إلى ملف الخسارة الحضرية لفلسطين بعد نكبة 1948، دائمًا ما يتم إبراز نموذج مدينة يافا التي كانت مركزًا ثقافيًا وبوابةً تجارية خدمت الزراعة والصناعة المحلية. منذ ذلك الحين، لم يتمكن السكان الذين يعيشون اليوم بما يعرف بالضفة الغربية وقطاع غزة، بما فيهم اللاجئين، من إعادة خلق نموذج حضري مشابه.
جنين على الهامش
في كتابه «مدينة جنين» (1964)، يذكر الأكاديمي كمال جبارين أن البلدة بدأت بالتوسّع حول مركزها العثماني، الذي ما يزال قلب المدينة النابض حتى اليوم.
يرجع التراث الحضري القائم في المدينة حتى اليوم إلى الحقبة العثمانية، ويشمل سوقًا ومبنى حكوميًا ومسجدًا، ومبانيَ أخرى.
«خسارة جنين الحضرية حدثت عام 1948»، يقول جبارين. ويضيف: «خلقُ إسرائيل وضع جنين على الهامش»، عازلًا إياها عن المدن والبلدات التي كانت مرتبطة بها ومعتمدة عليها تجاريًا، وتصلها بها روابط ثقافية واجتماعية.
يستخدم مبنى السرايا أو مبنى الحكومة العثمانية، الذي أنشئ عام 1882 كمدرسة ابتدائية اليوم، وبات مركزًا للمدينة.
كان شارعا حيفا والناصرة شريانين مهمّين يربطان جنين بهاتين المدينتين الرئيسيتين، خاصةً من الناحية التجارية، لكنهما هُجرا بعد نكبة عام 1948. «قتل العديد لمحاولتهم زيارة أقربائهم هناك»، يقول جبارين.
عادت الحياة إلى هذين الشارعين بعد أن امتد المشروع الاستعماري الإسرائيلي ليشمل الضفة الغربية عام 1967، لكن جرى إغلاقهما مرة ثانية لاحقًا.
يقطع شارع الناصرة اليوم حاجز وسياج عسكري إسرائيلي. بينما ينتهي شارع حيفا بعد نحو تسعة كيلومترات من مركز المدينة، تحديدًا عند قاعدة «سالم» العسكرية، وهي محكمة عسكرية إسرائيلية ومركز توقيف.
محطة وقود آخر الطريق!
افتتح عصام العامر محطة وقود في شارع حيفا عام 1995. تقع اليوم محطته مقابل النقطة التي يقطع فيها الجدار الإسرائيلي الشارع. حينما افتتحت محطة الوقود، خدمت الفلسطينيين من جنين، خاصةً أولئك الذين اعتادوا عبور حاجز سالم العسكري متجهين إلى حيفا وغيرها من المناطق.
أغلق هذا الحاجز بعد بدء الانتفاضة الثانية قبل عقدين من الزّمن. بعد أن كان طاقم موظفي محطة الوقود يضم 20 شخصًا، بقي منهم اليوم اثنان فقط. «ما زلنا نعمل هنا، على أمل أن يتم فتح الحاجز ثانية»، يضيف العامر. على أي حال، وحتى ذلك الوقت، سيبقى صاحب المحطة يبيع وقودًا في نهاية طريق ميتة، حيث لا تسير أي مركبات.
في الجهة الأخرى من جنين، يقودنا شارع الناصرة اليوم إلى حاجز الجلمة فقط، والذي يبعد دقائق معدودة عن مركز المدينة.
محمد أبو فرحة حاملًا صورة قديمة للمطار الذي كان مقامًا في منطقة جنين. اليوم، ليس مسموحًا لفلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة استعمال مطارات البلاد.
لا يسمح الحاجز بمرور المركبات المسجّلة لدى السلطة الفلسطينية على الإطلاق، وبالتالي، فإن معظم سكان الضفة الغربية من الفلسطينيين ملزمون بقطع الحاجز سيرًا على الأقدام، وحصرًا بعد حصولهم على تصريح تنقل صادر عن قيادة الجيش الإسرائيلي.
اليوم، تذكر قلّة من الناس أرض القاعدة الجوية الملاصقة للحاجز، والتي تأسست نهاية الحكم العثماني عام 1917 على يد مهندسين ألمان، وطورتها لاحقًا السلطات البريطانية لتشمل عدة غرف مبيت للطائرات ومخازن.
خلال الحرب العالمية الثانية، استخدم المطار من قبل القوات الجويّة الأمريكية والبريطانية لخدمة عملياتها في المنطقة.
«كان من الممكن أن يتحوّل إلى مطار حقيقي في بلدتي»، يقول محمد أبو فرحة، وهو مواطن من قرية الجلمة المجاورة.
عوضًا عن مطار كان محتملًا، يستغل أهالي الجلمة الحاجز العسكري المجاور لتقديم خدمات بسيطة لأولئك الذين يأملون عبوره، إذ «يعرض كثيرون أراضيهم كمواقف لمركبات عابري الحاجز»، يشرح أبو فرحة.
موجة اللاجئين
بعد نكبة 1948، صارت جنين ملجأ لآلاف اللاجئين الذين نزحوا من بيوتهم في حيفا و54 قرية واقعة في الجزء الشمالي من فلسطين الانتدابية.
في عام 1953، أسست وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) مخيم جنين، حيث يعيش اليوم نحو 12 ألف لاجئ باتوا فعليًا في قلب المدينة، التي يعيش فيها 53 ألفًا من سكان جنين الآخرين.
عاش اللاجئون الأوائل في ثكنات عسكرية مخلاة تابعة للجيش البريطاني، وفي محطة قطار عثمانية مهجورة، ثم في خيم للأونروا، بحسب عبد الجليل النورسي، الذي وصل إلى مخيم جنين بداية الخمسينيات بعد نزوحه من حيفا.
بعد بضع سنوات، وبعد أن طالت فترة انتظار اللاجئين للعودة إلى ديارهم، استبدلت خيام الأونروا ببيوت من طين. وفي السبعينيات، تحوّلت بيوت الطين إلى كتل اسمنتية، كما يشير النورسي.
تقع محطة القطار في الساحة الرئيسية للمخيم، والتي هُجرت عام 1948، كما هو حال غيرها من محطات السكك الحديدية في الضفة الغربية، كنابلس وطولكرم، على سبيل المثال.
عبد الجليل النورسي حاملًا صورة قديمة لمحطة القطار الواقعة اليوم في قلب مخيم جنين. استخدمت المحطة كمأوى للاجئين الأوائل. بعدها، أسس اللاجئون محلّات تجارية صغيرة حول مبناها الأصلي.
خدمات السكك الحديدية غير متاحة للفلسطينيين في الضفة الغربية اليوم، باستثناء أولئك المقيمين فيما بات يعرف بـ«القدس الشرقية».
ما تزال علامات طرق السكك الحديدية المهجورة ظاهرة للعيان في مناطق مختلفة في الضفة الغربية. تظهر علامات طريق السكة الحديدية الذي كان يربط مدينة جنين بحيفا والعفولة، خمسة كيلومترات شمال محطة جنين المهجورة، لكنه اليوم مقطوع بسياج عسكري إسرائيلي في مرحلة ما.
لا شك أن التغيرات المتكررة للرؤى التخطيطية والتنظيمية للحكومات المتوالية في المنطقة خلقت إشكالية حضرية في الضفة الغربية في المئة سنة الأخيرة.
تشير مهندسة بلدية جنين السابقة، دينا حمدان، إلى أن المخطط الهيكلي الأول لجنين كان بريطانيًا، في حين لم يتم إعداد مخطط هيكلي آخر حتى عام 1992. «لم تعر السلطات الأردنية والإسرائيلية التوسع الحضري اهتمامًا جديًا. كانوا يديرون البلاد بشكل مؤقت»، تنوه دينا حمدان.
نتيجة لذلك، اتخذ توسع جنين الحضري منحى عشوائيًا، وحتى بعد خلق السلطة الفلسطينية، لم يتغير الأمر كثيرًا.
تبني السلطة الفلسطينية خططها وفقا للمساعدات «التنموية» الدوليّة المتوفّرة، والتي تُخصص لأغراض بعينها، بحسب المهندسة حمدان. «حينما نحصل على تمويل لتعبيد طرق، نعبّدها. حينما نحصل على آخر للصرف الصحي، نفعل ذلك. نحن ضائعون».
ما تزال حمدان تشعر بالانتماء لجنين، لكنه شعور معقّد. وتختم: «لا يوجد ما هو جذاب في المدينة. كانت لدينا الفرصة لكننا خسرناها».
رؤى الشباب
في مركز المدينة المعاصر، بني مؤخرًا مركزان تجاريّان، كلاهما فوق أنقاض مبانٍ مهدومة، فيما ما يزال المركز التجاري الثالث قيد الإنشاء.
برج الساعة هو أحد تلك المراكز، والمشيد فوق ركام آخر دار سينما كانت فاعلة في جنين قبل هدمها عام 2016. سينما جنين كانت واحدة من ثلاث دور سينما في المدينة. لم تصمد أي منها ليومنا هذا.
في الواقع، لم تبق أي دار سينما فاعلة في جنين أو طولكرم أو نابلس أو بيت لحم، على سبيل المثال، رغم أن تلك المدن كانت تحوي دور عرض عديدة قبل عقود قليلة. في بلدة جنين العثمانية القديمة، تقف سينما الهاشمي كآخر دار سينما لم تهدم، رغم أنها مغلقة منذ عام 2002.
«كان يعرض كل فيلم جديد هنا»، تقول حنان الشريف، وهي أرملة مالك سينما الهاشمي.
أثر عدم الاستقرار السياسي، خاصةً فترة الانتفاضتين، على سيرورة القطاع الثقافي بشكل حادٍ في جنين وأرجاء الضفة الغربية. خلال الانتفاضة الأولى، قررت العائلة المالكة لسينما الهاشمي إغلاق دار العرض بعد أن قتل الجيش الإسرائيلي ابنها الأكبر فؤاد.
افتُتحت مجددا بعد سنوات قليلة من نهاية الانتفاضة الأولى، لكن كقاعة أفراح هذه المرة. وعندما اغتال الجيش الإسرائيلي الابن الثاني للعائلة خلال الانتفاضة الثانية، راشد، قررت العائلة إغلاق المكان تمامًا.
سينما الهاشمي المهجورة. خلال الانتفاضة الثانية، تمركز الجنود الإسرائيليون على سطح السينما، مما دمر جزءًا من السقف.
تأمل ريم عُرابي (37 عامًا)، ابنة مالك «سينما الهاشمي» الراحل، أن تعيد تأهيل دار العرض في المستقبل، رغم مخاوفها من أن «المجتمع لم يعد مهتمًا ربما بالفضاءات الثقافية». «لم يعد الناس يهتمون بالسينمات. الكل يفضل مشاهدة التلفاز أو تصفح الإنترنت»، تقول عُرابي.
شذى حنايشة (27 عامًا)، وهي صحفية شابة من جنين تخرّجت حديثًا، كانت إحدى المعارضات لإغلاق دور السينما في جنين، وبالأخص «سينما جنين» الأخيرة. اليوم، تدير حنايشة مقهى ثقافيا برفقة ثلاث صديقات لها في الطابق الرابع من برج الساعة المشيد مكان السينما.
«كنت ضد استئجار مساحة في هذا المركز الرأسمالي الذي حلّ مكان السينما»، تنوه حنايشة.
في المقابل، شكل مقهى ومتجر «كافكا» لحنايشة وصديقاتها فرصة لتنظيم وترويج فعاليات ثقافيّة في المدينة، والتي تبدي اتجاهها الصديقات شغفًا رغم أنها غير مربحة. «عملنا غير قابل للنموّ ماليًا، لكنه جزء من رؤيتنا»، تؤكد حنايشة.
ومع ذلك، تبقى حنايشة محبطة من المدينة وضيق الأفق لطموحات شبابها، بل ونتيجة ندرة المساحات العامّة والثقافية. وتختم: «جنين قاسية، أشعر بالحزن على شبابها. لا وجود لمدن حقيقية في الضفّة الغربيّة».
البوابة العسكرية الإسرائيلية التي تقطع طريق جنين – حيفا التاريخي والذي أغلق منذ الانتفاضة الثانية. تظهر في الخلفية محكمة ومركز توقيف سالم العسكري.
يسكن مخيم جنين للاجئين أكثر من 12 ألف نسمة. خلال مجزرة مخيم جنين عام 2002، هدم الجيش الإسرائيلي أكثر من 400 منزل في المخيم.
«محطة انتظار مؤقتة لحين العودة»، عبارة تعتلي قوسًا مشيدًا عند المدخل الرئيسي لمخيم جنين للاجئين.
بوابة إسرائيلية عسكرية وسياج يقطعان الطريق الترابي، حيث كانت السكة الحديدية الرابطة بين جنين والعفّولة منصوبة يومًا ما.
متاجر فلسطينية في المركز التجاري الجديد في جنين. تجذب المدينة مئات الفلسطينيين ممن يحملون المواطنة الإسرائيلية كل سبت، والذين يقصدونها للتسوق.
مشهد عام للتوسع غير المدروس والعشوائي أحيانًا في جنين.
يجري حاليًا بناء مركز تجاري آخر في قلب جنين. تعتقد المهندسة دينا حمدان أن إقامة مثل هذه المنشآت في مركز المدينة هو «خطأ كبير».
شبان وشابات في مقهى «كافكا» المطل على مركز جنين المزدحم.