ثلاث شموس: عن حفلة جلبت لنا «عبد القادر بوعلام»

الأحد 03 أيلول 2023
من حفلة «1، 2، 3 شموس» التي جمعت الشاب خالد ورشيد طه والشاب فضيل في باريس في 26 أيلول 1998. تصوير جان ميشيل دولاج.

في الشوارع كان ثمة هرج كبير. وفي التلفزيون كانت الأخبار لا تتوقف، أما القناة الليبية، التي يدركنا بثها لأننا كنا أقرب إلى طرابلس الغرب من تونس، فقد دأبت على بثّ خطابات حماسية للقذافي وأغان ملحمية، وبعض الشتائم تجاه أمريكا. أما جدتي فقد كانت تقول إن صدام حسين رجل مقدام، ليس لسبب موضوعي واضح بل لشاربه الكث، الذي يدل على نوع من الفحولة البدوية، أي أن أي طائرًا يستطيع الوقوف عليه مستريحًا، هكذا كانت تقول، وكأنها تغمز من جهة زين العابدين بن علي، الذي كان حليق الوجه دائمًا وأبدًا. بداية عطلة الشتاء كانت صاخبةً ذلك العام، على وقع «عملية ثعلب الصحراء»، التي قصفت فيها أمريكا العراق أيامًا متتاليةً على نحو وحشي. 

تواصل ذلك الهرج أيامًا، كان والدي يحتكر فيها التلفزيون، وكنا، إخوتي وأنا نتحين الفرصة لسرقة بعض الوقت كي نشاهد برامجنا المفضلة، دون جدوى. مستغلًا تلك الغفلة الأبوية، كنت أبدد وقتي في الشارع ألعب وأتسكع، مهرولًا تحت سحاب يوشك أن يمطر، متجاوزًا الخطوط الحمراء في ارتياد أفاق لم أكن أدركها سابقًا من بلدتنا الصحراوية، مع أصدقاء الخير والسوء. في ذلك الحيزّ القصير من الضياع، سمعت لأول مرةٍ أغنية «عبد القادر يا بوعلام». كانت مقدمتها الموسيقية ساحرةً. ربما حدث ذلك خلال مروري أمام المحل اليتيم لبيع الشرائط في البلدة. لم أغادر مكاني حتى شارفت على النهاية. ما زلت أهتزّ حماسًا حين أسمع ذلك النسق التصاعدي في مقدمتها بين صوت الكمنجات وإيقاع «البندير»، وتظهر في ذاكرتي فجأةً ساحة وسط السوق والرصيف الواسع الذي يضم بائع الكاسيت ومحلّ بيع الدجاج المشوي. 

إلى ذلك الوقت، لم تكن الإنترنت قد حلت مشاكلنا في سماع الأغاني التي نحبّ وقت ما نحبّ. كان الواحد منا يتصيّد أغنيته المفضلة على الراديو أو التلفزيون، أو يشتري كاسيت الأغنية، وكان ذلك يكلف ميزانيتنا المعدومة حوالي الدينار وخمسمائة مليم. لم أغادر رصيف المحلّ حتى عقدّت العزمّ على شراء كاسيت «عبد القادر يا بوعلام»، ولم أكن أعلم أنها جزء من حفل ملّحمي جرت وقائعه قبل شهرين في باريس. بدأت رحلتي في تحصيل ثمن الشريط، ليأتي الفرجّ دفعةً واحدةً على يد صديقي عادل، الذي عرض أن يقايضني الكاسيت مقابل ثلاثة شرائط لعمرو دياب، مع أن عادل كان ينتظر إذاعة كليب «عودوني» لعمرو دياب، ليس حبًا فيه بل للتمعن في الراقصات وتلك قصة أخرى. كان الكاسيت ممهورًا بشعار شركة انتاج تونسية، ويبدو لي أنه طبع بلا حقوق، كعادة الشركات في ذلك الوقت. على الغلاف يظهر الشاب خالد ورشيد طه وفضيل، وفوقهم كتب بخط غليظ «1,2,3 Soleils». 

سفينة نوح

أواخر التسعينات، كان الشاب خالد قد بلغ درجةً من الشهرة والرسوخ لم يبلغها قبله فنانو الراي الجزائري، فاتحًا الأبواب أمام أسماء جديدة وقديمة. لكنه كان يريد أن يخلد هذا الفنّ في حفل ملحمي يجمع بين الإيقاعات الشعبية الجزائرية وموسيقى الروك والألحان الشرقية. حفلّ أسطوري مزدحم بالإيقاعات على طريقة باري وايت. كان خالد في ذلك الوقت متأثرًا بتجربة «The Three Tenors»، التي بدأت عام 1990 وجمعت في حفلات أسطورية الثلاثي الأوبرالي، بلاثيدو دومينغو وخوسيه كاريراس ولوتشانو بافاروتي. شرع خالد مع صديقه مغني الروك والعازف البريطاني، ستيف هيلاج، في الإعداد للحفل، وكانت الفكرة الأولية أن يشارك فيه خالد ورشيد طه والشاب مامي، إلا أن الأخير كان قد وقع عقد لخوض جولة في الولايات المتحدة فتم تعويضه بالشاب فضيل ومع ذلك فقد كان بين الجمهور. فشلت كل المساعي في أن يكون الحفل خلال وقائع كأس العالم 1998 في باريس. كان خالد ورفيقه ستيف يريدان تقليد بافاروتي ورفيقيه حين أقاموا حفلهم الثلاثي الأول في حمامات كاراكلا الأثرية في روما في اليوم السابق لنهائي كأس العالم لكرة القدم الذي نُظم في إيطاليا صيف العام 1990. ولم يتسن لهما ذلك إلا في 26 أيلول 1998 في قاعة «بيرسي أرينا» العملاقة في الدائرة الباريسية الثانية عشرة. 

لكن عقبةً أخرى تظهر في وجه الحلم. تكشف دراسة الجدوى التي قامت بها شركة بارلكي للإنتاج، أن صافي إيرادات الحفل لن يتجاوز 1.7 مليون فرنك فرنسي، بسبب التذكرة المخفضة التي يصر عليها الثلاثي، في المقابل ستصل كلفة إنتاجه إلى 6 ملايين فرنك. لم ترغب باركلي في خسارة أكثر من 4 ملايين فرنك، لكن أوليفييه كايارت، العضو المنتدب في الشركة يجد الحل أخيرًا، عندما يقرر بيع حقوق تسجيل الحفل إلى شركة التسجيلات بوليغرام الرائدة في فرنسا (التي ملكت 35.5% من سوق التسجيلات ومقاطع الفيديو الموسيقية في عام 1997)، والبث الإذاعي الحي لشركة سكاي روك العالمية. ليتسرب الحفل مسجلًا إلى العالم كله ويصلني، أنا الفتى الذي بالكاد كان يبلغ الثلاثة عشر عامًا على تخوم الصحراء.

بدأت بروفات حفل خالد وستيف كأنها سفينة نوح، جامعةً شتات الإيقاعات والعازفين من مللّ وثقافات وأذواق مختلفة حد التنافر. عازفون من الأوركسترا الفرنسية وعازفون من الأوركسترا المصرية، نبيل الخالدي على العود، وغيل آن دورسي المغنية وعازفة القيثارة الأمريكية ومن مصر المايسترو حسام رمزي وهاني فرحات. كان ستيف هيلاج كالمجنون يحاول جاهدًا قيادة تشكيل مكون من 30 نغم وتريًا مصريًا، في مواجهة ستة آلات نحاسية، بالإضافة إلى مجموعة من آلات الإيقاع تمزج بين إيقاعات شمال إفريقيا والأنغلو سكسون.

وطأة المنفى

متعمدًا أو بلا قصد واضح، جمع خالد في حفله الأسطوري ثلاث وجوه للراي الجزائري. وجه أول يمثله هو نفسه، فنان الراي القادم من الأحياء الشعبية لمدينة وهران معقل الراي التاريخي. ووجه ثانٍ يمثله رشيد طه، المولود في الجزائر والذي هاجر باكرًا منذ أن كان طفلًا ضمن موجة الجيل الأول من المهاجرين المغاربة إلى فرنسا بعد الاستقلال، وعايش تمزق الهوية، وصنع من ذلك التمزق فنًا. ووجه ثالث يمثله الشاب فضيل، مغني الراي المولود في فرنسا من الجيل الثاني للمهاجرين، لكنه مع ذلك شكل امتدادًا للراي الجزائري في شكل فرنسي. 

في الجهة المقابلة كانت الجماهير تلوح بالأيادي والأكف عاليةً والصراخ يفوق صوت الموسيقى. جمهور أساسه الجيل الثاني من المهاجرين، الذين كانوا بالكاد قد بلغوا العشرين عامًا، هم ثمرة سياسات لمّ الشمل الذي أقرتها فرنسا منتصف سبعينيات القرن الماضي، قادمين من الضواحي العمالية في الحوض الباريسي. يحملون ثقافة مزدوجةً وجرحًا عميقًا لهويةٍ غير واضحة. وحين تلتقي أعينهم مباشرةً بخالد ورشيد وفضيل تبحّ الحناجر بالهتاف، لكأنهم يشاهدون ذلك الجرح مجسدًا على المسرحّ: شموس في سماء باريس الخريفية الباهتة، فيما البلاد بعيدًا، تعاني ويلات عشرية الدماء. ولا غرابة أن الحفل يفتتح على نشيج حزين طالعه «قولوا لأمي ما تبكيش… يا المنفي».

منذ العام 1992، أصبح خالد الوجه الأكثر تمثيلًا لموسيقى الراي في فرنسا والعالم. قبل سنوات قطع الشاب الجزائري المتوسط نحو باريس، وانطلاقًا من مهرجان بوبيني (1986) للراي، شق طريقه مع شركات إنتاج فرنسية، حتى ظهرت أغنية «دي دي» التي وضعته على قمة موسيقى الشباب في فرنسا. وفي عام 1996 ظهرت أغنيته «عايشة» التي لاقت ناجحًا كبيرًا هي الأخرى، ثم أعقبها الديو «La Poupée qui fait non» بينه وبين الفنانة الفرنسية – الكندية ميلين فارمر في عام 1997. أما رشيد طه فقد كان قادمًا من تجارب جماعية مختلفة تمامًا عن خالد. يحمل طه التزامًا أشد نحو قضية الهوية العربية والجزائرية، لكونه عايش منذ طفولته المبكرة أنواعًا من التمييز في أوساط فرنسية، حيث بقيت بالنسبة له الجزائر البعيدة رمزًا للجذور المقطوعة. فقد ولد خلال حرب التحرير (1958) وعاش سنوات وعيه البدائي بضع سنوات بعد الاستقلال، لذلك حافظ على تلك الجذوة من التضاد بين البلد الأم المُستعمر، وبلد الإقامة المستعمر.

لذلك كان على خلاف قطاع واسع من أبناء جيله، يتقن العربية كتابةً وحديثًا، ومتأثرًا بأغاني أم كلثوم. ظهر التزامه الموسيقي في نهاية السبعينيات في مدينة ليون مع مجموعته «Carte de Séjour» (بطاقة إقامة). ثم رحل إلى باريس منتصف الثمانينيات للغناء، في مواجهة اليمين المتطرف الشبابي المزدهر. وفي عام 1991 أصدر أول ألبوم منفرد، حمل عنوان «باربيس»، مستعيرًا اسم أكبر أحياء باريس المغاربية، والذي كتب ولحن أغلب أغانيه في رحلة روحية قادته إلى مدينة وهران الجزائرية، المعقل التاريخي لموسيقى الراي، حيث أوصى بأن يدفن غير بعيد عنها في مدينة سيق. وثالث الثلاثة، فُضيل بيلوى، كان قادمًا من جيل وبيئة مختلفةٍ عن خالد ورشيد. ولد فضيل في 1978 في الحوض الباريسي، في عائلة مهاجرة من مدينة تلمسان. كان والده عامل في مصانع السيارات رينو. التحق منذ بداية التسعينيات مدفوعًا بأصوله من الغرب الجزائري، بمجموعة «نجوم الراي» التي كونها صديقه عاصم أوزادانير، التي كانت تقيم حفلات محلية تعيد فيها غناء أغاني نجوم الراي مثل خالد والشاب مامي والشاب حسني.

يدخل الرفاق الثلاثة إلى المسرح ببدلات سوداء ويشرعون بصوت جماعي في ترديد الأغنية التي لحنها رشيد طه، وهي قصيدة كتبها أحد أسرى ثورة المقراني الذين تمّ نفيهم إلى جزيرة كاليدونيا في 1871، وتحكي مأساة ذلك الأسير المجهول من لحظة اعتقاله حتى محاكمته ونفيه بعيدًا في شكل رسالة مفتوحة لأمه. كانت الأغنية تعبيرًا رمزيًا عن ذلك المنفى المزمن الذي لم ينتهِ، لكأن التاريخ لم يتحرك منذ 1871، فالمغنون الثلاثة وجمهورهم منفيون كل على طريقته. بعضهم هارب من مأساة البلاد التي تغرق شيئًا فشيئًا في أتون حرب أهلية لا تتوقف، وبعضهم منفي في لغة وثقافة يريدها ولا تريده. ينفتح الحفل على المنفى وينغلق عليه ليختم الثلاثي بأغنية «يا الرَايح وين مسافر تروح تعيّا وتولي»، للفنان الشعبي الجزائري الشعبي دحمان الحراشي، والتي أعاد إنتاجها رشيد طه بداية التسعينيات، وتروي مأساة الشتات المغاربي خلال النصف الأول من القرن العشرين. كان طابع رشيد طه الحزين والراقص في الوقت نفسه طاغيًا على الحفل، لم يقطع ذلك الحزن سوى السكون الذي بعثه الشاب خالد في الحفل عندما غنى على نحو مغاير مدحيته الشهيرة «يا رسول الله»، التي غناها في الثمانينيات أعاد تسجيلها في بداية التسعينات مع الشاب أنور. 

صباح اليوم التالي، ظهرت صحيفة «لو باريزيان» بعنوان عريض: «خالد وفضيل ورشيد طه أشعلوا بيرسي». كتب محرر الصفحة الثقافية في الجريدة آلان موريل قائلًا:

«مدعومين بسخاء من قبل أوركسترا سيمفونية مصرية نابضة بالحياة مكونة من خمسة وخمسين موسيقيًا، أشعل خالد وفضيل ورشيد طه، مساء السبت صالة بيرسي، فيما جاء 17 ألف متفرج للتلويح بأعلامهم واختلافاتهم، ولكن أيضًا رغبتهم في الأخوّة وقبل كل شيء رغبتهم في الاهتزاز والاحتفال والرقص (…) لكن اللافت أن الجمهور استقبل الأغنية الفرنسية الوحيدة في تلك الأمسية بسخرية!!».

يلخص تعليق موريل نظرة الفرنسيين للحفل الأسطوري، المتأرجحة بين الانبهار والتسليم بأن هذه الموسيقى الشعبية الجزائرية، يمكن أن تكون عالميةً شأنها شأن الموسيقات المحلية الأخرى التي خرجت إلى الكونية من جهة، وبين الانتباه إلى أن شبيبة الجيل الثاني والثالث من المهاجرين ما زالت مشدودةً إلى جذورها المغاربية والإفريقية. حيث كان قطاع واسع من الجمهور من مهاجري إفريقيا جنوب الصحراء متفاعلًا بشغف مع الإيقاعات الإفريقية التي وظفها خالد ستيف هيلاج، والموجودة أصلًا في موسيقى الراي من خلال روافدها الصحراوية العميقة في الجزائر.

ربع قرن تسرب من بين قبضتي كأنه البارحة، عاودت فيه سماع الكاسيت كاملًا مرات ومرات، وشاهدت فيه الحفل مرات ومرات، لكن ذلك العناق بين الإيقاع وتجديف الكمنجات الحاد والمتصاعد في مقدمة «عبد القادر يا بوعلام»، ما زال يبعث في داخلي رجفة حماس وبهجةٍ لا تُقاوم. لكن العالم أعاد ترتيب حاله بمكرّ شديد. فقد أصبحت مثل والدي مدمنًا على مشاهدة نشرات الأخبار، فيما رحل هو بعيدًا عن دنيا الناس. وحده العراق على حاله والمنفى يزداد وطأة علينا جميعًا. لكن «أهو ذنبك أنك يومًا وًلدت بتلك البلاد؟»، عن الجرح تتحدث حفلة الشموس الثلاثة في خريف باريس الحزين، لكنه حزن يختفي وراء الصخب والرقص والهتاف.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية