«نشفت قدام عيوننا»: ما الذي عناه جفاف واحات الأزرق لأهلها؟

الفيضانات الأخيرة تملأ بعض البرك القديمة في السهول الطينية في الأزرق. تصوير ميليسا باوسن.

«نشفت قدام عيوننا»: ما الذي عناه جفاف واحات الأزرق لأهلها؟

الإثنين 31 تموز 2023

نشر هذا التقرير بالإنجليزية في مجلة لاكونا، وتنشر الترجمة بإذن من المجلّة.

(Find Lacuna Magazine’s original English-language version of this article here)

يقع بيت خديجة شيشاني قرب واحة خضراء في محميّة بجانب بلدة الأزرق، شرقيّ المملكة. وهي واحة آمنة وهادئة، بل شديدة الهدوء.

تقول شيشاني إنه وقبل تسعينيات القرن الماضي، كانت السماء تعج بالطيور خلال موسم الهجرة، وتسمع أصواتها في كلّ مكان. «كل الأزرق: وا، وا، وا» تقول شيشاني مقلّدة نداءات الطيور، «جميل جدًا كان الصوت، لحد هلأ في ذاكرتي». خلال الثلاثين عامًا الفائتة، خلَت السماء وباتت هادئة، فقد اختفت معظم الطيور بعدما اختفت المياه، كما تفسر شيشاني.

كانت واحات الأزرق تتشكل أساسًا من بركتين كبيرتين، وعدد من البرك الموسمية، وعلى لونها الأزرق سمّيت البلدة بهذا الاسم. وقد امتدت هذه الواحات يومًا، من قلعة الأزرق إلى محمية الأراضي الرطبة الحالية، وهي منطقة بمساحة ستة كيلومترات تقريبًا، وموطن لعدد لا يحصى من الطيور والأسماك والبرمائيات وجواميس الماء.

اعتاد الأهالي السباحة والصيد وغسل الملابس في المياه النقية. وكانت البرك تتغذى بعددٍ من الينابيع الطبيعية، وعندما كانت السيول تأتي مرّة في العام على الأقل، كانت المسطحات المائية تتوسع وتظهر برك جديدة وجداول. يقول أولئك الذين ما زالوا يذكرون الواحات، إنها كانت مثل جنة على الأرض، إلا أن معظم البلدة قد تحولت الآن إلى أرض قاحلة.

تشققات في أراضي محمية الشومري للأحياء البرية في منطقة الأزرق. تصوير ميليسا باوسن.

عندما اختفت المياه اختفى الناس

ينتمي غالبية سكان الأزرق إلى ثلاث جماعات متميزة. فهناك البدو، والشيشان الذين سكنوا الأردن مع نهايات الحكم العثماني مطلع القرن العشرين، والدروز. 

يفسر كرم طربيه، بينما هو جالس تحت الكرمة في حديقة عمه، ارتباط أسلافه بالأزرق. «كانوا يمشوا بأيام الشتا من جبل الدروز، بيجوا على المنطقة هاي لأنها دافية شوي، أدفا من الجبل (..) كان [هذا] بالألف وثمانمية. فلما صار في حدود، [بعد] سايكس بيكو، الناس اللي كانت موجودة هون صاروا أردنيين. لو فش ميّة ما أجوا هون. وجود الميّة إشي مهم جدًا».

محمية الأراضي الرطبة في الأزرق. تصوير ميليسا باوسن.

ولد طربيه البالغ من العمر 40 عامًا، خلال الفصل الأخير من عمر الواحات. «متذكر نهايتها»، كما يقول، «هي صارت تجف، [كنا] شايفين بعنينا، بدأت تجف من قبل ما أنولد». وإن البرك كانت تنقص شيئًا فشيئًا، وبدأت الأسماك تتجمع فيما تبقى من البرك الأكثر عمقًا، حيث تجري المياه النقية. «صارت الأسماك تروح لمنطقة [المياه] العذبة، اللي فيها النبع وصارو أهلنا يروّحوا صيد السمك لأنه كميات كبيرة (..) وآخر كمية ياخذوها ويسوّقوها».

بينما استفادت عائلته مؤقتًا من آخر وفرة الأسماك، إلّا أن رزقهم كما يقول طربيه، قد تأثر على المستوى البعيد من خسارة المسطحات المائية، فبعدم وجود أسماك لبيعها، لم يعد لدى جده سوى المزرعة للاعتماد عليها. ذلك أن المياه السطحية للواحات والجداول قد اختفت، بينما كانت المياه الجوفية في تراجع سريع، ما استدعى حفر البئر الذي يملكه إلى أعماق أكبر من أجل ري المحاصيل. 

كان البئر بعمق أربعة أمتار، يقول طربيه و«حاليًا فوق الـ80 متر».

اليوم، لم تتبقّ إلّا 10% من المسطحات المائية الأصلية، وتتمركز في محمية أراضي الأزرق الرطبة، وهي مسيجة وتدار من قبل الجمعية الملكية لحماية الطبيعة. وتُروى الأراضي الرطبة من مياه الشرب العذبة التي تضخ من جانب سلطة المياه الأردنية، منذ أن توقف آخر نبع طبيعي عن الجريان عام 1992. رغم كل هذا، ما يزال الموقع محطة توقف رئيسة للطيور المهاجرة في طريقها إلى أوروبا وآسيا وأفريقيا، إلا أن أعدادها قد تراجعت في الأربعين سنة الأخيرة.

أحد أسباب تراجع المياه في الأزرق وعبر الأردن، الذي يعتبر أحد أكثر البلدان فقرًا في المياه في العالم، هو الضخ الجائر للمياه الجوفية (المياه العذبة المتواجدة في الطبقات تحت الأرض) منذ ثمانينيات القرن الماضي. ومع تزايد عدد سكان الأردن، من ثلاثة ملايين في الثمانينات إلى ما يزيد عن 11 مليونًا اليوم، تزاديت الحاجة الملحّة للمياه، للصناعة والزراعة والاستعمالات المنزلية. 

تقول شيشاني إن جميع أقربائها قد رحلوا بعد أن جفت المسطحات المائية، مضيفة أن الحياة كانت جميلة، لكن ومع الجفاف اضطرّ الكثير من أقربائها لترك المكان والانتشار في محافظات الأردن المختلفة. وإنها واثقة، أنه لو بقيت المياه لبقوا هم كذلك. «[الحياة] هون كانت أفضل بكثير. نتمنى إنه في يوم من الأيام ترجع الميّة».

ولدت شيشاني في الأزرق في أواخر خمسينيات القرن الماضي، من أبوين ارتحلا إلى الأردن من روسيا. وقد كانت الواحات نقطة التقاء لجماعتهم في الثلاثين عامًا الأولى من عمرها. «أول كان الموقع بيجمعنا، وبنحس بدفا في بعض»، وتضيف «الناس كانت تتشارك وتعطي لبعض، مثلًا أنا بكون عندي جبنة جاموس، أنا بعطيكِ جبنة وإنتِ تعطيني الخبز اللي عملتيه. وناكل مع بعض. اللمة كانت حلوة».

«كثير سبحنا فيها، عشنا فيها أصلًا،» كما تقول، وتستذكر ضاحكة المشاكل التي كانت تنجم إذا حاول أحد الرجال التلصص عليهن أو الصيد هناك: «والسمك الكبير أصلًا كان في ميّة الستات، وممنوع رجل يجي على المي تبعنا». أحيانًا كان يأتي الشبان إلى البركة مجربين حظهم، كما تقول شيشاني، ولكن النساء كن يصرخن ويبعدنهم، وثم يخبرن أشقاءهن الذين يذهبون بدورهم إلى عائلات الشبان: «ابنكم راح واتطلّع على بناتنا وهم بيسبحوا»!

بركة غارقة في السهول الطينية في الأزرق. وخلفها مشروع إعادة التغذية النموذجي الذي تشرف عليه وزارة المياه. تصوير ميليسا باوسن.

كانت جواميس المياه التي أحضرها الشيشان معهم عند قدومهم إلى الأردن قبل مائة عام، مركزية لتقاليد مجتمعهم في الأزرق. «في الأعراس، كنا نربط الجاموسة من قرونها وناخذ هدية للعريس»، تستذكر شيشاني. و«بيعرفوا أسماءهم»، كما تضيف بحبّ عن الجواميس. بقي عدد محدود من الجواميس، ولكنها لا تستطيع الحياة في المناخ الجاف الذي حل بمعظم الأزرق. ولهذا تعيش الآن في المحمية الرطبة، حيث تدعم النظام البيئي وتمنع النباتات من الإفراط في النمو. تقول شيشاني إنها تفتقدها، وكثيرا ما تذهب لزيارتها. 

لقد أثرت خسارة الواحات على حسها بالتماسك المجتمعي بشكل كبير، فتقول، «هسا صار تباعد بين الناس».

ولد جاد اليونس في الأزرق عام 1960. يقول اليونس والذي ينتمي إلى المجتمع الدرزي، إنه أيضًا تعلّم السباحة في البرك، وقضى طفولته في الواحات. «كنت أنزل إلى الواحات قبل بدء العام الدراسي وأراقب الحياة البرية هناك … كانت جنة بالنسبة لي» ويستذكر قائلًا، «يروي لي البعض أنهم كانوا يمسكون بي عاريًا هناك ويعيدونني إلى أمي».* 

«لو أستطيع أن أريك ما يوجد في مخيلتي، فلن تصدقي كم كانت المياه نقية ونظيفة» يقول اليونس، «كانت الجداول تجري جميلة مثل المرايا». عاش اليونس في الأزرق حتى أواخر سبعينيات القرن الماضي، وبعدها غادر إلى المملكة المتحدة، وقد عاد زائرًا عدة مرات خلال الـ24 سنة التالية. يقول إنه وجد عندما جاء في بدايات 2010 المشهد وقد تغير كلية. «لم أصدق عيناي، كانت صدمة بالنسبة لي، بعد أن شهدت كيف كانت في السابق وكيف أصبحت الآن، إنها كارثة بمعنى الكلمة. كنت غاضبا مما فعلوه. أمر مريع».

محمية الأراضي الرطبة في الأزرق. تصوير ميليسا باوسن.

عانت الأزرق عبر ثلاثة عقود من الاستخراج المكثف لمياهها الجوفية، وحوضها المائي هو واحد من 12 حوضًا للمياه الجوفية يَعتمد عليها الأردن بشكل متزايد لتلبية احتياجاته من المياه. 

يتم حاليًا ضخ المياه الجوفية إلى عمان والمدن المحيطة بما يزيد عن ضعفي السحب الآمن، مما يعني أن المياه يتم سحبها بسرعة تفوق تجددها، وسوف تجف تدريجيًا إذا ما استمر الضخ على نفس المنوال.

تقدر وزارة المياه والري الأردنية في استراتيجية المياه الوطنية (2023-2040) بأن الاستخراج الفعلي للمياه الجوفية يرتفع بأكثر من 40% نظرًا لحفر الآبار بشكل غير قانوني. كما تلحظ الوزارة أن ما يربو على نصف مصادر المياه تهدر «بالتسرب المائي والاستخدام غير المشروع» في أنحاء البلاد.

يرسم هذا صورة رهيبة بوجود بعض الدراسات التي تتنبأ بأن 90% من أصحاب المداخيل المنخفضة في الأردن سيعانون من انعدام الأمن المائي بشكل خطير بحلول نهاية القرن. 

هل يمكن استعادة الواحات؟ 

تعلم داوود اسعيد كما اليونس وشيشاني السباحة في واحات الأزرق. يقول إن هذه الطفولة ألهمته للشروع في مهنته كأخصائي هيدروجيولوجيا. وهو يعمل حاليًا كمستشار بيئي، وعمل من قبل في عدد كبير من المشاريع الحكومية والأهلية التابعة للمنظمات غير الحكومية كباحث ومراقب للوضع المائي في الأزرق.

باعتقاده، فإن بالإمكان إحياء الواحات بكليتها، ولكن ليحصل هذا يجب إحداث تغييرات، ليس في الأزرق فحسب بل في الأردن ككل وعالميًا. يقول اسعيد إنه يعتقد أن سياسات الحكومة المائية قصيرة الأجل، وتتأثر بالسياسة أكثر من تأثرها بالعلم. «هناك ما يكفي من المياه ولكن ليس هناك ما يكفي من الإدارة»، ويقول اسعيد مضيفًا إنه قلق بشأن حقل آبار يحفر في شمال الأزرق، مما سيعني «ضررًا جديًا» يلحق بالمنطقة.

صور من الستينيات والسبعينيات معلقة في محمية الأزرق. تصوير ميليسا باوسن.

«سيستخرجون المياه من أخفض نقطة في المياه الجوفية»، يقول مفسرًا بأن هذا يعني بأن المياه المالحة ستبدأ بالتسرب إلى طبقات المياه العذبة، وقد تُلوّث مصدر المياه. ويضيف قائلًا، «أتحدث عن الأمر باستمرار، ولكن ما من أحد يستمع». 

لكن رغم هذا، لا زالت هناك، برأي اسعيد، أسباب لكي يكون عنده أمل، حيث يقول، «بدلًا من القيام بذلك، اقتراحي على وزارة المياه أن تقوم بالتغذية المدارة لمواقع الخزانات الجوفية»، حيث يعني مشروع التغذية حفر الجزء العلوي من الطين بعيدًا إلى بركة جديدة أو قائمة سابقًا، للسماح ببعض من هذه المياه بالتغلغل إلى الطبقات الأكثر مسامية من الأرض لملء المياه الجوفية تحتها، قبل أن تتبخر عن السطح. 

يقول عمر سلامة الناطق باسم وزارة المياه والري في الأردن، إن الوزارة «تستكشف احتمالات استخراج 15 مليون متر مكعب سنويًا» من حقل الآبار الجديد في شمال الأزرق. ويضيف أن لدى الوزارة خطة طويلة الأجل لتخفيض تسرب المياه الجوفية «من خلال تنظيم حفر الآبار غير المرخصة ومنع حفر الآبار غير القانونية»، وأنهم قد شرعوا ببناء سدود جديدة في الصحراء من أجل زيادة قدرات البلاد في تجميع وحصاد المياه. إلا أن اسعيد يعتقد بأن الوزارة تحتاج إلى القيام بالمزيد من التغذية للخزانات الجوفية وإنقاص الكثير من الضخ منها.

«يكمن الحل الوحيد للأردن بتضييق نطاق المشاريع في كل مكان»، كما يقول اسعيد. «في كل مكان، بجدية، فكل قطرة لها قيمة (..) إذا قمنا [بمشروع التغذية الكاملة] في هذه المنطقة، وحول المسطحات الطينية، سنشهد التأثير في غضون خمس إلى عشر سنوات. سنبدأ بمشاهد المياه تنساب في الينابيع القديمة».

الشيشاني مع إخوتها بجانب إحدى برك السباحة في الأزرق في السبعينيات.

يمكن مشاهدة التأثيرات النادرة للسيول في الأيام الأخيرة من شهر أيار في الأزرق. حيث تغطي البرك الطينية المسطحات الطينية الجافة، والجميع يتكلم عن المياه، مستذكرين عندما كان هذا حدثًا منتظما في السابق.

لم تشهد الأزرق مثل هذه السيول منذ ثلاثين عامًا بحسب اسعيد. ولكن الكثير منها سوف يتبخر، مع أنه يمكن استغلاله باستراتيجية تدعم محمية الأراضي الرطبة بدلًا من ذلك، كما يقول. أمّا بالنسبة لشيشاني، فقد أحيت الأمطار والسيول بعض الأمل. «هديك اليوم أجت الأمطار الغزيرة، إشي مش معقول كان، إشي خرافي. فلو تيجينا مطرتين ثلاثة هيك، كان بترجع المي». إذ تشير إلى مجموعة الجرار القديمة لحفظ المياه في منزلها، ومن ثم خارجًا نحو السماء الساكنة الخاوية قائلة، «ما في إشي [ظل] من الماضي، إلا الأحلام».

ملأت الفيضانات الأخيرة بعض البرك القديمة في السهول الطينية. يقول السكان إنهم لم يروا مثل هذه الفيضانات منذ ثلاثين عامًا. تصوير ميليسا باوسن.


* أجريت هذه المقابلة بالإنجليزية. 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية