فيلم «وداعًا طبريا»: النكبة دون أن نراها

الأربعاء 13 آذار 2024
مشهد من الفيلم.

«أتعرفين شيئًا يا سيدتي… يبدو لي أن كل فلسطيني سيدفع ثمنًا».
غسان كنفاني، عائد إلى حيفا

يطوف هذا الفيلم حول نكبة فلسطين، دون أن يقتحمها. يتحدث عن طيفها المخيف دون أن يمسك بها ويشرحها. تحضر طبريا، بضمير الغائب، بوصفها فردوسًا مفقودًا. هو جزء من سينما الاقتلاع والعودة، التي برعت فيها مخرجته، لينا سوالم، منذ عملها الأول «جزائرهم» (2020). لا يقول الوثائقي الطويل الأشياء صراحةً، لكن غموضه في التعبير يزيد من قوة القضية، ويجعل التاريخ الصغير للأماكن والأفراد، أكثر عمقًا من التاريخ الكبير للأحداث والملاحم والهزائم. 

«يبدو لي أن كل فلسطيني سيدفع ثمنًا»، يتوقع غسان كنفاني في «عائد إلى حيفا». لن تكون هيام عباس، بنت الجليل استثناءً، لكنها تدفعه مضاعفًا كونها فلسطينية وامرأةً في الوقت نفسه. تغادر عباس قريتها دير حنا على الحدود الفلسطينية اللبنانية في ثمانينات القرن الماضي نحو أوروبا، جريًا وراء حلمها في أن تصبح ممثلة. كان رحيلها أقرب للهروب منه للهجرة. هربت من واقع اجتماعي لا ينظر بعين الرضى للمثلات والفنانات، ومن واقع سياسي يمتهن العرب في كيان يحتل الأرض والعقل.

تترك هيام خلفها جمعًا من النساء اللواتي شكلن طفولتها وجزءًا من صباها: والدتها نعمت وجدتها أم علي وأخواتها السبع. وحدها من نجحت في كسر الطوق. تتزوج أجنبيًا في لندن ثم ينتهي الزواج سريعًا فتلقي بها الأقدار في باريس، لتلتقي الممثل الجزائري، زين الدين سوالم، الذي ترتبط به وينجبان لينا، مخرجة هذا الفيلم. بعد ثلاثة عقود من ذلك الهروب، تقرر هيام وابنتها لينا العودة إلى دير حنا تحملان كاميرا، لتعيد البنت من خلال رواية أمها وخالاتها بناء القصة من أولها.

لا يظهر الأب زين الدين في الفيلم لكنه بطله المجهول. كان الرجل مغرمًا منذ وقت مبكر بتوثيق ذكريات العائلة وأسفارها بكاميرا (vhs)، فتجمّع لدى العائلة كم هائل من الأرشيف الشخصي موزعًا بين فلسطين المحتلة والجزائر. من هذا الكنز الوثائقي ستنطلق مسيرة لينا المخرجة. في فيلمها الأول عن الجزائر، نجح أرشيف زين الدين في جعله فريدًا، وفي «وداعًا طبريا»، اختصرت لقطات الفيديو التي صورها في دير حنا على مدى سنوات، في كل مرةٍ كانت هيام تزور أهلها، كل كلام يمكن أن يقال، وكل وصف يمكن أن يقرب لنا صورة القرية وأهلها وأحوال عائلة الجدة نعمت، في تلك السنوات التي تبدو بعيدةً اليوم.

حياكة ما مزقته النكبة

لم تعش هيام عباس النكبة، التي ولدت بعدها بسنوات. لكنها عايشت آثارها في عائلتها التي تمزقت بين فلسطين ومخيمات اللجوء في سوريا. وعاشت امتدادها في كونها عربية تحت احتلال لا يعامل العرب إلا كمواطنين من درجة ثانية أو فائض أزمة لم تنته منذ عام 1948. لا يتحدث الفيلم عن النكبة بشكل مباشر، فهو ليس شهادة أو وثيقة، لذلك فإن توصيفه بالوثائقي يبدو غير مريح، لكن جدول التوصيفات لا يتضمن جنسًا واضحًا يمكن أن نضع داخله هذا العمل. عن عائلة من الفلاحين، تتقطع بهم السبل على ساحل طبريا بعد نكبة فلسطين ويرتحلون بحثًا عن النجاة حتى يدركوا قرية دير حنا. الأب الفلاح «يفقد عقله ويموت حزنًا، وزوجته أم علي تجد نفسها وحيدة، مع ثمانية أطفال وآلة خياطة تعولهم»، بينهم نعمت التي ستصير معلمةً وتنجب كثيرًا من الأطفال، من بينهم هيام.

يبدو الحاضر الثقيل حاضرًا بقوة في الفيلم، لا في صوره بل في نفوس من يشاهده. لذلك فإن المشاهد سيكون أكثر توترًا وعنفًا نفسيًا في التعامل مع موضوعه، وهو الفارق الذي يظهر واضحًا بين زمن تصوير الفيلم قبل الحرب وزمن عرضه بعدها.

«لقد ولدت من هذا الرحيل، من هذه القطيعة بين عالمين»، هكذا تصف عباس رحلتها التي تعيد لينا حياكتها، ربما وفاءً لأجيال من النساء الفلسطينيات اللواتي قاومن المآسي بالخياطة والتطريز، من بينهن جدة أمها، أم عليّ. يبدو الفيلم كثوب فلسطيني مطرز، تتشابك فيه الصور، ومربعات الذاكرة الصغيرة، وعقد الزمن الحادة والمكثفة. يبدأ كل شي من خلال الصور، التي تثير الأسئلة والحكايات. تعتمد المخرجة، التي تظهر في الشاشة كفاعل، على الصورة بوصفها ذكرى مثبتةً، كي تدفع والدتها إلى الحديث والاسترسال في الحكي. ثم حين ينتقلان إلى دير حنا ويلجان بيت العائلة، تتابع التكتيك نفسه مع خالاتها، دون أن تفقد الخيط النظام للقصة الممتد من هيام إلى الجدة نعمت إلى جدة الأم أم عليّ. وعبرهن يظهر طيف المأساة الفلسطينية والنكبة والتهجير من طبريا إلى دير حنا، والصمود والمقاومة. وتظهر المرأة الفلسطينية طائرًا فينيقيًا يعجز الفناء أمامه في كل مرةٍ يعتقد أنه قد أدركه. 

ثم تأتي لينا بقطعة شاردةٍ من القصة لتعيد حياكتها مع بقية أجزاء الثوب. حسنية، عمة هيام التي فقدت خلال النكبة ثم تبين أنها تحولت إلى لاجئة في أحد المخيمات السورية، تعود ذكراها دُفعةً واحدةً. عندما تروي هيام قصة لقائها الأول مع هذه العمة حسنية، التي سمعت عنها قصصًا وحكايات دون أن تراها. كانت مجرد خيالات وصور في دماغ طفلة تلعب في أزقة دير حنا. لكنها في العام 2003، أصبحت حقيقةً. تأخذ هيام الطائرة نحو دمشق، وتخترق شوارع مخيم اليرموك بحثًا عن العمة. وعندما تدرك ناصية الشارع تظهر حسنية متكورةً أمام بيتها المتهالك وكأنها تنتظر العودة أو شيئًا من «ريحة البلاد». تهرع هيام نحو ذلك الحضن، ويغرقان في عناق طويل، عمره من عمر نكبة فلسطين. لقد بدت لي تلك الحكاية القصيرة والمكثفة، بجمال عقدة ملونة في ثوب مطرز. كأنها نجمة تتوسط قبة الثوبّ.

مشهد من الفيلم لهيام وأخواتها.

على حواشي الفيلم وفي خلفية المشاهد تظهر «إسرائيل». في لافتات الشوارع وإشارات المرور الممهورة بالعبرية، في سحن الناس القادمين من أوروبا الشرقية. لكن لينا وهيام تتجاهلان ذلك السديم المخيف من الاحتلال ورموزه. وتظهر بحيرة طبريا هادئةً بلا موج. صفحة ماء أزرق لا يتحرك إلّا قليلًا، مقوسةً كالرغيف، وأمامها تتأمل هيام المشهد بحسرةٍ. لكن تبدو المخرجة قاصدةً عدم الدخول في حديث مباشر حول السياسة، فالاحتلال والنكبة وواقع العرب داخل الكيان الإسرائيلي لا تظهر إلا كمشاكل عرضية تعاني منها الشخصيات، رغم أن العرضي يبدو مركزيًا في قصة الأجيال الأربعة التي تحاول لينا سوالم إعادة بنائها بالصورة والرواية. دون أن يخفي المرء إعجابه من قدرتها على توظيف الأرشيف والاستعانة بأرشيفات فرنسية تصور الحياة في فلسطين قبل النكبة وبعدها.

سينما الاقتلاع والعودة

يمكن أن يكون «وداعًا طبريا» جزءًا من مشروع بدأته سوالم عام 2020 في فيلمها الأول «جزائرهم»، الذي يحكي قصة عائلتها من جهة الأب. وهو مشروع يمكن أن نطلق عليه تجاوزًا «سينما الاقتلاع والعودة». لينا سوالم تمثل تكثيفًا لتعقيد الهوية، وهي إشكالية يعيشها قطاع واسع من عرب الجيل الثاني والثالث في فرنسا. والإشكالية عند سوالم مزدوجةً، فوالدها جزائري، من بلد دفع أثمانًا باهظةً للتخلص من الاستعمار الفرنسي، ومع ذلك فهو فرنسي ولد لعائلة مهاجرة ولينا كذلك. ووالدتها فلسطينية، تتلخص فيها جميع تعقيدات الهوية والانتماء.

ربما يكون وصف الأمر بالإشكالية غير صائب، لكنه كذلك -لا من حيث ما يشعره المرء- ولكن من حيث ما يفرضه العالم الذي ينتمي إليه. تأخذ لينا هذا التعقيد وتصنع منه أفلامًا. السينما ليست ماءً يطفئ جمر الاقتلاع والمنفى، ولكنها عودة رمزية تعوض جانبًا كبيرًا من فقدان العودة الحقيقة. لذلك فإن لينا، أو الأشخاص الذين في مثل حالتها من التعقيد الهوياتي والبراعة الفنية، وحدهم من يمكنهم صنع شيء في هذا النوع من السينما التي تتداخل فيها الذات بالموضوع على نحو يصعب فصله، وفي هذا التداخل تكمن الفرادة.

الحاضر عنيف والفيلم حزين، لكن كلاهما يحمل أملًا غير محدود في المستقبل، يتجلى في ابتسامة هيام عباس، وهدوء طبريا، وصخب العائلة في بيت نعمة، وعروبة اللكنة وعذوبتها.

في «جزائرهم» تعيد لينا رسم مسارات حياة أجدادها المهاجرين من الجزائر. غالبًا ما يكون هؤلاء أشخاصًا يُشار إليهم بالكتلة، يقع الحديث دائمًا عن المهاجرين واللاجئين والمنفيين والمسلمين القادمين إلى فرنسا بصيغة الجمع، كأنهم منزوعو الفردية والتفرد. لذلك حاولت أن تسلط الضوء على الصمت الذي يحيط بقصتهم، والمرتبط بألم الاقتلاع. معيدةً تشكيل مسارات الحياة غير المرئية والمهمشة لهؤلاء الأشخاص الذين أدمنوا الصمت، والذين لم يتمكنوا من سرد قصصهم والذين اضطروا إلى البقاء متحفظين من أجل الاندماج. أرادت أن تمنحهم صوتًا مرة أخرى وأن تكرم ذكراهم. 

في عملها حول الجزائر، تستعمل لينا نفس التمشي الذي نراه في فلسطين، حيث تنطلق من التاريخ الصغير لنقد الرواية الاستعمارية الكبيرة. غالبًا ما تم التعامل مع قصص المهاجرين الجزائريين على أنها قصص غريبة عن فرنسا رغم أنها قصص فرنسية بالكامل. فهؤلاء المهاجرون لم يأتوا من العدم، وتاريخهم جزء لا يتجزأ من تاريخ فرنسا الاستعمارية والرأسمالية.

فلسطين والجزائر، والمقاومة والذاكرة، والمنفى والعودة والاقتلاع؛ تبدو هذه الكلمات ذات معنى أكثر من أي وقت مضى. ربما القدر أو الحظ، هو الذي جعل طريق الفيلم يتقاطع مع العدوان الصهيوني على غزة، والشهوة الإسرائيلية لإعادة إنتاج النكبة، في مقابل الصمود الأسطوري للمقاومة والشعب. يبدو الحاضر الثقيل حاضرًا بقوة في الفيلم، لا في صوره بل في نفوس من يشاهده. لذلك فإن المشاهد سيكون أكثر توترًا وعنفًا نفسيًا في التعامل مع موضوعه، وهو الفارق الذي يظهر واضحًا بين زمن تصوير الفيلم قبل الحرب وزمن عرضه بعدها.

الحاضر عنيف والفيلم حزين، لكن كلاهما يحمل أملًا غير محدود في المستقبل، يتجلى في ابتسامة هيام عباس، وهدوء طبريا، وصخب العائلة في بيت نعمة، وعروبة اللكنة وعذوبتها. لكن هل نقول حقًا «وداعاً طبريا»، أم إلى لقاء قريب أيتها البحيرة التي يتجلى فيها المسيح الفلسطيني ثائرًا ومخلصًا.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية