جثث لا حداد عليها

الأربعاء 14 كانون الثاني 2015
Paris-Eiffel-charlie-hebdo

بقلم تيجو كول*، ترجمة تقوى مساعدة

(نشر هذا المقال بالإنجليزية في مجلة The New Yorker في 9 يناير 2015).

في شمال إيطاليا، عاش في القرن السادس عشر طحّان  اسمه «مينوتشيو» وكان مثقفًا إلا أنه لم يكن ينتمي للنخبة المثقفة، وكان يؤمن ببضعة معتقدات غير مألوفة. مينوتشيو آمن بأن الروح تموت مع الجسد، وأن العالم مخلوق من مادة فوضوية وليس مخلوقًا من العدم، وبالتالي فإن حب المرء لجاره أهم من حبه لله.

وجد «مينوتشيو» تفسيرات لمعتقداته في الكتب القليلة التي قرأها مترجمةً والتي كان من بينها «الديكامرون» والإنجيل والقرآن و«أسفار جون منديفل». ولتزداد معاناة «ميونتشيو» فقد اقتيد إلى محاكم التفتيش عدة مرات حيث تمّ تعذيبه ثم حرقه على الخازوق سنة 1599، وكان «مينوتشيو» واحدًا من آلاف لاقوا المصير نفسه.

المجتمعات الغربية ليست – ولا حتى الآن – جنة الشك والعقلانية كما تحسب نفسها، فالغرب مكان متنوّع تجد فيه حرية التعبير كما تجد فيه آراء مقيدةً إلى حدٍ بعيد، كما يتمّ فيه إنكار العنف الدموي في نفس الوقت الذي يتم فيه التعذيب بشكل مخفيّ. ولكن في اللحظات التي تعتبر فيها المجتمعات الغربية نفسها تحت الهجوم فإن الخطاب يقع بسرعة تحت هيمنة فنتازيا معادية للتاريخ، تتمحور حول السلام الصبور والثبات في وجه الاستفزاز.

ومع ذلك فإن التاريخ الأوروبي والأمريكي شهد جهودًا بالغة للسيطرة على حرية التعبير إلى الحد الذي يجعل اضطهاد الخطاب الثوري أحد الدعائم الأساسية لهذه المجتمعات. حرْق الساحرات ومحاكمة المهرطقين والعمل المثابر لمحاكم التفتيش كلها شكّلت أوروبا، ولقد امتدت هذه الأفكار إلى التاريخ الأمريكي وأخذت أشكالًا أمريكية، ابتداءً من كسر نفوس العبيد وانتهاءً بالرقابة على منتقدي عملية «تحرير العراق».

قُتل أكثر من اثني عشر شخصًا على يد إرهابيين في باريس هذا الأسبوع، وقد أُعلن الحداد على هؤلاء الضحايا على امتداد العالم، فلقد كانوا بشرًا، محبوبين من عائلاتهم وعزيزين على أصدقائهم. يوم الأربعاء، استهدف رجال مسلحون اثني عشر منهم لارتباطهم بمجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية الساخرة.

من المهم أن نفهم أن حرية التعبير وغيرها من أشكال الحرية تعيش في الأصل أزمةً في المجتمعات الغربية، لم يتسبب بها ثلاث رجال مسلحين مختلّين.

لطالما استهدفت «شارلي» المسلمين، وكانت تستلذّ بشكل خاص بالسخرية من التحريم الإسلامي لتصوير النبي محمد. لقد قامت المجلة بأكثر من ذلك، إذ هاجمت أهداف سياسية ومسيحية ويهودية كذلك، فقد رسمت المجلة الآب والإبن والروح القدس في علاقة جنسية ثلاثية الأطراف، وقد استُخدمت هذه الرسومات كدليل على استعداد «شارلي إيبدو» لإهانة الجميع.

ولكن المجلة أخذت في السنوات الأخيرة تنشر استفزازات عنصرية تتصف بالإسلاموفوبيا، أما رسومهم العديدة ضد الإسلام فقد كانت خلّاقة في التشويه، حيث نشروا رسومات لعرب معقوفي الأنوف ومصاحف تمتطيها طلقات نارية، وتنويعات على فكرة الوطء في الدبر، كما سخروا من ضحايا مجزرة.

لا يسهل دائمًا ملاحظة الفارق بين معارضة الدين بفكاهة وذكاء، وبين أجندة عنصرية متنمّرة، ولكن لا بد من المحاولة، فحتى فولتير، والذي يعتبر بطلًا بالنسبة لأولئك الذين يتغنون بحرية التعبير، لم يحسن التفريق. فمناهضته البرّاقة والشجاعة لنفوذ رجال الدين قد تكون متعةً للعين لمن يريد أن يقرأها، ولكنه كان ملتزمًا بمعاداته للساميّة، وكانت انتقاداته للديانة اليهودية تأتي مصحوبةً بالطعن والتشهير في فطرة اليهود.

لقد جاءت أحداث هذا الأسبوع في سياق تاريخ فرنسا الاستعماري البشع، والعدد الكبير لمواطنيها المسلمين، وقمع بعض الرموز الثقافية الإسلامية باسم العلمانية، كالحجاب. أمّا السود، فلم يكونوا أفضل حالًا مع شارلي إيبدو، فإحدى رسومات المجلة صوّرت وزيرة العدل «كريستيان تاوبيرا» المتحدّرة من أصول غينية على شكل قردة (بطبيعة الحال، دافعت المجلة عن نفسها بالقول بأنها استخدمت الرسم شديد العنصرية للسخرية من العنصرية)، كما ظهر أوباما في رسم آخر على هيئة سامبو الأسود الشبيه بالرسومات التي كانت منتشرة أيام قوانين «جيم كرو»**.

صباح الخميس، وهو اليوم الذي تلا المذبحة، كنت في باريس بالصدفة. كتبت جريدة «لو فيغارو» على صفحتها الأولى: «الحرية قتيلة»، أما جريدتا «لا باريسيان» و«لا أومانيتي» فقد استخدمتا كلمة «liberté» أو حرية في عنواينهما الرئيسية. لقد تعرضت الحرية للهجوم بالتأكيد، وبالنسبة لي ككاتب فإن الحق في الإهانة هو حق مقدّس، وأنا أدعم هذا الحق لغيري من الكتّاب، ولكن ما الذي تم استثناؤه في هذا الإطار؟

يترافق كل هجوم إرهابي على أي مركز من مراكز القوة الغربية مع شعور من الارتباك الحقيقي، لماذا ألحقوا هذا الرعب الشديد بمجتمعاتنا التي تنعم بالسلام؟ لماذا يقتلون بينما نحن لا نقتل؟ في رسم واسع الانتشار لـ«لوسيل كلير»، يتكاثر قلم رصاص مكسور منتجًا قلمي رصاص مبريين… كل هذا نمطيّ.

الرسالة كانت واضحة، كما كانت واضحة في وسم تويتر  #jesuischarlie (أنا شارلي): ما يقع على المحك الآن ليس مجرد حق الناس في أن يرسموا ما يريدون، بل بات يجب الاحتفاء برسوماتهم ونشرها بعد الهجوم. هكذا، لم يقتصر الأمر على نشر رسومات شارلي إيبدو ومشاركتها، بل لقد حصلت المجلة نفسها على مبالغ كبيرة من المال بعد الهجوم، حيث استلمت مئة ألف جنيه استرليني من مجموعة الغارديان الإعلامية، و ثلاث مئة ألف دولار من غوغل.

إلا إنه من الممكن الدفاع عن حرية التعبير لخطاب عنصري بذيء، دون ترويج ودعم محتوى هذا الخطاب، ومن الممكن أن تقبل بانتهاك المقدسات دون أن تقرّ بالعنصرية، كما أنه من الممكن أن تعتبر الإسلاموفوبيا أمرًا لاأخلاقيًا دون أن ترغب في أن تصبح الإسلاموفوبيا مخالفة للقانون.

لا يمكن للحظات الحزن أن تسلبنا تكويننا المعقد، كما لا يمكن لها أن تعفينا من مسؤوليتنا في إيجاد الفوارق بين الأشياء. لقد أصاب الاتحاد الأمريكي للحقوق المدنية عندما دافع عن مجموعة من النازيين الجدد التي أرادت الخروج في مظاهرة في سكوكي – إلينوي سنة 1978. بغياب أي تهديد فعلي بالعنف، فإن الإهانة الشديدة التي تسبب بها هؤلاء المتظاهرون لم تكن ممنوعةً ولا ينبغي لها أن تُمنَع. إلا أن أي عاقل لن يخلط بين حق من الحقوق الأساسية في الدستور الأمريكي وبين الحق في الدفاع عن معتقدات نازية. رسّامو شارلي إيبدو ليسو مجرّد مشاكسين ولا محض شهداء ماتوا في سبيل الحق في الإهانة: إنهم أصحاب أيديولوجيا، وإدانة مقتلهم الوحشي لا تعني التجاوز عن ايديولجيتهم.

بدلًا من أن نفترض أن الهجوم في باريس هو لحظة الأزمة بالنسبة لحرية التعبير –وهو ما اتجه إليه الكثير من المعلقين– من المهم أن نفهم أن حرية التعبير وغيرها من أشكال الحرية تعيش في الأصل أزمةً في المجتمعات الغربية، لم يتسبب بها ثلاث رجال مسلحين مختلّين.

الاعتقاد بأن العنف الذي يمارسه من يصفون أنفسهم بالجهاديين هو التهديد الوحيد للحريات في المجتمعات الغربية يُغفل مخاطر أخرى، عادة ما تكون أكثر مباشرةً وأكثر صميمية. 

الولايات المتحدة على سبيل المثال عززت احتكارها التقليدي للعنف الشديد، وقامت في زمن قواعد البيانات بتكديس المعلومات المتعلقة باستخدامها لهذا العنف. هنالك تبعات قاسية لمن يحاولون أن يسائلوا هذا الاحتكار، فالشخص الوحيد الذي أودع السجن بسبب نظام التعذيب المشين لدى وكالة الاستخبارات الأمريكية هو «جون كيرياكو»، الذي كشف أسرار هذا التعذيب بنفسه، أما إدوارد سنودن فهو رجل ملاحق لأنه كشف معلومات حول المراقبة الجماعية، وتشيلسي ماننغ تمضي حكمًا بالحبس لخمس وثلاثين عامًا بسبب دورها في قضية ويكيليكس. هؤلاء أيضًا شتّامون لعّانون، إلا أن قيمتهم لم تقدّر كما كان حال رسامي شارلي إبدو.

جرائم القتل التي ارتكبت في باريس هي اعتداء مروع على حياة الإنسان وكرامته، كما أن فظاعة هذه الجرائم ستظل تدهشنا لوقت طويل، إلا أن الاعتقاد بأن العنف الذي يمارسه من يصفون أنفسهم بالجهاديين هو التهديد الوحيد للحريات في المجتمعات الغربية يُغفل مخاطر أخرى، عادة ما تكون أكثر مباشرةً وأكثر صميمية.

تدير كلٌّ من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا شؤونها بشكل مختلف، إلا أنهم حلفاء مشتركون في منظورهم للعالم، كما أنهم يشتركون في شيء مهم وهو أنهم يتوقعون من الآخرين احترامًا كبيرًا للعلمانية الغربية.

إن أي هرطقة ضد سلطة الدولة تخضع للرقابة وللعقوبة، هنالك أشخاص اعتُقلوا في بريطانيا لأنهم أدلوا بتعليقات ضد الجيش أو ضد الشرطة على وسائل التواصل الاجتماعي. كان للرقابة الجماعية أثر مخيف على الصحافة وعلى ممارسة القانون في الولايات المتحدة. في المقابل، تطالب القوات المسلحة والوكالات الاستخباراتية في هذه البلدان بدعم لا يتزعزع من مواطنيها، وغالبًا ما يحصلون عليه، وعندما ترتكب هذه الجهات جرائم تعذيب أو جرائم حرب وبغض النظر عن درجة خستها وعدم مشروعيتها، فإن هنالك احتمالية ضئيلة لمحاسبتهم أو للملاحقة القضائية للأطراف المتورطة.

ما رأيناه من مقدار التضامن وشدته مع ضحايا هجوم باريس، وبالرغم من أنه قد يبدو مبشّرًا، إلا أنه يُظهر كم من السهل على المجتمعات الغربية أن تركز على التطرف الإسلامي معتبرة إياه العدو الحقيقي والوحيد.

هذا التركيز هو جزء من الإجماع على الموتى الجديرين بالحداد، وهو ما يمنعنا عادة من إعطاء الانتباه اللازم لأمثلة حالية أخرى لمجازر مروعة ترتكب في أماكن مختلفة من العالم: حالات اختطاف وقتل في المكسيك، مئات من الأطفال (وأكثر من اثني عشر صحفيًا) قتلوا في غزة على يد إسرائيل العام الماضي، مجازر طاحنة في في جمهورية أفريقيا الوسطى، وغيرهم كثيرون.

وحتى عندما ندين جرائم تدعي أنها تمثّل الاسلام، فإن جزءًا يسيرًا من حزننا يشمل المسلمين الكثر الذين يقعون ضحايا لهجماتهم، إن كان ذلك في اليمن أو في نيجيريا –وقد وقعت مذابح فيهما خلال هذا الأسبوع- أو في السعودية حيث تُرتكب انتهاكات عديدة لحقوق الإنسان من بينها معاقبة صحفي «أهان الإسلام» بالجلد.

قد لا نتجاوب مع كل انتهاك يقع في كل مكان في العالم، ولكن ينبغي علينا أن نتوقف قليلًا لنفكّر كيف يقرر الرأي العام السائد بسرعة أن بعض حالات القتل العنيفة تعني أكثر من غيرها أو تستحق الاستذكار أكثر من غيرها.

فرنسا تتألم اليوم، وستتألم لأسابيع عديدة قادمة، ونحن نشارك فرنسا حِدادها. ينبغي علينا ذلك، إلا أن العنف من جانبنا يستمر وبكامل قوته. غالبًا، بحلول مثل هذا الوقت في الشهر القادم سيكون الكثير من «الشبان في عمر التجنيد» وغيرهم ممن ليسوا شبانًا وليسوا ذكورًا سيكونون قد قتلوا في هجمات الطائرات بدون طيارين في باكستان وفي أماكن أخرى في العالم. وإن كان بإمكاننا أن نحكم بناءً على هجمات سابقة، فإن الكثير من هؤلاء الناس سيكونون أبرياء. سيُعتبر موتهم طبيعيًا لا جدال فيه كما كان موت «مينوتشيو» في زمن محاكم التفتيش.

الكتّاب من بيننا لن يعتبروا أقلامهم مكسورة بسبب حالات قتل كهذه. إن انعدام القدرة على الجدال وانعدام القدرة على الحداد على هؤلاء الضحايا، شأنهم شأن ضحايا مجزرة باريس، هي الخطر الواضح والحاضر على حريتنا الجماعية.

__________

* تيجو كول مصور فوتوغرافي نيجيري-أمريكي، ومؤلف لكتابي «المدينة المفتوحة» و«كل الأيام للصّ» ويكتب بشكل دوري في قسم Page-Turner في The New Yorker.

** قوانين جيم كرو هي قوانين فصل عنصرية كانت مطبقة في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنة 1890 وحتى 1965.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية