منشيّة الغياث والرويشد: ماذا بعد فشل التنمية؟

الخميس 07 آذار 2024
تصميم محمد شحادة وأنات العلان.

منذ نحو عشر سنوات، بدأ اسم «البادية الشمالية» يتكرر بكثافة في الإعلام ونشرات الأخبار ومجمل النقاش العام في الأردن. وترافق ذلك مع التطورات السياسية في الجوار؛ في سوريا أساسًا وفي العراق تاليًا. وفي السنوات القليلة الماضية، وبشكل متزايد في السنة الأخيرة، أخذت أخبارٌ ذات طابع أمني ترافق ذكر هذه المنطقة، وخاصة ما يتعلق بملاحقة أنشطة تجارة المخدرات وتهريبها.

وإذا كان قسمٌ من المواطنين يعرف أو على الأقل يألف سمعه أسماء بعض مناطق البادية الشمالية القريبة من مدن المفرق وإربد والرمثا، فإن قلة منهم يعرفون شيئًا عن مناطق مثل «منشية الغياث» أو «الريشة» التي ترددت أسماؤها مؤخرًا.

منشيّة الغياث، قرية تابعة للواء الرويشد، وتعدّ آخر المناطق المأهولة شرق البادية على الحدود العراقية الأردنية، ولها سيرة تنموية تستحق أن تروى، إذ لها تجربة طويلة مع المداخلات الرسمية التي صنّفتها لزمن بأنها الأكثر فقرًا، ولا زالت في موقع «متقدم» في مستوى الفقر.

زرتُ القرية، وأقمت فيها عام 2013 لأسبوعين بغرض دراسة حالها وتأثير المداخلات الحكومية لمكافحة الفقر فيها، وقد خرجت وقتها بتقرير حمل عنوان «الرويشد.. كي لا تتحول إلى مأزق تنموي».[1] وقبل أيّام عدت لزيارتها من جديد، فقابلت عددًا ممن قابلتهم أوّل مرة، وزرت بعض المشاريع التي نُفّذت تحت عنوان مكافحة الفقر، والتي تحولت في الواقع إلى مجرد أطلال وخِرَب، لتغدو القرية وكأنها مصداق لما نبه له التقرير من قبل: مأزقًا تنمويًا.

وفق التقسيمات الإدارية المعتمدة، تحتل مناطق البادية الشمالية ما يقارب 30% من مساحة المملكة، وتشمل المنطقة ابتداء من حدود لواء الرمثا (محافظة إربد) غربًا، ثم تنعرج جنوبًا نحو مناطق غرب المفرق، ثم تتجه شرقًا لتغطي كامل المنطقة حتى الحدود مع العراق وتجاور الحدود مع سوريا شمالًا ومع السعودية جنوبًا.

يتوزع سكان البادية الشمالية بجزأيها (الشرقية والغربية) على نحو 103 قرى وتجمع سكني منتشرة بشكل خاص في الجزء الغربي القريب من مدينة المفرق، ثم يتوقف العمران بعد قرية «الصفاوي» لمسافة تصل إلى 110 كم، لنصل بعدها إلى قرية «منشية الغياث» و«الرويشد» التي تشكل مركز لواء صغير من حيث عدد السكان، إذ يبلغ عدد سكان منشية الغياث حوالي 1501 وعدد سكان الرويشد 5731،[2] لكن اللواء كبير المساحة، ويضم هاتين البلدتين وتجمعات سكانية قليلة أخرى. ويتبع كامل اللواء إداريًا لمحافظة المفرق، مع أن المسافة بين الرويشد ومدينة المفرق تبلغ حوالي 200 كم.

إن لفت الانتباه إلى مسألة المسافات هذه له أهمية كبرى تنمويًا واجتماعيًا، ذلك أن الإحساس بالبعد واضح في يوميات المواطنين القاطنين في تلك المنطقة، حيث يطلق سكان الرويشد ومنشية الغياث على باقي البلد اسم «مْغَرّب». فالقادم إليهم من عمان مثلًا أو حتى من المفرق، يعد قادمًا من «مغرّب»، وهذه مفردة دارجة ومستخدمة يوميًا، وتحمل عادة دلالات موقفية دفينة، فالمواطن إذا غاب ذهب إلى عمان فإنه ببساطة يقول «كنت مغرب» وكثيرون من السكان رحلوا كليًا إلى «مغرب»، ويستتبع ذلك مسميات مثل «أهل مغرب» أو «جماعة مغرّب».

جغرافيًا، تقع الرويشد وسط ما يعرف بصحراء «الحَـرّة» الممتدة شمالًا وجنوبًا نحو سوريا والسعودية. وتبلغ مساحة تلك الصحراء 45 ألف كلم مربع، تبلغ حصة الأردن منها حوالي الربع.[3] تغطي السطح الخارجي لصحراء الحرة صخور وحجارة بازلتية سوداء، تتخللها قيعان (مساحات منبسطة) ترابية طينية دائرية الشكل تقريبًا، وعشرات الأودية والسدود والبرك والحفائر (مواقع تجميع مياه الأمطار) القديمة والجديدة.

أُسّست بلدة الرويشد، على واحدة من هذه القيعان المنبسطة الترابية، ولهذا ظل اسمها المتداول شعبيًا هو «صوفة دوّارة»، وذلك بسبب المشهد المتكرر للعواصف الرملية التي تتحرك دائريًا للأعلى فكأنها قطعة صوف تتحرك بشكل دائري. وقد ظل اسم «صوفا» متداولًا وبشكل رسمي حتى أواخر ثلاثينيات القرن الماضي عندما تقرر اعتماد اسم «اجفور» وهو تعريب لـ(H4) الذي يشير إلى رقم نقطة خطوط أنابيب شركة النفط التي تمتد بين العراق وحيفا في الساحل الفلسطيني. وظل اسم «اجفور» معتمدًا رسميا حتى عام 1985 عندما تقرر تغيير الاسم الى «الرويشد»، وذلك لأن اسم اجفور لم تعد له أية دلالة أو ضرورة، فخط النفط توقف منذ زمن.

كانت منطقة الرويشد نقطة التقاء للبدو والتجار، ولكنها كانت مؤقتة ودورية وبلا عمران دائم، إلى أن قررت السلطات البريطانية في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي إقامة نقطة عمران دائمة بهدف خدمة منشآتها الخاصة بخطوط نقل النفط. فاستقرّ فيها التجار، الذين كانوا يتابعون حركة البدو في نقاط تجمعهم في الصحراء. كان هؤلاء المؤسسون قادمين من خارج المنطقة تمامًا، إذ قدموا من المدن الأردنية التي اشتهر أهلها بالتجارة، وخاصة من الرمثا ومعان وبعض الشوام ومن إربد وقراها ومن مدن فلسطينية، ويشكّل هؤلاء الآن «أهل البلد» بحسب الكلام الدارج في الرويشد، بما في ذلك عند البدو أنفسهم.

تاريخيًا، كان البدو يرتحلون وفق مقتضيات نمط عيشهم، بأريحية في البادية الممتدة بين الأردن وسوريا والعراق والسعودية، وكانت هذه حالهم حتى نهاية سبعينيات القرن الفائت. لكن ومع اتساع سيطرة دول المنطقة على حدودها كيّف البدو بالتدريج متطلبات عيشهم مع هذا الواقع الجديد، وحصلت حركة استقرار وتوطين سريعة.

شكلت قبيلة «الغياث» آخر المستقرين من البدو. ولكنها كانت في ماضيها تَعتبِر مناطقَ الرويشد «مَرَدّا» لها، أي أنها تقصدها في المواسم المناسبة، كما أنها شكلت نقطة التبادل التجاري الرئيسية للبدو مع المحيط. وعندما أقيمت نقطة خط شركة النفط ونقطة الحدود، استمرت المنطقة تلعب الدور ذاته.

حتى سبعينيات القرن العشرين، كان أغلب أبناء قبيلة الغياث يقيمون في سوريا، ولم يكن قد استقر منهم في الأردن سوى عدد قليل من الأسر، ولكن تحت تأثير التطورات السياسية في المنطقة، إلى جانب عوامل خاصة بالقبيلة، انتقل جزء كبير منها إلى الأردن، وتحديدًا إلى هذه المناطق التي يألفونها ويعرفونها بحكم تاريخ ترحالهم.

اتخذ المستقرّون الجدد من البدو من المساحات الأقرب إلى المناطق المأهولة في الرويشد مستقرًّا لهم، في بيوت شعر بداية، ومن ثم أبنية متواضعة من طوب الطين إلى جانب بيوت الشعر، ولا تزال بعض معالم تلك المرحلة قائمة إلى الآن.

هذا الاستقرار لم يعنِ انقطاعًا كليًا للبدو عن نمط حياتهم المتمحور حول تربية الحلال (الأغنام)، ولا زالت الصلة بتربية الحلال قائمة لليوم، وهناك استعداد، بل وشوق إلى عودتها. قال لي أحد الصامدين في هذا المجال: «لولا الحرام لكنا نصلي بين الحلال».

ورغم وجود عدد كبير من أبناء الغياث وغيرهم من البدو في الرويشد، إلا أنها وبسبب من ظروف نشأتها، ظلت تعتبر بلدة لغير البدو، والبدو يسمون أراضي الرويشد «منطقتنا» لكنهم لا يعتبرون البلدة ذاتها بلدتهم الخاصة، ويسمون غير البدو «أهل البلد» ولا ينافسونهم على ذلك. وقد شكّل تأسيس قرية خاصة باسم الغياث تعويضًا معنويًا أسهم في تعزيز حضورهم.

تأسيس منشية الغياث

تحمل قصة تأسيس القرية دلالات تنموية إيجابية، ويمكن لها أن تشكّل عناصر مفيدة في أي خطة تنموية حقيقية.

في عام 2013، زرت عدة مرات الشيخ عناد الهزاع الغياث، شيخ عشيرة الغياث، والذي يبلغ اليوم 82 عامًا، في بيت الشعر المقام إلى جوار بيته، وهو بيت شعر كبير «مسوبع» (بمعنى أنه يرتكز على سبعة أعمدة).

يقول الشيخ إنه وبعد شق الطريق الدوليّ مع العراق كبديل عن الشارع القديم الضيق، وبعد أن أنهت شركة المقاولات المنفذة للمشروع أعمالها، تركت خلفها عددًا من المنشآت، وهي غرف مسقوفة بزينكو، وبعض المكاتب، ونقطة لتزويد الشركة بالماء من خلال بئر قريب، اشتراها الشيخ وتعهّد بدفع ثمن المياه، ومن ثم أنشأ الناس 14 خط للمياه منها، وكان هذا قبل أن تصل القرية مياه سلطة المياه.

بدأ الناس يستقرون فيها وحولها. قلنا للمسؤولين، يروي الشيخ، نريد مدرسة ومعلمين، ثم سجّلنا أسماء 30 ولدًا للمدارس، وأخذنا قسمًا من غرف الشركة وعملنا فيها مدرسة. وبنيت غرف لإقامة المعلمين. وقتها لم يكن أبناء القرية يحملون الجنسية الأردنية، ولذا كان يتم تسجيل الأطفال في المدرسة بناء على توقيع من شيخ القبيلة وشهادة على أن هذا الطفل هو فلان ابن فلان.

ليس الفقر في الرويشد وعند بدو الغياث استثناء في البادية الشمالية، ففي هذه المنطقة تقع ست من أصل 27 جيب فقر، وفق آخر حسابات وطنية معلنة للفقر عام 2012

وفي العام 1987 صدر قرار ملكي باعتبار الغياث عشيرة أردنية، فتم تزويد أفرادها بدفاتر عائلة، وجاء القرية «موظف وأقام عندنا لإسبوعين وثق خلالهما عقود زواج للجميع، وكنتَ ترى زوجين «ختيار وختيارة» في السبعينيات من عمريهما، وقد خرجا بعد أن تم عقد قرانهما للتو، وكان يجري توثيق الأولاد بشهادتي وشهادة آخرين» يقول الشيخ.

أمّا أولئك الذين لم يكونوا موجودين في القرية وقت التسجيل لأنهم كانوا في البرية مع الأغنام أو لإنهم لم يكونوا مقيمين في الأردن وقتها فلم يتمكنوا من الحصول على الجنسية.

يقول الشيخ: «سوّيت» مجلس قروي لمنشية الغياث سنة 92 وصرت رئيسه مدة خمس سنين. وحصلنا على تسمية «منشية الغياث» بعد أن كان السكان يقولون إنهم يسكنون «في الشركة».[4]

كانت حرب الخليج عام 1991 نقطة تحوّل رئيسة في حياة المنطقة وسكانها، زادت عمليات ضبط الحدود من قبل الدول الأربعة، وهو ما حدّ من عمليات انتقال البدو مع مواشيهم للرعي أو للتجارة، كما حدّ من عمليات التهريب التي كانت تشكل قطاعًا هامًا، ولكن التهريب الدارج المعروف كان يقتصر حينها على الأغنام وسلع أخرى عادية كالأجهزة الكهربائية.

شهد النصف الثاني من التسعينيات بداية معضلتين هامتين بالنسبة للبدو: الأولى تمثلت في سنوات المحل والجفاف المتتالية، والثانية تمثلت في شروع الحكومات الأردنية بتطبيق سياسة رفع الدعم عن أسعار الأعلاف، وهما المشكلتان اللتان شكلتا ضربة كبيرة لقطاع تربية المواشي الذي يشكل أساس الحياة الاقتصادية والاجتماعية للبدو. في هذه السنوات بدأت عملية الاستقرار النهائي «القسري» ومغادرة العمل في تربية الحلال. إذ بدأ البدو يفقدون نمط عيشهم ومصدر رزقهم الاعتيادي، وتدهورت أوضاعهم سريعًا. ويمكن اعتبار تلك السنوات بداية انتشار ظاهرة الفقر في المنطقة.

في هذه الأثناء بدأ أغلب سكان المنطقة من غير البدو، يعودون إلى مناطقهم الأصلية، وانتهت مرحلة ما تسمى «أيام الخير». واليوم لم يبق من «المؤسسين» أو «أهل البلد» سوى العائلات التي تعمل في التجارة المحلية وبعض محلات تجارة الطريق الدولي الذي ضعفت حركته كثيرًا، أو في بعض الخدمات وفي المؤسسات الحكومية.

في عام 2008 كانت نسبة الفقر في لواء الرويشد 73% وهي أعلى نسبة معلنة في منطقة واحدة في تاريخ إحصاءات الفقر في الأردن. وقبل ذلك بسنوات، وابتداءً من عام 2005 كان قد بدأ اعتماد مفهوم «جيوب الفقر»، وجيب الفقر هي المنطقة التي تتجاوز نسبة الفقر فيها 25%. واعتبرت الرويشد جيب الفقر الأقسى.

ليس الفقر في الرويشد وعند بدو الغياث استثناء في البادية الشمالية، ففي هذه المنطقة تقع ست من أصل 27 جيب فقر، وفق آخر حسابات وطنية معلنة للفقر عام 2012، ولم تعلن دراسات تفصيلية لاحقة لذلك، غير أن مجرد معرفة أن عدد المتقدمين لطلبات الحصول على معونة وطنية قد تضاعف في السنوات العشر الأخيرة كفيلة بأن تقول لنا إن شيئًا لم يتغيّر.

وفق الإحصاءات ذاتها، نالت محافظة المفرق حيث تقع هذه المناطق الفقيرة المرتبة الأولى في عدد الفقراء فقرًا مدقعًا (فقر الغذاء). وفي المرتبة الثانية بعد محافظة معان في نسبة الفقر المدقع، حيث بلغت النسبة في المحافظة 1.27% بينما تبلغ النسبة على مستوى المملكة 0.32%، وبحساب عدد فقراء الغذاء، فإن حصة محافظة المفرق تبلغ 18.5% بينما يقطنها أقل من 6% من سكان المملكة.

التدخلات الحكومية لمعالجة الفقر

عند البدء بالدراسة الميدانية للمنطقة عام 2013 حصلتُ على قائمة رسمية بالمشاريع الحكومية التي نفذت في المنطقة تحت عنوان مكافحة الفقر. وقد تحققت من عمليات التنفيذ ووثقت ذلك في حينه، وكانت جميعها قائمة بالفعل ولكنها قد بدأت فورًا تعلن فشلها، والمفاجأة في الزيارة الأخيرة قبل أيام أن جميعها تحولت إلى أطلال وانتهت بشكل كلي غير قابل للإصلاح. وهذا عرض لهذه المشاريع.

مشروع المزرعة (أبقار ودواجن وأغنام)

إلى الجنوب الشرقي من الرويشد، أقيمت مزرعة أبقار ومصنع ألبان بتكلفة بلغت 400 ألف دينار.[5] وبعد تجهيز كامل البناء ومعداته اللازمة بما في ذلك حظائر الأبقار وأدوات التصنيع، أُعلِن التراجع عن المشروع بعد أن «اكتشف» أن تربية الأبقار غير مناسبة في المنطقة، ثم جرى تغيير عنوان المشروع إلى مزرعة دواجن، وأضيفت التجهيزات اللازمة، ثم أعلن التراجع للسبب ذاته، فأعلن مجددًا عن تحويل المشروع لمزرعة أغنام، وزُودتْ المزرعة فعلًا بـ200 رأس غنم. وعند زيارة المشروع في أيلول 2013 كانت الأغنام موجودة ومعها أحد الرعاة الذي كلف بالعناية وبحراسة المباني، وعندما زرته كان يشكو من انقطاع راتبه لشهرين، وقد ظن أني أمثل المسؤولين. كان ذلك يعني أن المشروع مهمل وغير متابع.

في الزيارة الأخيرة قبل أيام، كانت المفاجأة أن المشروع تحوّل إلى خرائب فانهارت أغلب مبانيه وجرى تفريغه من كل المعدات بل من الأبواب والسقوف والبلاط.

مزرعة الأبقار اليوم (أعلى، يسار) وفي 2013 (أسفل، يمين). تصوير أحمد أبو خليل.

مشروع منشار الحجر

اكتمل بناء هذا المشروع وتجهيزه عام 2010، وكانت كلفته 277 ألف دينار، ولكنه حتى عام 2013 لم يكن قد باشر الانتاج، وهو متوقف تمامًا منذ إقامته، بل إن البلدية توظف لخدمته أربعة حراس يتناوبون على مدار الساعة وتدفع رواتبهم، ومعنى ذلك أن للمشروع نفقات جارية.

قمتُ حينها برفقة الحارس المناوب بزيارة المنشار، وبالفعل لاحظت أن الصدأ بدأ يطال جسم المعدات.

في الزيارة الأخيرة قبل أيام، زرت المشروع مجددًا، وقد تحول إلى موقع مهمل وهدمت بعض أجزائه، وتبين أنه عمل لسنتين، من 2016 حتى 2018، ثم دخل بعدها في مشاكل قضائية مع الجهة التي شغلته، لكن وجود حراس البلدية حال دون نهب المحتويات بشكل كامل.

مشروع منشار الحجر اليوم (أعلى، يسار) وفي 2013 (أسفل، يمين). تصوير أحمد أبو خليل.

مشروع مقلع الحجر

تشتهر المنطقة بحجر الرويشد، ولهذا يفترض أن المشروع الذي كلّف 570 ألف دينار مناسب، وهناك في المنطقة مشاريع مماثلة قائمة وتعمل بشكل متواصل.

بدأ الإنتاج في المشروع عام 2010 وهو مملوك لوزارة التخطيط وتديره المؤسسة التي أحيل عليها عطاء مكافحة الفقر في المنطقة. وقد أعطي امتيازات خاصة مقارنة بالمقالع الأخرى، ومع ذلك فقد تحوّل فورًا إلى مشكلة أحيلت إلى القضاء منذ ذلك الوقت وتوقف المشروع تمامًا.

مشروع استخراج زيت الخروع

قبل الوصول إلى الرويشد بحوالي 15 كم وفي منطقة اسمها «مْقاط»، وعلى يمين الطريق العام الدولي مباشرة يقع مشروع حمل اسم: «مشروع إنتاج زيت الخروع».

مساحة المشروع 100 دونم، وعند زيارته عام 2013 كان فيه هانجر كبير يفترض أن يحوي مشغلًا لاستخراج زيت الخروع، وهناك بركة بلاستيكية كبيرة تصل إليها المياه من بئر ارتوازي يقع على الجهة الأخرى من الشارع، كما يوجد مبنى صغير مخصص للإدارة.

في ذلك الوقت كان الناظر يستطيع أن يلحظ أن هناك فعلًا محاولة قد جرت لزراعة نبات الخروع، فهناك أعداد كبيرة من الشجيرات الجافة، تتخللها شبكة من أنابيب الري بالتنقيط. المحاولة فشلت بالكامل، وأوقف المشروع، وفي شهر أيلول 2013 حضر مهندسون مشرفون وبدأوا بتجربة جديدة، ولكن هذه المرة لزراعة البرسيم والشعير، وقد اكتفوا بتجربة زراعة أربعة دونمات يجري ريها بالتنقيط بواسطة الأنابيب المتوفرة أصلًا.

في الزيارة الأخيرة قبل أيام، لاحظت أن اليافطة التي تشير إلى المشروع أزيلت، وأنه توقف كليًا بعد فشل محاولة زراعة البرسيم والشعير، وهناك الآن بعض الأطلال.

مشاريع حفائر المياه وحماية البيئة البدوية

ضمن برنامج تعويضات حرب الخليج، ومشروع الحفاظ على بيئة البادية الأردنية، عملت وزارة البيئة على إقامة حفائر (سدود ترابية صناعية) لحفظ مياه الأمطار، وللمنطقة خبرة طويلة في هذا المجال.

عام 2013 زرت اثنتين من الحفائر الجديدة، والواقع أن هذه الحفائر كانت حينها مثار تهكم السكان عمومًا، وعندما وصلت إلى موقعها، لاحظت أنه بالكاد تستطيع تمييز وجود عمليات حفر، وقد احتجت للتدقيق ولسؤال دليلي عن موقعها وهو يشير إلى أنها أمامي. فبالإضافة إلى الخلل في اختيار موقع الحفر، هناك خلل آخر في التنفيذ الفعلي. والناس هنا يتحدثون عن انعدام الخبرة في تحديد المواقع المناسبة، وسخر أحد مربي الأغنام بقوله: إن بعض رعاة المنطقة يعرفون اتجاه سير سعة دلو من المياه لو انسكب، بينما لم يوفق خبراء البيئة والزراعة في اختيار مواقع حفائرهم الكبيرة.

بعد منطقة الحفائر الوهمية، وإلى الجنوب الغربي من الرويشد، أقيم مشروع «محمية نبات الرّغّل»، وهي شجيرات صحراوية، وكان هذا المشروع أيضًا عبارة عن قصة للتندر، ورأيت مئات الحفر وأشتال الأشجار المكومة من دون أن تزرع، بينما كان بعض الشباب يتحدثون عن صور التقطت لهم كمستفيدين من فرص العمل التي وفرها المشروع.

صندوق المعونة الوطنية

التسمية الدارجة للمعونة المالية التي يقدمها صندوق المعونة الوطنية هي «راتب الشؤون»، وفي عام 2013 كان عدد من يقبضون «راتبًا» 387 حالة في مجمل اللواء.

ربما يكون الصندوق هو الجهة الوحيدة التي لها أثر فعلي، فهي تقدم معونة مالية للمستفيدين من خدماته ممن تنطبق عليهم الشروط. اليوم بعد عشر سنوات، زاد الطلب على الخدمة فارتفع عدد الحالات إلى 660 ويتوقع أن تصل قريبًا إلى 700 بناءً على الطلبات المقدمة.

هناك بنود عدة بموجبها توقف المعونة عن المستفيد، مثل امتلاك كوشان حلال، أو سيارة شحن او سيارة بكب[6] ومن يملك رخصة قيادة فئة رابعة توقف عنه المعونة أو تسحب منه الرخصة.

مشكلة تنموية تظهر كمشكلة أمنية

في الرويشد وما حولها، يخلو الموقف الرسمي عمومًا من «المنطق التنموي المناسب»، وجميع الإجراءات والتدخلات تتخذ مكتبيًا. وفي أحسن الأحوال يتم اعتماد حلقات من أبناء المجتمعات المحلية يتحولون إلى ما يشبه الزبائن لدى صاحب القرار في المركز على حساب المصالح الفعلية للسكان.

اليوم من الواضح أن مشكلة المنطقة هي في الأساس تنموية الطابع، وهي تبرز الآن كمشكلة أمنية. ويخشى سكان المنطقة اليوم من أن تشكّل قضيتا المخدرات والتهريب وصمة تتسبّب لهم بإشكالات متعددة. لقد كان التدهور المعيشي يحصل ببطء وبالتدريج. فخلال جيل واحد أو جيل ونصف، كان على السكان أن يعيدوا ترتيب حياتهم في منطقة لهم فيها تاريخ طويل، حيث أجبرتهم ظروف عامة «دولية» ومحلية على ترك أنماط عيشهم فيما لم يجدوا السند الكافي للانتقال إلى أنماط جديدة. إنهم يتذكرون حماسهم في البداية للاستقرار وإقبالهم على التعليم لدرجة أن الأسر بدلت مواقع عيشها لأجل الاقتراب من المدارس، وبذلوا جهودًا للتواصل مع الإدارات المركزية في شتى الشؤون، وكان ذلك سلوكًا جديدًا وصعبًا عليهم في البداية.

إن قصة الجهد لإنشاء قرية منشية الغياث المشار إليها فيما سبق، تعد قصة في إدارة التنمية الذاتية. وقد كتبت قبل عشر سنوات بعد الدراسة الأولى بأن لدى الشيخ عناد الغياث مؤسس القرية من الخبرة التنموية ما يكفي لأن يعتمد رأيه وموقفه قبل أي خبير آخر.

زرت الشيخ قبل أيام، وجدته يشعر بالكثير من الأسى. لا يزال يعتز بسيرته من الثقة التي بناها مع السلطة الرسمية ومع أبناء جماعته من العشيرة، لكنه قلق على إمكانية استمراره بمثل هذا الدور، رغم الحاجة الماسة له.

  • الهوامش

    [1] يمكن قراءة البحث في كتاب شاهد على الفقر.

    [2] بحسب التقرير الإحصائي للعام 2015.

    [3] صلاح الدين البحيري (جغرافيا الأردن) منشورات الجامعة الأردنية.

    [4] يشار إلى أن مفردة «منشية» المستخدمة في قرى البادية تعني أصلا «منشأة»، غير أن البدو يتخففون من الهمزة، فحولوها إلى «منشية»، وهناك عدة قرى تحمل هذه التسمية.

    [5] وفق أوراق وزارة التخطيط

    [6] هناك عدد كبير من الأهالي يملكون سيارات بكب قديمة يستخدمونها كوسيلة نقل ركاب داخل الرويشد وإلى المناطق المحيطة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية