فتحي غَبِن: مناضل من لونٍ مختلف

الأربعاء 28 شباط 2024
تصميم محمد شحادة وآنات علان.

في عام 1984، وعن مطبوعات ابن رشد في القدس، صدرت لوحة «الهوية» للفنان فتحي غبن على هيئة بطاقة بريدية وزّعت بآلاف النّسخ في الضفة الغربية وغزة وحول العالم، «ما أثار حفيظة الاحتلال وتم اعتقالي على إثر ذلك»، يقول غبن.

وقبلها كان غبن قد رسم في بواكير لوحاته الوطنية شهيدًا من عائلته ملفوفًا بعلم فلسطين، وكانت حينها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، كما يروي الفنان الفلسطيني سليمان منصور، تلاحق الفنانين الفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة وتمنع الأعمال الفنية التي يُمثّل فيها العلم الفلسطيني بشكله المجرد أو حتى ألوانه.

على إثر تلك اللوحة المطبوعة وجهت الحكومة الإسرائيلية لغبن تهمة التخريب الفكري. وصرّح وقتها مسؤول إسرائيلي لأحد الصحفيين الهولنديين المتضامنين مع غبن بالقول: «فتحي غبن رسم وطبع ألف صورة وزعت في الضفة الغربية وغزّة تُحرّض على حكومتنا، وتتسبّب في خروج الناس إلى الشوارع للتظاهر وإلقاء الحجارة وخرق القانون».

بملفٍ أزرق يحمل الرقم 83/2967، كُتبت لائحة الاتهام الموجهة من الاحتلال ضد فتحي غبن، وشملت ثلاث تهم، وهي استيراد منشورات، والاحتفاظ بهذه المنشورات، أما التهمة الثالثة فكانت: بتاريخ 19 آب 1983 حاول المتهم التأثير على الرأي العام في المنطقة، حيث رسم وعرض في معرض الجامعة الإسلامية (في غزة) صورًا لنسر، وعلم منظمة التحرير، وصورًا لصبي أصيب خلال المظاهرة، وعندما طلب المحامي العدول عن هذه التهم، أصرّ القاضي، وقال إن الجرائم التي ارتكبها الرسام خطيرة جدًا، لذلك فإن المحكمة لا تستطيع تجاهل خطورة الجريمة، وقررت تطبيق القانون بحذافيره.

حكم الاحتلال على فتحي غبن بالسجن ستة شهور، وغرامة مالية مقدراها 30 ألف شيكل، وبسبب الحملات التي أُطلقت للتضامن معه، عرضوا عليه الإفراج عنه مقابل توقيعه تعهّدًا بعدم العودة لرسم العلم، كما يضيف سليمان منصور، لكنه رفض، وفضل أن يقضي عقوبته على أن يتخلى عن رسم العلم، وحتى بعد خروجه من الأسر ظلّ لسنوات ممنوعًا من السفر، ليخسر فرص المشاركة في معارض فنية كان قد دعي إليها.

لوحة للفنان فتحي غبن بعنوان «الهوية» مطبوعة على بطاقة بريدية

التهجير رضيعًا 

ولد فتحي غبن في العام الذي سبق النكبة في قرية هِربيا، القرية السّاحلية الوادعة بين غزة ومجدل، والتي كان أهلها يغنون في مواسم الحصاد رغم نصبهم الفزاعات لطيور البحر «يا الله يطعمنا ويطعم الطّير..يا الله يا دار الرزق والخير».

وقبل أن يكمل السنة من عمره طهّر لواء جفعاتي الإسرائيلي مدعومًا بالقصف الجوي القرية عرقيًا، فهُجّر الرضيع مع عائلته إلى قطاع غزة، هجّر الفلسطينيون «لكنهم تركوا خلفهم آثار أقدامهم الغائصة في الأرض»، يقول غبن.

قطنت العائلة حي الزيتون وبعدها اتجهت إلى مخيم جباليا، المخيم الذي سيبقى فيه غبن طيلة حياته وحتى آخر أيامه، وفيه درس غبن من الصف الأول إلى السّادس الابتدائي، ولوّن لوحاته وخطّ خطوطها الأولى تحت سقفٍ من الزينكو.

في جباليا اكتشف المعلمون موهبة غَبن وشجعوه على المُضي قدمًا، وكان لشخصية طرزان الكرتونية أكبر الأثر في بداية مشواره الفني، «في مواضيع هذه اللوحات، بدأتُ أجسّد الحركة، حركة الحيوانات واقتتالها وتفاعلها مع بعضها البعض في الغابة».

بطاقة بريدية تحمل لوحة للفنان فتحي غبن بعنوان «خبز الصاج»

مع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، احتلّت «إسرائيل» قطاع غزة لعدة شهور، وحينما غادرته رسم غبن خربشاته الوطنية الأولى كما يقول، إذ شاهد عملية جلاء قوات الاحتلال عن القطاع، ودخول قوات الطوارئ الدولية، فكانت لوحة جلاء الاحتلال الإسرائيلي عن غزة، وهو ما زال في الصف الثالث الابتدائي.

هذا الدعم الذي حصل عليه من زملائه الطلبة والمدرسين سيختلف عندما يجد فتحي نفسه مضطرًا لترك المدرسة بعد الصف السادس الابتدائي ليساهم في إعالة عائلته. «كان وقع ترك الدراسة في غاية الصعوبة على نفسي، لكنه لم يحل بيني وبين موهبتي في الرسم». وعلى مدى 15 عامًا لاحقة، عمل غبن بائعًا للجرائد والمجلات، «ومنها بدأتُ بتثقيف نفسي، ومطالعة القصص المصورة والرسومات».

النبوءة تتحقق

بعد ثلاث سنوات على خروجه من الأسر اندلعت الانتفاضة الأولى، وكان غبن قد رسم قبلها لوحة «الهوية» التي طبعت ووزعت وألصقت به، بالإضافة إلى لوحة الشّهيد وغيرها من اللوحات التي حملت ألوان العلم الفلسطيني، تهمة التحريض ضدّ الاحتلال، وجاءت مشحونة برموز الانتفاضة والثورة كالمقلاع واللثام والحجر.

يقول الناقد الفني مازن عصفور إن «أعمال غبن، كما لو أنها امتدادٌ لأعمال للفنان الفلسطيني إسماعيل شموط وتأثُّرٌ بها، الألوان الانطباعية والتعبيرية الواضحة، المرأة الفلسطينية الحاضرة في غالبية أعماله كحضور رمزي يُمثل الأرض والهوية، الطبيعة والريف الفلسطيني، وهو كما لو أنه يبحث عن الفرح المستمر بألوانه وخطوطه وموضوعاته، وهو بذلك أقرب ما يكون إلى شمّوط أيضا، الذي عرف عنه هذا الهاجس وهذا الديدن».

أمّا الباحث محمد عباس، فيضيء على أعمال غبن بالقول إنها امتازت بالتركيز على الألوان القاتمة وإضافة الألوان الحارة في بعض المناطق من اللوحة للتدليل على الأجواء المشحونة وحالة الصراع. كما يلاحظ عباس الحضور المستمرّ للمقاومة في أعمال غبن، وعن هذا يقول إن «مفهوم المقاومة عند فتحي هو مفهوم ثابت ولكن أثره متغير تبعًا للواقع الذي يعيشه الشعب. ولكن بشكل عام تأثّرَ الفن الفلسطيني بشكل إيجابي من مفهوم المقاومة من خلال خلق بيئة خصبة للفنان ومساحة كبيرة للتعبير يستطيع من خلالها أن يصوّر كل ما يلج في خاطره بأسلوبه الخاص للتعبير».[1]

غبن الفنان المعلم

في لقاء مصوّر معه، يتحدث غبن عن اعتزازه بتجربة تعليمه الفنّ للأطفال، وعن سعادته أن عددًا منهم عندما كبروا صاروا فنانين، ومن الواضح أنه كان يؤمن بضرورة الأخذ بأيديهم وتعليمهم الفن ما أمكن.

يقول الفنان الفلسطيني من قطاع غزة، محمد الحاج، إن غبن بمثابة أب روحي له وقد التقاه فيما كان طالبًا جامعيًا في معارض لزملائه من الطلبة الفنانين، وتأثر به جدًا في بداية مشواره الفني. «أبو حسام، فتحي غَبن، إنسان متواضع جدًا، يلبي نداء الفنانين على اختلاف مستوياتهم الفنية، لا يفوّت أي معرض مهما كان مستواه، حاضر دائمًا ومحب لهم». وكان غبن قد ساهم عام 1973 في تأسيس رابطة الفنانين التشكيليين الفلسطينية رفقة مجموعة من الفنانين.

أمّا ماهر ناجي، وهو فنان من غزة، فيقول وهو الذي عرف فتحي منذ أن كان ماهر طفلًا صغيرًا، واشترك معه ومع زوجته في إقامة معرض فني عام 1996: «الأستاذ فتحي إنسان هادئ، طيب، وشخصية محبوبة من جميع فئات الفنانين، لم يسئ لأحد طيلة فترة مسيرته الفنية، ويمثل للفنانين الصاعدين نموذجًا يحتذى به، لعدة اعتبارات، مواضيع لوحاته تلامس قلوب الفنانين الناشئين قبل أن يتعرفوا إلى المدارس الفنية وتشعباتها».

الفنان التشكيلي الشّاب علي تايه، يقول إنه تعرف على فتحي غبن منذ تسع سنوات تقريبًا، وكان يسكن إلى جواره في مخيم جباليا، «كان يعتبرني مثل ابنه، وكنت أتردد عليه بشكلٍ شبه يومي، ولم يكن غبن ينتقد أي فنان مبتدئ أبدًا، كان يمدح الجميع وإن كان لديه أية ملاحظات فنية كان يأخذ الشاب على انفراد ويتحدث معه».

بساطةُ غبن وعفويتُه المُحبّبة وبساطة الحياة التي يعيشها بحلوها ومرها تظهر جلية في فيلم الهُوية، الفيلم التّسجيلي القصير الوحيد ربما حول تفاصيل حياته. يبدأ الفيلم بطرق خفيف على باب حديدي مكتوب على الجدار إلى جواره بالطباشير «دار غبن»، ثم سرعان ما يظهر من خلفه رجل نحيلٌ بشعر أبيض مسرّح كيفما اتفق، يبتسم للضيف ويأخذ بيده مباشرة إلى غرفة صغيرة تمتلئ باللوحات والألوان، إنه المرسم.

يشرب محيسن، الشاب الذي قابل غبن، الشاي المقدم بإبريقٍ معدني كأبسط ما يكون التقديم، ويجلس على قطع الأثاث البسيطة ليستمع لما يقوله غبن حول الأحلام والشّجون وتداعيات الذاكرة. وفي المشاهد اللاحقة نرى الفنان غبن وهو يشارك في الأعراس الشعبية البسيطة، ويرقص باحتراف على أنغام المجوز واليرغول. يقول إنه يعشق الدبكة ويدرّبها، ولا غرابة أن رسم ذات مرة عازف اليرغول بزيه الفلسطيني وحوله فتيات الدبكة.

لوحة عازف اليرغول وفتيات الدبكة للفنان فتحي غبن

يقول سليمان منصور، صاحب لوحة «جمل المحامل»، وهو الذي يقارب غبن في العمر وزمن التجربة، إن في داخل فتحي فلاحًا أصيلًا يحب الحياة ويسيطر عليه ألمُها لكنه مع ذلك كان شخصية طريفة للغاية. ويتابع إن فتحي كان صاحب نخوة وإذا ما طلبت منه خدمة فإنه يلبي مهما كانت الظروف، رغم أنه مثل الكثير من سكان غزة قد عانى شعورًا دائمًا بانعدام الأمان الاقتصادي. ويختتم منصور كلامه عن رفيق تجربته بأنه «ظاهرة فنية شعبية مميزة حازت شعبية جماهيرية كبيرة وكانت لوحاته تزين بطاقات الأفراح وسيارات الأجرة في غزّة».

لوحات مهشّمة تحت الأنقاض

خلال الحرب الحالية على غزة أُجبرت عائلة غبن على النزوح من جباليا إلى رفح، تاركة وراءها بيتًا مدمّرًا وركامًا بكل ما حمله ذلك البيت من ذكريات ولوحات عمل فتحي على إنجازها طيلة حياته. «الأعمال الفنية تهشّمت بصورةٍ بشعة»، يقول خالد فتحي غبن، الابن التاسع في ترتيب أبناءه، «وقبل أن تلقى مصيرها تحت الأنقاض جرّاء القصف الإسرائيلي، كانت قد تعرّضت لنهش القوارض والفئران».

ويضيف أن لوحتين من اللوحات المميزة للأب قد سرقتا هذه المرة أيضًا؛ لوحة عين جالوت، ولوحة الهوية الثانية، والأخيرة كان قد رسمها غبن بعد ضياع النسخة الأولى منها عام 1984، «وجدنا الإطارات فقط دون اللوحات تحت الأنقاض، وقد أخذت اللوحات منها».

تعني لوحة «الهوية» الكثير لغبن ولها مكانة خاصة عنده، إذ فُقدت النسخة الأولى منها بعد أن أسر بسببها، «كان الوالد قد وضعها أمانة عند أحدهم لكن عندما خرج من السّجن لم يجدها وتنكر لها الرجل، ولغاية اللحظة لا أحد يعلم أين هي، وهل أخذها الاحتلال أم لا».

لوحة عين جالوت للفنان فتحي غبن

استشهاد فتحي غبن

قبل أيام على استشهاده نشرت ابنته ربوع تسجيلًا تناشد فيه بمساعدة والدها، وبينما كانت الابنة تقول «أنا بطالب الجهات المعنية..»، قاطعها والدها قائلًا: «أنا بطالب بنفسي، أنا بطالب بنفسي، بديش حاجة، بدي أتنفس».

لم يكن الفنان بداخل فتحي غبن هو من يختنق هذه المرة، إنما الإنسان المحب والبسيط. يقول الفنان الغزّي غانم الدن، والذي رافق غبن في أيامه الأخيرة في دير البلح: «الفسفور الأبيض الذي تلقيه قوات الاحتلال من وقت لآخر، وأدخنة الحرب وأغبرتها، وبرد الشتاء القارس، وقلة العناية في المستشفيات التي بالكاد تتمكن من متابعة الجرحى والشهداء، كل ذلك عمل على خنق غبن وعلى استفحال حالة ضيق النّفس لديه».

رغم أن المعاملات المالية وأوراق الخروج من القطاع للعلاج في مصر كانت قد جُهزت منذ أكثر من أسبوع، وتمت الموافقة عليها من أعلى المستويات في الجانبين الفلسطيني والمصري، إلا أن التلكؤ كان من جانب الاحتلال، فلم يسمح له بالمغادرة، انتظرنا طويلًا أن يُدرج اسمه على قوائم الخروج، لكن ذلك لم يحدث، تقول الابنة ربوع.

وتضيف أن الآلام والمصائب تراكمت على الأب، فخلال هذه الحرب فقد ابنه، وحفيده، وأقرباء من العائلة، (أخوه، وزوجة أخيه، وبنات الأخ) الذين قصفوا في مكان نزوحهم في الجنوب، بالإضافة إلى أن تدمير اللوحات، ووجودها تحت الأنقاض أضاف ألما آخر له، إذ كان يعتبرها كما لو أنها من أبنائه.

على نحو مفاجئ، وعلى سرير في مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، انقطع النّفس عن فتحي غبن، حاول الأطباء أن يضخوا المزيد من الأكسجين، كما يروي خالد، لكن محاولاتهم باءت بالفشل، فقد لفظ فتحي غبن آخر أنفاسه، وفارق الحياة في 25 شباط 2024، ليدفن في مقبرة المدينة.

وهكذا طويت صفحة الفنان الفلسطيني الغزي فتحي غبن، عن عمرٍ يزيد عن عمر النّكبة بعام أو عامين، وقد ولد في حرب، واستشهد في حرب، ليرتقي بعد سنينٍ صعبة، قضاها مناضلًا من لونٍ مختلف.

مجلة (المجلة) 27 كانون الثاني 1987. العدد 362. الكاتب محمد الظاهر، من أرشيف الفنان سليمان منصور.

  • الهوامش

    [1] كتاب مفهوم المقاومة في بعض أعمال النحت الفلسطيني محمد عباس.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية