عن النساء والولادة في غزة: مشاهدات طبيبة أردنية من الحرب

السبت 20 نيسان 2024
ممرضة ترعى رضيعًا في الخداج في مستشفى الهيئة الطبية الدولية الميداني في رفح. المصدر: موقع الهيئة.

في غزة، تلد حوالي 180 امرأة يوميًا تحت وطأة الحرب، في ظروفٍ صحية وإنسانية شاقّة؛ مع تعرض النظام الصحي للتدمير الممنهج والنقص المزمن في المياه النظيفة والطعام الصحي. هناك حوالي 50 ألف امرأة حامل معظمهن نزحن مرّة واحدة على الأقل، يعشن في الخيام ومراكز الإيواء. مع مرور أشهر على الحرب، لا تملك معظمهنّ ترف إجراء الفحوصات الدورية خلال فترة الحمل، بسبب إغلاق حوالي 80% من مرافق الرعاية الصحية وتدمير مستشفيات القطاع.

قبل الحرب، كانت 15% من حالات التوليد بحاجة إلى رعاية طبية طارئة، ولكن المضاعفات المرتبطة بالولادة في الوقت الحالي تزيد عن ضعف هذه النسبة، ويعود ذلك إلى سوء التغذية والجفاف والخوف، كما أن أكثر من 90% من الأطفال دون سن الثانية والنساء الحوامل والمرضعات، يواجهون فقرًا غذائيًا حادًا. وهذه كلها عوامل تعرّض حياة النساء والرُّضع للخطر.

مؤخرًا أُتيحت الفرصة لأخصائية أمراض وجراحة النسائية والتوليد والعقم الأردنية، أسيل الجلاد، التطوع في رفح ما يقارب الشهر، وقد عادت منذ بضعة أيام من القطاع. عاينت الجلاد عن كثب أوضاع النساء الصحية في غزة، وسجّلت مشاهداتها حول حالات التوليد التي لعبت الحرب دورًا أساسيًا في تعقيدها، وحول مشاكل صحية غير مرتبطة بالحمل والولادة تعاني منها النساء. في هذا الحوار نحاول أن نفهم عن قرب كيف تسببت الحرب في مضاعفة معاناة نساء غزة، وما أبرز الإشكاليات التي يعانين منها في ظل غياب الخدمات الصحية الكافية.

تخرجت الجلاد من جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية، وتخصصت في المستشفى التخصصي في عمان، وحصلت على مزاولتها من المجلس الطبي الأردني والعربي.

حبر: بداية، ما الذي دفعك كطبيبة نسائية وتوليد للتطوع في غزة؟

أسيل الجلاد: أعتقد أن جميع الأطباء سيجيبون على هذا السؤال بنفس الإجابة، جميعنا نتابع الحرب على غزة ونرى ما يحصل. بالنسبة لتخصصي، كنت يوميًا أسمع أن في غزة 50 إلى 60 ألف امرأة حامل تعاني من نقص العناية الطبية، نساء تعاني من مضاعفات خلال الحمل، تعاني من مضاعفات الإنجاب. وأنا أعلم أن بإمكاني المساعدة، وأنني قادرة على تقديمها، كان عليّ أن أفعل شيئًا. لم أستطع أن أكمل حياتي وأنا أعلم أن بإمكاني تقديم ما هو أكثر من الكلام والتبرع وتعليم أولادي عمّا يحدث.

منذ كانون الأول الماضي وأنا أبحث عن وسيلة للمساعدة، وضع النساء بغزة يحتاج كل مساعدة يمكن أن نقدمها. ونعرف أيضًا أن أثر الحرب النفسي يمتد ليصل الأطباء، فأي دعم لمقدمي الرعاية الصحية أو القطاع الطبي في غزة واجب. الحاجة كبيرة وأطباء غزة استُهلكوا. أنا أعتقد أنه واجب علينا جميعًا دون استثناء، من يستطيع عليه أن يتوكل على الله ويذهب، وهذا أقل ما يمكننا تقديمه، والطواقم هناك تحتاج هذا الدعم وتستمد منه القوة، وهذا ما أريد أن يعرفه الزملاء.

ما الآلية التي أتاحت لك الدخول لغزة، وكيف كانت الرحلة من مصر إلى رفح؟

الوفود الطبية، تحديدًا من الأردن، لم تتوقف منذ بدء الحرب، وهي من أول الوفود التي دخلت إلى القطاع.

في بداية الحرب عندما كانوا يطلبون وفودًا طبية أو متطوعين لغزة لم يكن تخصص النسائية والتوليد مدرجًا ضمن تخصصات الحرب. كانت الحملات الطبية تستهدف الجراحة وجراحة الأوعية، هناك أولويات بالطبع وهي التعامل مع إصابات الحرب. في بداية شهر شباط أتيح المجال لتخصص النسائية، كان ظرفي الاجتماعي لا يسمح في ذاك الوقت بالذهاب مباشرة. عملت على تحضير أوراقي وتمت الموافقة، وذهبت في بداية رمضان.

ذهبت ضمن الهيئة الطبية الدولية وخدمت ضمن مستشفاها الميداني في رفح في قسم النسائية والتوليد، وهذا يختلف عن باقي الوفود وفِرق الأطباء التي تذهب للعمل في المستشفيات الحكومية التابعة لوزارة الصحة في غزة.

ذهبنا من عمان إلى القاهرة، ومن القاهرة إلى رفح، ومن ثم إلى غزة، وهي طريق الوفود الطبية جميعها، تدخل الوفود الطبية والإنسانية عادةً في أيام محددة بأوقات محددة ومع بعضها، وأنا دخلت ضمن القافلة الطبية، والحمد لله نسبيًا كانت مسهلة.

بقيتِ في غزة قرابة الشهر، أين خدمت خلاله، وكيف تصفين الوضع العام في بداية هذه الرحلة؟

عملت ضمن حملات طبية وتطوعية في السابق وخلال دراستي، ولكنها التجربة الأولى لي في ظرف كهذا، ولمسألة أعتبرها شخصية، جميعنا في الأردن نرتبط بطريقة شخصية بقضية فلسطين وبما يحصل في الأراضي المحتلة، وغزة بالذات.

في البداية سُئِلت كثيرًا إن كنت خائفة من الذهاب، ولم يكن خوفًا بقدر ما كان توترًا أو حذرًا من المجهول، لكنني كنت متحمسة وخائفة ألا يسمح لي بالدخول لأي سبب. دعوت أن أصل بسلام وأن أؤدي ما أنا ذاهبة لأجله، ووصلت.

حاليًا أغلب المستشفيات العاملة أو النقاط الطبية في الجنوب، وقليل منها في الوسط. كنت أعمل في مستشفى ميداني في رفح، أقيم في كانون الثاني، وفيه جميع التخصصات والأقسام والعيادات الخارجية. في العادة ننسى أن هناك ما هو غير إصابات الحرب، هناك حياة قائمة موازية لإصابات الحرب ونتائجها.
باشرت عملي يوم وصولي في قسم النسائية والتوليد وعيادته الخارجية. عند وصولي كان الوضع أفضل قليلًا [عما كان عليه الوضع سابقًا] من ناحية الحصول على المستلزمات، أو أنني كنت في مكان حيث يمكن الحصول على المستلزمات، لكن لم يكن الوضع مثاليًا بالطبع، ولم تكن جميع الأدوية اللازمة متوفرة. كانت الولادات تتم من غير مسكنات لصعوبة إدخال المسكنات التي نحتاجها للولادة.

كانت أدوية التخدير لإجراء العمليات موجودة، ولكن لمحدوديتها كان هناك شروط لاستخدامها، وبحكم الوضع كنا نختار الإجراءات الجراحية الضرورية أو اللازمة، ونستثني الإجراءات غير الضرورية. مثلًا هناك عمليات [في مجال النسائية والتوليد] تحتاج وجود أطباء علم الأمراض لقراءة العينات وتقرير ما يترتب عليها من علاج، إذا لم تكن هذه الإمكانية متوفرة فما الهدف من الإجراء الجراحي. هناك أيضًا نقص في بعض الأدوية، فعندما نجري عمليات جراحية لا بد أن نتأكد من توافر الأدوية اللازمة للعناية بالمريضة بعدها، ففي هذه الظروف كنا نختار الحالات التي يمكننا إجراء جراحات لها. باقي الحالات كنا نحاول التعامل معها طبيًا لحين انتهاء الحرب وحصولها على رعاية أو علاج أفضل.

بالنسبة للولادة، كنا نعمل بطاقتنا القصوى، ونولِّد حوالي 10 إلى 15 مريضة في اليوم. الرقم نسبيًا جيد بالنظر إلى إمكانيات المكان، وهو في ازدياد، لكن الأرقام أكبر في المستشفيات الحكومية.

ما خطورة الوضع الصحي في القطاع تحديدًا فيما يتعلق بالأمراض النسائية والتوليد؟

ما يترتب على كل المنظومة الصحية في القطاع ينعكس على أمراض النسائية والتوليد. فترة الحمل هي من أكثر الفترات التي تحتاج عناية طبية طويلة المدى، مع ظروف الحرب وغياب القدرة على الوصول للأطباء انعدمت إمكانية الحصول على هذه الرعاية.

مزودو الرعاية الصحية أيضًا خسروا كثيرًا، خسروا عياداتهم وأجهزتهم والمستشفيات، وبالتالي لم يعد بوسعهم تقديم هذه الرعاية. ولأن النقاط التي تقدم الرعاية للحوامل صارت في أماكن محددة لم يعد باستطاعة جميع نساء غزة الوصول لها.

بالإضافة إلى نقص المستلزمات التي تحتاجها الحوامل من علاجات، وفيتامينات، وأدوية، هناك سوء التغذية. تحتاج النساء في فترات الحمل والرضاعة إلى تغذية وصحة جيدة لتمر رحلة الحمل والولادة وما بعد الولادة بطريقة سليمة، هذا كله غير موجود. الإمكانيات الأساسية من نظافة شخصية، وطعام وعلاج لا تتوفر للجميع بسهولة. الكثير من النساء خسرن أزواجهن والقائمين على رعايتهن وبقين بمفردهن، وعليهن أعباء حملهن وصحتهن وأطفالهن. وكل هذه أعباء إضافية.

يضاف إلى ذلك محدودية الأدوية. كنت أعمل ضمن هيئة طبية دولية، ورغم ذلك لم يكن سهلًا الحصول على كل الأدوية والعلاجات التي نحتاجها. فصرنا نستعمل المتوفر بكل الطرق الممكنة، أو نختصر فنقلل الجرعات أو نقسمها لتقليل غياب الدواء عن المرضى. نحتاج أيضًا مستلزمات لمنع المضاعفات، مثل مستلزمات التعقيم ومستلزمات التدخلات الجراحية، ولا تتوفر جميعها، هذا يتطلب منا التفكير خارج الصندوق بكيفية اختصار ما نحتاجه والقيام بأي إجراء بأقل الأضرار.

مع غياب كل ما سبق، أصبحت جميع النساء فعليًا، تحديدًا خلال الحمل وبعد الولادة، عرضة للمضاعفات، مثل فقر الدم، ونزف ما بعد الولادة، والنزف خلال الحمل، وفقدان الحمل، والولادة المبكرة، والالتهابات المتكررة. وعوامل الاختطار من سوء التغذية، وتردي الوضع الاجتماعي، وغياب النظافة الصحية، والتوتر والقلق والإجهاد، وغياب الراحة، وغياب الغذاء السليم أو الفيتامينات، أصبحت جميع النساء عرضة لها.

ما أبرز المشاكل التي تعاني منها النساء في غزة في ظل غياب المنظومة الصحية والأساسيات من طعام، ومياه نظيفة، وما إلى ذلك؟

سوء التغذية أحد أكثر المشاكل انتشارًا، بالإضافة إلى فقر الدم. خلال مدة وجودي لا أذكر عدد النساء اللواتي كانت قوة دمهن جيدة. فقر الدم عامل اختطار أساسي للكثير من المشاكل الصحية، وغالبية النساء كنّ يعانين من فقر الدم.

هناك نساء عانين في أحمال سابقة من مشكلات كتسمم حمل، أو ضغط الحمل، أو سكري الحمل، ومع غياب المنظومة الصحية لم يحصلن على رعاية وعلاج وفحوصات للمتابعة ومعرفة أثر هذه الأمراض على رحلة الحمل. هناك حالات كنا نتفاجأ فيها بولادة طفل غير سليم، وذلك لأن الأم لم تتمكن من الفحص خلال الحمل بسبب عدم توفر القدرة على إجراء السونار أو فحص سلامة الجنين، أو غياب أطباء الاختصاص في بعض النقاط الطبية.

مع النزوح، باتت قدرة الكثير من النساء النازحات إلى جنوب القطاع على الوصول إلى الرعاية الصحية محدودة، وأولوياتهنّ تتمثل في التعامل مع ظروف النزوح. وفي النهاية تمر الشهور التسعة ويأتي موعد الولادة دون أن يعلمن بوجود مشكلة.

الولادة المبكرة من المشاكل المنتشرة أيضًا، تعاملنا مع الكثير من الولادات المبكرة، رأينا كثيرًا ما نسميه الماء الأخضر حول الجنين (وهو أن يخرج الجنين فضلات في السائل الأمينوسي) وكنا نتفاجأ بذلك في الولادة، وهذا يعكس حجم التوتر والضغط خلال الحمل، على خلاف ما كنت أشاهده في سنوات عملي من قبل، إذ كانت يحصل هذا في حال تأخر الولادة لما بعد الشهر التاسع، أما في غزة، فوجدت هذا يحصل في حالات لم تتأخر فيها الولادة عن الشهر التاسع، وكانت منتشرة جدًا.

النزيف بعد الولادة من المشاكل المتكررة أيضًا. نظريًا، المرأة التي تلد للمرة الأولى لا تكون عرضة لنزيف ما بعد الولادة، مع ذلك سواء كان ولادة أولى، أو ثالثة، أو سادسة، أو سابعة، أو ولادة مبكرة، وإن كان الجنين كبيرًا أو صغيرًا، في جميع الحالات كانت هناك نسبة من النزيف ما بعد الولادة بحكم سوء التغذية وفقر الدم.

هل هناك قدرة على إجراء العمليات القيصرية في القطاع؟ كنت تتحدثين عن نقص كبير في مستلزمات التخدير، كيف تصفين ذلك؟

بالعادة، بالظرف الأمثل، نحن نخير المريضة بين التخدير الكامل أو النصفي لإجراء العملية القيصرية. في غزة كنا ملزمين بإجراء القيصرية تحت التخدير النصفي، لأن التخدير الكامل يتطلب عدة مراحل لم تكن أدويتها متوفرة، ولو توفرت فتقسم بين مرضى يحتاجون جراحات أخرى. وحتى للتخدير النصفي لم تكن جميع أنواع المسكنات متوفرة، بالعادة نعطي مهدئات مع مسكنات وهذا ليس متوفرًا، ولكن بالحد الأدنى هناك إمكانية للتخدير النصفي، وهو ما يخفف الألم بالمرحلة الأولى على الأقل.

هناك نساء تتألم كثيرًا فتطلب التخدير الكامل، وهنا تبدأ المفاوضات على الإجراء الممكن لمساعدتهن، في حدود المتوفر، ولكن بشكل عام هذا أفضل من غياب التخدير.

هل هناك فروقات بين النساء اللواتي يلدن ولادة طبيعية ومن يلدن بعملية قيصرية من ناحية الألم والمعاناة في ظل الحرب؟

لم أجد تفسيرًا طبيًا لما شاهدته، أجري عمليات التوليد منذ سنوات، ولم أر صبرًا وتحملًا كما شاهدته في غزة، كنا نجري الولادات الطبيعية بلا مسكنات، لا مهدئات ولا إبرة ظهر، ومع هذا لم تكن الولادات معركة، كانت تتم بكل الهدوء وكل الإيمان وكل الصبر وكل الرضا، وتحمُّل الألم كبير حتى بعد الولادة، وتحديدًا بعد القيصرية.

وبحكم ظروف الأمهات والمسؤوليات التي تشغلهن، كن يسعين للخروج بعد ساعات من ولادتهن، ليعدن إلى أماكن نزوحهن في الخيام أو المدارس أو أماكن اللجوء للعناية بأولادهن. في حالة القيصرية كنا نمنعهن من المغادرة لأول 24 ساعة لمراقبتهن. باختصار قدرة التحمل كانت استثنائية، هل هو صبر، أم تحمل، أم رضا؟ أعتقد جميعها.

كيف يجري التعامل مع الأعداد الكبيرة للنساء الحوامل والأمهات الجدد والأطفال الرضع في ظل الاكتظاظ الكبير في ظل منظومة صحية متهالكة؟

في تخصص النسائية والتوليد هناك نقطتان طبيتان أو ثلاث نقاط صامدة من القطاع الحكومي، تزود الخدمة للنساء في مجال الصحة الجنسية والإنجابية والحمل والولادة وما بعد ذلك.

مئات آلاف النساء في غزة بحاجة للحصول على الخدمات الصحية، مقابل أعداد مزودي خدمات قليلة جدًا، وتحاول الهيئات الطبية الدولية إنشاء نقاط طبية ميدانية تقدّم الرعاية للنساء قدر الإمكان. وطبعًا غالبية الاعتماد هو على أطباء وزارة الصحة.

هل لك أن تقدمي لنا نبذة عن تعقيد الحالات الصحية للأمهات في غزة اليوم؟
نعرف أن غزة مرّت بحروب كثيرة، بالتالي كثير من العمليات القيصرية السابقة أجريت أصلًا في أوقات حرب وأوقات أزمات، وهو ما يؤثر على الأمهات وعلى تعافيهنّ وعلى المضاعفات التالية للعمليات، ولذا وجدت أن غالبية القيصريات التي أجريتها كان فيها التصاقات [بتأثير إجرائها في ظروف الحروب السابقة].

تعاملت مع حالات لنساء يعانين من فقر دم سيء جدًا، وفي غياب العناية الطبية خلال فترة الحمل ووجود تاريخ مرضي من النزيف خلال الحمل ما يؤدي إلى نزيف متوسط إلى شديد، وهو ما يضطرنا لنقل الدم للمريضة.

من ناحية الولادات، لأن كثيرًا من المريضات لم يفحصن خلال الشهر التاسع، فلم يكنّ بالتالي على علم بوضعية الجنين، وكنّ يصلن بتوسع كامل إلينا والجنين في الوضع المقعدي، وهنا السيناريو الأفضل هو العملية القيصرية، ولكن كنت أضطر لتوليدها بوضعها كما هو لأن التوسع اكتمل، وهكذا.

من ناحية إنسانية تعاملنا مع الكثير من النساء دون أي شخص مرافق معهن، بسبب الاستشهاد والنزوح، تعاملنا مع نساء في عمر صغير، 17 عامًا أو 18 عامًا، يلدن للمرة الأولى وقد فقدن أزواجهن، وأخريات يأتين للولادة وقد فقدن عددًا من أبنائهن. هذا يؤثر على العامل النفسي لديهن، وهنا من المهم تقديم الدعم لهن خلال الولادة، لأننا أيضًا سنجريها بغياب المسكنات، فالدعم النفسي والعاطفي مهم. رغم الضعف وقلة الحيلة، كنت أسمع من النساء شكرهن على هذا الدعم، لذا أعتقد أنه مهم.

ورغم كل هذه الصعوبات، فرحة كل أم بمولودها الجديد ما تزال حاضرة، وتعطي الكثير من الأمل. رغم كل الألم كن سعيدات بمواليدهنّ، وفرحتهن لا توصف، ويطلبن التواصل معهم بعد الولادة (skin to skin contact) وهو مهم جدًا للطفل وللأم ولاستمرارية الرضاعة الطبيعية.

في أحد المواقف بعد الولادة كانت جدة الطفلة حاضرة وحملتها وبدأت تبكي وتدور بها بحثًا عن شخص يؤذن في أذنها، لم تكن تعرف شيئًا عن أحد من ذكور العائلة منذ بداية الحرب، وكان همها وشغلها الشاغل أن تجد أحدًا يؤذن للطفلة. أنا أرى في هذه القصص أملًا وقوة.

ما الذي تستطيع الكوادر الطبية تقديمه في مجال النسائية والتوليد في ظل نقص المعدات المتوافرة للعلاج أو ربما لإجراء عملية ما؟

علينا ألا ننسى الضغط النفسي الذي يتعرض له الأطباء ومزودو الخدمات الطبية، لأن الحرب تطال هذه الكوادر وعائلاتها، جميعهم فقدوا من عائلاتهم وبيوتهم ووظائفهم، ويستمرون في عملهم وهم يفكرون في رعاية أسرهم وتوفير الماء والطعام والأمان لهم، فهذه الكوادر استُهلكت، وهنا يأتي دورنا في مساندة القطاع الطبي.

وفي تخصص الأمراض النسائية تحديدًا، صار عند جميع النساء الحوامل عوامل اختطار سببتها ظروف الحرب، وهذا عبء على القطاع الطبي.

نحن كمتطوعين نأتي وقد أمنّا عائلاتنا وتركنا الضغوطات النفسية خلفنا، فقدرتنا النفسية على أخذ القرار الطبي والعناية بالمرضى، وتقديم الدعم النفسي لهم أكبر من الطواقم الطبية التي أنهكتها ظروف الحرب.

ذكرت وجود عيادات خارجية للنسائية والتوليد في المستشفى الميداني الذي عملت فيه، ماذا يمكن أن تخبرينا عن الحالات التي تعاملت معها في العيادات؟

كنا نتعامل مع حوالي 100 إلى 120 مريضة في اليوم في العيادات. تعاملت مع حالة لمريضة ثلاثينية عندها خمسة أطفال وقدمت للعيادة لأنها تحاول الحمل منذ أربع سنوات، وغابت عنها الدورة الشهرية مؤخرًا دون أن يظهر الحمل في الفحص، وكانت متعبة، وبعد فحصها وجدت أن لديها حملًا مبكرًا عمره شهر ونصف تقريبًا، عندما أخبرتها أخذت تبكي دون توقف وصرت أبكي معها، كانت تقول لي أنها تحاول الحمل منذ سنوات، وعدما حملت أخيرًا تصادف أن يحدث ذلك في ظروف الحرب.

استقبلنا حالات كثيرة لنساء يحاولن الحمل ويبحثن عن المشورة الطبية، بالنسبة لهن عندما يحاولن الحمل لسنة أو سنتين فهذه الأشهر الست منذ بداية الحرب هي مدة طويلة تحسب ضمن فترات انتظارهن، وهذا يذكرنا بما ننساه أحيانًا من أن الحياة مستمرة خلال الحرب، وأن الناس تحت القصف والدمار تبحث عن أسباب تدفعها للحياة، وتتمسك بأملها بالحياة. هذا لا ينفي أن الناس متعبة من الحرب، ولكنهم يطمحون لإكمال حياتهم والتمسك بخطط مستقبلية لعيشها.

كنت أقابل أيضًا مريضات كثيرات يعانين من مشاكل عدم انتظام الدورة الشهرية، وأخريات يشتكين من التهابات وغيرها. هناك حياة مستمرة تحت الحرب تفرض أن الناس بحاجة لعناية طبية غير إصابات الحرب، من أمراض مزمنة، ومشاكل بالغدد ومشاكل عدم انتظام الدورة، وخلل هرموني، وكلها بحاجة لعلاج ومتابعة وتدخل طبي وفحوصات، وهناك نقص كبير في الفحوصات الطبية، والمختبرات التي تخدم القطاع.

هل لك أن تخبرينا عن أمراض نسائية لا مجال للتعامل معها منذ بدء الحرب بسبب دمار القطاع الصحي وانقطاع الأدوية وتدمير الأجهزة الطبية؟

نقص عدد الأخصائيين في بعض المجالات مشكلة حقيقية في القطاع اليوم. هنالك مشكلة تتعلق بعلاج خلل الهرمونات، مما يؤدي إلى نزيف رحمي غير منتظم. الكثير من النساء اليوم يعانين من نزيف رحمي مستمر، وعدم انتظام بالدورة الشهرية، وهذا له تبعات إن لم يعالج، إذ يمكن للنزيف الرحمي أن يؤدي إلى فقر الدم، أمّا أسباب النزيف الرحمي فعديدة ولمعرفتها نحتاج إلى إجراء فحوصات، هنا يظهر تحدي محدودية فحوصات المختبرات، ومنها فحوصات الأنسجة، ولا يوجد أخصائيو أنسجة في غزة اليوم، بعد استشهاد عدد منهم ولجوء عدد خارج القطاع. بالتالي تحديات الإمكانيات والمختبرات لا تنتهي.

وهنا لإنقاذ حياة بعض النساء كنا نلجأ لإجراء جراحي باستئصال الرحم أو عملية تنظيفات لإيقاف النزيف، لكن دون أن أستطيع التشخيص لأنني لا أمتلك أدوات التشخيص. بالتالي إذا كان السبب بحاجة لعلاج ما بعد الإجراء الجراحي فنكون تسببنا بمشاكل للنساء لأننا لا نستطيع تزويدهن بالعلاج اللازم ولا نملك القدرة لاستكمال مراحل العلاج.

تأخر الحمل أو العقم أو تأخر الإنجاب هي أيضًا من المشاكل التي لا مجال للتعامل معها حاليًا. قد يقول البعض إنها ليست مشاكل ملحة وإن الظرف لا يسمح، أنا أختلف مع هذا، في هذه المشكلات الوقت مسألة جوهرية، والعمر من العوامل الأساسية لتحديد القدرة على الحمل السليم والولادة السليمة، والوقت يمضي، وجميعنا قرأنا عن دمار جميع المراكز المعنية بالمساعدة على الإنجاب خلال الحرب، وهناك نقص كبير في المختبرات والأدوية، والأطباء الذين يقدمون هذه الخدمات خسروا عياداتهم وأجهزتهم، وهذا كله يهدد حق الناس في محاولة الإنجاب في الوقت المناسب.

مسألة أخرى تتعلق باستعمال علاج واحد لكثير من الأمراض، مثلًا نضطر لاستعمال علاج واحد لجميع أنواع الالتهابات مع معرفتنا أنه قد لا يعمل أو أننا لا نقدم الحل الأمثل لهذا النوع من الالتهاب. مثلًا في حالات الالتهابات النسائية أو التهابات المجاري البولية، لا بد من معرفة نوع المسبب لهذا الالتهاب لتحديد نوع المضاد الحيوي أو العلاج اللازم، لكن كما قلت في السابق لدينا أولويات، والأهم إنقاذ الحياة ومحاولة تقديم ما يمكن إلى حين انتهاء الحرب بإذن الله.

سمعنا مؤخرًا خبر استهداف الاحتلال أكبر مركز للخصوبة في القطاع، ماذا يمكن أن تقولي لنا كأخصائية عقم عن استهداف من هذا المركز وآثاره؟

نعلم أن أي زوجين يعانيان من صعوبة في الحمل أو الإنجاب ويلجآن لإجراء للمساعدة على الحمل والإنجاب فهذا ليس بسيطًا من ناحية كلفته المادية، والوقت اللازم له، سواء أكان أطفال أنابيب أم تلقيحًا صناعيًا أم غيره.

كثير من الناس يبيعون كل ما يملكونه للقيام بإجراء يساعدهم على الحمل والإنجاب، فاستهداف مركز فيه خمسة آلاف جنين مجمد هو استهداف لخمسة آلاف فرصة لولادة طفل وحياة، وخمسة آلاف حلم بذل أصحابه كل ما يملكون لأجل هذا الأمل، هذا يتجاوز استهداف الاحتلال قتل الحياة القائمة لقتل أي أمل أو احتمال حياة قادمة. هذا يهدف لتدمير الإنسانية. أتمنى عند انتهاء الحرب وعندما تتاح لنا الفرصة لإعادة إعمار القطاع الصحي ألا ننسى ضمن إصابات الحرب هذه العائلات التي حرمت فرصة بدء عائلة جديدة وأمل جديد ومولود جديد. أرى في الحياة الجديدة والأمل الجديد والولادة الجديدة نصر بحد ذاته، وإنسانية وأمل بمستقبل وأمل بحرية.

أتفق أن الشهداء الذين خسرناهم ليسوا أرقامًا، ومن ذهب لا يمكن تعويضه، ولكن الحياة الجديدة امتداد لمن خسرناه، سمعت هذا من نساء غزة، أنهن يرين في كل ولادة جديدة تعويضًا عمّا خسرنه ورغبة في الاستمرارية في الحياة القادمة. بالنسبة لي المساعدة على الإنجاب ومراكز الإخصاب من الأولويات حالها حال جراحة الترميم والأطراف الصناعية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية