«الغرب نحو حتفه»: حدود الهيمنة وانحسار المعنى

السبت 24 شباط 2024
قوات الناتو خلال عرض عسكري في بولندا في آب 2023. تصوير فويتك رادفانسكي. أ ف ب.

يستمد عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي، إيمانويل تود، تأثيره الفكري في العالم الفرنكفوني من كونه أحد الأهداف المفضلة لدى وسائل الإعلام السائدة وتيار التفكير المهيمن، بوصفه معاديًا للنيوليبرالية والتبعية الأوروبية لواشنطن. ولعل تحوله إلى هدف للنقد، مصدره النزعة الانشقاقية لديه، إذ يمشي طرقًا لا يمشيها الآخرون، غير مطمئنة للبداهة التي ترسخها مجموعات التفكير والإعلام القريبة من السلطة، ولاسيما من الطبقة الليبرالية الأوروبية. لذلك كان دائمًا وحده.

قبل خمسة عقود نشر تود أولى كتبه «السقوط الأخير»، ومن خلال نهج ديموغرافي أنثروبولوجي وصل إلى حتمية سقوط الاتحاد السوفياتي، قبل عقد ونصف من سقوطه الفعلي. كرست تلك النبؤة تود كواحد من المؤثرين في الساحة الفرنسية. قبل أيام نشر تود كتابه الأخير «هزيمة الغرب». 

مستندًا إلى نهج متعدد التخصصات، جمع التاريخ والأنثروبولوجيا والاقتصاد، يتوقع تود أن الغرب قد غادر قمة جبل العالم، وأخذ طريق المنحدر. ليجد الهجوم نفسه، ودون أن تغبطه حقه في القدرة على التنبؤ تصفه جريدة لوموند، صوت الصحافة السائدة، بالنبي ذو العيون المغلقة.

لكن هل نشهد اليوم حقًا هزيمة الغرب، وما طبيعة هذه الهزيمة وأسبابها؟ لا يتعلق توصيف تود للهزيمة بالجانب العسكري، مع أنه لا ينفيه تمامًا فيما يجري على الجبهة الأوكرانية، وكذلك فيما يتعلق بالقطاعات الاقتصادية المرتبطة بالصناعات الدفاعية. الهزيمة هنا فكرية، تتمثل في فقدان الغرب سلاحه الأساسي الذي سيطر من خلاله على العالم على مدى خمسة عقود. 

المُختبر الأوكراني

ينطلق الكتاب من ذيل مخطط التاريخ الذي وضعه الكاتب لسيرة هزيمة الغرب. يعتقد تود أن بذور الهزيمة ولدت في لحظة النصر، أي عند النشوة التي أصابت الغرب بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. لتظهر الهزيمة واضحةً بعد دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا عام 2022. يبدأ تود تحليله من الحرب في أوكرانيا، من خلال طرح إشكالية: لماذا استهان الغرب بالخصم الروسي، وكيف قاد الوهم زعماء الغرب، بشقيه الأوروبي والأمريكي، إلى الاقتناع بنتائج مفترضة كانت جميع الأرقام تقف ضدها. 

يعتقد تود أن الغرب قد استقر مسيطرًا حتى أصبح عاجزًا عن رؤية أي فرضية للتنوع في العالم خارج هيمنته، لذلك كان عاجزًا حتى عن قراءة الأرقام والتحليلات العلمية التي تنتجها مؤسساته. عبر منهج إحصائي يمارس الكاتب خبرته في حشد طائفة واسعة من الأرقام للبرهنة على أن الخصم الروسي كان له من الاستقرار والاستعداد ما يكفي لدفع ثمن العملية العسكرية في أوكرانيا، عكس ما اعتقدت واشنطن وبروكسل. 

يعتمد تود على «الإحصاءات الأخلاقية» لإثبات صلابة الجبهة الداخلية الروسية بين عامي 2000 و2017، وهي المرحلة المركزية لتحقيق الاستقرار في عهد فلاديمير بوتين، حيث انخفض معدل الوفيات الناجمة عن إدمان الكحول في روسيا من 25.6 لكل 100 ألف نسمة إلى 8.4 لكل 100 ألف نسمة. كما اخفض معدل الانتحار من 39.1 إلى 13.8، ومعدل القتل من 28.2 إلى 6.2. وهذا يعني، بالأرقام الأولية، أن الوفيات الناجمة عن إدمان الكحول انخفضت من 37214 وفاة سنويًا إلى 12276 وفاة، وحالات الانتحار من 56934 حالة إلى 20278 حالة، وجرائم القتل من 41090 جريمة إلى 9048 جريمة. أما معدل الوفيات السنوية بين الرضع، فقد انخفض من 19 لكل 1000 «طفل ولد حيًا» في عام 2000 إلى 4.4 في عام 2020، وهو أقل من المعدل الأمريكي البالغ 5.4 (بحسب اليونيسيف). ومع ذلك، فإن هذا المؤشر الأخير، بقدر ما يتعلق بأضعف الناس في المجتمع، له أهمية خاصة لتقييم الحالة العامة للمجتمع.

أما البيانات الاقتصادية لروسيا فتثبت الارتفاع السريع في مستوى المعيشة بين عامي 2000 و2010، وتلاه بين عامي 2010 و2020 تباطؤ ناجم عن الصعوبات الناجمة بشكل خاص عن العقوبات التي أعقبت ضم شبه جزيرة القرم. لكن الاتجاه الذي توضحه الإحصاءات الأخلاقية أكثر انتظامًا وعمقًا، ويعكس حالة من السلام الاجتماعي وإعادة اكتشاف الروس بعد كابوس التسعينيات، أن العيش المستقر أمر ممكن. 

لكن هذه العناصر الموضوعية لم تمنع العديد من المنظمات غير الحكومية، وهي في أغلب الأحيان وكالات غير مباشرة تابعة للحكومة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، من الحط من شأن روسيا بشكل مستمر في تقييماتها، وهذا شكل جزءًا أساسيًا من فخ الوهم الذي سقط فيه الغربيون. ويشير الكاتب إلى أن منظمة الشفافية الدولية، التي تصنف دول العالم الثالث حسب معدل الفساد فيها، عندما وضعت في عام 2021 الولايات المتحدة في المرتبة 27 وروسيا في المرتبة 136، وضعتنا أمام استحالة. فالدولة التي تتمتع بمعدل وفيات بين الرضع أقل من الولايات المتحدة لا يمكن أن تكون، برأيه، أكثر فسادًا منها. ذلك أن معدل وفيات الأطفال، يشكل في حد ذاته مؤشرًا أفضل للفساد الحقيقي من هذه المؤشرات المصنعة وفقًا لمعايير لا أحد يعرفها. 

أما «الإحصاءات الاقتصادية»، فتؤكد أن فرضية الاقتصاد الحقيقي التي راهنت عليها موسكو كانت أحد دروعها الأساسية في الحرب. فقد نجحت روسيا، في غضون سنوات قليلة، ليس فقط في تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي، بل في أن تصبح واحدة من أكبر مصدري المنتجات الزراعية في العالم. وصلت صادرات الأغذية الزراعية الروسية إلى مستوى قياسي بلغ 30 مليار دولار، وهو رقم أعلى من عائدات صادرات الغاز الطبيعي في العام نفسه (26 مليار دولار). وهذه الديناميكية، التي كانت مدفوعة في البداية بالحبوب والبذور الزيتية، أصبحت الآن تعتمد أيضًا على صادرات اللحوم. كما سمح أداء القطاع الزراعي لروسيا بأن تصبح مصدرًا صافيًا للمنتجات الزراعية في عام 2020، وذلك لأول مرة في تاريخها الحديث: بين عامي 2013 و2020، وتضاعفت صادرات روسيا من الأغذية الزراعية ثلاث مرات، في حين انخفضت الواردات إلى النصف. أما استمرار وجود روسيا باعتبارها ثاني أكبر مصدر للتكنولوجيا النووية على مستوى العالم فهو أقل إثارة للدهشة. حيث كان لدى شركة روساتوم، الشركة الحكومية المسؤولة عن هذا القطاع، في عام 2021، 35 مفاعلًا قيد الإنشاء في الخارج (لا سيما في الصين والهند وتركيا والمجر). 

يعتقد تود أن الغرب قد استقر مسيطرًا حتى أصبح عاجزًا عن رؤية أي فرضية للتنوع في العالم خارج هيمنته، لذلك كان عاجزًا حتى عن قراءة الأرقام والتحليلات العلمية التي تنتجها مؤسساته.

ويبدو أن كل نظام من أنظمة العقوبات دفع روسيا إلى تنفيذ عمليات إعادة تحويل اقتصادية متسلسلة واستئناف استقلالها عن السوق الغربية. ولعل مثال إنتاج القمح هو الأكثر إثارة للإعجاب. في عام 2012، أنتجت روسيا 37 مليون طن من القمح، وفي عام 2022، أنتجت 80 مليون طن، أي أكثر من الضعف خلال عشر سنوات. تبدو هذه المرونة منطقية عند مقارنتها بالمرونة السلبية التي تتمتع بها الولايات المتحدة.

العامل الثاني الذي يستند إليه تود لتحليل الوهم الغربي في مقاربة الخصم الروسي هو اعتقاد قطاع واسع من النخب الغربية السياسية والفكرية، بأن تنامي الطبقات الوسطى واتساع مجال التعليم العالي، سيجعل من بقاء نظام الرئيس بوتين محل تهديد. يستند هذا الوهم الغربي إلى فكرة التطابق بين الطبقات الوسطى في الغرب والطبقة الوسطى الروسية. وعن ذلك يذهب الكاتب إلى أن هذا التطابق، نابع من رغبة الغرب في تصور العالم غير الغربي على صورته. يعتقد تود أن مثل هذا التمثيل يتجاهل ما يميز الطبقات المتوسطة الروسية عن نظيراتها الغربية. إذا كانت الطبقات الوسطى الروسية بالتأكيد أكثر ليبرالية قليلًا من بقية السكان، فهي أبعد ما تكون عن التشابه الكامل مع الطبقات الوسطى الغربية، ويرتكز الاختلاف بينهما على خلفية أنثروبولوجية فريدة، والتي تشكل أيضًا أحد العناصر التي تفسر صلابة روسيا في مواجهة الغرب، وهي قيام الطبقة الوسطى على الأسرة لا الفرد. 

كما أن ما جعل روسيا قوية، وما سمح لها بالحفاظ على سيادتها في نظام معولم، هو قدرتها العفوية على منع تطور الفردية المطلقة، فما زال في روسيا القدر الكافي من القيم المجتمعية لضمان بقاء نموذج الأمة المدمجة وعودة شكل معين من أشكال الوطنية إلى الظهور. حيث مازال النموذج العائلي المهيمن على التشكيل الاجتماعي الروسي قادرًا على إنتاج تصور روحي للدولة-الأمة، أي تصورًا للمصير الجماعي المشترك بين أفراد المجتمع. 

لا يحضر النموذج الروسي في الحرب الأوكرانية في كتاب إيمانويل تود إلا بوصفه شاهد خسارة للغرب، أي لوحةً يمكن من خلالها أن نقبض على مواطن الهزيمة مجسمةً في تفاصيل وأرقام وأوهام. لذلك كانت فصول المفتتح عن الحرب الجارية في أوروبا الشرقية مدخلًا لطرح أسباب هزيمة الغرب.

الأثافي الثلاثة 

ترتكز نظرية تود في هزيمة الغرب على ثلاثة عوامل: أولًا التراجع الصناعي الغربي، ولاسيما الأمريكي، بسبب العولمة وتخلي الغرب عن الدور التصنيعي لفائدة منطق سلاسل التوريد، لزيادة التراكم لدى الطبقة التي يسميها الكاتب بـ«الأوليغارشية الليبرالية»، التي أصبحت الطبقة المهيمنة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وكذلك بسبب عدم كفاية التدريب الهندسي، وبشكل أكثر عمومية، انحدار المستوى التعليمي منذ عام 1965 في الولايات المتحدة. حيث تحولت دول مثل الصين والهند إلى مصدر أساسي للمهندسين. مع الكشف عن الطبيعة الوهمية للناتج المحلي الإجمالي الأمريكي. 

أما العامل الثاني فهو العزلة الإيديولوجية للغرب، فقد كشفت الحرب في أوكرانيا عن تفضيل بقية العالم لروسيا. وقد اكتشف الغرب عجزه عن الهيمنة عندما لم ينجح في إقناع حتى حلفائه خارج العالم الغربي (تركيا، الخليج، باكستان، إلخ) في الانحياز له ضد روسيا بشكل قطعي، كما فعل خلال الحرب الباردة. يفسر تود ذلك بما يسميه الحداثة الثقافية المجنونة للغرب، والتي جعلت روسيا تبدو كقوة محافظة في العالم، تقدس العائلة وتضع اعتبارًا للدين، لذلك كان المزاج العام خارج الغرب قريبًا منها. والأكثر من ذلك، النظرة التي يحملها سكان بقية العالم عن الغرب في عصر العولمة، بوصفه كيانًا مستغلًا يعيش على العمل المتدني الأجر، الذي يقوم به الرجال والنساء والأطفال من العالم الثالث السابق، مما يجعل منظومته الأخلاقية تفتقر إلى المصداقية. 

لا يتجاهل الكاتب العوامل السياسية، كالنظام العالمي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية والتدخلات العسكرية وغيرها، في تشكيل نظرة بقية العالم للغرب، ولكنه يعتبرها ثانويةً أمام الخلل الذاتي الذي يعاني منه الغرب، وهذا الخلل هو علة تلك العوامل السياسية. ويعيد تود تلك الصدمة الغربية إلى فكرة النرجسية الثقافية التي يستقيها من عالم الاجتماع الأمريكي، كريستوفر لاش، في كتابه «ثقافة النرجسية: الحياة الأمريكية في عصر التوقعات المتناقصة» (1979). تحليل الكاتب عن تفتيت المجتمعات المتقدمة، وعن الفرد المأزوم في سياقات انهيار الدين والإيديولوجيات، لا يمكن اعتباره إلا امتدادًا لعمل لاش. لكن مفهوم النرجسية وفقًا لتود له تطبيق أوسع: فهو لا يفسر الظواهر الداخلية في المجتمعات الغربية فحسب، بل يسمح لنا أيضًا أن نفهم سياستها الخارجية.

ومن اللافت في الواقع أن نلاحظ إلى أي مدى أصبح الغرب، منذ بداية هذه الأزمة، بفرعيه الأميركي والأوروبي، مقتنعًا، على عكس كل الواقع الموضوعي، بأنه لا يزال مركز العالم. متجمدًا في مكان ما بين عامي 1990 و2000، بين سقوط جدار برلين ولحظة وجيزة من القدرة المطلقة. لقد مر أكثر من ثلاثين عامًا منذ ذلك الوقت، ومن الواضح أنه بالنسبة لبقية العالم الآن، وخاصة منذ الركود العظيم في الفترة 2007-2008، لم يعد النصر الغربي مثيرًا للإعجاب. فالعولمة التي أطلق لها العنان بدأت تنفد، وغطرسة الغرب تثير السخط. لقد أصبحت النرجسية الغربية، وما يترتب على ذلك من عمى، أحد الأصول الاستراتيجية الكبرى التي تمتلكها روسيا والصين.

من اللافت إلى أي مدى أصبح الغرب، منذ بداية هذه الأزمة، بفرعيه الأميركي والأوروبي، مقتنعًا، على عكس كل الواقع الموضوعي، بأنه لا يزال مركز العالم. متجمدًا في مكان ما بين عامي 1990 و2000.

لكن العامل الثالث، الذي يطلق عليه الكاتب اسم «الصفر بروتستانتية»، هو الذي برأيي يشكل إضافة نوعيةً لهذا الكتاب. ينطلق الكاتب من نظرية ماكس فيبر حول «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، التي يشرح فيها تطور الرأسمالية منذ منتصف القرن الثامن عشر، من خلال تطور الروح البروتستانتية، وبشكل خاص الكالفينية. وفقًا لفيبر، كان الإصلاح البروتستانتي هو أصل أخلاقيات العمل في الرأسمالية. لذلك شهدت الرأسمالية ذروة قوتها في ظل الصعود الجيوسياسي للعالم البروتستانتي، إنجلترا والولايات المتحدة وألمانيا الموحدة والدول الاسكندنافية. لقد أنتجت البروتستانتية مستوىً تعليميًا عاليًا، لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية، ومحو الأمية الشامل، لأنها تطلبت أن يكون كل مؤمن قادرًا على قراءة الكتاب المقدس بنفسه. بالإضافة إلى ذلك، فإن الخوف من اللعنة والحاجة إلى الشعور بأن الله اختاره قد حفز أخلاقيات العمل، والأخلاق الفردية والجماعية القوية. وقد أنتج هذا التقدم التعليمي وأخلاقيات العمل تقدمًا اقتصاديًا وصناعيًا كبيرًا. يحلل تود مسار انحسار هذه البروتستانتية، وعلى نحو عكسي يؤدي الانهيار الأخير للبروتستانتية إلى انحدار فكري، واختفاء أخلاقيات العمل والجشع الجماعي ممثلًا في الليبرالية الجديدة.

يؤكد الكاتب أن عوامل عديدة حجبت لفترة طويلة اختفاء البروتستانتية (والدين بشكل عام) في الولايات المتحدة. أولًا، معدلات الممارسة أعلى مما هي عليه في أوروبا، لكن الدراسات التفصيلية أظهرت أنه تم المبالغة في تقديرها، فحتى الإحياء الديني الإنجيلي في السبعينيات، رغم أنه سمح لبعض إلهاماته بكسب الكثير من المال، جلب في المقام الأول عناصر رجعية: قراءة حرفية للكتاب المقدس، وعقلية مناهضة للعلم بشكل عام، وقبل كل شيء النرجسية المرضية. ولكي ندرك إلى أي مدى لم يكن تطور البروتستانتية الأمريكية مختلفًا كثيرًا عما حدث في أوروبا الغربية، فإن الأمر الأكيد هو متابعة تطور الخصوبة. حيث يعتبر انخفاض الخصوبة بين السكان المتعلمين هو أفضل مؤشر على تراجع التدين، فبحلول عام 1980، في نهاية الطفرة الإنجيلية، انخفض عدد المواليد في أميركا إلى 1.8. وفي الوقت نفسه، كانت إنجلترا عند 1.7 وفرنسا عند 1.9. ولا شيء هنا يشير إلى أن الدين الحقيقي قد نجا عبر المحيط الأطلسي. لكن تحليل تود للعنصر الديني لا يدل -كما يؤكد هو نفسه- على أي حنين أو رثاء أخلاقي، بقدر ما هو ملاحظة تاريخية. ويشير في الوقت نفسه إلى أن تراجع البروتستانتية أدى أيضًا إلى تراجع العنصرية ضد السود وصعود حركة الدفاع عن الأقليات العرقية والجنسية.

انحسار المعنى 

وراء انحسار البعد الديني، وتراجع القوة التصنيعية، والانفصال بين الجمهور والطبقة الأوليغارشية الحاكمة، يضع الكاتب يده على إحساس يصادفه الواحد منا -هنا في الغرب- وهو فقدان المعنى. يفترض تحليل تود أن هذا المعنى لصيق بالروح الجماعية، أي تجاوز الفرد لذاته نحو كيان أكبر، ديني أو قومي أو أممي. لكن العقيدة النيوليبرالية ونتاجها الفرداني، جعل من هذا التجاوز مستحيلًا، واضعًا الفرد في سجن الفردانية، التي تتغذى على العزلة والنرجسية والاستهلاك.

قبل الطور النيوليبرالية، وجدت الليبرالية الكلاسيكية روحها الجماعية في البعد الديني، وكذلك في الدولة القومية. هذه الدولة التي خاضت الحروب، وحولت الفرد إلى جزء من مجموعة تدافع عن وجودها وخلقت له معنى أكبر. لقد ظهر ذلك جليًا خلال النصف الأول من القرن العشرين، لاسيما في الحربين العالميتين والحرب الأهلية الإسبانية والكفاح ضد الفاشية. وهو معنى ملحمي يظهر في روايات إرنست همنغواي، مستعينًا في رواية لمن تقرع الأجراس بأحد تأملات الشاعر الإنكليزي، جون دون (ت 1631) يقول فيه: «لسنا جزرًا مستقلة بذاتها، كلنا جزء من القارة، جزء من كل. فإن جرف البحر حفنة من التراب نقصت أوروبا؛ موت أي كائن ينتقص مني، فأنا معني بالبشرية، ولذا لا تراسلني أبدً لتسألني لمن تقرع الأجراس؛ إنها تقرع من أجلك».

الأيام الصعبة التي صنعت الغرب هي سنوات الصراع، وحين اختفى الأعداء، اشتد الرخاء، منتجًا أسوأ ما في الغرب: النيوليبرالية والفردانية وفقدان المعنى. 

يدفع فقدان المعنى، الذي يحلله تود ببراعة، إلى إفراغ الخطاب الغربي التقابلي بين عالمٍ حُرّ ديمقراطي تعددي في مواجهة عالمٍ شمولي استبدادي، من معناه. هذا الخطاب الذي شكل أحد الأدوات الإيديولوجية لليبرالية خلال الحرب الباردة، وحافظ على قوته بعد ذلك، لتبرير عودة الاستعمار المباشر بعد غزو العراق، أصبح في عالم اللامعنى الغربي مجردًا من كل قوة تأثير، ذلك أن الصبغة الكونية لهذا الخطاب قد كُشف زيفها، وبدا واضحًا أن ذلك البعد الليبرالي الديمقراطي محدود التطبيق ضمن المجال الغربي حصرًا، وهو ما تؤكده الحروب الاستعمارية الجديدة القديمة في العراق وفلسطين وأفغانستان.

لكن وجهًا آخر من وجوه تحليل تود لهذه الهزيمة الغربية المعنوية، يحيل إلى الدورة الخلدونية في قيام الأمم وسقوطها. فالأيام الصعبة التي صنعت الغرب هي سنوات الصراع، وحين اختفى الأعداء، اشتد الرخاء، منتجًا أسوأ ما في الغرب: النيوليبرالية والفردانية وفقدان المعنى.  في الوقت الذي كانت فيه دول بقية العالم تعيش أيامها الصعبة، التي صنعت أجيالًا وطبقاتٍ لديها معانٍ ذات روح جماعيةٍ، صار من الصعب على الغرب هزيمتها. لكن المعضلة أن بقية العالم، ليس كتلةً واحدةً، قادرةً حتى الآن على صياغة معانٍ كونية قادرة على احتلال مكان الهيمنة الغربية، بقدر ماهي كيانات تحكمها قوانين الوحدة والصراع.

Leave a Reply

Your email address will not be published.