تركيا بين جولتين

الثلاثاء 30 أيار 2023
من احتفالات إسطنبول. تصوير ياسين أكجول. أ ف ب.

بعد أسبوعين حُبست فيهما الأنفاس، أسدلت تركيا أخيرًا الستار على ملف الانتخابات الرئاسية، بفوز الرئيس رجب طيب أردوغان، وخسارة منافسه كمال كلتشدار أوغلو، بفارقٍ يزيد على المليونيْ صوت.

كيف حقّق أردوغان هذا الفوز، وما الاستراتيجيّات التي اعتمدها كل مرشحٍ، تحديدًا خلال الأسبوعين الفاصلين بين الجولة الأولى والثانية، وما الذي يقوله نجاح هذه الاستراتيجيات وفشل مقابلها لدى الطرف الآخر عن مصير الرجليْن، ومن ورائهما الجمهورية التي تدخل هذا العام مئويتها الثانية، بوعود كثيرًا، وتحديات أكثر.

هذه الأسئلة وغيرها، نحاول الإجابة عليها في هذا المقال، والذي يأتي مكمّلًا للمقال الأول، المنشور عقب الجولة الأولى من الانتخابات، في 14 أيّار الحالي.

ما  أبرز التغيرات التي طرأت على استراتيجيات كلٍ من أردوغان وكلتشدار أوغلو في الفترة الفاصلة بين الجولتين الأولى والثانية، وما  عناصر النجاح والفشل فيها؟

إضافة إلى العناصر التي كان قد استعملها في الجولة الانتخابية الأولى، والتي تمثلت في خطاب الإنجازات، والهجوم على المعارضة في ملفات الاتهام بالتعاون مع الإرهاب وتهديد بنية الأسرة عبر دعم مجتمع الميم، والسعي لتسليم اقتصاد البلاد للمرابين الغربيين، وظّف أردوغان عنصرًا جديدًا، كان أهمّ أدواته خلال الحملة الانتخابية للجولة الثانية؛ فمع امتلاك تحالفه الأغلبية البرلمانية ركز بشكل خاص على تقديم نفسه ضمانةً لاستقرار البلاد سياسيًا، من خلال التشديد على أهمية التناغم بين البرلمان والرئاسة عبر فوز طرف واحد فيهما بما يمنع دخول تركيا أزمات جديدة. ومن خلال هذ الخطاب سعى أردوغان للتأثير على شريحة ملحوظة من الناخبين المترددين الذين يعتبرون استقرار البلاد أولى من الدوافع الأيديولوجية أو السياسية والاقتصادية الأخرى.

كما استغلّ المعنويات العالية التي خرج بها من الجولة الأولى، دامجًا بين أطروحة الاستقرار السياسي وتقديم نفسه رجل الدولة القادر على حلّ مشاكلها، سيما عبر تركيزه على منطقة كارثة الزلزال وسكانها في رسالة للمترددين داخل هذه المنطقة وخارجها أنه من سيحلّ مشاكلهم. وفي الوقت ذاته حذّر طويلًا من أن «نشوة النصر» هي منافسهم الأول، وليس كلتشدار أوغلو، داعيًا أنصاره إلى عدم الاطمئنان للفوز والذهاب إلى الصناديق بكثافة خاصة وأنه وضع هدف الفوز بفارق كبير كنقطة ارتكاز لتحشيدهم أكثر.

أما كلتشدار أوغلو، فرغم أنه استمر في التركيز على ملف الاقتصاد باعتباره أداة مؤثرة ضد خصمه، خاصة لدى الناخبين في المدن الكبرى، إلا أنه تبنى تحولًا جوهريًا في خطاب حملته في الجولة الثانية عبر استراتيجيتين أساسيتين. ففي ظل الفارق الواسع بينه وبين خصمه في الجولة الأولى (5.12% من الأصوات)، كانت استراتيجيته طرح خطاب يرتكز على مزج عنصريْ التخويف والأمل (التخويف التحميسي) من خلال تقديم ثنائية صفرية تعتبر فوزه الفرصة الأخيرة لتركيا وإلا فإنها ستدخل في «نفق مظلم» سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا على حد تعبيره. وعلى عكس الجولة الأولى، قدم كلتشدار أوغلو في الجولة الثانية فكرة التخويف من عدم التغيير بوصفه كارثة تنتظر تركيا.

وسعى من خلال هذا التحول إلى تحقيق هدفين، أولهما استنهاض قواعده وبث الروح فيهم من جديد على اعتبار أن هناك فرصة أخيرة أمامهم، وثانيهما الرهان على «أمل رياضي» مبني على فكرة أن التخويف التحميسي قد يدفع ملايين المقاطعين والمترددين (9.5 مليون) خاصة في المدن الكبرى التي يتصدر فيها للذهاب للتصويت له لإنقاذ البلاد. وبالتوازي مع ذلك كانت استراتيجيته الثانية هي ترك خطاب المصالحات الوحدوي الدفاعي وتبني خطاب قومي متطرف هجومي. وهدف هذا التحول الحاد هو العمل على حشد الكتلة القومية المتطرفة التي لم تذهب إليه أو لأردوغان في الجولة الأولى وفضلت اختيار طريق مختلف لا سيما المرشح، سينان أوغان، (5.17% من الأصوات) وحليفه حزب النصر العنصري (2.23% من الأصوات) وزعيمه أوميت أوزداغ.

يمكن القول إن نجاح حملة أردوغان في الجولة الثانية بالذات كان مرتبطًا برهانه على عناصر قوة صلبة وثابتة مثل فكرة الاستقرار التي يخشى الناخب التركي من فقدها.

وفي هذا السياق بدأ كلتشدار أوغلو حملة هجومية شرسة على خصمه سعيًا لتأليب الناخب القومي عليه من خلال التركيز على ملف عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني بين العامين 2013-2015، والعلاقات السابقة بين العدالة والتنمية وجماعة فتح الله جولن، إضافة إلى قضية اللاجئين. وتوج هذا التحول الحاد بالدخول في تحالف رسمي مع أوزداغ وتوقيع بروتوكول تعاون معه نصّ على التركيز على قضايا الحرب على الإرهاب والمسارعة في حل قضية اللاجئين إمعانًا في الغرق في الخطاب القومي المتطرف.

والآن، وبعد طي صفحة الثامن والعشرين من أيار، يمكن القول إن أردوغان وظف ببراعة نصره البرلماني وتقدمه الرئاسي في سياق دعاية الاستقرار السياسي بما مهد الطريق لفوزه خاصة لدى المترددين وبعض القوميين المحافظين لا سيما بعد دعم أوغان الرمزي له، ما ساهم في حصوله على أكثر من 620 ألف صوت جديد بالمقارنة مع الجولة الأولى. أما كلتشدار أوغلو فلقد فشل رهانه على استراتيجيته الأولى بينما نجحت استراتيجيته الثانية وفشلت في نفس الوقت. فلقد فشلت مساعي زيادة المشاركة لصالحه، بل على العكس انخفضت المشاركة لأسباب مختلفة في جميع الولايات التركية (عدا ولاية تونجلي مسقط رأس كلتشدار أوغلو).

كانت نسبة المشاركة في عموم تركيا 87.4% في الجولة الأولى لتتراجع إلى 83.87% في الجولة الثانية (بفارق حوالي 3.53%) فيما يعني عزوف قرابة مليونيْ ناخب عن التصويت. ورغم أن انخفاض نسبة المشاركة كان ملحوظًا في قلاع أردوغان أيضًا، إلا أن انخفاض المشاركة خاصة في المدن الكبرى التي راهن عليها كلتشدار أوغلو (بما فيها معقله إزمير) يعتبر إعلانًا صريحًا لفشل استراتيجيته الأولى. أما بالحديث عن استراتيجيته الثانية، فبداية يجب التأكيد أيضًا على أن كتلة أوغان في عمومها شهدت عزوفًا ملحوظًا عن التصويت يظهر في انخفاض نسب المشاركة الملحوظ في بعض المناطق التي ارتفعت فيه أصواته في الجولة الأولى. لكن وفي الوقت نفسه يمكن القول من جهة إن تحالف كلتشدار أوغلو مع أوزداغ ساهم في توجه جزء مهم من ناخبي حزب النصر -الأكثر تنظيمًا في كتلة أوغان المفككة- إليه لا سيما وأنه رفع أصواته بأكثر من 839 ألف صوت بالمقارنة مع الجولة الأولى.

ومن جهة أخرى، أدت تحولات خطابه وهذا التحالف الجديد إلى إرباك حلفائه الأكراد خاصة وأن أوزداغ من الشخصيات الصدامية مع حزب الشعوب الديمقراطي الكردي. فعلى الرغم من تجديد هذا الحزب دعمه لكلتشدار أوغلو على اعتبار الرغبة المشتركة بإسقاط أردوغان، إلا أنه وأمام هذه التحولات في خطابه وتحالفه الجديد وما حملته من إشاعات أبرزها «إشاعة» بدأها أوزداغ نفسه بأنه سيحصل على منصب وزير الداخلية في حكومة المعارضة شهدت الولايات الشرقية ذات الأغلبية الكردية انخفاضًا ملحوظًا في نسبة المشاركة. حصل كلتشدار أوغلو في المناطق ذات الأغلبية الكردية على الصدارة الساحقة في الجولة الثانية أيضًا لكن نسبة المقاطعين فيها ارتفعت في ظل التحولات الأخيرة بمتوسط 5.39% (حوالي 254 ألف صوت) بالمقارنة مع الجولة الأولى بما صب في صالح أردوغان بالمحصلة.

وعليه يمكن القول إن نجاح حملة أردوغان في الجولة الثانية بالذات كان مرتبطًا برهانه على عناصر قوة صلبة وثابتة مثل فكرة الاستقرار التي يخشى الناخب التركي من فقدها، بينما كان فشل حملة كلتشدار أوغلو مرتبطًا بدخوله في تحولات حادة أزعجت البعض وأرضت آخرين، إضافة إلى خسارته للرهان الاستراتيجي على استنهاض الجماهير لرفع المشاركة لصالحه في الجولة الثانية.

بعد الجولة الأولى، صعّد كمال كلتشدار أوغلو من خطابه ضد اللاجئين في تركيا، وبالطبع يمكن تفسير هذا على أنه محاولة منه لاستقطاب أصوات اليمين القومي التركي. ما هو موقع اللاجئين في هذه الانتخابات، وكيف كان الموضوع حاضرًا في خطابات المرشحيْن، وأي مستقبل ينتظرهم في ظل فوز أردوغان؟

لم تكن هذه المرة الأولى التي تتحول فيها حياة الملايين من اللاجئين إلى كرة في ملعب التنافس السياسي التركي خاصة على جبهة المعارضة. وفي هذا الاستحقاق الانتخابي، تبنى كلتشدار أوغلو في الجولة الأولى خطابًا «معتدلًا» نسبيًا يتبنى الأرقام الرسمية في هذا الملف (مثلًا الحديث عن 3.6 مليون لاجئ سوري) وصرح بأنه يريد إعادة اللاجئين بعد توفير الشروط اللازمة خلال سنتين وفوق ذلك «بدون عنصرية» على حد زعمه. أمّا في الجولة الثانية، ومع تحول كتلة أوغان-أوزداغ القومية المتطرفة التي تركز على أولوية طرد اللاجئين إلى «بيضة القبان» الحاسمة تحوّلَ خطابه.

فجأة أصبح كلتشدار أوغلو يتحدث بكل شعبوية عن إعادة اللاجئين الذين أصبح عددهم عشرة ملايين لاجئ مع تأكيده المستمر في إطار خطاب التخويف التحميسي بأن 10 وحتى 20 مليون لاجئ آخر سيأتون إلى تركيا في حال استمر خصمه في الحكم. تمحورت دعايته بشكل تضليلي وتحريضي على تصوير اللاجئين خطرًا يهدد اقتصاد تركيا، وسيادة حدودها، وأمن نسائها، ومستقبل أطفالها، مع التركيز على مهاجمة خصمه من باب تحميله مسؤولية تحويل البلاد إلى «معسكر لاجئين».

وفي هذا السياق بدأت لوحات إعلانية تَعِد الناخبين بإعادة اللاجئين تملأ الشوارع التركية مع تقديم ثنائية صفرية تدعوهم لإنقاذ بلادهم عبر الاختيار بين من يريد ترحيل اللاجئين أو من يريد إبقاءهم. وتوّج كلتشدار أوغلو هذه الحملة بالاتفاق مع أوزداغ رسميًا على ترحيل اللاجئين من تركيا خلال عامٍ واحد، لا عامين كما كان يقول من قبل، مع وجود حديث صحفي عن وعود بتسليم حليفه الجديد إدارة هذا الملف على الرغم من أن أوزداغ يدافع عن ضرورة ترحيلهم «بالقوة إن لزم الأمر».

على المستوى الداخلي يمكن القول إن فوز أردوغان ساهم في تأجيل أي مشاريع ترحيل لاجئين بالصيغة المتطرفة التي طرحتها المعارضة.

ومن جانبه، ومع تحوّل هذه القضية إلى ورقة ضغط بيد المعارضة، قدم أردوغان أطروحة أخرى في سعيه للمنافسة على أصوات القوميين والمترددين أيضًا. فلقد بدأ الحديث عن أن أكثر من 550 ألف لاجئ سوري عادوا إلى «المناطق الآمنة» التي تسيطر عليها تركيا في شمال سوريا، مضيفًا أن حكومته تعمل على مشروع لتجهيز البنية التحتية لعودة مليون لاجئ سوري بدعم قطري. يشدد أردوغان على أن أطروحته تختلف عن أطروحة المعارضة من حيث تأكيده على أنها ستكون عودة «طوعية وآمنة ومشرّفة»، وإشارته إلى أنها لا تستهدف عودة كل اللاجئين خاصة وأنه يتحدث عن أهمية استغلال المتعلمين منهم ودمجهم في تركيا. وفي الوقت نفسه، أكد هو والعديد من قيادات حزبه على أن الحكومة تبذل جهودًا دبلوماسية مكثفة للوصول إلى حل سلمي في سوريا يضمن عودة اللاجئين وأمنهم خاصة من خلال التطبيع مع النظام السوري «بما لا يضر الإخوة السوريين».

ليس من الممكن الجزم بخطوات العدالة والتنمية اللاحقة في هذا الملف خاصة في حال تقدم التطبيع مع النظام، لكن على المستوى الداخلي يمكن القول إن فوز أردوغان ساهم في تأجيل أي مشاريع ترحيل بالصيغة المتطرفة التي طرحتها المعارضة. لكن من المهم الإشارة إلى أن كمية الدعاية التحريضية والتضليلية المكثفة التي تم ضخها في هذا الملف خلال الفترة الماضية تثير القلق من احتمالات تضاعف الاحتقان ضد اللاجئين بما قد يزيد من الحوادث العنصرية اللفظية وربما العنف الجسدي ضدهم، إذ نجحت المعارضة خاصة عبر منح أوزداغ منصة واسعة في تعبئة شريحة ملحوظة من قواعدها ضد هذه الفئة (والعرب والأجانب أيضًا). بل ولا يغيب عن المتابع أن شريحة من قواعد المعارضة، وحتى على مستوى صحفييها، تبنت أطروحة تضليلية مفادها أن الفارق بين أردوغان وكلتشدار أوغلو هو فارق أصوات السوريين والأجانب الحاصلين على الجنسية التركية في ترويج لدعاية أوزداغ التي تتحدث عن وجود ملايين الناخبين أجانب الأصول ما يزيد من القلق من توجيه الغضب نحو هذا الملف.

ما هو المصير الذي ينتظر تحالف الطاولة السداسية بعد هذه الهزيمة، وهل سيبقى كلتشدار أوغلو في موقعه؟

لا يمكن الحكم من الآن، لكن الواضح هو تعالي الأصوات المطالبة بضرورة استقالة كلتشدار أوغلو في المعارضة وخارجها على اعتبار أنه فرض نفسه كمرشح رغم وجود خيارات أخرى أفضل منه. وأمام هذه التطورات أشار كلتشدار أوغلو في معرض تعليقه على النتائج إلى أنه حصل على أصوات أكثر من 25 مليون مواطن وأنه «سيتابع نضاله» لأجلهم لافتًا إلى أن سيستعد للانتخابات المحلية المقبلة في العام 2024. وبذلك يبدو أن كلتشدار أوغلو ودائرة المصالح المرتبطة به لا يعتزمون الاستقالة ويخططون للقفز عن هذه الهزيمة والاستمرار في مناصبهم.

تتعالى الأصوات المطالبة بضرورة استقالة كلتشدار أوغلو في المعارضة وخارجها على اعتبار أنه فرض نفسه كمرشح رغم وجود خيارات أخرى أفضل منه.

أما بالحديث عن تحالف الأمة (الطاولة السداسية)، فيبدو أن إصرار كلتشدار أوغلو على البقاء في منصبه يترافق مع سعي منه للحفاظ على هذا التحالف -دون تغيير جوهري- حتى الانتخابات المحلية المقبلة على الأقل. يمكن القول هنا إنه بدأ منذ الآن محاولة التواري خلف تحالف الأمة وهدفِ الحفاظ على المكتسبات في البلديات على طراز سيناريو العام 2019 وتعزيزها أكثر لحماية منصبه في الفترة المقبلة. لكن وفي الوقت نفسه فإن تحالف الأمة نفسه أصبح مفرغًا من معناه بعد استحالة الحديث عن تحقيق أسباب تشكله مثل النظام البرلماني المعزز، وإسقاط أردوغان، وتقاسم السلطة، ما قد ينهي زخمه في الشارع التركي. عدا عن أن التنبؤ بموقف بقية شركاء التحالف منذ الآن صعب خاصة على جبهة الحزب الجيد.

وبالحديث عن الأحزاب الصغيرة داخل هذا التحالف يمكن القول إنها من الرابحين بالمعنى الرياضي خاصة وأنها حصلت على مجموعة من المقاعد البرلمانية عبر قوائم الشعب الجمهوري،[1] لكن بالمعنى الشعبي فإن دخولها تحت مظلة الشعب الجمهوري، ثم هزيمة تحالفها، عامل سلبي سيؤثر على فرصها المستقبلية لبناء قاعدة صلبة في السياسة التركية. وفي سياق متصل، فإن هزيمة المعارضة التقليدية بهذا الشكل وإصرار قياداتها الحالية على الاستمرار في مناصبها من العوامل التي قد تمنح الأحزاب المعارِضة الصغيرة التي تقدم نفسها كطريق ثالث مثل حزبي النصر وكذلك البلد الذي يتزعمه محرم إنجه، فرصة للحصول على زخم أكبر.

إضافة للرئيس أردوغان، من هم الفائزون في هذه الانتخابات؟

إضافة إلى أردوغان نفسه كقائد انتصر في أسوأ ظروفه، فلا شك أن التيار القومي بمختلف ألوانه هو أبرز الفائزين. فمن جهة تمكن هذا التيار على اختلاف أحزابه الكبيرة والصغيرة في السلطة والمعارضة من الحصول على قرابة 23% من أصوات الشارع التركي في نسبة قياسية في تاريخه.[2] وفي الوقت نفسه، لا يغيب عن المتابع أن السياسة التركية تتجه بشكل مستمر نحو تبني خطاب قومي يميني أكثر، ما يزيد من قدرته على صياغة أجندة البلاد وتوجيهها.

كما وأصبح هذا التيار الكتلة المفتاحية الأهم في تحالفيْ السلطة والمعارضة. فمن جهة ساهم تراجع العدالة والتنمية البرلماني (268 مقعد) في تعزيز دور حليفه الحركة القومية (50 مقعد) كعنصر مفتاحيّ يضمن الأغلبية البرلمانية (301 مقعد) لتحالف الشعب، ومن جهة أخرى لا يستطيع الشعب الجمهوري الحركة بفعالية على جبهة المعارضة دون الحفاظ على شكل من التفاهم إن لم يكن التحالف مع الحزب الجيد.

أمّا حزب النصر وزعيمه أوزداغ فقد اكتسبا زخمًا قوميًا مهمًا خاصة في ظل مساهمة التحالف القصير مع كلتشدار أوغلو في نقلهم من هامش السياسة إلى مركزها ومنحهم مساحة لمخاطبة جمهور أوسع. بل وكان تعليق أوزداغ الأول على الهزيمة هو دعوة المواطنين المتعبين من الهزائم المتلاحقة أمام العدالة والتنمية للانضمام لحزبه مؤكدًا أنه أصبح واقعًا لا يمكن تجاهله في السياسة التركية. وعلى الرغم من ذلك، تشير هزيمة كلتشدار أوغلو ومشروع أوزداغ ضد اللاجئين، إلى أن التحالف مع متطرفي حزب النصر ليس طريقًا مضمونًا للفوز، بل ينطوي على آثار جانبية خطيرة أيضًا.

وبالحديث عن الخاسرين فمن الواضح أن أبرزهم هو كلتشدار أوغلو ليس كمرشح فقط، بل كأطروحة أيضًا. إذ إن أطروحة «حزب الشعب الجمهوري الجديد» التي تبناها ومقاربته الرياضية في توسيع التحالفات وكذلك الرهان على المصالحات الاجتماعية والسياسية كلها أثبتت فشلها أمام تعقيدات الحواجز النفسية والأيديولوجية للسياسة التركية.

ما أبرز ما جاء في خطاب النصر الذي ألقاه أردوغان بعد فوزه، وما أبرز الملفات التي ستتعامل معها حكومته الجديدة؟

لا يخفى أن أردوغان وحزبه حققا فوزًا صعبًا منح خطاب نصره هالة خاصة ترافقت مع حضور عشرات الآلاف (320 ألف) واحتفالهم. فضل أردوغان إلقاء خطابه في القصر الرئاسي بدلًا من مقر العدالة والتنمية كما جرت العادة، في رسالة مفادها أنه رئيس للشعب كله ومرشح لتحالف واسع وليس لحزبه فقط. وفي خطابه اعتبر أن هذه الانتخابات واحدة من أهم الانتخابات في تاريخ الديمقراطية التركية مشددًا على أن الشعب اختار «قرن تركيا» معتبرًا أن الرابح هي البلاد بكل عناصرها، كما ركز على تبني خطاب وحدوي جامع يحاول طي صفحة الاستقطاب الماضي مع استمراره في الهجوم على المعارضة.

كما شدد على أن فترة الانتخابات انتهت وأن البلاد تواجه تحديات متنوعة لحلها معتبرًا أنها قادرة على تجاوزها كلها من خلال وحدتها. وأبرز هذه التحديات هي الأزمة الاقتصادية، والتي يرى البعض أن فترة الانتخابات ذاتها ساهمت في تعمق الأزمة أكثر خاصة في ظل استراتيجية «اقتصاد الانتخابات» الإنفاقية التي تبناها العدالة والتنمية لمحاولة تلافي آثار الأزمة على المواطنين.

حملت نتائج هذه الانتخابات رسائل قاسية لجميع الأطراف خاصة عبر تراجع العدالة والتنمية البرلماني وهزيمة المعارضة في ظل فرصها الكبيرة.

فطوال الأشهر الماضية، أعلن أردوغان عن قرارات متتالية لرفع أجور العمال، والموظفين، والمتقاعدين، ومنح أكثر من 2.2 مليون موظف حق التقاعد المبكر، وكذلك فتح المجال لعشرات آلاف الوظائف الحكومية وغيره. وفي ظل هذه التطورات، وفي إطار أجواء المجهول التي رافقت الانتخابات، تراجعت قيمة الليرة التركية أمام الدولار في الأيام الماضية لتتذبذب حول مستوى 20 ليرة للدولار الواحد في مستوى قياسي جديد. وعليه، وفي ظل هذه الظروف وكذلك الوعود الاقتصادية المختلفة التي قدمها العدالة والتنمية [3] يصبح التعامل مع هذه الأزمة أهم أولوياته في المرحلة القادمة.

وفي المرحلة المقبلة أمام العدالة والتنمية خياران، فمن جهة أرسل أردوغان رسائل مختلفة على أنه يعتزم الاستمرار في النموذج الاقتصادي الحالي غير التقليدي القائم على خفض الفائدة والذي يعتبره البعض خاصة في المعارضة السبب في تفاقم الأزمة الاقتصادية. ومن جهة أخرى، يدور حديث إعلامي عن إمكانية أن يتبنى الحزب خيار العودة التدريجية إلى السياسات التقليدية بما يطمئن الأسواق أكثر، خاصة من خلال العمل على جذب أسماء تحظى بثقتها مثل الوزير السابق، محمد شيمشيك.

وبالتوازي مع الأزمة الاقتصادية وصعوباتها، ركز أردوغان في خطابه أيضًا على مناطق كارثة. إذ تعتبر هذه الكارثة التي وصلت تكاليفها إلى 104 مليار دولار أحد أبرز التحديات التي تواجهه في عهده الجديد. فلقد شدد على أن الحكومة الجديدة ستبذل كل جهدها لإتمام عملية إعادة الإعمار بأسرع وقت، خاصة وأن أحد أهم وعوده الانتخابية كان بناء 650 ألف مسكن دائم للمتضررين من الزلزال على أن يتم تسليم 319 ألف منها خلال عام واحد. ومن اللافت أنه أشار في خطابه أيضًا إلى عزمه تلبية «تطلعات الشعب» فيما يتعلق بعودة اللاجئين السوريين الطوعية «بما يليق بتركيا» من خلال مشاريع إنسانية «في غضون سنوات قليلة». وبهذا الشكل يمكن القول إن أردوغان يواجه ثلاثة تحديات كبرى متداخلة هي الاقتصاد، وإعادة الإعمار، واللاجئون.

أخيرًا، تدخل الجمهورية التركية قرنها الثاني هذا العام ما يمنح فوز أردوغان رمزية كبيرة في توجيه البلاد. حملت نتائج هذه الانتخابات رسائل قاسية لجميع الأطراف خاصة عبر تراجع العدالة والتنمية البرلماني وهزيمة المعارضة في ظل فرصها الكبيرة. بل وفتحت أيضًا الباب أمام مرحلة تغيير جديدة وربما متسارعة في السياسة التركية بشكل عام، فهل تتغير الخريطة السياسة التي عرفناها لسنوات في العهد الجديد؟

  • الهوامش

    [1] حصل حزب الديمقراطية والتقدم على 15 مقعد، وحزب المستقبل والسعادة على 10 لكل منهما، والحزب الديمقراطي على 3 مقاعد.

    [2] حصل حزب الحركة القومية على 10.08% من الأصوات، والحزب الجيد على 9.69% منها، وحزب النصر على 2.23% منها، وحزب الوحدة الكبرى على 0.98% منها.

    [3] مثلًا وعد أردوغان برفع رواتب الموظفين العموميين في شهر تموز المقبل بحيث يصبح أدناها 22 ألف ليرة بعد أن كان 12 ألف ليرة فقط.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية