تلوث نهر في أفغانستان

تركة مسمومة: مخلفات الولايات المتحدة في أفغانستان

يغتسل السكان الذين يعيشون بالقرب من مطار جلال أباد في النهر الذي يتدفق من فتحة في الجدار العالي المحيط بالقاعدة. تصوير: لينزي بيلينغ.

تركة مسمومة: مخلفات الولايات المتحدة في أفغانستان

الثلاثاء 09 كانون الثاني 2024

(ترجمة لنسخة مختصرة من تحقيق صحفي نشر في موقع Inside Climate News، في 25 أيلول 2023)

تغط الطيور بين الأغصان المنخفضة المتدلية فوق الجداول المتلألئة على طول المسافة من جلال آباد متجهة جنوبًا نحو منطقة آشين في مقاطعة نانجرهار في أفغانستان. ثم يتغير المشهد الطبيعي، حيث تفسح الحقول الخضراء المجال للأرض القاحلة.

تقع آشين في الأعلى بين مرتفعات من الجبال الصخرية التي تصطف على طول الحدود مع باكستان، وهي منطقة أمطرت بالقصف الأمريكي منذ بداية الحرب. يصطف العمال على طول الطريق، مغبرين ببودرة التلك البيضاء التي حملوها معهم من الجبال. تلسع ريح رملية وجناتهم الجافة المشققة وهم يحمّلون الشاحنات الثقيلة بالقرب منهم. لا يتحرك شيء آخر في المشهد الطبيعي المبيض في هذه النواحي من آشين. لم يفارق هذه التضاريس القاسية لسنوات بحسب السكان المحليين، شبحُ خطرٍ مخفيٍ قاتلٍ: التلوث الكيماوي. 

ألقى الجيش الأمريكي عام 2017، أقوى قنبلة تقليدية استخدمت في المعارك هنا حتى اليوم: قنبلة الانفجار الهوائي الهائل «جي بي يو-43/ بي» (GBU-43/B Massive Ordnance Air Blast) والتي عرفت بـ«أم جميع القنابل»، أو «مواب» (MOAB). 

أخلي الجنود الأفغان والقوات الأمريكية الخاصة من المنطقة، قبل الغارة الجوية، وتبعهم قدرة والي وغيره من سكان أسد خيل. سمح لهم بعد مرور ثمانية أشهر على الانفجار الهائل، بالعودة أخيرًا إلى منازلهم، وسرعان ما بدأ الكثير من السكان ملاحظة أمراض غريبة وطفح جلدي، كما يقول والي. 

«أصاب المرض كافة السكان المقيمين في قرية أسد خيل بعد إسقاط تلك القنبلة»، يقول والي، المزارع البالغ 27 عامًا، وهو يرفع عن ساق سرواله الشلوار ليريني الأورام الحمراء المنتشرة على بطن ساقه «إنها تنتشر في كافة أنحاء جسدي». اكتشف والي وجيرانه عند العودة إلى قريتهم بأن أرضهم لم تعد تنتج محاصيل كما كانت في السابق. لقد أتلفت الأرض، كما يقول، بفعل محيط انفجار القنبلة، والذي وصل إلى مستوطنة شدل بازار التي تبعد ميلًا ونصف عنهم. 

«كنا نجني 150 كيلوغرامًا من القمح من أرضنا في السابق، وأما الآن فلا نجني حتى النصف»، كما يقول. «عدنا لأن منازلنا وحياتنا هنا، إلا أن الأرض ليست آمنة. فالنباتات مريضة، وكذلك نحن».

إن مخلفات القنبلة التي تجتاح القرية هي مجرد مثال لتركة الحرب من السموم البيئية. ربّى الأفغان أطفالهم لمدة عقدين، وذهبوا إلى العمل، وأنجبوا الأطفال بالقرب من القواعد العسكرية الأمريكية الشاسعة وحفر المحارق، وتبقى التأثيرات بعيدة الأمد لهذا التعرّض غير واضحة، إذ يحتاج التعامل مع تبعات هذا التلوث أجيال.

دمر الاحتلال العسكري الأمريكي الذي دام 20 عامًا البيئة الأفغانية بطرق قد لا يمكن تحريها أو معالجتها بالكامل أبدًا. استخدمت القوات العسكرية الأمريكية وحلفاؤها وأغلبهم من دول الناتو، مرارًا وتكرارًا ذخائر حربية قد تترك آثارًا سامة. أدخلت هذه الأسلحة المحملة بمواد مسرطنة معروفة تشوهات على الأجنة وسموم جينية -مواد سامة يمكن أن تسبب عيوب خلقية في الأجنة وتدمر الدي إن أي (DNA)- في البيئة بدون التعرض للمحاسبة.

أبلغ السكان المحليون منذ أمد بأن القواعد العسكرية الأمريكية أفرغت كميات هائلة من مياه الصرف الصحي والمخلفات الكيماوية والمواد السامة من قواعدها على الأرض وفي مجاري المياه، ملوثة الأراضي الزراعية والمياه الجوفية لمجتمعات برمتها تقيم بالقرب منها. كما أحرقوا النفايات وغيرها من المخلفات في محارق مكشوفة للهواء -أخبر البعض أنها بحجم ثلاثة ملاعب لكرة القدم- غمرت قرى بسحب دخانية ضارة.

قدرات والي مع اثنين من أبنائه في منزلهم في أسد خيل في منطقة آشين من مقاطعة نانجرهار.

ألقى الجيش الأمريكي منذ أولى ضرباته الجوية ما بعد 11 سبتمبر والتي استهدفت طالبان والقاعدة في 2001، وعبر انسحابها الفوضوي من البلاد بعد عقدين من الزمن، ما يربو على 85 ألف قنبلة على أفغانستان. احتوت أغلب هذه القنابل متفجرًا يدعى آر دي إكس، الذي يمكنه التأثير على الجهاز العصبي، ويعتبر مسرطنًا بشريًا محتملًا من جانب وكالة حماية البيئة الأمريكية. 

إن عزو أمراض محددة إلى تلوث الهواء والماء والتربة صعب جدًا في الكثير من الأحيان، إلا أن القرويين الذي عاشوا بالقرب من قواعد أمريكية رئيسية -والأطباء الأفغان وموظفو الصحة العامة الذين عالجوهم- يقولون إن عدم رغبة البنتاغون بتوظيف حتى الحد الأدنى من الحماية البيئية قد أدى إلى أمراض خطيرة في الكلى والشرايين والأمعاء والجلد، وتشوهات جينية وأنواع متعددة من السرطانات.

كان الرئيس الأمريكي جو بايدن، غير واضح في خطابه في حالة الاتحاد عام 2022، حول مثل هذه الإصابات، إلا فيما يخص قدامى المحاربين الأمريكيين، فتحدث أن «الدخان السام المحمل بالسموم ينتشر في الهواء إلى رئتي قواتنا». ودعا الكونغرس إلى تمرير قانون «يضمن حصول قدامى المحاربين المنكوبين من جراء التعرض للسموم في العراق وأفغانستان على فوائد الرعاية الصحية الشاملة التي يستحقونها في نهاية المطاف».

مرر الكونغرس بعد عدة شهور، قانونًا عرف باسم قانون الاتفاق، مضيفا 23 سمًا ناجمًا عن حفر المحارق والظروف الصحية التي تتعلق بالتعرض للسموم والتي يمكن للمحاربين القدامى الاستفادة منها، ومن بينها التهاب القصبات ومرض الانسداد الرئوي المزمن وتسعة أنواع مؤهلة جديدة من السرطانات التنفسية، بكلفة تزيد على 270 مليار دولار على مدار العقد القادم. وقد مثل القانون أضخم توسع في فوائد قدامى المحاربين خلال عقود. ولكن لم يتفوه بايدن ولا حتى الكونغرس ببنت شفة، أو يعد بأي مساعدة للأفغان الذين عاشوا بالقرب من تلك القواعد العسكرية الأمريكية أو عملوا فيها وما زالوا يعانون حتى اليوم من ذات الأمراض والسرطانات.

نهر يمر عبر مدينة جلال آباد

وصل الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان إلى ذروته عام 2011، بحوالي 110 آلاف مستخدم -أسهمت قوات الناتو بإضافة تصل إلى 20 ألف- مولدة قرابة 900 ألف باوند من النفايات يوميًا، أحرقت بدون ضوابط للتلوث، بحسب ضابط التفتيش الخاص لإعادة بناء أفغانستان (سيغار)، وهي وكالة رصد ورقابة أمريكية. لم تطبق القوانين الأفغانية التي تحظر حفر المحارق على القوات الأمريكية والقوات الدولية الأخرى، وأصر الجيش الأمريكي، بناءً على الجنود والسكان، على استخدام حفر المحارق حتى انسحابه في آب 2021، رغم الجهود الساعية للحد من استخدامها والتي بدأت عام 2009، ومن حظر للمحارق عام 2018 «باستثناء الظروف التي تنعدم فيها أساليب تخلص بديلة ومجدية». 

زرت صيف 2022 مواقع ثلاث من أضخم القواعد الأمريكية السابقة في أفغانستان -في مقاطعات نانجرهار وقندهار وبروان- لتوثيق ما خلفته أمريكا على الأرض. ما زالت القواعد الأمريكية الهائلة تحمل نسقًا من المخلفات السامة تقبع صامتة في مواجهة المشهد الطبيعي المهيب. سافرت عبر البلاد على مدار ستة أشهر، وتحدثت إلى 26 ممارسًا طبيًا و52 مقيمًا أفغانيًا يعيشون بالقرب من هذه القواعد، حول مشاكلهم الصحية التي يعتقدون أنها ناجمة مباشرة عن مخلفات القواعد الأمريكية. 

أخبرني المزارعون بأنهم شاهدوا المتعهدين العسكريين الأمريكيين يلقون بالصرف الصحي والنفايات في حقولهم. ووصف السكان كيف أنهم استحموا لسنوات في جداول سدت بمياه الصرف الصحي التي جرت من داخل أسوار القاعدة واستنشقوا سحب الملوثات السامة المتصاعدة من محارق الهواء الطلق. لقد شاهدت أطفالا يعتاشون من كنس الخردة من القواعد العسكرية ويعانون الآن من التهابات في العيون وأمراض جلدية مستعصية، بحسب الأطباء المعالجين. كما أخبرني أطباء محترفون بسنوات من الخبرة في معالجة أولئك المصابين، بما فيهم الأطباء العسكريون العاملون في القواعد الأمريكية والذين اعتنوا بالجنود الأفغان والأمريكيين، بالاستحالة القطعية لأن لا يكون حفر المحارق والنفايات قد ترك أثرًا على صحة كل من يعيش في محيط القاعدة، وما يزال الأثر قائمًا.

يخبئ والي في آشين في ننغارهار طفحه الجلدي وينحني فوق المنضدة في دكان صغير يبيع فيه الوجبات السريعة والمشروبات فوق جسر بالقرب من قرية موماند دارا، بينما يبقبق جدول بهدوء في الأسفل، «أعرف أن مرضي الجلدي ناجم عن القنبلة لأن مثل هذه الأمراض لم توجد من قبل» يقول محتدًا.

ينظر خارجًا نحو وادي موهماند الصامت أمامه. تموج الحقول مثقلة بالشجيرات والأشجار في أرضية الوادي. وعندما يضيق الوادي تلتحم التلال على الجانبين بالجبال، بينما تحدد سبين غار أو الجبال البيضاء الرائعة من بعيد الحدود بين أفغانستان وباكستان. يقع على مقربة مجمع كهوف تورا بورا، وقد بنيت للمجاهدين بمساعدة السي أي إيه، بعد الغزو السوفييتي لأفغانستان عام 1979، وأصبحت معقلًا للقاعدة في أواخر التسعينيات. كما أنها كانت موقعًا لمحاولة الحكومة الفاشلة في القبض على أسامة بن لادن أو قتله في بداية الحرب الأمريكية على أفغانستان. 

أسقطت قنبلة مواب على بعد حوالي 550 ياردة من منزل والي الذي يبعد سبع دقائق مشيًا عن دكانه، هكذا يقول وهو يتقافز من حجر إلى حجر عبر غدير ضيق وهو يقود الطريق أمامنا.

تعادل قوة مواب التدميرية التي تحتوي 19 ألف باوند من مركب H6، وهو خليط قوي من متفجرات تي إن تي، و الآر دي إكس، والألمنيوم، والنيتروسيليولوز، تعادل أصغر أجهزة فترة الحرب الباردة النووية التكتيكية في الترسانة الحربية الأمريكية. وقد دفعت من مؤخرة طائرة شحن MC-130، وألقيت على مجمع كهوف يستخدمه مسلحو تنظيم الدولة الإسلامية، كما روى القائد الأمريكي الأعلى في أفغانستان حينذاك. ودعى الرئيس دونالد ترامب، الذي وعد خلال حملته الانتخابية عام 2016 بأن يلاحق تنظيم الدولة الإسلامية و«يقصفهم قصفًا عنيفًا بالقنابل» هذه الضربة على أنها «مهمة أخرى ناجحة جدًا جدًا». وقد ادعى موظفو وزارة الدفاع الأفغان بمقتل 36 مسلحًا من تنظيم الدولة الإسلامية في الهجوم.

يظهر سكان قرية أسد خيل من مقاطعة آشين، حيث ألقيت قنبلة مواب عام 2017، الطفح الجلدي المتواصل والذي يعتقدون أنه ناجم عن القنبلة. 

كان يصعب رؤية آثار دمار القنبلة عندما عاد والي إلى منزله بعد عدة شهور، حيث لم يظهر انخساف واضح وهائل في الأرض؛ فقط بعض الحجارة المحطمة وبعض الأشجار المحروقة هي التي حددت موقع سقوط القنبلة. إلا أن منزله ما زال قائمًا، رغم أن الكثير من المنازل في أسد خيل لم تسلم، ويسكن الأنقاض الآن الماعز الشاردة. يعيش في القرية عشرة عائلات في منازل أعيد بناؤها، كما يقول والي. ويعاني جيرانه من ذات الطفح الجلدي الأحمر والحكة. «الجميع ما عدا اثنين أو ثلاثة في كل منزل يعانون من ذات الطفح الجلدي» كما يقول، والجميع يعتقد أن مرضهم الجلدي ناجم عن القنبلة».

تعاني والدته جانا (60 عامًا)؛ وزوجته نفيسة (20 عامًا)؛ وابنه مير حاتم (ثلاثة أعوام)، وقاسم (عامين) من ذات الحالة الجلدية. «مهما كان الدواء الذي يعطيه لنا الأطباء، فهو لا يحسن من الحالة» كما يقول والي. لم تكن هذه القنبلة الأولى التي تضرب هذه المنطقة، كما يقول، «إلا أن هذه كانت مختلفة».

يقع مطار جلال آباد الجوي إلى الجنوب الشرقي من المدينة. وكان معقلًا للجنود الأفغان والأمريكيين على مدار 20 عامًا. تحيط الأراضي الزراعية بأسواره الشرقية والجنوبية، وكذلك دكاكين الميكانيك والخردوات المكتظة بكل شيء، بدءًا من أقنعة الغاز إلى أدوات مطبوع عليها العلم الأمريكي، والمعدات الطبية، والتريد ميل، وبوستر في إطار لفيلم «المصفي». يوجد في أسفل الشارع مستودعات بداخلها سيارات همفي محطمة تنتظر تفكيكها إلى قطع للبيع. يقع إلى الشمال طريق جلال آباد توركهام السريع المؤدي إلى الحدود الباكستانية. تتدفق مياه الجداول التي تخرج من القاعدة العسكرية وتحت الطريق السريع عبر مجموعة من القرى التي يستخدم أهلها المياه للشرب والاستحمام.

«كانت المياه نقية جدا قبل قدوم الأمريكيين» يقول محمد أجمال، البالغ من العمر 36 عامًا، وهو يشير إلى جدول رمادي حليبي يتدفق من ثقب في السور العالي المحيط بالقاعدة. ملقيًا بظل عريض على المياه العكرة، يضيف قائلًا، «يعاني بعض سكان المنطقة من مشاكل في الكلى، بينما يعاني آخرون من من مشاكل تنفسية وجلدية. لست متأكدًا من كون هذه الأمراض ناجمة عن كيماويات الصواريخ في القاعدة أو عن المخلفات الملوثة التي يلقون بها في الجداول، كل شيء مسمم» كما يقول.

ربّى الأفغان أطفالهم لمدة عقدين، وذهبوا إلى العمل، وأنجبوا الأطفال بالقرب من القواعد العسكرية الأمريكية الشاسعة وحفر المحارق، وتبقى التأثيرات بعيدة الأمد لهذا التعرّض غير واضحة، إذ يحتاج التعامل مع تبعات هذا التلوث أجيال.

يقول الدكتور محمد نسيم شنواري، الذي عمل خلال 17 عامًا مضت من عيادته الصغيرة بالقرب من القاعدة، أن التلوث القادم من القاعدة هو المسؤول عن المشاكل الصحية الأكثر شيوعًا التي ترده. لا يفصل بين عيادته وبين حفر المحارق سوى حقل صغير ناشف كان يشتعل مرة أسبوعيًا على الأقل. يقول، «تخيل الآن أنك تستنشق هذا طوال حياتك».

قدم السكان شكاوى بأن المتعهدين الذين عملوا من القاعدة كانوا يفرغون صهاريج النفايات أمام منازلهم وفي حقولهم، كما أخبرني الموظف السابق في وزارة الحدود وشؤون القبائل، سعدالله كاكار قبل أسابيع. يقول شينواري إنه حتى إخلاء الأمريكيين للقاعدة، كان المتعهدون يلقون بالفضلات «سرًا» في بعض الأماكن. «وفي أوقات أخرى، كانوا يلقون بها في الحقول هنا فحسب بجانب القاعدة. ولا يستطيع أحد إيقافهم».

وصف الطبيب كيف أنه في منطقة بيته في شينوار وجارتها آشين، لم ينمو إلا عدد قليل من النباتات في الأرض خلال السنوات الخمس التي تلت إسقاط قنبلة مواب. «اعتقد الناس بأن الأمريكيين قد رشوا كيماويات في الهواء أو أضافوا شيئا إلى مصادر المياه» كما يقول، «إلا أنها كانت قنبلة مواب».

أما بالنسبة لأجمال، فإن ممر المياه الملوث المتدفق من القاعدة ما هو إلا تذكار مستمر لأطول حروب أمريكا. «الآبار في بيوتنا ملوثة أيضًا» كما يقول مقطبا حاجبيه، «يحضرون كل أسبوع صهاريج المجاري من القاعدة ويفرغونها في الجدول والأراضي المحيطة. تصبح المياه داكنة جدًا ورائحتها قاتلة. يعاني الكثيرون هنا من مشاكل في الكلى، وإذا ما نظرت إلى الأشجار التي تنمو في النهر، تجدها تالفة أيضًا» يقول مشيرًا إلى صف من الأشجار على طول ضفة النهر، وهي نصف مغمورة في المياه العكرة.

تعتبر المياه الجوفية المصدر الرئيس لمياه الشرب في أفغانستان. وقد حدد تقرير نشر في المجلة العلمية الرصد والتقييم البيئي (Environmental Monitoring and Assessment) عام 2017، نوعية المياه لنصف البلاد، حيث وجد نسبة من المواد السمية بما فيها البورون، ومستويات عليا من الزرنيخ والفلوريد في عدد من المناطق. رغم أن بعض هذه المواد قد تحدث طبيعيًا، إلا أنها ترتبط أيضًا بالاستخدام الصناعي. وجدت دراسات أخرى حول نوعية المياه أديرت في مواقع مختارة من أفغانستان النيكل والزئبق والكروم واليورانيوم والرصاص، وهي معادن ثقيلة يمكن أن تسبب ضررًا خطيرًا على الجسم، بدءًا من تعطيل تطور الصحة العقلية والجسدية للأطفال وصولًا إلى تدمير الكلى. ثم هناك أيضا الصواريخ والقذائف، كما يقول أجمال، وهو يشير إلى جدران إسمنتية مدعمة بقوة لمطار جلال آباد وهي تلوح بالأفق فوق المنازل المنخفضة.

«يمكنك أن تشم الكيماويات. ونحن نستنشقها»، ويمسح طرف أنفه من الذكرى. لقد استخدم الجيش الأمريكي في أفغانستان نظام قذائفه المدفعية عالية الحركة، المعروفة باسم هيمارس، ونظام صواريخ الجيش التكتيكية، أو أتاكمس، وكلاهما أسلحة موجهة سطح-سطح.

تحتوي مجموعة واسعة من الصواريخ والقذائف على وقود بمكونات كارثية، بما فيها البيركلورات وهو المكون الرئيس لوقود الصواريخ والقذائف، والذي يؤثر على وظائف الغدة الدرقية وقد يسبب السرطان، ويقبع في البيئة إلى أجل غير مسمى. وقد اتهم الجيش الأمريكي باستخدام ذخائر اليورانيوم المنضب محتملة السمية في أفغانستان، كما جرى في العراق، رغم إنكاره لهذه الاتهامات.

أخطأت إحدى الأسلحة وضربت منزل أقارب يقيمون بالقرب من منزله، كما يقول أجمال، مدمرة بذلك كلا البيتين. كانت زوجته حاملًا بابنه، محمد طه حينذاك. والصبي قد بلغ العاشرة الآن، إلا أنه مريض منذ الولادة، ويعاني من طفح على جلدة رأسه يترك بقعًا صلعاء وحكة.

يعيش أجمال وإخوته الثلاث وعائلاتهم على بعد 160 يارد من المطار، في منطقة تسمى غالا جولجان. يعاني تسعة أفراد من عائلة أجمال الموسعة من مشاكل صحية خطيرة. حيث يعاني اثنين من أبنائه من مشاكل خلقية بالقلب، وتبين التقارير بوجود ثقب في القلب عند أحدهم. بينما تعاني ابنته سوما وعمرها 15 عامًا، من طفح جلدي مزمن ينتشر في ظهرها وصدرها وفخذيها.

هنالك على مسافة دقائق بالسيارة من منزل أجمال طريق واسع قذر يسير بمحاذاة طريق جلال آباد-طورخم السريع، بينما تقع الحقول المفتوحة على الجانب الآخر. وقد التقيت هنا بخان محمد وهو يسلك الطريق بحذر عبر حقل بمناظر طبيعية في المنطقة التاسعة من جلال آباد، وعلى مسافة 100 ياردة من القاعدة العسكرية. يتوقف محمد في ظل شجرة لوز صغيرة ويجلس وهو يطوي ساقية تحته. لقد كان يعمل في هذه الحقول مدة 20 عامًا ويتذكر كيف كانت صهاريج المتعهدين تنقل نوعين من الفضلات من القاعدة وتلقي بها حيث كان يزرع المحاصيل.«كان أحدها أخضر مزرق ويدمر المحاصيل، في حين كان الآخر مادة حليبية بيضاء-رمادية، برائحة كريهة مثل الأسيد». ويخبرني أنهم كانوا يلقون أحيانًا بمزيج من الاثنين.

خان محمد في حقله بالقرب من مطار جلال آباد مع ابنيه عمر إلى اليسار وأمين إلى اليمين، وكلاهما يعاني من مشاكل في الكلى.

كان السائل الأزرق الذي رآه محمد صبغة تستخدم في المراحيض المحمولة في القاعدة. يمكن أن تكون الكيماويات المستخدمة في هذه المراحيض سامة لصحة الإنسان بجرعات كبيرة. بحسب مقال لماثيو ناسوتي، وهو كابتن سابق في سلاح الجو الأمريكي ومرشد حول المنظفات البيئية، فإن الحمامات في القواعد الأمريكية تولد كل من المياه الرمادية والسوداء. حيث جاءت المياه الرمادية من المغاسل ومرشات الدوش، حاملة بقايا الصابون التي تحتوي على الفوسفات وغيرها من الكيماويات. بينما جاءت المياه السوداء الملوثة من المراحيض. في حين كان على الجيش الأمريكي الالتزام بقوانين صارمة فيما يتعلق بالتخلص من فضلات المراحيض على أرضه، إلا أنه بحسب قوله لم يواجه أي قيود في أفغانستان.

عندما واجه محمد وغيره من القرويين المتعهدون الذين يقودون الصهاريج، أخبروهم أن مياه المجاري سوف «تفيد المحاصيل وسوف تنتج حصادًا جيدًا، وذكروهم بأن المجاري أرخص من شراء السماد الكيماوي وهي جيدة كمياه للشرب أيضًا» بناءً على قوله.

وجد تقرير لنادي ومركز البيئة سييرا (Sierra Club and Ecology Center) عام 2021، بأن حتى رواسب مياه المجاري الموجودة في الأسمدة الأمريكية يمكن أن تحتوي على مجموعة ضارة من الكيماويات، بما فيها الديوكسينات والميكروبلاستيك والفيوران وثنائي الفينيل متعدد الكلور والهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات ومستويات مريعة من مواد بفاس PFAS السامة -والتي تعرف أيضا بـ«المواد الكيميائية الأبدية»- والتي تحتاج إلى عقود وحتى قرون لتتحلل طبيعيًا.

ربطت الدراسات التعرض لمستويات عليا من بفاس (PFAS) بمجموعة من المشاكل الصحية، بما فيها تلف الكبد وأمراض القلب والشرايين وزيادة خطر الإصابة بسرطان الكلى وزيادة خطر أمراض الغدة الدرقية واختلال الجهاز المناعي. وقد أرست دراسة فيدرالية نشرت في تموز، للمرة الأولى ارتباطًا مباشرًا بين بفاس (PFAS) وبين سرطان الخصية لدى الآلاف ممن خدموا في الجيش الأمريكي. أما النساء الحوامل اللواتي تعرضن إلى بفاس (PFAS) فقد ازدادت لديهن أخطار الإصابة بارتفاع ضغط الدم والسكري. كما أن الأجنة في الرحم والرضع أيضًا يصابون بالضعف والوهن، حيث وجدت الدراسات أن بفاس (PFAS) قد تؤثر على وظيفة المشيمة وتتواجد في حليب الرضاعة. كما أن التعرض إلى بفاس (PFAS) قد ارتبط أيضًا بنقص أوزان الرضع وخلل في النمو بين الأطفال وازدياد خطر الإصابة بالأمراض مستقبلًا. وحتى لو أن مياه المجاري تمر من خلال تكرير معالج، إلا أن الأبحاث قد بينت أن بفاس (PFAS) وغيرها من الكيماويات السامة لا يمكن إزالتها. 

يفسر محمد وهو في منزله على طرف الحقل الذي يزرعه بأن ابنيه الأصغيرين يعانيان من أمراض خطيرة في الكلى. «لكننا لا نعرف شيئًا عن السبب المحدد للمرض، سواء أكان التلوث أم شيئًا آخر»، كما يقول، لكنه يشك بأمر مكبات الصرف الصحي. 

يخرج ابنه الأكبر فاروق من المنزل، والذي يعاني من مشاكل في المثانة، وهو يحمل رزمة من الأوراق والملفات تستريح بين ذراعيه النحيلتين. يفتش محمد في جبال من الوثائق؛ هناك 44 تقريرًا طبيًا لابنه عمر البالغ سبعة أعوام ويجثم عند قدميه.

يقول محمد إن عمر قد عانى من مشاكل في الكلى وهو في عامه الأول. أراجع التقارير: شخّص الأطباء في أفغانستان وباكستان حالته بالانصباب الجنبي (سوائل حول الرئتين)، استسقاء البطن (تراكم السوائل في البطن)، وأمراض الكبد والكلى المزمنين. أما شقيقه أمين البالغ خمسة أعوام، فهو يعاني من تلف الكلى، كما تظهر فحوصات الدم أنه يعاني من فقر الدم. يساعد الولدين والدهما في العمل في الأرض يوميًا إلى جانب والدة محمد، بيبي هارو (60 عامًا) والتي تريني بدورها حالتها الجلدية التي تعاني منها منذ ثماني سنوات. كانت حمراء وتنز قيحًا في البداية، ولكنها استقرت الآن في حكة دائمة.

راجع عمر الطبيب لمدة أربع سنوات، كما تقول جدته، «ما يزال يعاني من الألم الآن، إنه يعاني يوميًا». يرنو محمد إلى عمر وهو يستكين تحت ذراعه. «يخرج الدم عندما يسعل»، ويقول «الشيء الوحيد الذي أملكه هو جرار وقد بعته من أجل علاجه. ولكن يقول أن الأطباء في بيشاور الآن يحتاجون إلى خمسة ملايين روبية باكستانية (حوالي 16 ألف دولار) لاستبدال كليتيه، ولكني لا أملك هذا القدر من المال».

تخبرني بيبي هارو، ودموع الغضب تنهمر على وجهها، كيف بات شقيقها أصمًا نتيجة تحطم مسيرة درون أمريكية في الحقل بقرب منزله. «كانوا يطيرون على ارتفاع منخفض كل ليلة لإخافتنا ونحن نائمون»، كما تقول، «قصفوا نانجرهار لسنوات، وغطى دخانهم سماءنا، لقد لوثوا كل جزء من أفغانستان».

يفتقر الأطباء في أفغانستان للمصادر والمعدات لاستنتاج الأسباب الأولية للعديد من الأمراض التي يشاهدونها يوميُا. ويضيف نظام تناظري لحفظ السجلات إلى حد كبير المزيد من الأسى، حيث لا يحتوي النظام غالبُا على تفاصيل أساسية، مثل منطقة السكن والعمر. يخبرني طبيب أورام أفغاني عمل في نانجرهار لأكثر من 20 عامًا بأنه وغيره من الأطباء في المقاطعة يشاهدون العديد من حالات السرطان، أغلبها في الرئتين والبنكرياس، ويليها سرطان الثدي. ويقول إن معظم المرضى يذهبون إلى باكستان والهند للعلاج، لأنه لا يتوفر في أفغانستان علاج كيماوي والأدوية الأخرى لا تتوفر مباشرة. أغلب المرضى هم في المرحلة الثالثة أو الرابعة من السرطان، «لأنهم لا يحصلون على كشف دوري، لذلك لا نكتشف السرطان في وقت مبكر. لقد عالجت العديد من الجنود الذين يعانون من سرطان الرئة»، كما يقول. «هذه هي أفغانستان، فإذا مات الناس من السرطان، من سيسجل ذلك؟ لا أحد يعد الموتى. هذه هي المرة الأولى التي يأتي فيها أحد ويطرح مثل هذه الأسئلة».

يدعي الأطباء في قندهار أن المواد السامة من حفر المحارق قد أضرت بنمو الأجنة. في عيادة صغيرة في خشوب، وهي على بعد 100 يارد من مطار قندهار، تنشط الدكتورة سهيلة محمدي، 40 عامًا، عبر جمهرة من الأمهات والأطفال في غرفة الانتظار الصغيرة التابعة للعيادة. تخبرني حول التشوهات القلبية والاضطرابات الجينية وغيرها من العيوب الخلقية لدى الرضع الذين عاشت أمهاتهم بالقرب من القاعدة، وتقول إن مثل هذه الأمور لم توجد بمثل هذه الأعداد قبل 20 عامًا. «أعتقد أن أغلبها ناجم عن الحرب، وعندما كانت أمهاتهم حوامل»، كما تقول.

بات عدد العيوب الخلقية في كل ألف شخص في أفغانستان يزيد بأكثر من الضعف عن ذاك في الولايات المتحدة، بحسب بحث نشر عام 2017 من جانب رويال تروبيكال إنستيتيوت (Royal Tropical Institute) في هولندا. وتلحظ الورقة البحثية أن ازدياد تعرض الحوامل لكيماويات معينة قد يؤثر على نمو وتطور الأجنة ويسهم في تشوهات خلقية. وقد سجل احتمال ازدياد التشوهات الخلقية لدى النساء الأفغانيات العاملات في قطاعات الزراعة والمقيمات بالقرب من مواقع مكبات النفايات الكارثية.

بينما كانت تعمل دكتورة السموم البيئية، موزغان سافابياسفاهاني، في جامعة ميشغان، نشرت عددا من الدراسات عن العراق، حيث تمت دراسة العيوب الخلقية هناك بشكل أفضل من أفغانستان. وقد وجدت أن الرضع والأطفال تعرضوا لمعادن على قدر من السمية، مثل التنجستن والتيتانيوم والرصاص والزئبق والكادميوم والكروميوم والثوريوم واليورانيوم، التي استخدمت بشكل مكثف في الأسلحة والمعدات العسكرية. تقول «إن أكثر التشوهات والعيوب شيوعًا هي العيوب القلبية وعيوب الأنبوبة العصبية».

يخبرني عبد الوالي عبيد وهو مدير عيادة خوشاب لأكثر من عقد من الزمن، بأنه في الأسابيع التي سبقت مغادرة الأمريكيين للقاعدة، شاهدت هيئة العاملين دخانًا يتصاعد من حفر المحارق كل أسبوع. وقال مهندس يعمل داخل مطار قندهار خلال السنوات الثمانية الماضية إن الجيش الأمريكي أحرق قبيل مغادرته للقاعدة، الكثير من الأشياء «بما فيها السيارات». وكان هناك نهر في الجانب الخلفي من القاعدة يخرج من الجدار، «حيث كانوا يلقون بالمجاري حتى اللحظات الأخيرة».

بينما كان الأمريكيون في كابول يحزمون أمتعتهم في نهاية آب 2021، التقط عامل أفغاني في السفارة الأمريكية فيديو لأحد حفر المحارق التي استخدمها موظفو السفارة في قلب كابول. «قيل لنا أن نخرج كل شيء خارج المكاتب، ونذهب إلى تلك المنطقة المحددة ونلقي بها هناك حيث يتم إشعالها، وكان على قمة كومة الحريق صورة لجون سوبكو»، المفتش الأمريكي العام لإعادة إعمار أفغانستان.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية