بقلم محمد عمر
فيما تستمر الاحتجاجات في عدة دول عربية، بشكل عام، وفي الأردن، بشكل خاص، مكونة ما بات يعرف بـ”الربيع العربي”، فإن عددا كبيرا من السياسيين والنشطاء والكتّاب تصدوا لمحاولة قراءة هذه الظاهرة والإجابة عن الأسئلة الكثيرة التي طرحتها. لكن التصدي لتوثيق “الربيع العربي” والأردني بشكل خاص بقي دون المستوى المطلوب، أو أنه كان غائباً عن تفكير النشطاء، بخلاف مثلا، نشطاء الثورة السورية الذين أسسوا مركزا متكاملا لتوثيق ثورتهم، وأتاحوه على الإنترنت لكل الناس.
وفي ظل غياب التوثيق هذا أتى كتاب الشيخ سالم الفلاحات، رئيس لجنة الإصلاح في حزب جبهة العمل الاسلامي: الربيع الاردني خلال عامي (2011 – 2013)، الصادر مؤخرا عن دار المأمون للنشر والتوزيع.
جاء كتاب الفلاحات في جزأين، حاول فيهما توثيق “الحراك” الإصلاحي “السياسي” و”الشعبي”، سواء على مستوى الأفعال، كالتظاهرات والاعتصامات والإضرابات، أو على مستوى الكلمة: البيانات والمؤتمرات الصحفية والعامة والتصريحات ومقالات بعض كتاب اليوميات.
الواقع أن أي جهد توثيقي لأي فعل او ظاهرة هو نهج عملي مطلوب، فهو مبتدأ دراسة الظاهرة ومتابعتها وتأريخها. لذلك فإن جهد الفلاحات، الفردي، هذا مطلوب لمساعدة أي دارس أو باحث أو مهتم لتحليل ظاهرة “الربيع الأردني”.
“الربيع الأردني”، كتاب لا يقرأ، ربما، إنما يحتفظ به كمرجع، فهو عملية توثيق فقط كما ذكرنا، لكني قرأته من باب تنشيط الذاكرة ومحاولة فهم تسلسل الأحداث وترابطها.
إلا أن الكتاب، ورغم الجهد المبذول في التوثيق، عليه ما عليه من الملاحظات:
انحاز التوثيق لحزب جبهة العمل الاسلامي، وجماعة الإخوان المسلمين، فأغلب المادة التوثيقية كانت عن نشاطات الحزب والجماعة، سواء التي قادتها أو التي شاركت بها، رغم محاولة الباحث الموضوعية في التوثيق لمجمل “الربيع الاردني”.
وفي هذا السياق مثلا لا نجد أي توثيق لاتصالات وحوارات الجماعة الإسلامية مع الحكومة أو الديوان أو الأجهزة الأمنية، مع أنها شكّلت جزءا من الحراك، وجزءا إشكالياً بالنسبة للبعض.
وظهر الانحياز واضحا جدا، عندما وثق الفلاحات لإرهصات الحراك وعاد الى عام 1957، واختار رسالة كتبها مراقب الجماعة حينها محمد عبدالرحمن خليفة، وكأن الحراك بدأ وانتهى برسالة من مراقب الجماعة، فيما كانت السياسة تشغل الفضاء العام، وشوارع المدن الأردنية تصخب بالتظاهرات والسياسة وكان الأردنيون ينتخبون أول حكومة برلمانية ذاك العام من القوى الاشتراكية الوطنية والشيوعيين، تحالف الإخوان مع النظام لإسقاطها.
لم يعط الكتاب أهمية مفترضة لما وصفه بـ”الحراك الشعبي”، أي الحراك المطلبي المتربط القضايا الحياتية اليومية للناس.
فرغم أن هذا الحراك شكل، من وجهة نظر العديد من الباحثين، مصدر قلق حقيقي للنظام، والدليل الأوضح لغضب الاردنيين من السياسيات الاقتصادية التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة، ورغم أن هذا الحراك تصاعد بشكل غير مسبوق في تاريخ البلد، إذ سجل خلال عامي ٢٠١١ و٢٠١٢ ما لا يقل عن ألفي إضراب واعتصام واحتجاج، بحسب “المرصد العمالي”. وكانت الإضرابات في القطاع العام هي الأساس والظاهرة الجديدة في الحراك المطلبي، إلا ان توثيق الفلاحات ركز في أقل من عشرين صفحة على بعض هذا الحراك، خاصة المرتبط منه بمسألة الفساد (الفوسفات، البوتاس، عمال ميناء العقبة…الخ)، فبقي، والحال هذه، توثيقا مرتبطا بالسياسة لا بالمطالب الحياتية للأردنيين.
افتقر الكتاب لأي جهد تأريخي، تحليلي، فجاء عبارة عن عملية تجميع وثائق فقط ورصفها بحسب التسلسل الزمني
افتقر الكتاب لأي جهد تأريخي، تحليلي، فجاء عبارة عن عملية تجميع وثائق فقط ورصفها بحسب التسلسل الزمني.
يمكن الجدال مع الكاتب في عملية اختيار المقالات التي تناولت الحراك من قبل بعض الكتاب في اليوميات أو بعض المواقع، وفيما إذا كانت هذه الاختيارات “صحيحة توثيقيا” و”سياسيا” وتعبّر فعلا عن الحراك أو عن “نبض الشارع”. وقد لا يكون كتاب توثيقي بحاجة لمثل هذه المقالات، إذ أنه مهما كانت دقة الكاتب وموضوعيته ستبقى في النهاية قاصرة، وقليلة قياسا لعدد ونوعية ما كتب، وتعبر في النهاية عن وجهة نظر من اختارها ومن كتبها.
وفي هذا السياق، فان الكتاب يخلو من أي إشارة الى الدراسات او الابحاث او استطلاعات الرأي التي ظهرت خلال عامي “التوثيق”.
خلا التوثيق أيضا من “الحراك الموالي” ونشاطاته. صحيح أن الكاتب يوثق لحركة الإصلاح، لكن ظاهرة “حراك المولاة” شكلت جزءا لا يتجزأ منه، وربما ساهمت في تعطيله أو في تشتيته. رغم أن الكاتب أشار الى بعض الأحداث في هذا الخصوص.
لم يوثق الكتاب لحالة ظهور بعض الأحزاب والتيارات والمبادرات خلال العامين، وفضل التركيز على التيارات والأحزاب العامة والقديمة والحراكات العشائرية المختلف عليها.
وغاب عن التوثيق أيضا النشاطات والمبادرات الثقافية التي كانت من أهم افرازات الربيع العربي.
على أي حال، ستبقى مهمة توثيق “الربيع الاردني”، مثلها مثل توثيق وتأريخ البلد، مهمة مطلوبة وملحة في ظل سيادة الرواية الرسمية التي قلصت هذا التاريخ والتوثيق على نشاطات العائلة المالكة، وعلى المؤسسة الرسمية ككل، حتى بدا الأردن مع هكذا تاريخ بلدا بدون شعب ومجتمع.