تركيا و«إسرائيل»: توتر السياسة لا يعكر صفو الاقتصاد

الثلاثاء 30 كانون الثاني 2024
مظاهرة تضامنية مع غزة في إسطنبول في كانون الثاني الجاري. تصوير ياسين أكجول. أ ف ب.

تميز الموقف التركي من العدوان الإسرائيلي على غزة بأنه موقف متدحرج، إذ بدأ بمقاربة دبلوماسية حذرة، ليتطور في ظل فظائع الجرائم الإسرائيلية وما أنتجته من ضغط داخلي متزايد إلى حالة صدامية حذرة صارت أكثر اندفاعًا مع مرور الوقت. فعلى الصعيد الدبلوماسي قررت تركيا استدعاء السفير التركي في تل أبيب للتشاور، وإلغاء زيارات رسمية وخطط تعاون مع «إسرائيل».

ترافق هذا الموقف الدبلوماسي مع صدامية خطابية انطوت على محورين بارزين، الأول هو الدفاع المتكرر عن حركة المقاومة الإسلامية «حماس» بوصفها حركة تحرر وطني، والثاني هو الهجوم على «إسرائيل» ووصفها بأنها دولة إرهابية. وقد وصل الأمر إلى هجوم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، واصفًا إياه وأفعاله في غزة بأنها أفظع من أفعال الزعيم النازي أدولف هتلر. لكن، ورغم هذه الصدامية على المستوى الخطابي والدبلوماسي، ظل سؤال غياب الاقتصاد عن معادلة السياسة في العلاقات بين الطرفين يتردد بقوة.

تركيا «وإسرائيل»: علاقات اقتصادية متينة

خلال سنوات حكم حزب العدالة والتنمية، تحسّنت العلاقات الاقتصادية والتجارية بين تركيا و«إسرائيل»، ليصبح الاقتصاد أحد أهم بوابات العلاقات بينهما. فحافظ التبادل التجاري بين الطرفين على وتيرة متصاعدة دون تراجعٍ جوهري يُذكر، إذ ارتفع من 1.4 مليار دولار عام 2002 إلى ما يقرب من تسعة مليارات دولار في 2022. كما تمتعت العلاقات التجارية بحصانة لافتة فصلتها عن العلاقات السياسية التي مرت بالعديد من الأزمات. على سبيل المثال، شكلت أزمة مجزرة سفينة مافي مرمرة عام 2010 صدمة تاريخية أثرت لسنوات على جوانب عدة في العلاقات الثنائية، إلا أن العلاقات الاقتصادية التجارية حافظت على استثنائيّتها واستمرت بالنمو اللافت رغم الأزمة الكبيرة، ذلك أن حجم التبادل التجاري بين الطرفين ارتفع من 2.5 مليار دولار عام 2009 إلى 3.5 مليار في 2010، وواصل تصاعده في 2011 ليصل إلى 4.5 مليار دولار.

يمكن اعتبار العام 2022 نموذجًا بارزًا للعلاقات التجارية بين البلدين، حيث احتلت تركيا المرتبة الرابعة بين أكثر المصدرين إلى «إسرائيل» بواقع 6.7 مليار دولار، وهو ما يمثّل رقمًا قياسيًا جديدًا بينهما، وقد توزعت قطاعات هذه الصادرات الرئيسة بين الحديد والصلب بقيمة 1.2 مليار دولار، والمواد الكيميائية بقيمة 670 مليون دولار، والسيارات بقيمة 545 مليون دولار، وغيرها. ومن اللافت أن الصلب التركي على وجه التحديد يشكل المنتج الأكثر تصديرًا إلى السوق الإسرائيلي بما يغطي 65%[1] من احتياجات «إسرائيل» للصلب، الذي يدخل في شتى الصناعات بما فيها العسكرية. وفي العام نفسه وقعت 17 شركة تركية متخصصة في إنتاج وتصدير الحديد والصلب اتفاقيات تعاون مشترك مع قرابة 400 شركة إسرائيلية لزيادة التصدير، خاصةً في ظل الفرصة التي وفرتها الحرب الروسية الأوكرانية. ومن جانبها احتلت «إسرائيل» عام 2022 المرتبة الـ29 في قائمة أكثر الدول المصدرة إلى تركيا، بواقع 2.5 مليار دولار، تركزت على مدخلات القطاع الزراعي مثل البذور والأسمدة والبيوت البلاستيكية الزراعية، إضافةً إلى أنظمة الري الذكية، وغيرها.

خلال سنوات حكم حزب العدالة والتنمية، تحسّنت العلاقات الاقتصادية والتجارية بين تركيا و«إسرائيل»، ليصبح الاقتصاد أحد أهم بوابات العلاقات بينهما. فحافظ التبادل التجاري بين الطرفين على وتيرة متصاعدة دون تراجعٍ جوهري يُذكر، حتى في ظل العديد من الأزمات السياسية بينهما.

بالإضافة إلى التبادل التجاري، ثمة رابط اقتصادي استراتيجي غير مباشر بين أنقرة وتل أبيب يتمثل بأن تركيا، بفضل موقعها الجغرافي وإمكانياتها البنيوية، تعتبر ممر طاقة رئيسٍ في المنطقة، فيما تعتمد «إسرائيل» في أكثر من 60% من إمدادات النفط على النفط الأذربيجاني والكازاخستاني الذي يمر عبر الأراضي والمياه التركية، بحسب صحيفة ذي ماركر الاقتصادية الإسرائيلية، التي اعتبرت أن هذه الميزة تجعل أردوغان قادرًا على توجيه ضربة للاقتصاد الإسرائيلي. يمكن ربط هذه الزاوية من العلاقات التركية الإسرائيلية أيضًا بطموحات تركيا لمد أنابيب نقل الغاز من «إسرائيل» إلى أوروبا عبر تركيا، إضافة إلى التعاون في التنقيب في شرق المتوسط في إطار مناوراتها المتعددة التي تخدم أطروحتها للحدود البحرية فيه. كانت هذه الملفات حاضرة بين الطرفين حتى ما قبل السابع من تشرين الأول الماضي، حيث أعلنت تركيا ردًا على العدوان الإسرائيلي على غزة «تعليق» هذه المحادثات وإلغاء زيارة مقررة لوزير الطاقة والموارد الطبيعية إلى «إسرائيل».

فضلًا عما سبق، هناك لاعبون أتراك كبار لهم دور رئيس في صناعة وتشكيل العلاقات الاقتصادية والتجارية مع «إسرائيل»، وربما مَنْحها حصانتها الحالية ضد الأزمات السياسية بفضل علاقاتهم القوية في الداخل التركي. وهنا تبرز مجموعة زورلو القابضة (Zorlu) التي تعد صاحبة رأس المال الأكبر من بين الشركات الاستثمارية التركية المتواجدة في «إسرائيل» باستثمارٍ يُقدر بمليار دولار. تعمل هذه الشركة بشكل خاص في مجال الطاقة الكهربائية، حيث تمتلك ثلاث محطات مختلفة لتوليد الكهرباء في «إسرائيل» (بنسبة ملكية 51%)، وهي مستمرة في إنشاء مشاريع جديدة لتوليد الكهرباء -لا سيما من طاقة الرياح- بحيث ستصبح عند انتهاء هذه المشاريع المنتج الرئيس لما يقارب 10% من الكهرباء الإسرائيلية.[2] ومن اللافت هنا أن هذه المجموعة معروفة أيضًا بقربها من حزب العدالة والتنمية وحكوماته، بل ويراها البعض الحامل المباشر لرؤية التعاون في مجال الطاقة بين أنقرة وتل أبيب التي يتبناها الحزب منذ سنوات. إضافة إلى ذلك، لطالما تلقى رئيس المجموعة تكريمات مختلفة من الرئيس أردوغان مباشرة بسبب جهوده في تنمية الصادرات التركية.

لاعبٌ آخر هو شركة إتش داش (İÇDAŞ)، أهم مصدري الحديد والصلب بمنتجاته المختلفة إلى «إسرائيل»، ومديرها، عدنان أصلان، هو نفسه رئيس الهيئة الإدارية لاتحاد مصدري الصلب التي تلعب دورًا مهمًا في تشجيع التجارة بين الطرفين في هذا القطاع. وقد حظي أصلان نفسه بتكريم رسمي من الرئيس أردوغان بسبب إسهاماته في التجارة الخارجية، إضافة إلى تكريم على أعلى المستويات من رئاسة الشؤون الدينية التركية لتمويله بناء مسجد.

كما لا يمكن إغفال دور شركة يلمازلار في العلاقات الاقتصادية بين تركيا و«إسرائيل»، خاصة وأنها تعتبر شركة رائدة منذ 23 عامًا في قطاع الإنشاءات الإسرائيلي، إذ أنشأت 80% من ناطحات السحاب في تل أبيب، بل وتولت بناء العديد من المباني المهمة ذات الطابع الحكومي مثل مركز شرطة أسدود، ومدرسة الشرطة في بيت سميش، ومبنى البحرية في حيفا، ومحطة كهرباء أوروت رابين، ومبنى محكمة تل أبيب، وبرج مراقبة مطار بن غوريون، وغيرها.

وبالعودة إلى التبادل التجاري، تحديدًا في عام العدوان، فقد شهد تراجعًا ملحوظًا بالمقارنة مع العام 2022 حتى قبل العدوان على غزة. ففي الأشهر العشرة الأولى من العام 2023 سجلت الصادرات التركية إلى «إسرائيل» حوالي 4.7 مليار دولار بانخفاض نسبته قرابة 20% عن الفترة نفسها من العام 2022. أما واردات تركيا من «إسرائيل» فسجلت حوالي 1.3 مليار دولار منخفضةً بنسبة 32% تقريبا مقارنة مع الفترة نفسها من العام السابق. وقد ترافق العدوان على غزة والتوتر الذي أفرزته في العلاقات الثنائية مع حملات مقاطعة شعبية متبادلة أدت إلى انخفاض التبادل التجاري بينهما في الفترة بين 7 تشرين الأول و31 كانون الأول إلى حوالي 1.3 مليار دولار في تراجع بنسبة 45% مقارنة مع العام 2022.

ظلت المقاطعة دون المستوى الرسمي في ظل استمرار العدالة والتنمية حتى وقت كتابة هذه السطور في تبني مقاربته التقليدية التي تفصل ببراغماتيّةٍ بين الاقتصاد والسياسة، ما أثار جدلًا لدى أطراف مختلفة داخل وخارج تركيا. من ذلك مثلًا ما أثاره الصحافي التركي المعارض، متين جيهان، من جدل واسع بعد نشره تغريدات تتضمن بيانات عن سفن شحن، تابعة لجهات مقربة من العدالة والتنمية، متوجهة إلى «إسرائيل» خلال الحرب، من بينها شركة إسمنت شغل مالكها سابقًا منصب رئيس شعبة الحزب في ولاية هاتاي وكان مرشح البلدية عن الحزب. وكذلك ما نشره عن ملكية سفن شحن تنقل البضائع بين تركيا «وإسرائيل» لأحد المقربين من العدالة والتنمية، بل والمقربين من عائلة الرئيس أردوغان وشريك نجله أحمد بوراك في شركة أخرى، مدعيًا أن الشركتين تنضويان تحت مظلة واحدة، قائلًا إنه وبينما كان الرئيس أردوغان يهاجم «إسرائيل» في خطاباته الشعبوية كان ابنه يشارك في التجارة معها.[3]

وفي ظل تحول ملف سفن الشحن التجاري إلى ملف جدلي كبير في تركيا أعلن وزير المواصلات والبنية التحتية أن قرابة 700 سفينة انطلقت من الموانئ التركية إلى «إسرائيل» في الفترة بين 7 تشرين الأول و31 كانون الأول،[4] مضيفًا أن هذا العدد يمثل نقل 1.9 مليون طن من البضائع في تراجع بنسبة 30% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي. وكذلك نفت وزارة التجارة التركية أخبارًا تحدثت عن زيادة الصادرات التركية إلى «إسرائيل» عبر أطروحة مركبة وغريبة، إذ أكدت انخفاض الصادرات مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، مشيرةً إلى أن هذه التجارة لا تتم من قبل الشركات الحكومية، بل من قبل شركات خاصة، العديد منها شركات دولية. ومن جهة أخرى ادعت أن «التجارة مع إسرائيل ليست متوجهة إلى المنطقة اليهودية»، بل متوجهة إلى 2.2 مليون فلسطيني من مواطني «إسرائيل»، وكذلك الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة والقدس وغزة مع الإشارة إلى أن جميع البضائع المتجهة إلى المنطقة الفلسطينية يجب أن تمر عبر الجمارك والموانئ الإسرائيلية تحت اسم «إسرائيل». وقد أثار هذا الطرح جدلا آخر خصوصًا أنه يتنافى مع طبيعة العلاقات الاقتصادية والتجارية المعروفة بعمقها وتصاعدها التاريخي بين الطرفين.

التجارة مع «إسرائيل»: جبهة صدامٍ داخلية

صارت قضية التجارة مع «إسرائيل» واحدة من أكثر القضايا جدلًا في الداخل التركي في الأشهر الأخيرة حتى تحولت إلى يمكن وصفه بجبهة صدام جديدة بين الخصوم التقليديين على المستويات الشعبية والحزبية. وبمعزلٍ عن دوافع الجدل، سواء كانت من أجل نصرة فلسطين فعلًا أو لمجرد المزايدة على الخصوم الداخليين، تصاعدت بعض المطالب الشعبية والحزبية الداعية لاتخاذ خطوات عملية تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة، فيما يرى كثيرون أن ملف التجارة مع «إسرائيل» هو اختبار عملي لمصداقية حزب العدالة والتنمية تجاه القضية الفلسطينية. إذ تعتبر شريحة ملحوظة أن هناك تناقضًا كبيرًا بين الخطابيّة الرنانة التي يتبناها أردوغان في الملف الفلسطيني واستمرار التجارة مع «إسرائيل»، ما عزز الاتهامات الموجهة إليه بالتضارب بين القول والفعل الرسمي.

وفي هذا السياق، صار هذا الملف مادة أساسية للعديد من الأحزاب في البرلمان للهجوم على العدالة والتنمية ومقاربته. مثالُ ذلك النائب عن حزب السعادة، حسن بيتمز، الذي توفي على منصة البرلمان بينما كان يهاجم «إسرائيل» والعلاقات معها متهمًا حزب العدالة والتنمية بالشراكة في الجريمة بسبب استمرار التجارة. وقد تقدم حزب السعادة أيضًا بمقترح برلماني لإخضاع البضائع التركية المصدرة إلى «إسرائيل» إلى آلية تقييم دقيق للبحث في كمية ونوع هذه البضائع ودخولها المباشر من عدمه في الصناعات العسكرية التي لها علاقة بالحرب على غزة. لكن تحالف السلطة المكون من نواب حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية أسقط هذا المقترح، ما عمّق حالة الهجوم على العدالة والتنمية في ملف التجارة مع «إسرائيل» بشكل خاص، وموقفه من فلسطين بشكل عام.

تعتبر شريحة ملحوظة من الشارع التركي أن هناك تناقضًا كبيرًا بين الخطابيّة الرنانة التي يتبناها أردوغان في الملف الفلسطيني واستمرار التجارة مع «إسرائيل»، ما عزز الاتهامات الموجهة إليه بالتضارب بين القول والفعل الرسمي.

حرص العدالة والتنمية على دعم حملة المقاطعة الشعبية ضد «إسرائيل» إلى درجة مشاركة بلدياته ومؤسسات أخرى مقربة منه فيها، لكن هذه المقاطعة لم تمتد إلى المستوى الحكومي الرسمي ما خلق حالة تناقض لافتة. وفي هذا السياق، وبينما كان يحشد العدالة والتنمية حلفاءه وقواعده لمظاهرات كبيرة تحت عنوان دعم فلسطين، ركزت المعارضة على استغلال ملف السفن واستمرار التجارة للطعن في مصداقية الرئيس أردوغان وحكومته. مثلًا اعتبر زعيم أكبر أحزاب المعارضة، حزب الشعب الجمهوري، أن المظاهرات الداعمة لفلسطين أمر صحيح لكن قيام السلطة بها «أمر مضحك»، مطالبًا الحزب الحاكم باتخاذ إجراءات عملية، قائلًا إنه بينما يدين العدالة والتنمية «إسرائيل» في مظاهراته تستمر سفن التجارة معها بالإبحار.

وقد صارت حملات قواعد العدالة والتنمية ضد علامات تجارية داعمة لـ«إسرائيل» محلّ تندرٍ من المعارضة على المستوى الشعبي والحزبي على اعتبار أن «القهوة أو الكولا لا تقتل الأطفال، بل الأسلحة المصنوعة من الصلب المصدر من تركيا هي من قتلت آلاف الأطفال» كما صرح بذلك أحد النواب عن حزب الشعب الجمهوري. وقد انتقد الحزب الجيد على لسان العديد من قادته هتافاتٍ أطلقت في مظاهرات المحافظين الداعمة لفلسطين تدعو الجيش التركي إلى التدخل في غزة، من ذلك ما أشار له نائب رئيس المجموعة البرلمانية للحزب الجيد من أن ناقلات النفط تنطلق من مدينة أضنة التركية إلى «إسرائيل» لتزويدها باحتياجاتها من الطاقة، معتبرًا أن المطالبين بذهاب الجيش التركي إلى غزة يجب عليهم أولًا إيقاف تدفق النفط إلى «إسرائيل» إن كانوا صادقين.

يمكن القول بسهولة -وبمعزلٍ عن النوايا- إن المعارضة التركية بمختلف توجهاتها وجدت في ملف التجارة مع «إسرائيل» مخرجًا سياسيًا ضد توظيف العدالة والتنمية للملف الفلسطيني في الداخل التركي. إذ تسعى المعارضة إلى استخدام هذا الملف بشكل فعال لسلب أردوغان ورقة دعم غزة التي يوظفها بكثرة للحشد والتعبئة خاصة عبر هجومه المزدوج على «إسرائيل» وجرائمها وعلى بعض أحزاب المعارضة التركية التي تهاجم حماس وتتّهمها بالإرهاب مثل حزبي الشعب الجمهوري والجيد. من المهم الإشارة في هذا السياق إلى أن أردوغان وحلفاءه تجاهلوا هجمات المعارضة باستخدام ملف التجارة، مع اكتفاء الوزارات المعنية بتصريحات عن انخفاض وتيرتها. وبذلك أصبح ملف التجارة مع «إسرائيل» -والعدوان على غزة نفسه- ملف مزايدات شعبوية على طاولة السياسة الداخلية خاصة مع اقتراب الانتخابات المحلية في 31 آذار المقبل.

أسباب الفصل بين السياسة والاقتصاد

إن فصل الاقتصاد عن السياسة هي استراتيجية براغماتية طبقتها تركيا العدالة والتنمية في مجمل علاقاتها المتوترة خلال أكثر من عقدين، كما هو الحال مثلًا في الصدام الكبير مع مصر عقب سيطرة الجيش على السلطة عام 2013، والإمارات التي اتهمها أردوغان نفسه بتمويل المحاولة الانقلابية ضده عام 2016. إذ استمرت العلاقات الاقتصادية والتجارية مع هذه الدول بالنمو بمعزل عن التوترات السياسية الكبيرة، في سياسة يطبقها العدالة والتنمية في علاقته مع «إسرائيل» أيضًا. لكن اليوم، وفي ظل خطاب العدالة والتنمية الصدامي جدًا تجاه «إسرائيل»، يتردد سؤال مشروع في تركيا وخارجها حول سبب استمرار الفصل بين الاقتصاد والسياسة ومواصلة التجارة مع دولة يعتبرها أردوغان نفسه «دولة إرهابية» ويرى بأن زعيمها «أسوأ من هتلر».

إن دوافع العلاقات التركية الاقتصادية والتجارية مع «إسرائيل» متشعبة ومتداخلة بشكل كبير. يرى البعض أنها تنطلق من اعتبارات اقتصادية خالصة، خصوصًا في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها تركيا في السنوات الأخيرة. فإضافة إلى الخسارة المادية المباشرة من قطع العلاقات، ركز الفريق الاقتصادي الجديد في إطار محاولاته للخروج من الأزمة الاقتصادية الحالية على السعي لإعادة بناء الثقة بالاقتصاد التركي والمقاربة الحاكمة فيه، ما يدفعه إلى تجنب الخطوات التصعيدية على الجبهة الاقتصادية، وبالتالي فإن توجه تركيا نحو الصدامية الاقتصادية مع «إسرائيل» قد يؤثر على رهان الفريق الاقتصادي على تدفق الاستثمارات الخارجية، لا سيما الغربية، ما يعوق جهود الخروج من الأزمة. بالتوازي مع ذلك، لطالما تفاخر أردوغان بأن بلاده ممر طاقة آمن بين مناطق العالم المختلفة، بل يناور في هذا الملف ليجعل تركيا نقطة نقل موارد الطاقة من وسط آسيا إلى أوروبا، ولذلك فإن تحركه ضد نقل دول أخرى (أذربيجان وكازاخستان) للنفط إلى «إسرائيل»، بعد موافقته على ذلك لسنوات، خطوة ستؤثر سلبًا على أطروحة «ممر الطاقة الآمن» التي يتبناها. إضافة إلى ذلك، تُعتبر العلاقة الاقتصادية بين الطرفين علاقة راسخة واستراتيجية على مستوى القطاع الخاص بحيث يمكن القول إن هناك شبكة مصالح متشابكة، مكونة من مستثمرين وشركات من الجانبين، تمتلك علاقات سياسية قوية وتحيط العلاقات التجارية بحصانة ملحوظة تمنع تأثرها بشكل جوهري بالمستجدات السياسية المختلفة.

قد تعاني العلاقات التجارية والاقتصادية بين تركيا و«إسرائيل» تراجعًا على هامش حملات المقاطعة الشعبية المستمرة، إلا أن ذلك لن يؤثر على جوهر هذه العلاقات وثقلها في ظل استمرار السياسة الرسمية المتبادلة بالفصل بين الاقتصاد والسياسة.

رغم كل ذلك، فإن المعروف عن أردوغان أنه شخصية مليئة بالمفاجآت بما قد يتجاوز الحسابات الاقتصادية الصماء، ما يعني أن العوامل الاقتصادية ليست سببًا وحيدًا لاستمرار التجارة مع «إسرائيل»، إذ أن هناك عوامل سياسية مختلفة لا تزال تدفع نحو استمرار الفصل بين الاقتصاد والسياسة. فعلى صعيد السياسة الخارجية من المهم الإشارة إلى أن أردوغان ما زال يراهن على دور تركي في إطار المبادرات الإقليمية والدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية ما يدفعه إلى عدم قطع العلاقات بشكل كامل للحفاظ على موطئ قدم لدى الطرفين. يظهر ذلك جليًا في حديثه المستمر عن أطروحة الدول الضامنة كأرضية للحل، وكذلك تعبيره عن استعداده للمشاركة في الترتيبات التي تلي الحرب. وهنا يبدو لافتًا الهجوم الشخصي على نتنياهو وفق مقاربة عبر عنها أردوغان بوضوح تقوم على فكرة أن نتنياهو «راحل لا محالة» (سيسقط) فيما يعتقد البعض أنه رهان على مرحلة ما بعد سقوطه. وبذلك يمكن القول إن أردوغان يسعى للحفاظ على شعرة العلاقات الاقتصادية والتجارية وعدم إحراق الجسور كلها مع «إسرائيل». وللمفارقة، لطالما شكلت العلاقات الاقتصادية والتجارية إحدى أهم أرضيات التطبيع من جديد بين تركيا و«إسرائيل» بعد كل أزمة سياسية.

إضافة إلى ذلك، وبعيدًا عن السياسة الخارجية التركية والموقف من القضية الفلسطينية نفسها، يرى البعض أن أردوغان يعتبر أن الخطابية الصدامية والتحركات الدبلوماسية خطوات كافية لإقناع الشريحة العريضة من قواعده بجهوده في الملف الفلسطيني وحشدهم وتعبئتهم خاصة مع اقتراب انتخابات آذار المقبل. وبالفعل، فرغم التململ الملحوظ من البعض تجاه ملف التجارة مع «إسرائيل»، كاحتجاجات بعض الجمعيات الإسلامية والتيارات اليسارية، إلا أنه لا يوجد حتى الآن تحرك شعبي مؤثر، خاصة داخل قواعد معسكر السلطة المحافظة والقومية، للضغط باتجاه قطع العلاقات التجارية مع «إسرائيل»، أو فرض أي شكل أو درجة من العقوبات عليها. إذ لا يزال العدالة والتنمية يمسك بزمام المبادرة في توجيه قواعده في ملف دعم فلسطين نحو احتجاجات تضامن وإدانة في ميادين عامة في الغالب، كما يمتلك القدرة على الاستمرار في حصر الصدامية مع «إسرائيل» في إطار خطابي دبلوماسي يمكن توظيفه ضد خصومه داخليًا دون شعوره بالحاجة إلى اتخاذ خطوات أكثر عملية.

في ظل المعطيات الحالية، لا توجد مؤشرات ملموسة على أن تركيا قد تذهب نحو التصعيد الاقتصادي الرسمي والمباشر ضد «إسرائيل» على المدى المنظور رغم استمرار العدوان على غزة ومظاهر التوتر بين الطرفين. قد تعاني العلاقات التجارية والاقتصادية تراجعًا على هامش حملات المقاطعة الشعبية المستمرة، إلا أن ذلك لن يؤثر على جوهر هذه العلاقات وثقلها في ظل استمرار السياسة الرسمية المتبادلة بالفصل بين الاقتصاد والسياسة. وعليه يمكن القول إن تركيا وإن كانت تتيح للقضية الفلسطينية مساحة واضحة في علاقاتها السياسية والدبلوماسية مع «إسرائيل»، إلا أن هذه المساحة شبه معدومة -إن لم تكن معدومة تمامًا- لصالح اعتبارات أخرى على جبهة العلاقات الاقتصادية والتجارية.

  • الهوامش

    [1] بحسب اتحاد مصدري الصلب التركي.

    [2] مجموعة زورلو القابضة من أبرز الشركات التركية التي وضعتها حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) على قائمة المقاطعة نظرًا لعلاقاتها القوية مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، ومؤخرًا برزت حالة سخط عابرة للانتماءات السياسية ضد الشركة وبدأت تتطور لاحتجاج إلكتروني أولًا ثم واقعي.

    [3] أمام هذه الادعاءات تقدمت عائلة الرئيس أردوغان بشكوى قضائية ضد جيهان بتهمة «الإهانة والافتراء» لتفتح النيابة العامة تحقيقًا فيما وصفه أنصار العدالة والتنمية بالتشهير الممنهج ضد عائلة الرئيس في ظل دفاع الصحفي عن نفسه بأن ادعاءاته مستقاة من مصادر مفتوحة ومعروفة للجميع.

    [4] 489 منها كانت نقطة انطلاقها تركيا و221 سفينة كانت تركيا نقطة عبور لها.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية