بشار حميض/ باحث في مجال المقاومة المدنية والطاقة
في سياق البحث عن نموذج مناسب لتحرير فلسطين مدنيا، كثر في العقدين الأخيرين تشبيه الحالة الفلسطينية بحالة جنوب أفريقيا التي خضعت لنظام الفصل العنصري. فوجود المستوطنات بكثافة في الضفة الغربية وإصرار إسرائيل على يهوديتها والتطرف المستمر نحو اليمين في المجتمع الإسرائيلي ورغبته بالتخلص من فلسطينيي الداخل، أو عزل مناطقهم، يجعل الحالتين الجنوب أفريقية والفلسطينية تقتربان من بعضهما من حيث الخصائص.
مانديلا والعسكرة
صحيح أن هذا التشابه يجب استغلاله بقوة أكبر في سياق التحركات الفلسطينية، ولكن يجب الانتباه أيضا أن الطريقة التي أُسقط فيها نظام الفصل العنصري الجنوب أفريقي ليست بالضرورة هي الطريقة المناسبة بكل عناصرها للحالة الفلسطينية. فلقد انتهجت في جنوب إفريقيا وسائل في المقاومة أرى أنها أطالت من عمر نظام الفصل العنصري الذي خدع العالم لعشرات السنين بحجة أن المقاومة ضده هي حركة عسكرية إرهابية. وكان لنيلسون منديلا دور مهم في عسكرة الصراع، حيث أنه انتهج منذ عام 1961 المقاومة العسكرية ضد نظام الفصل العنصري وذلك من خلال قيادته للجناح العسكري للموتمر الوطني الأفريقي المعروف بسيف الأمة (Umkhonto we Sizwe). مانديلا اتخذ هذا النهج بعدما اعتبر أن الوسائل اللاعنفية التي تبناها المؤتمر الوطني الأفريقي ANC لعشرات السنين في السابق قد فشلت، فيما بقي آخرون متمسكين بخيار المقاومة المدنية. وكان لانتهاج الأسلوب العسكري في المقاومة أثر سلبي ليس فقط في إطالته لعمر الصراع وإنما على حقوق السود أيضا. فقد مارس المؤتمر الأفريقي التعذيب في معسكراته “بشكل روتيني” خصوصا في الفترة ما بين عام 1979 إلى 1989، كما ورد في تقرير للجنة الحقيقة والمصالحة التي أسست في جنوب افريقيا بعد زوال نظام الفصل العنصري. كذلك فإن المؤتمر الوطني وحزب إنكاثا للحرية IFP المدافعين عن حقوق السود وقعا في أتون حرب دموية بينهما امتدت لسنوات خلال تسعينيات القرن الماضي الذي أصبح فيه العنف يوجه فيه بشكل متزايد ضد السود بدلا من مقاومة نظام الأبارتهايد.
عسكرة الثورات
إن هناك ضرورة لإعادة النظر في الجانب “البطولي” لعسكرة الثورات العربية الجارية حاليا والتي جرت من قبل ضد الاستعمار، ودراسة ما نتج وما يمكن أن ينتج عنها من أنظمة ودول. فالدول التي نراها اليوم تفتك بمواطنيها أشد الفتك، هي الدول نفسها التي طالما أشاد خطابها الرسمي والشعبي ببطولاتها العسكرية في “دحر الاستعمار” و”تطهير البلاد من العملاء”. نفس النخب العسكرية ذات التاريخ في محاربة أعداء الخارج، تتشدق اليوم بمحاربة أعداء الداخل، الذين هم الشعب. فالتشكيلات والأنظمة المسلحة تحمل في طياتها طاقة سلبية تدميرية تنعكس على الذات بعد أن تنتصر على الآخر أو حتى حين تفشل في الانتصار عليه. وعادة ما تتمثل الحركات العسكرية التحررية أساليب المحتل القمعية بسرعة، لا بل أنها تزيد عليها وتطورها، نظرا لطبيعة العمل العسكري المبجل للقوة، غير القائم على النقاش أو الحوار والاختلاف بقدر ما هو قائم على تنفيذ الأوامر. ولعل المثال الحي على ذلك ما ورد مؤخرا في تقارير منظمات حقوقية دولية من قيام قوات الثوار في ليبيا بممارسة أصناف التعذيب ضد المدنيين، مثلما تفعل كتائب القذافي، وهو ما يلقي بظلال قاتمة على شكل النظام القادم في ليبيا.
ما يمكن استخلاصه من مثال جنوب أفريقيا هو ضرورة مواجهة العنصرية التي تمارسها بخطاب وعمل مقاوم قوي التأثير، غير عنصري ويحشد التضامن العالمي خلف الحق بالعيش في دولة تكون لكافة مواطنيها دون تمييز ديني أو إثني، مثلما كان يطالب المؤتمر الوطني الأفريقي منذ بداية تأسيسيه وحتى آخر يوم من الصراع، فهذه كانت العناصر التي أدت إلى تداعي نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا في النهاية، فقد سقط نتيجة أنه أصبح عبئا على دول العالم التي لم تستطع تبرير وقوفها إلى جانبه، وهو ما نرى بوادر حصوله في حالة إسرائيل أيضا. وفي السياق الفلسطيني فإن ذلك يعني ضرورة البدء بمقاومة جذرية للطبيعة الصهيونية لإسرائيل وحشد القوى الفلسطينية في الضفة والقطاع والداخل والشتات نحو مشروع واحد للتحرير بالتعاون مع كل القوى الدولية واليهودية غير الصهيونية وفق شروط صارمة ترفض الطبيعة اليهودية للدولة وقوانينها ومستوطناتها.
——-
* هذه سلسلة مقالات منبثقة عن بحث حول استراتيجية للمقاومة المدنية لتحرير الإنسان على كامل أرض فلسطين. ستعالج المقالات بالترتيب المواضيع التالية: ماهية المقاومة المدنية وفلسفتها، العسكرة والمقاومة المدنية في التاريخ الفلسطيني، هل حان وقت المقاومة المدنية؟ فعالية المقاومة المدنية، أسس المقاومة المدنية في فلسطين، تمكين المقاومة بالثورة الخضراء والمدن والقرى المستقلة ذاتيا من حيث الطاقة والمياه والغذاء.
تُنشر هذه السلسلة هنا بالتنسيق والتعاون مع موقع “قاديتا”
رابط للمقال الثالث: فلسطين التي نريد
رابط للمقال الرابع: دقت ساعة الانتفاضة
رابط للمقال الخامس: عائد إلى يافا
رابط للمقال السادس: تشويش على الإصلاح!
رابط للمقال السابع: الكيان القلق
*الصورة أعلاه من موقع Flicker.
اشكر للكاتب مناقشة هذا الموضوع الهام والذي غفل عنه الكثير من الباحثين في الصراع العربي الاسرائيلي , و سأحرص على قراءة اجزاء هذه السلسة السابقة .
باعتقادي ان المقاومة المدنية تحمل طاقة هائلة لم يتم استغلالها بالشكل الصحيح حتى الان في صراعنا مع العدو الاسرائيلي .
ما من شك ان الحالة الفلسطينية تختلف بشكل كبير عن حالة جنوب افريقيا حيث كانت المقاومة من قبل فئة مضطهدة من الشعب ضد نظام عنصري لنفس الدولة التي يعيشون فيها, لتحصيل حقوقهم المدنية التي يجب ان يحظوا بها في دولتهم, و هي بذلك تختلف عن الحالة الفلسطينية حيث الصراع بين شعب و “دولة” ,هذا الشعب ليس من مواطني تلك الدولة اصلا حتى يكون لديه حقوق مدنية عليها , ولا هو اصلا معترف به على اساس انه شعب محتل حتى يتحمل الاحتلال تكاليف حقوقه المدنية ,فهو حتى الان كونه لا يملك دولة , قانونيا , مجرد شعب يخوض نزاع مع هذه الدولة على اراضي الضفة الغربية و قطاع غزة وليس شعبا محتلا .
طبعا لا يعني هذا عدم وجود متسع للمقاومة المدنية تحت الوضوع الحالي , هنالك الكثير مما يستطيع الشعب الفلسطيني فعله في اطار مقاومته المدنية ,يستطيع من خلالها ان يشوه الصورة العالمية الجميلة التي رسمتها اسرائيل لنفسها , و التي باتت تسوء يوما بعد يوم , بما يمكنه من انتزاع حقوقه منها . و قد عبر كثير من المسؤولين الاسرائيليين عن تخوفهم من اندلاع انتفاضة ثالثة تكون على غرار ثورات الربيع العربي في الدول العربية المجاورة. فلماذا لا تنطلق المسيرات المليونية الى جدار الفصل العنصري ؟ و لماذا لا تكون هنالك اعتصامات حاشدة و مستمرةعلى جميع الحواجز الاسرائيلية ؟و لماذا الشعب الفلسطيني الذي كان سباقا لجميع الشعوب العربية في الثورات بات متأخرا عن اخوانه العرب؟لماذا لا يتم مأسسة اختراقات الحدود من فلسطينيي الخارج و تنظيمها و تحويلها الى اعتصامات كبيرة و مستمرة تلفت انتباه الرأي العام العالمي لقضية اللاجئين و تضع اسرائيل في موقف حرج, ؟(طبعا هذه الاخيرة تحتاج الى رفع قبضة بلاد الطوق و السماح بهذه التحركات)
لذلك باعتقادي ان هذه المقاومة يجب ان تكون بموازاة عمل ,ليس فقط سياسي , و انما قانوني دولي ايضا , يدفع باتجاه حل الدولة الواحدة , خصوصا ان حل الدولتين استنفذ اكثر من حقه بكثير و اصبح في عداد الموتى . في اطار دولة واحدة , سيكون هنالك مجال اوسع للمناورة و ستتنوع اساليب المقاومة المدنية اكثر .
و يعتبر الساسة الاسرائيليون حل الدولة الواحد بمثابة الفخ او الكابوس الذي يحاولون تجنبه . و على سيرة جنوب افريقيا فقد ذكر ايهود اولمرت هذا المثال بالذات و حذر منه في مقابلة له مع هارتز عام 2007 في نهاية مؤتمر انابوليس :http://www.haaretz.com/news/olmert-to-haaretz-two-state-solution-or-israel-is-done-for-1.234201
أشكرك جزيلا على هذا التعليق..
أعتقد أن ما تقوله حول الدولة الواحدة صحيح تماما، وفي حالة مطالبتنا بالدولة الواحدة، وهو المطلب الأصيل للشعب الفلسطيني الذي لم يقبل حل الدولتين إلى على مضمض، فإننا سنحول الصراع من خارج إلى داخل الدولة. وهنا تكمن قوة القضية الفلسطينية مقابل الإدعاءات الصهيوينية. وبالمناسبة الحديث عن ضعف الصهيونية الشديد هذه الأيام أود أن أشير إلى الرابط التالي الذي يتحدث عن قيام وزارة الداخلية بتجميد مواطنة أحد “اليهود” فقط لأنه تحدث في مقابلة مع صحيفة أنه ليس يهوديا بالمعنى الحرفي للكلمة.، ما يدل على مدى هشاشة النظام هناك.
http://t.co/Z5ynLw5