دمار غزة

إبادة المكان: محوُ غزة هدفٌ للحرب

الدمار الذي خلفته الغارات الجوية الإسرائيلية في بيت حانون شمال قطاع غزة، 14 أيار 2021. فرانس برس.

إبادة المكان: محوُ غزة هدفٌ للحرب

الخميس 04 كانون الثاني 2024

منذ تأسيسه للوحدة الإسرائيلية 101 التي نفذت في قطاع غزة عمليتيْ السهم الأسود عام 1955 ومذبحة قبيّة عام 1953، نضج في مخيلة أرئيل شارون، وهو آنذاك شاب في العشرينات من عمره، تصورٌ عن العمران الفلسطيني فحواه أن الصراع المسلح مع الفلسطينيين هو مشكلة حَضَرية جوهرها التوسع المطرد في إنشاء مخيمات اللاجئين التي أسماها «جهاد البُنيان» طامحًا إلى تفكيكها بالمجازر. وفي حالة غزة التي اضطر للانسحاب من المستوطنات فيها عام 2005، كانت المدينة بحد ذاتها «موطنًا طبيعيًا للإرهاب» الذي لا يمكن إبادته إلا من خلال تغيير مظهره المادي.[1]

طوّر القادة السياسيون الإسرائيليون فهمهم عن الحيّز المكاني الفلسطيني باعتباره خطّ اشتباك دائم، و«حدودهم المؤقتة» باعتبارها أطر لقتل الحلول السياسية و«إقامة الاستيطان في صميمها بحيث لا يمكن استجلاء الفرق بين الداخل والخارج».[2] أما أدوات التخطيط والعمارة فهي وسائل للتجريد من الملكية وخلق نمط من الفوضى المركبة التي يمتلك فيها الاحتلال الإسرائيلي السلطة لإصدار القوانين وإنفاذ القوة العسكرية واحتكار الموارد الطبيعية من باطن الأرض حتى المجال الجوي فوقها.

بالنسبة للإسرائيليين، فإن إبادة غزة كمدينة أو مركز حضري ليست مُعضلة، على العكس، فهي جزء جوهري من أهداف الاحتلال الإستراتيجية التي يصبح فيها تدمير غزة «هدمًا خلّاقًا». وبقدر ما يرتكب الاحتلال اليوم إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني في حربه الحالية على المقاومة، فإنه يتعمد كذلك ارتكاب إبادة مكانية لمعالم غزة الحضارية ومبانيها السكنية وبنيتها التحتية، وحتى نسيجها الاجتماعي، عبر سياسات وممارسات بدأت قبل العدوان الحالي بكثير.

عن الإبادة المكانية التي يرتكبها الاحتلال حاليًا في غزة، واستخدامها كأداة لتفكيك النسيج الاجتماعي فيها وتحقيق أهداف سياسية وعسكرية، نحاور عبد الرحمن كتّانة، الأستاذ المساعد في الهندسة المعمارية بجامعة بيرزيت. قبل أن يحصل كتّانة دراسته على بكالوريوس الهندسة المعمارية، كان قد اعتقل مع شقيقه باسل عام 2003[3] على خلفية مشاركتهما في الانتفاضة الفلسطينية الثانية. بعد خروجه من السجن عام 2007 تابع دراسة الهندسة حتى حصل على درجة الدكتوراه، باحثًا في أطروحته[4] عن العلاقة بين العمارة والمقاومة. وقد نشر أبحاثًا أخرى تناقش استخدام العمارة كأداة عنف وقمع وتحكم بيد الاستعمار.

حبر: ما الذي يعنيه مصطلح «الإبادة المكانية»؟ ومتى ظهر وشاع استخدامه؟

كتّانة: قبل الحديث عن تعريف الإبادة المكانية، من المهم أن نفهم العلاقة بين الحرب والمدينة لأن علاقة تطورهما متبادلة؛ يؤثر تطور المدينة بكيفية تطور الحرب وأسلحتها وأساليب القتال، والعكس صحيح أيضًا. هكذا نفهم وجود أسلحة مخصصة لاستهداف البُنى بحسب عمرانها مثل الأنفاق والقلاع والسلالم وغيرها. اقتربت المدينة من الحرب وتطورت علاقة الإبادة بينهما منتصف القرن التاسع عشر. قبل ذلك كانت الحروب خارج المدن رغم أنها قد تنتهي بإبادة سكان المدينة وتدمير بعض معالمها، أي عندما تذهب الجيوش -كنوع من الانتصار- لاغتنام الأموال وسبي النساء وتدمير المدينة أو فرض السيطرة عليها، ما يعني أن إبادة المدينة هو المحصلة، لكنه ليس الحرب أو مسرحها.

مع تطور الثورة الصناعية أصبحت المدينة تعبّر عن ثقل اقتصادي ومركز سياسي، وصار استهدافها ليس غاية عسكرية للقضاء على الجيوش، إنما للتأثير على صناعة القرار السياسي الذي يقيس مدى قدرة المدينة -وبالتالي النظام الحاكم- على الصمود. ظهرت في القرن التاسع عشر أيضًا الدول القومية التي تتحمل مسؤولية الدفاع عن مُدنها وما تمثله من مراكز حضارية بتفاعلاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بعكس الإمبراطوريات متعددة التمركز أو دول المدن (city states) التي يُقضى عليها بمجرد القضاء على المدينة. في الحرب العالمية الأولى، بدأ قصف المدن الكبرى كهدف سياسي مقصود رغم أن معظم المواجهات كانت في المساحات المفتوحة، وساعد تطور السلاح على استهداف المدن دون الحاجة إلى جيوش لاجتياحها بريًا، إنما عبر القصف الجوي، وهو ما قامت به إيطاليا لأول مرة عند استهداف العاصمة الليبية طرابلس عام 1911.

«قتل المدن هو أقدم قصة في العالم»، يقول الكاتب الماركسي الأمريكي مارشال بيرمان، في إشارة إلى أن الإبادة المكانية كممارسة أقدم بكثير من المصطلح الذي ظهر في الستينيات ما بين 1963-1968 لوصف ممارسات التجديد الحضري العنيفة في الولايات المتحدة، مثل هدم مناطق واسعة لإعادة بنائها بهوية مختلفة.

بعد حصار سراييفو الذي امتد لثلاث سنوات وعشرة أشهر (نيسان 1992 – شباط 1996) خلال حرب البوسنة، أصبح المصطلح يستخدم بشكل متزايد من قبل المهندسين المعماريين والمخططين الحضريين والمؤرخين لوصف العنف العسكري الموجه لتدمير نسيج منطقة حضرية، خصوصًا وأن تعريف الإبادة الجماعية على أنها «خطة مُحكمة من الإجراءات المقصودة التي تهدف لتدمير أسس المجموعات الوطنية»[5] لم يتطرق للعنف الذي لا يستهدف الأجساد البشرية.

بكلمات أخرى، يمكننا التفكير بالإبادة المكانية وكأنها تخفيض رتبة المدينة إلى أقل من كونها مدينة، عبر ممارسة العنف على كل مقوماتها الحيوية بما فيها منظومتها المعمارية والبنيوية والتحتية والاجتماعية، ونظامها الاقتصادي، وتنوعها الثقافي، وحتى الحالة الذهنية التي يتشاركها سكان المدينة حولها. «الإبادة الجماعية أو التطهير العرقي» والإبادة المكانية متلازمان في الغالب، ويجادل البعض بأن قتل المدن يُجب أن يُفهم على أنه جزء من الإبادة الجماعية، لأن تدمير منازل الناس يعني تدميرهم، لكن وجود مفهوم الإبادة المكانية يساعدنا على تفادي النظرة السطحية للدمار المعماري كضرر جانبي للحروب بل كهدف سياسي يكون متعمدًا أحيانًا دون أي ضرورة عسكرية أو أمنية. في ختام الحروب اليوغوسلافية، ظهر المصطلح كمفهوم قانوني في القانون الدولي، لكن تعريفه ومؤشراته ما زالت غير دقيقة وموضع نقاش.

منطقة العطاطرة شمالي قطاع غزة في أيار 2023، وبعد تعرضها لقصف سجّادي في تشرين أول الماضي.

كيف وظّف الاحتلال الإسرائيلي العمارة كأداة استعمارية ضد الجغرافيا والعمارة الفلسطينية؟

تشكل فلسطين مثالاً معاصرًا لأكثر الصراعات الجيوسياسية تعقيدًا والتي يمثل فيها الاحتلال الإسرائيلي مشروعًا استعماريًا إحلاليًا. استعرضت الدعاية الصهيونية فلسطين كأرض فارغة لأرض الميعاد وصورت العلاقة بين الوجود اليهودي مع الطبيعة على أنها علاقة طبيعية ومتبادلة بعكس علاقة الفلسطيني بالأرض. الجغرافيا مكون جوهري من المشروع الصهيوني لأن الأرض هي المُشكل الرئيسي للأمة وصياغة هويتها الوطنية والجماعية. رافقت هذه الأيديولوجيا إجراءات شراء الأراضي والتشجيع على الهجرة وبناء المدن والمستوطنات وتطوير الزراعة وإنشاء الصناعات.

بحسب التصنيف الذي أرسته منهجية كتاب «الإبادة المكانية: فضاءات القمع والصمود» لمؤلفته نورهان أبو جدي، يمكن تتبع ثلاثة أنماط من الدمار في فلسطين تاريخيًا. أولًا، التدمير المادي للمكان الحضري الفلسطيني بفضائه وعلاقاته، مثل قيام الميليشيات الصهيونية بتجريف أكثر من 400 قرية فلسطينية وإبادة المراكز الحضرية الكبرى في مدن طبريا ويافا واللد والرملة وعكا وحيفا وصفد وأجزاء من القدس بين عامي 1947 و1948، واستهداف الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 القرى الفلسطينية الاستراتيجية لقطع الاتصال المكاني بين المناطق الفلسطينية المدمرة وخلق تواصل مكاني بين المدن اليهودية والقدس، وضرب الحواضن الشعبية للمقاومة في نابلس ورام الله ومخيمات اللجوء خلال الانتفاضة الثانية عام 2000.

ثانيًا، التدمير عبر إعمار مناطق حضرية إسرائيلية في الحيز المكاني الفلسطيني مثل المستوطنات اليهودية -وما يرافق ذلك من محو للهوية العربية وإضفاء الطابع التوراتي- وشبكات الطرق المخصصة للإسرائيليين وبناء جدار الفصل العنصري. انتشر الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية وغزة بعد عام 1967، وتوسع مع صعود حزب الليكود إلى السلطة عام 1977. اعتبارًا من يناير 2023 يوجد 144 مستوطنة إسرائيلية في الضفة الغربية، 12 منها شرقيّ القدس، أقيمت باستخدام القوانين والأدوات العسكرية لمصادرة الأراضي. كما يبلغ طول الطرق المخصصة للمستوطنين فقط 980 كم تساهم في تقييد حركة الفلسطينيين، إلى جانب الجدار الذي بدأ بناؤه عام 2002 على 770 كم من الأراضي الفلسطينية بهدف حماية المستوطنات الإسرائيلية قرب الخط الأخضر من هجمات فلسطينيي الضفة الغربية.

ثالثًا، التدمير بالسيطرة، والذي يتجسد في خلق أدوات رقابية على الفلسطينيين من خلال الحواجز العسكرية ونقاط التفتيش والكتل الخرسانية والبوابات والتلال الترابية. رصد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) حتى آب من عام 2023 وجود 565 حاجزًا إسرائيليًا تمنع أو تعيق وصول الفلسطينيين إلى وجهاتهم. وقد أنتجت الديناميكيات الإسرائيلية فضاءات مكانية تعزل المناطق المبنية الفلسطينية عن محيطها وتحوّلها إلى مجتمعات عائمة تبدو وكأنها دخيلة أو غريبة في بيئتها الطبيعية.

توّلد هذه الأشكال الثلاثة الإبادة المكانية للجغرافيا والهوية الفلسطينية، والتي استخدمها الاحتلال منذ نشأته عبر أدوات مختلفة؛ التجريف في النكبة مثلاً كان وسيلة لإبادة قرى فلسطينية كاملة وإتاحة حيز مكاني تقوم عليه «إسرائيل»، وهو ما تمارسه السلطات الإسرائيلية اليوم في اقتحامات جنين ونابلس وطولكرم كسلاح للعقاب الجماعي وتشكيل التكوين الجيوسياسي للأرض.

كيف استهدف الاحتلال الإسرائيلي الإرث المعماري في غزة قبل طوفان الأقصى؟

بدايةً، لم تتناول الأدبيات البحثية الإرث المعماري لمدينة غزة بشكل معمق، إذ غالبًا ما عولجت غزة في سياق الدمار الذي خلفته الحروب، وإن كان فيها مئات المباني التاريخية، ويقع جزء كبير منها في مناطق البلدة القديمة، والتي تتخذ أنماطًا معمارية مختلفة من العصور المملوكية والعثمانية وبداية الانتداب البريطاني. يتنوع هذا الإرث ما بين المساجد والكنائس والأسواق والزوايا والمدارس والكتاتيب، مثل الجامع العمري الكبير وقصر الباشا وحمام السمرة وكنيسة بورفيريوس وسبيل السلطان عبد الحميد، بالإضافة للبيوت الحجرية الأثرية، ومن أشهرها قصر آل الرضوان في حي الدرج، وبيت عبد القادر بسيسو في حي الشجاعية، وبيت الترزي في حي الرمال.[6]

لا ينحصر إرث غزة في تاريخ هذه الأماكن الأثرية التي كان غالبها قائمًا حتى السادس من تشرين الأول الماضي، إذ إن عشرات المباني الأثرية الأخرى أبيدت أو اندثرت جراء الحروب السابقة التي شهدها القطاع، أو بسبب غياب الترميم اللازم لصيانة هذه المواقع. ومن هنا يمكننا القول إن غزة تعرضت لإيقاعيْن من التدمير العمراني قبل اندلاع الحرب الحالية، الأول هو التدمير بوتيرة بطيئة أو طويلة المدى والمتمثل في الحصار المفروض عليها منذ عام 2007. والثاني هو التدمير السريع الذي أحدثته الغارات الجوية الصاروخية خلال الحروب على غزة في الأعوام 2008، و2012، و2014، و2019، و2021، فضلًا عن الحرب الحالية. ليس بالضرورة أن تكون الإبادة المكانية جراء هجوم لحظي أو استهداف عسكري، يمكن لتحويل مسار المياه أو إعادة توجيهها في أحد الأنهار التسبب بإبادة مدينة أو خلق مقومات الحياة في أماكن أخرى.

فرض الاحتلال الإسرائيلي الحصار على منافذ غزة البرية والبحرية والجوية في أعقاب تولي حركة حماس الحكم السياسي فيها عام 2006. عندما نتحدث عن الحصار لا نقصد فقط البُعد المرتبط بتقييد حركة الفلسطينيين من وإلى غزة فحسب، بل بعزل غزة عن محيطها الطبيعي وجعل الممارسات اليومية لأهلها في غاية التعقيد. الجدار الذي أقيم حول غزة بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي منها وتفكيك مستوطناته عام 2005، وإقامة مستوطنات غلاف غزة التي تحيط بالقطاع على امتداد 40 كم، وفرض القيود المشددة على دخول مواد البناء الخام والمعدات الثقيلة، والصلاحيات شبه المطلقة للاحتلال في التحكم بموارد غزة الطبيعية من إمدادات المياه والكهرباء والاتصالات والصرف الصحي، هي جميعًا أشكالٌ للحصار.

تخلل الحصار الإسرائيلي ستة حروب على غزة كان لها أثرٌ مباشرٌ في تدمير المعالم العمرانية والبنية التحتية بشكل مباشر. ناقش كتاب أبو جدي أن «عملية الرصاص المصبوب» وما رافقها من غزو للقوات البرية أواخر عام 2008 يمكن وصفها بالإبادة المكانية. ضربت الطائرات الحربية الإسرائيلية عدة أهداف في وقت واحد صباح اليوم الأول من الحرب، واستخدم الجيش الإسرائيلي جرافاته المدرعة لتحطيم المباني وإنشاء طرق بديلة، ودمرت كتائب المشاة عشرات المباني برفقة الكلاب البوليسية بحثًا عن القنابل، كما استهدفت المدارس والمستشفيات والمساجد والمنشآت الزراعية والبنية التحتية الأساسية بُغية كسب الحرب في أسرع وقت ممكن.

تتفاعل هذه العوامل وتتشابك من أجل تحقيق هدف الاحتلال في تقليص فُرص غزة لتكون مكانًا ملائمًا للعيش، حيث ساعات الكهرباء محدودة ومياه الشرب ملوثة ومستوى الرعاية الصحية متدني والأمن الغذائي معدوم وتصريحات المعابر شبه مستحيلة. هذه المظاهر الحيوية هي جزءٌ أصيلٌ من العمران وعلاقة الأفراد بمدنهم، ولذلك يَحول الحصار والحروب الإسرائيلية منذ 17 عامًا دون تقدّم غزة كمدينة. حتى نكون قادرين على تخيّل أثر الحصار، يمكنني القول إن غزة في سياق طبيعي وبموقعها الساحلي على أحواض الغاز في البحر الأبيض المتوسط وأهميتها الاقتصادية التي تشكلها خصائص القطاعات الزراعية والصناعية، كانت لتكون مركزًا حضاريًا ونقطة وصل عالمية أكثر أهمية من دبي اليوم لولا وجود الاحتلال الإسرائيلي.

هل يمكننا وصف مشهد الدمار الذي خلفته الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة بالإبادة المكانية؟ وكيف ندلل على ذلك؟

بكل تأكيد. يرتكب الاحتلال الإبادة الجماعية في غزة عبر ثلاث مستويات، هي الدمار الذي لحق بالبنية الفوقية أو جسم المدينة، واستهداف البنية التحتية التي تخدم كل العمليات الحيوية في المدينة، وتفكيك النسيج الاجتماعي الذي يعبّر عن العلاقات التي تربط الأفراد والجماعات ببعضها. يمكن التفكير بكل مستوى من هذه المستويات عبر أنماط التدمير الذي ذكرت سابقًا وهي الإبادة المادية أو الاستبدال ومحو الهوية أو السيطرة والتحكم، كما يمكن التفكير بها كوتيرة قصيرة المدى مثل لحظة سقوط الصاروخ أو القصف المدفعي، أو الاستهداف المتراكم طويل المدى الذي نلمس آثاره بعد قرابة 90 يومًا من الحرب، وستظل آثاره ماثلة لما بعدها.

بحسب آخر تحديث نشره المكتب الإعلامي الحكومي في غزة في 28 تشرين الثاني الماضي، دمّر الجيش الإسرائيلي 103 مقرًا حكوميًا، و266 مدرسة خرجت 67 منها عن الخدمة، و88 مسجدًا بشكل كلي و174 مسجدًا بشكل جزئي، إضافة إلى استهداف ثلاث كنائس، كما تعرّضت 50 ألف وحدة سكنية لهدم كلي، و240 ألف وحدة للهدم الجزئي. وخرج 26 مستشفى و55 مركزًا صحيًا عن الخدمة.

كنيسة القديس بورفيريوس الأثرية بعد استهدافها بغارة جوية إسرائيلية، 20 تشرين الأول 2023، تصوير علي جاد الله، وكالة الأناضول.

بقايا مسجد دمرته الغارات الإسرائيلية وسط قطاع غزة، 8 كانون الأول 2023، تصوير دعاء روقة.

قد لا يوجد اليوم شارع واحد في غزة لم يشهد دمارًا، ولا حي لا يحمل آثار المتفجرات الثقيلة، صارت غزة مدينة من الركام حيث لا يمكن أن تقع عينك على مبنى غير مدمّر، تمثل هذه الأضرار ما لا يقل عن 65% من البنية الفوقية لغزة. إلى جانب الضرر الذي يلحق بالبنية التحتية من الحصار ويجعلها أكثر بدائية من مثيلتها على بعد كيلومترات قليلة في المدن «الإسرائيلية» أو حتى مدن الضفة الغربية. دمّر الاحتلال في الحرب الحالية البنية التحتية، بما فيها إمدادات المياه المتمثلة في عشرات الآبار ومحطات التحلية والمعدات والخطوط الناقلة، وقطع 10 خطوط مزودة للكهرباء بالتزامن مع قصف مقر شركة الاتصالات الفلسطينية وعشرات الأبراج التابعة لها وقطع اتصالات الخطوط الأرضية وشبكات الإنترنت والهواتف النقالة.

وأغلق الاحتلال أيضًا معبّر رفح، فيما انهارت المنظومة الصحية وتعطلت كل العملية التعليمية في غزة ودمرّت بنيتها التحتية المتمثلة في المدارس والجامعات. عطّلت الحرب معظم العمليات الحيوية الأساسية في القطاع، ما يؤثر على قدرة الناس على الصمود، فحتى لو بقيت بعض المنازل قائمة نسبيًا، فإن قدرة الأفراد مثلاً على استخدام الحمام في بيوتهم أصبحت مستحيلة مع غياب الصرف الصحي والمياه ومستلزمات النظافة الشخصية. هذه هي الإبادة المكانية التي وصفها وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت في العاشر من تشرين أول الماضي قائلًا إن «غزة لن تعود أبدًا إلى ما كانت عليه».

أما عن إثبات الإبادة المكانية أو التدليل عليها، فيستخدم المعماريون والمخططون الصور الجوية وبيانات الغارات الجوية ونوعية الأسلحة المستخدمة، وبعض التقييمات التي تنشرها المنظمات الدولية، بالإضافة للقطات الكاميرات المثبتة على طائرات بدون طيار، ومقابلات عمال الإغاثة ومقدمي الرعاية الصحية وخبراء في الذخائر والحرب الجوية. ما زلنا لا نمتلك وصولًا فعالًا لهذه المصادر، إذ تقيّد الشركات التقنية الامريكية جودة لقطات الأقمار الصناعية أو إمكانية نشرها بحجة الكشف عن العمليات البرية للقوات الإسرائيلية. كما أن هذه اللقطات يجب أن تحلل بعناية شديدة وضمن سياقها، لا تقدّم لقطات الأقمار الصناعية مثلاً مشهدًا ثلاثي الأبعاد، ولذلك قد يختلف تعداد المباني السكنية في المخيمات عن تعدادها في أماكن أخرى، وكذلك عدد الأشخاص المتضررين في كل منها.

تحدثت عن تفكيك النسيج الاجتماعي بوصفه واحدًا من مستويات الإبادة المكانية التي يستهدفها الاحتلال الإسرائيلي في حربه الحالية على غزة، ما أثر الإبادة المكانية على النسيج الاجتماعي، وكيف يؤثر هذا الدمار على علاقة الناس بالمدينة؟

قدرة المجتمعات على الصمود مرتبطة بشكل أساسي بقدرة المدينة وبنيتها التحتية على تغطية الاحتياجات. مع انهيار القطاعات الأساسية في غزة، يضطر الفلسطينيون لتدبر أمورهم في البحث عن المسكن والطعام والعلاج في ظل قصف مستمر وبيئة موبوءة محيطة. في غضون ثلاثة أشهر، فقد ملايين الأشخاص مساكنهم واضطروا للنزوح إلى مراكز الإيواء، بعضهم فقد أفرادًا من عائلته في قصف المستشفى الذي آوى إليه، وبعضهم يتقاسم مع عائلة أخرى غرفة صفية في إحدى المدارس، 300 ألف شخص يعيشون في خيم متهالكة في أقرب نقطة حدودية للقطاع مع مصر. صاروا، ضمن روتين يومي، يقطعون عشرات الأميال بحثًا عن المياه، ويقفون في طوابير طويلة للحصول على معونة غذائية ويجلسون بجانب أقاربهم الجرحى إلى حين وصول دورهم في العلاج، ويعودون لمنازلهم المهدّمة بحثًا عن ذكريات ممكنة، ويبحثون بشكل متواصل عن مكان لدفن الجثث.

الإبادة المكانية تشوّه أيضًا مشاعر الأفراد حيال أمكنتهم التقليدية؛ مدارسهم التي قضوا فيها أعوامًا يعيشون فيها اليوم كنازحين، دكانة الحي التي يبتاعون منها الحاجيات أصبحت رفوفها فارغة، شاطئ البحر الذي جلسوا عليه مع أصدقائهم ضاحكين تحيط به النفايات والمياه العادمة. استهدف الاحتلال معالم غزة الشهيرة منذ بدء القصف لتدمير ذكريات المدينة في أذهان أهلها. كما نبشت القوات الإسرائيلية مقابر الموتى وكتبت عبارات عنصرية على جدران المنازل التي تمركزت بها، وجرّفت الإسفلت من الشوارع المعبّدة.

نازحون في إحدى مدارس خان يونس، 14 تشرين الأول، تصوير يوسف مسعود، نيويورك تايمز.

امرأة فلسطينية نازحة تطهو على شاطئ دير البلح جنوبي قطاع غزة، 28 تشرين الأول، تصوير سمر أبو العوف، نيويورك تايمز.

تغيرت علاقة الأفراد مع المدينة بالطبع، وفي واقع متسارع لا يتيح لهم استيعاب الصدمة، يصبح همّ الناس التركيز على إنقاذ حياتهم حتى لو كانت المدينة المحيطة بهم تعج بالجثث والدمار والخوف، حيث لا تصبح قدرتهم على الصمود مرتبطة برغبتهم بالصمود بقدر ما هي مرتبطة بعدم وجود خيار آخر. جراء تضرر شبكة النقل والطرق صار الناس يتنقلون بواسطة العربات التي تجرها الحمير بعد تضرر سياراتهم أو نفاد الوقود، هذه العربات صارت تنقل الجثامين والمصابين للمستشفيات أيضًا مع تعطل خدمات الإغاثة والدفاع المدني. يحاول الناس في هذه الظروف استخدام المتاح من الإمكانيات، لتغطية احتياجاتهم من الأكل والتنقل أو حتى الترفيه. ولذلك نشاهد مقاطع مصوّرة للأطفال يلعبون في حفرة خلّفها الصاروخ، ولأنشطة موسيقية يعقدها متطوعون في ساحات المدارس، ولحملات تنظيف شوارع المستشفى، هكذا يحاول الناس خلق شكلٍ من «الحياة العادية» تحت الحرب، حيث تصير الابتسامة أو كوب شاي ساخن أو الاستحمام إنجازًا، مقارنة بالوقت والظرف الذي يمرون به.

تصل إمكانية الأفراد على الصمود تحت الحرب إلى ذروتها وتسمى بتأثير الصدمة الحادة، لأن النجاة هي الأولوية، بعكس قدرة الأفراد على تجاوز الصدمة طويلة الأمد والتي تتبع الحرب. ومع تقلص مقومات الصمود، حتى إمكانية إيجاد قماش لصناعة خيمة أو أطباق معدنية لاختراع فرن يدوي تصبح مستحيلة، فإن كل ما يدفع الناس للموت أو الانهيار موجود في غزة، ولكن الناس متماسكة بفعل الإيمان؛ الإيمان غير المرتبط بالضرورة بالتديّن ولكنه يفسّر الواقع أو يبرره كثمن للتحرر. بكلمات أخرى، لم تتغير علاقة الناس بمدينتهم من ناحية الدمار فحسب، بل من ناحية القدرة على المقاومة أيضًا. بعض أهالي غزة الذين لم يتمكنوا من العودة لمنازلهم في شمال القطاع، شاهدوا غرف نومهم ومطابخهم التي أصبحت مساحات اشتباك مع جنود الاحتلال في فيديوهات الإعلام العسكري التي يتحرك بها المقاومون، وبذلك تصبح العمارة جزءًا من التكتيكات العسكرية وفضاءات المقاومة التي تكّرس الإيمان وتلهم الصبر في قلوب الفلسطينيين.

في فهمنا للعمارة واستهداف الاستعمار لها، علينا أن لا نفترض أن الفلسطينيين كانوا مجرد متفرجين حيال تدمير وتفكيك مدنهم وأراضيهم. تجسد توظيف العمارة في المقاومة حتى قبل عام 1948 عندما استخدم الفدائيون معرفتهم الحدسيّة المتأصلة بالمكان وشبكاتهم الاجتماعيّة لتأمين عمليات الكرّ والفرّ والهجوم والتمويه والاختفاء. في الحرب الحالية، فإن ثبات الفلسطينيين في غزة عمومًا وتمسكهم بالتواجد شمالي القطاع رغم القصف العنيف والتحذيرات المستمرة هو مواجهة للاحتلال لا تقل أهمية عن قدرة فصائل المقاومة الفلسطينية على التحرك عبر الأنفاق أو إطلاق صواريخ محلية الصنع واختراق المجال الجوي الذي ظلت «إسرائيل» تحتكره لسنوات.

ما هي الأهداف العسكرية والسياسية التي يسعى الاحتلال لتحقيقها من خلال الإبادة المكانية لغزة في هذه الحرب؟

تساعد الإبادة المكانية الاحتلال الإسرائيلي على تحقيق بعض أهدافه العسكرية. ارتبط القصف السجّادي، وهو تكتيك عسكري لقصف منطقة عبر القنابل غير الموجهة بكثافة وتدميرها بالكامل حتى تتسطّح معالمها،[7] بقيام الاحتلال بفتح ممرات مكشوفة للآليات العسكرية بالتزامن مع بدء العملية البرية أو قبلها. يمنح القصف السجادي جنود الاحتلال قدرة أكبر على المناورة والسيطرة، مقابل مقاتلي المقاومة الذين يحاولون استدراجهم للمباني السكنية التي تمنحهم الأفضلية في استخدام الشبابيك والسلالم والتنقل عبر الغرف.

من ناحية أخرى، جزء كبير من حرب الاحتلال الحالية على غزة يهدف إلى تدمير البنية التحتية الخاصة بالمقاومة، ولأن جزءًا من شبكة الأنفاق مرتبط بفتحات في البنية الفوقية داخل المباني، يقوم الاحتلال باستهداف المنازل لقطع هذا الاتصال بين الفضائيْن أو لقتل أي أفراد محتملين داخل الأنفاق.

تحقق الإبادة المكانية أيضًا أهدافًا سياسية، إذا لم يفلح مسح مربع سكني كامل في تدمير نفق أو اغتيال قيادي، فإنه بالضرورة سيقتل عشرات الشهداء من المدنيين وسيدمر أي إمكانيات للحياة يحتاجها المواطنون، ويحاول بذلك دفعهم إما للهجرة أو النزوح، أو لفظ المقاومة والانتفاض عليها. قصف الاحتلال أماكن لا يحتمل تواجد المقاومين فيها مثل آبار المياه والمستشفيات ومراكز الإيواء، لكنه بتعظيم المأساة الإنسانية يجبر الفلسطينيين في غزة على تغيير أماكنهم بحثًا عن احتياجاتهم التي يستخدمها كأداة حرب، و/أو يدفعهم ليصبحوا في قمة السخط على المقاومة التي ينخرط العدو في محاربتها.

ذهبت التقديرات الأولية إلى أن تكاليف بناء غزة بعد وقف إطلاق النار قد تتجاوز عتبة الخمسين مليار دولار، كيف تقرأ مشهد إعادة الإعمار ودور المنظمات الدولية فيه في ضوء عمليات الإعمار السابقة لغزة؟

لم ترقَ عمليات إعادة إعمار غزة في أي من الحروب السابقة للمستوى المطلوب، إذ كانت تتم ببطء شديد. بعد مرور عام على حرب 2021 تمكنت وزارة الأشغال العامة والإسكان الفلسطينية من البدء بإعمار حوالي 200 وحدة سكنية من أصل 1700 وحدة دُمّرت بشكل كامل، بتمويل من لجنة إعادة الإعمار القطرية والتي قصف مقرها في الحرب الحالية. كما تخضع إعادة الإعمار لرقابة إسرائيلية صارمة بشكل يحدد طريقة استخدام كل ذرة اسمنت يتم إرسالها.

لم تضع مؤتمرات إعادة الإعمار السابقة أية بنود لضمان عدم تكرار سيناريو الدمار المادي في غزة، وذلك لأنها لا تحمّل «إسرائيل» مسؤولية الدمار الذي أحدثته، بل تتماشى مع اعتباراتها الأمنية. تتعامل خطط إعادة الإعمار مع الدمار في غزة كما لو أنه نتيجة كارثة طبيعية وليس نتيجة أعمال سياسية وعسكرية ممنهجة، ولذلك تشارك به الدول المانحة على أنه إغاثة إنسانية أو عمل خيري. إن تجاهل الجذور السياسية للأزمة والحلول الأساسية المتمثلة في إنهاء الاحتلال وفك الحصار يساهم في توظيف إعادة الإعمار كأداة لخنق المقاومة.[8]

أرى أيضًا أن فهم وفلسفة المؤسسات الدولية للإعمار إشكالي، إذ تفترض أن هذا الإعمار أبدي وأن الصراع انتهى، المشكلة في هذا الفهم أن قدرة المدينة على الصمود أو تحمّل الحروب القادمة لا تتطور. لم تفكر خطط الإعمار البتة بكيفية حماية البنية التحتية لغزة حتى يتم تقليل أضرار استهدافها ولا يموت الناس عطشًا عندما تقصف إمدادات المياه، ولا كيف توفر الملاجئ للعائلات حتى يقل عدد الخسائر البشرية، ولكنها ركزت على تقديم سقوف يمكن للناس العيش تحتها، وفي كثير من الأحيان فشلت حتى في تقديم هذا الهدف، فقام الناس بإعادة إعمار بيوتهم على مسؤوليتهم الشخصية.

لذلك، نلمس مؤشرات الإبادة المكانية في غزة بعد ثلاثة أشهر فقط من بدء الحرب، ونرى القطاعات الأساسية منهارة، على عكس المقاومة، التي لم تبن للسلام أو لمستقبل ورديّ، بل بنتْ للحرب التي تواجه بها «إسرائيل». إن استكشاف المقاومة لفضاء عمراني مستقل عبر الأنفاق هو ما يجعلها اليوم متماسكة رغم أن المدينة وكل مقومات الحياة فوق الأرض معدومة.

  • الهوامش

    [1] كتاب «مدن تحت الحصار: فضائح العنف السياسي وعسكرة التنظيم المدني»، ستيفان غراهام، 2004، صفحة 333.

    [2] كتاب «أرض جوفاء: الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي»، إيال وايزمان، 2017، صفحة 14.

    [3] خرج باسل من سجون الاحتلال عام 2018 ورمّم مع عبد الرحمن وزوجته مبنى في نابلس يبلغ عمره حوالي 200 عام، وأسسوا فيه مقهى ثقافيًا ومشروعًا معماريًا يهدف لخلق مساحة تفاعل وتثبيت صمود لأهل البلدة القديمة في نابلس.

    [4] بعنوان «العمارة كفضاء للصمود والمقاومة الشعبية في النزاعات الحضرية المسلحة: دراسة حالة مدينة نابلس»، 2019.

    [5] كتاب «الإبادة المكانية: سياسة التدمير الحضري»، مارتن كوارد، 2009، صفحة 11.

    [6] كتاب «التراث المعماري في مدينة غزة»، لمؤلفته نهاد محمود المغني، 2007.

    [7] بحسب بحث «إثبات الإبادة المكانية: نظرة مدنية وحضرية تجاه قصف العواصم» لمؤلفته كينيث هيويت، 2015.

    [8] ورقة بحثية بعنوان «إعادة إعمار قطاع غزة: الخلفية والتحديات»، خالد وليد محمود، 2014، صفحة 9.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية