«ممنوع ينزل على الطاولة»: كيف اختفت بيبسـي من مطاعم عمّان؟

الأحد 19 أيار 2024
ثلاجات ماتركس كولا في المطاعم والمحلات بعد استمرار حملة المقاطعة. تصوير مؤمن ملكاوي

«اشرب المرطب المفضل في العالم أجمع»، بهذه العبارة وبعد افتتاح أول مصنع لها في الأردن عام 1963، نشرت شركة بيبسي أول إعلان لها في الصحف يتوسطه صورة زجاجة كولا داعيةً الأردنيين لتجربة «مشروب سيحبونه حتمًا، يتمتع بقوة فورانه ولذة طعمه».

استحوذت بيبسي لثلاثة عقود على معظم حصة السوق الأردني من المشروبات الغازية بعد أن أعاقت انتشار المشروبات الغازية المحلية مثل «كازوز نجار» السوري الذي ظهر في الخمسينيات، و«أردن كولا» في الستينيات. في حين دخلت شركة كوكاكولا على خط المنافسة في 1993 وروّجت لزجاجات كولا بحجم أكبر، أشهرها «الجامبو» 350 مل، ورغم المنافسة بين الشركتين على تقديم المشروب الغازي المُصنّع من أوراق نبتة الكوكا والفانيلا والكثير من السكر، بحسب أقدم وصفاته، سيطرت بيبسي على الحصة الأكبر من السوق.

فتى يحمل صندوقًا من زجاجات البيبسي الفارغة في أحد أسواق عمان عام 1990. المصدر: صفحة صور قديمة تحكي الأردن.

وجدت بيبسي وكوكاكولا طريقهما إلى رفوف المحلات وثلاجات المطاعم وموائد الأردنيين وحياتهم اليومية، وظهرت منتجاتهما في صور حفلات الزفاف حيث يتشارك العرسان الشرب من نفس زجاجة الكولا، وفي صور الباعة المتجولين الذين يحملون «بُكس» الزجاجات القابلة للإرجاع على أكتافهم، وفي أيدي الأطفال الذين يجمعون الأغطية المعدنية من شوارع ودكاكين حاراتهم ويتبادلونها كعُملات مزيفة. لا يعني ذلك أن الشركتين لم تشهدا إخفاقات متفرقة جراء إغلاق بعض مصانعهما، أو دعوات مقاطعة المنتجات الأمريكية أثناء غزو العراق، أو التحذيرات الطبية لأضرارهما على الصحة، أو حتى انتشار شائعات حول شعار كوكاكولا وعبارة «لا محمد لا مكة». لكن أيًا من هذه المحطات لم تتجاوز كونها تراجعًا موسميًا في المبيعات، ولم تقدّم أي منتج غازي محلي من شأنه أن ينافس هاتين العلامتين التجاريتين.

إعلان بيبسي كولا الأول في الأردن عام 1963. المصدر: زمانكم.

لكن، منذ تشرين الأول الماضي، أظهر الالتزام الشعبي بدعوات مقاطعة المنتجات الداعمة للاحتلال الإسرائيلي على خلفية الحرب الإسرائيلية على غزة تراجعًا حادًا في الإقبال على المشروبات الغازية لبيبسي وكوكاكولا. كما توجه الأردنيون لاستهلاك البدائل المحلية التي تنتجها شركات منافسة وجدت في المقاطعة فرصة لطرح منتجاتها في الأسواق. ويعتبر استهلاك المطاعم واحدًا من أبرز المؤشرات التي تدلل على انتشار مقاطعة المشروبات الغازية، إذ أصبحت تقدم وجباتها بشكل بديهي مع الكولا المحلية، كما سارعت معظمها لإعادة تصميم المنيو والصور الترويجية على مواقع التواصل الاجتماعي لاستبدال مسميات وصور منتجات البيبسي والكوكاكولا بأخرى محلية.

طوفان الأقصى كمحطة فارقة

«هاي العلبة يعني بدها تكسر إسرائيل وأمريكا؟»، قال أحد الزبائن لمحمد كيال، المؤسس المشارك لمطعم فلافي برغر، بعد أن امتنع الأخير عن تقديم البيبسي مع وجبات المطعم. اعتاد كيال على تزويد محله بحوالي 350 إلى 500 صندوق من البيبسي شهريًا (24 علبة في الصندوق الواحد): «أكل زي البروستد والبرغر، ما بمرق بدون مشروب غازي، كان عنا عصير نكتار، بس ما حدا بطلبه»، يقول كيال. وبالنسبة لمطعم صغير نسبيًا وله فرعان فقط، فقد كان كيال يتطلع لنهاية عام 2023 حيث ستتجاوز مبيعاته التراكمية ألفي صندوق، ما يجعله مستحقًا لخصم ومكافأة (بونص) من الشركة، لكنه بعد الحرب على غزة قرر مقاطعة البيبسي، وكان في المطعم حينها حوالي 52 صندوق بيبسي باعها بأقل من سعرها الاعتيادي لكشك في منطقته وبالتقسيط لمدة ست أشهر.

خلال النصف الأول من 2023، تجاوزت شركتا بيبسي وكوكاكولا العالميتان توقعات المحللين في وول ستريت، حيث رفعت الأولى توقعات أرباحها للعام بأكمله من نسبة 8% إلى 12%. أما الثانية فقد ارتفع صافي مبيعاتها في الربع الأول من 2023 بنسبة 5% إلى 10.98 مليار دولار مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق. لم تحقق الشركتان توقعاتها المأمولة في الربع الأخير من 2023، إذ تراجعت أرباح كوكاكولا 3% في الربع الأخير من 2023 مقارنة بالربع الأخير من 2022، كما شهدت أسهمها تذبذبًا ملحوظًا، وقد عزت الشركة هذا الانخفاض إلى ارتفاع سعر الدولار الذي يؤثر سلبًا على معاملات تحويل الأرباح التي تحققها في بلدان العالم بالعملات المحلية.

باتت المنتجات المحلية تحتل مكان منتجات بيبسي في ثلاجات الأخيرة.

بالنسبة لشركة بيبسي كان الوضع أسوأ، إذ انخفض صافي المبيعات بنسبة 0.5% خلال الربع الأخير من 2023،[1] ما يمثل أول انخفاض فصلي في إيرادات الشركة منذ الربع الأول من عام 2020. كما تراجعت إيراداتها خلال الربع الأخير نفسه لما هو أقل من توقعات المحللين رغم أن أرباحها ارتفعت عمليًا. جاءت زيادة الأرباح جراء ارتفاع أسعار منتجاتها بنسبة 11% وهو ما اعتبرته الشركة أحد أسباب التراجع في المبيعات، متوقعة أن يكون النصف الأول من عام 2024 أضعف «بفعل الصراعات الدولية التي أضرت بالمبيعات في بعض المناطق». امتنعت الشركتان في التصريحات الأخيرة عن عرض الإيرادات من منطقة الشرق الأوسط، وقد حاولت حبر التواصل مع الإدارات المحلية لكوكاكولا وبيبسي في الأردن دون التمكن من الحصول على رد من أيٍ منهما.

كغيرها من المستهلكين، شاهدت بشرى (33 عامًا) منشورات المقاطعة على مواقع التواصل الاجتماعي، وما أثير حول صلة الشركتين المباشرة أو غير المباشرة بدعم الاحتلال الإسرائيلي، لذا قررت التوقف عن شرائها: «كنت ما بقعد على الغدا إذا ما في كوكاكولا» تقول بشرى، مضيفةً أن المخاطر الصحية للمشروب والتي كانت والدتها تخبرها بها مع كل وجبة تتناولها لم تكن كفيلة بمنعها عن شرائه، إذ بدونه تصبح مهمة هضم الأكل واستطعامه عسيرة بالنسبة لها. لكن هذه الحرب غيّرت نظرتها: «بعرف عن المقاطعة من قبل، بس هاي أول مرة بشوف أثرها»، قائلةً إن قيام بيبسي بطرح منتج جديد هو أكبر دليل على نجاح المقاطعة، في إشارة لمشروب «تيم» الذي ظهر مطلع العام الجاري في بعض الأسواق العربية وجرى ترويجه على أنه منتج مصري، فيما أعلنت حملات المقاطعة أن هذا المشروب الذي يعود انتشاره لفترة الثمانينيات والتسعينيات هو علامة تجارية تابعة لبيبسي.

اليوم، تكاد مطاعم عمان تخلو من مشروبات بيبسي وكوكاكولا بعد أن أخذت دعوات المقاطعة نمطًا جديًا من الالتزام لتصبح على ما يبدو جزءًا من الثقافة الاستهلاكية العامة، وهو ما انعكس على تقديم المطاعم للمنتجات البديلة. جرّب كيال مثلًا 11 مشروبًا غازيًا بديلًا، قبل أن يستقر على صنفي «ماتركس» و«سما» بعدما صار قادرًا على تحديد تفضيلات الزبائن ومدى قدرة هذه العلامات التجارية على تغطية الطلب: «إنت بالآخر بدك شركة عندها موارد وخطوط إنتاج وموزعين». ينسحب الحال نفسه على الكثير من المطاعم، وإن كانت قدمت لزبائنها مشروبات غازية من علامات تجارية أخرى، مثل مطعم خبزة وصلصة الذي استهلك آخر مخزون لديه من البيبسي عبر توزيعه مجانًا مع كل الوجبات حتى تلك التي لا تحتوي على مشروب، ثم استبدل معدل استهلاكه من البيبسي البالغ 50 صندوق أسبوعيًا بمشروبي الكولا لشركتي «بيغ» و«سوفت». يقول براء الجالودي، مالك المطعم: «حسيته أكثر إشي عجب العالم، وسعره أقل من البيبسي»، مضيفًا إن سعر علبة المشروب المحلي يبلغ 20 قرشًا بالجملة، أي أقل بأربع قروش عما اعتاد دفعه لشراء البيبسي.

إعلانات ماتركس كولا، المشروب الغازي محلي الصنع، في شارع المدينة المنورة في عمان.

الرهان على المحلّي

«أول الحرب كنا ندوّر ماتركس دوارة، هسا مش ملحقين دعايات» يقول غيث، وهو طالب في الجامعة الأردنية. حيث يشهد السوق الأردني اليوم خيارات متنوعة للمشروبات البديلة منها ماتركس وسما وكينزا وكناري وسوبر وسيناليكو وبيغ، معظمها ظهر وتوسّع منذ تشرين الأول الماضي. يقول أحد موظفي التوزيع في شركة ماتركس -فضّل عدم الإفصاح عن اسمه- إنه يوزع ما لا يقل عن أربعة آلاف صندوق في اليوم الواحد لمئات الموردين ونقاط البيع في المملكة، مؤكدًا أن المطاعم شهدت ارتفاعًا كبيرًا بمعدلات طلبها خلال الأشهر القليلة الماضية، على عكس المتاجر الكبرى التي انخفض التوريد إليها بعد انخفاض مبيعاتها هي الأخرى جراء المقاطعة أيضًا.

تُصنّع ماتركس المشروبات الغازية منذ عام 2007، ولطالما عانت من ضعف الإقبال: «كان عنا مشكلة ندفع الزبائن للخطوة الأولى، وهي إنه يجرب المنتج فقط»، يقول مشرف المبيعات في الشركة، فايز السطري، مضيفًا أن المقاطعة حفزت الناس لشراء منتجهم، واعتمده الكثيرون بعدما قيّموا جودته. وقد نفذت مارتكس حملة تسويقية واسعة النطاق في جميع محافظات المملكة للتعريف بالمنتج عبر المتاجر ومنشورات مواقع التواصل الاجتماعي وإعلانات الشوارع. واستفادت من مواردها الموجودة أصلًا مثل خطوط الإنتاج والتوزيع الضخمة وقواعد بيانات العملاء: «ما كان صعب علينا نتوسع، عشان ما احتجنا نبلش من الصفر، إحنا بس زدنا خطوط الإنتاج وعدد الموظفين»، يقول السطري.

تفرض الحرب الإسرائيلية الجارية على غزة حضورها على الأسواق وخيارات المستهلكين في الأردن، حيث تحولت إعلانات الشوارع من «عيش اللحظة» و«افتح تفرح» إلى «منتج وطني» و«أردنية 100%».

ومنذ تشرين الأول الماضي تضاعفت مبيعات الشركة من المشروبات الغازية، وصار لها اليوم حصة وازنة من سوق المشروبات الغازية في الأردن، بحسب السطري. بالإضافة إلى ماتركس، قفزت مبيعات شركة سما، التي تنتج أنواعًا متعددة من العصائر والمشروبات الغازية والمياه المعدنية منذ عام 2009، إذ تضاعفت مبيعاتها من مشروب الكولا مقارنة مع العام الماضي بعد أن ضاعفت قدرة خط الإنتاج لديها ليقدم 30 ألف علبة في الساعة توزّع على آلاف الباعة، كما ارتفع عدد موظفيها من 180 قبل المقاطعة إلى 220 حتى أواخر آذار الماضي، موزعين ما بين الإنتاج والمبيعات، بحسب مصطفى الطيراوي، مدير قسم المطاعم والفنادق في الشركة.

وبالإضافة إلى الشركات المحلية المصنعة للمشروبات الغازية منذ ما قبل الحرب، شجعت المقاطعة شركات جديدة للدخول في المنافسة وافتتاح خطوط إنتاجية جديدة بالكامل متخصصة في إنتاج الكولا. منها مثلًا شركة كناري التي تبيع عصائر غازية بنكهات فواكه مختلفة منذ عام 2014، لكنها بعدما شهدت الالتزام بالمقاطعة لشهرين، قررت تصنيع الكولا من أجل تلبية حاجة السوق من المشروبات الغازية: «في البداية كانت الناس خايفة تغامر وتنكسر، لكن المقاطعة استمرت وبطلت الناس تجيب بيبسي»، يقول أحد موظفي التسويق لدى وكيل شركة كناري.[2] وقد انعكس الإقبال على شراء كولا كناري في تحسين مبيعات مشروبات العصائر الأخرى التي تنتجها نفس الشركة بنسبة 70% تقريبًا مقارنة بما كانت عليه عام 2022.

وفضلًا عن المنتجات المحلية، ظهرت مشروبات غازية مستوردة من الأسواق العربية إلى الأردن، أحدها هو مشروب «كينزا» الذي يستورده الوكيل المحلي من الشركة الأم في السعودية؛ شركة أبو عودة إخوان التي تأسست عام 1997 وتعمل في إنتاج وتعبئة المواد الغذائية والمعلبات، لكنها في تشرين الثاني الماضي أعلنت عن منتجها الجديد «كينزا». يقول أنس أبو عودة، المدير التنفيذي للمبيعات والتسويق لدى الوكيل المحلي، إن الشركة تتطلع لافتتاح مصنعها الخاص في الأردن بعد أن شهدت مبيعاتها نموًا متسارعًا وتوسعًا في عمليات استيراد وتوزيع هذا المنتج.

لم يكن من السهل إقناع المستهلك الأردني بتجربة مشروبات غازية غير البيبسي والكوكاكولا، وبالنسبة لماتركس، شكلت المقاطعة شرارة انتشارهم كما يؤكد السطري، مضيفًا أن وجودهم في السوق اليوم مرتبط بجودة المنتج وبخطة طويلة الأمد تسعى لتغطية كل المملكة والالتزام بمعاملات مالية ذات عقود سنوية وتوزيع الثلاجات على المطاعم: «خطتنا الآن إنه تكون كولا ماتركس معروضة في ثلاجات ماتركس».

المشروبات الغازية محلية الصنع التي باتت تحتل أرفف الثلاجات إلى جانب البيبسي. 

في بعض الحالات، شجعت المقاطعة الأفراد على التوقف عن شراء المشروبات الغازية بشكل كامل لأسباب صحية، ومن بينهم بشرى: «جربت المحلي وحبيته، بس حكيت خليها فرصة إني أبطل بالمرة»، وهي تقول إن المقاطعة لم تجعلها أكثر انتقائية في مواقفها ومشترياتها فحسب، بل أثرت أيضًا على فهمها لعافيتها وصحتها العامة. أما غيث فيحرص على تتبع منتجات كل شركات بيبسي وكوكاكولا من غير المشروبات الغازية، مثل المياه ومشروبات الطاقة، ليخبر زملاءه في الجامعة عنها، وكذلك المطاعم المحيطة بمنطقة سكنه قائلًا: «ما ظل مطعم مش ملتزم بالمقاطعة، إلا اللي هو نفسه مُقاطَع»، في إشارة لمطاعم العلامات التجارية العالمية التي ما زالت تقدم البيبسي والكوكاكولا مع وجباتها.

يبدو أن مقاطعة شركتي كوكاكولا وبيبسي هذه المرة تتجاوز كونها هبّة مرحلية، إذ يعبّر أصحاب المطاعم والأفراد المقاطعين عن التزامهم هم وعائلاتهم بها باعتبارها مسألة شخصية وانحيازًا جادًا للموقف الشعبي. وبعكس الأزمات والحروب العالمية التي استغلتهما الشركتان لزيادة الطلب العالمي على منتجاتها، واحتكار مبيعات السكر والموارد الطبيعية في البلدان النامية، وتعميم ثقافة المشروبات الغازية بوصفها جزءًا من حياة استهلاكية رأسمالية قائمة على الوجبات السريعة والإنتاجية العالية، تفرض الحرب الإسرائيلية الجارية على غزة حضورها على الأسواق وخيارات المستهلكين في الأردن، حيث تحولت إعلانات الشوارع من «عيش اللحظة» و«افتح تفرح» إلى «منتج وطني» و«أردنية 100%».

  • الهوامش

    [1] مسجلًا 27.85 مليار دولار.

    [2] فضّل عدم الإفصاح عن اسمه.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية