)نشر بالتعاون مع طريق(
بقلم محمد شجاع الأسد
نظرت من أحد شبابيك منزلنا في ساعات الصباح الباكر قبل عدة أيام لأجد أن أعمال البناء قد بدأت على قطعة الأرض الفارغة الوحيدة قرب بيتنا. وبعد السؤال عرفنا أن مستثمراً قد بدأ ببناء عمارة من ثماني شقق على قطعة الأرض. وكان مستثمر آخر قد اشترى قبل عدة أسابيع أرضاً أخرى مقابل بيتنا تتكوّن من قطعتين تحتوي واحدة منها على بيت ملحقة به شقة صغيرة في منطقة التسوية، بينما القطعة الأخرى هي امتداد لحديقة المنزل. وسيقوم هذا المستثمر بهدم المنزل وبناء عمارتين تحتوي كل منهما على ثماني شقق. والقصة لا تنتهي هنا، فأرض بيتنا أيضاً تتكوّن من قطعتين، تحتوي قطعة منهما على بناء يتكوّن من طابقين، أسكن أنا وعائلتي في الطابق العلوي ويسكن أهلي في الطابق الأرضي، والقطعة الأخرى هي امتداد لحديقة البناء. وقد طلب أكثر من مستثمر من أهلي خلال الأشهر القليلة الماضية شراء القطعتين بهدف هدم البناء وتشييد عمارتين تحتوي كل منهما على ثماني شقق.
وتعني هذه التطورات أن الحي الذي نسكنه سيضاف إليه خلال السنة القادمة ثلاثة أبنية سكنية تحتوي على 24 شقة. ولو قبِل أهلي ببيع بيتنا لكان العدد ارتفع إلى خمسة أبنية تحتوي على 36 شقة. وتقع جميع هذه الأبنية في منطقة لا تتعدى مساحتها نصف هكتار.
إن عمّان قد وصلت إلى مرحلة جديدة من نموها المستمر. فقد كانت عمّان لفترة طويلة – حتى التسعينات من القرن الماضي – مدينة تحتوي على عدد كبير من قطع الأراضي غير المبنية. ومع أن سعر الأراضي كان يرتفع باستمرار، إلا أن عرض الأراضي لم ينقطع داخل حدود أمانة عمّان، التي كانت تتوسع باستمرار. ولم تنتشر مشاريع البناء الاستثمارية المكوّنة من العمارات السكنية في عمّان حتى التسعينات، فقد كان سكان المدينة حتى ذلك الحين في الأغلب يشترون أرضاً ويبنون عليها بناء قد يتكوّن من وحدة أو وحدتين سكنيتين. وقد يبنون طابقاً ثانياً أو ثالثاً مع الوقت (لم يُسمح ببناء طابق رابع في أغلب الأحيان حتى قبل حوالي العقدين) ليسكن فيها أبنائهم او ليؤجّروها.
هناك العديد من العوامل التي سمحت بانتشار هذه المشاريع الاستثمارية السكنية في عمان. الأول كان تغييراً في قوانين امتلاك العقارات حدث في أوائل السبعينات، فحتى ذلك الحين لم يكن بالإمكان امتلاك شقة سكنية في عمارة، إذ لم يكن ممكناً سوى امتلاك نسبة من العمارة. ولكن التغيير في القوانين سمح بشراء شقق في عمارة سكنية.
ومع أن هذا التغيير هيّأ الوضع لانتشار مشاريع بناء استثمارية تتكون من عمارت سكنية، إلا أن انتشار هذه العمارات لم يحدث إلا في وقت لاحق. ومن التطورات المهمة التي سمحت بذلك هو بدء البنوك في التسعينات بتقديم القروض السكنية طويلة الأمد. وبذلك أصبح بالإمكان اقتناء مسكن دون الحاجة إلى توفير ثمنه بالكامل، بل أصبح من الممكن توفير جزء من ثمنه واستدانة الجزء الباقي من البنوك. وقد سمح هذا التطور لشريحة أكبر من السكان بأن تتملك مساكنها بسرعة أكبر، ومن الطبيعي أن يختار غالبيتهم، وخاصة الذين تزوجوا حديثاً، السكن في شقق سكنية إذ أنهم لا يحتاجون إلى مساكن كبيرة وحدائق لا يستطيعون تحمّل كلفتها.
ومع الارتفاع المستمر في أسعار الأراضي، أصبحت كلفة امتلاك منزل بحديقة في أواخر التسعينات مرتفعة للغاية لغالبية سكان عمّان، ولذلك بدأوا يسكنون في الشقق السكنية بدلاً من المنازل. ومع توسع عمّان السريع، أصبحت الازدحامات المرورية جزءاً من الحياة اليومية، وهذا جعل الكثيرين يفضلون السكن في مناطق مركزية من المدينة بدلاً من أطرافها. ومع أن سعر الأراضي أعلى في هذه المناطق المركزية، إلا أن ثمن الأرض في العمارة السكنية يوزّع على أصحاب شققها. ولذلك بدأت أراضي عمان الفارغة تبنى، خاصة تلك القريبة من مركز المدينة. وبما أن عدد سكان الأردن في تزايد مستمر، بالإضافة إلى وفود السكان من البلدان المحيطة بالأردن بسبب سوء الأوضاع الأمنية في بلادهم، فإن الطلب على السكن في عمان يبقى قوياً، حتى مع ضعف الوضع الإقتصادي العام، كما هو الحال هذه الأيام.
دعني هنا أعود إلى الحي الذي نسكن فيه. وقتما اشترى أهلي البناء الذي نسكن فيه، كان عدد الأراضي الفارغة حولنا يفوق عدد الأراضي المبنية، وكانت غالبية الأبنية حولنا تتكوّن من بيوت وليس من شقق سكنية. ومع الوقت، بدأت الأبنية بالانتشار في هذه القطع الفارغة، وأصبحت غالبيتها تتكوّن من شقق سكنية. ومع أن المنطقة كانت تقع في أطراف عمان (بين الدوارين السادس والسابع، غرب شارع المدينة المنورة) إلا أنها الآن منطقة مركزية نسبياً، ليس فقط بسبب نمو المدينة حولها، وإنما أيضاً لأن الكثير من نشاطات المدينة التجارية والمؤسسية المختلفة انتقلت إلى مناطق مثل منطقتنا.
والآن وقد امتلأت جميع أراضي المنطقة التي نسكن فيها، فإن المنطقة دخلت مرحلة جديدة من تطورها. إن المستثمرين بدأوا يشترون البيوت في المنطقة مثل تلك التي ذكرتها في بداية هذه المقالة. ومع أن عمرها لا يزيد على ثلاثين عاماً إلا أنهم يقومون بهدمها لتشييد أبنية شقق سكنية مكانها. إن هذه الظاهرة منتشرة في المناطق التي تقع في وسط المدينة التقليدي ولكنها بدأت بالانتشار في أجزاء عمان المختلفة. إن عمّان تمر بنفس المرحلة التي مرت بها مدن أخرى في المنطقة مثل بيروت والقاهرة من قبل حيث هُدمت المنازل وحلّت مكانها عمارات الشقق السكنية.
إن المدن بطبعها أماكن يتمركز فيها الناس. ويرافق نمو المدن ارتفاع أسعار الأراضي فيها بسبب الطلب المتزايد عليها. ويعني ارتفاع أسعار الأراضي أن أصحابها سيريدون بناء أكبر مساحة عليها تسمح لهم بها تنظيمات البناء، ونجدهم يمارسون الضغوطات المختلفة على السلطات المعنية حتى يستطيعوا زيادة مساحات البناء المسوح بها. فكلما ازدادت المساحات المبنية على قطعة الأرض، كلما ارتفع المردود المالي للمستثمر الذي يقوم بالبناء على الأرض. وهذه الزيادة في مساحة البناء تؤدي بالنتيجة إلى زيادة في الكثافة السكانية.
إن الزيادة في الكثافة السكانية توفّر بعض المزايا لسكان المدينة. فوجود عدد كبير من السكان في منطقة معينة يعني أن هذه المنطقة تحتوي على عدد كافٍ من السكان يسمح بتطوّر الخدمات المختلفة فيها من متاجر ومطاعم ومدارس ومكاتب وعيادات صحية. ووجود هذه الخدمات بالقرب من سكان المنطقة بعني أنه يمكنهم الوصول إلى هذه الخدمات بسهولة ومن دون أن يضطروا إلى قطع مسافات كبيرة، وأنه يمكنهم في أغلب الأحيان أن يصلوها مشياً على الأقدام.
وحتى تكون هذه المناطق ذات الكثافة العالية مناسبة للسكن يجب توفير الخدمات والبنية التحتية اللازمة. لذلك يجب أن يتم جمع النفايات بكفاءة عالية إذ أن كمية النفايات التي ستنتج في الأماكن ذات الكثافة المرتفعة ستكون كبيرة. ويجب توفير المناطق العامة الخضراء إذ أن غالبية السكان لن تكون لديهم حدائق خاصة بهم. وكذلك يجب أن تكون المدينة صديقة للمشاة حتى يستطيع السكان الاستفادة من قرب الخدمات. وهذا يعني ضرورة وجود الأرصفة وممرات المشاة والمناطق المخصصة لعبور الطرق التي تفصل المشاة عن حركة المركبات، ويجب أن تكون جميعها جيدة التصميم والتنفيذ.
ولكن كل ذلك للأسف غير متوفر في عمان. إن خدمات جمع النفايات في عمّان تعاني من تدهور مستمر ومقلق. أما الأماكن الخضراء العامة فهي قليلة للغاية بل نادرة، والقليل المتوفر منها يعاني من سوء العناية والصيانة. أما وضع المشاة في عمان، فإنه مخزٍ. فعمّان مدينة تسيطر عليها السيارات ويطغى التهوّر على كيفية قيادة السيارات. وهذا كله يجعل الحياة في المدينة صعبة وغير آمنة للمشاة. وإذا لم تتم معالجة الكثافات السكانية العالية في المدينة بشكل لائق، فالنتيجة هي الازدحام. ويبدو أن عمّان تتجه في ذلك المسار. إن عمّان تعاني من الازدحام المروري منذ فترة، ويبدو أن هذ الازدحام بدأ ينتشر ليطغى على الحياة في المدينة عامة.
ومثال على ذلك، فإن الـشقق الأربع والعشرين التي ستبنى في منطقتنا خلال الأشهر القادمة ستعني أن 24 عائلة جديدة ستنتقل إلى المنطقة مع أنه لا توجد أي أماكن عامة خضراء قريبة تخدم هذه العائلات. وستعني أيضاً أن المنطقة ستستقبل ما بين 24 و48 سيارة جديدة ستتنافس فيما بينها على الاصطفاف والحركة في شوارع المنطقة إذ أن الحياة في عماّن دون سيارة صعبة للغاية. وستعني أن كمية النفايات في المنطقة ستزداد مع أن قدرة أمانة عمّان على جمعها في تراجع مستمر. إن الكثافة السكانية في عمّان ستستمر في الازدياد خلال المستقبل القريب، ولكن مع غياب أي استراتيجيات قد تحاول التعامل مع هذه الزيادة (إن مخطط عمان الشمولي أصبح ذكرى مع أنه لم تمضي على تحضيره سوى سنوات قليلة) فمن الواضح أن عمان مقبلة على مرحلة أخرى فائقة الصعوبة من تطورها الحضري.