هل خسرت فلسطين إفريقيا؟

الخميس 21 آذار 2024
فلسطينيون يتجمعون حول تمثال لنيلسون مانديلا في رام الله، عقب القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد «إسرائيل» في محكمة العدل الدولية. تصوير ماركو لونجاري. أ ف ب.

يبدو تاريخ الصلات بين الأفارقة وقضية فلسطين مقلوبًا. فدول القارة التي وقفت كتلةً واحدةً، باستثناء نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، إلى جانب كفاح الشعب الفلسطيني قبل توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، لم يعد بينها ذلك الإجماع حول القضية. في المقابل تقف جنوب إفريقيا اليوم بقوة غير مسبوقة ضد «إسرائيل» ومن ورائها التحالف الغربي المؤيد لها. بالمنطق الأخلاقي، لابد للضعيف أن يكون في صف الضعيف. وهو ما عبر عنه الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا مرةً بالقول: «نحن نعلم جيدًا أن حريتنا غير مكتملة دون حرية الفلسطينيين». لكن منطق المصالح والانعزال القومي، يجعل أحيانًا واجبات التضامن الأممي بين الضعفاء أقل شأنًا مما يجب أن تكون. وكذلك ما يقترفه صاحب القضية نفسه من هفوات وخطايا في مسار كفاحه تدفع المتضامنين معه إلى اتجاهات أخرى، من منطلق أن المتضامن لن يكون «ملكيًا أكثر من الملك».

غطت خطوة جنوب إفريقيا العظيمة في التوجه نحو محكمة العدل الدولية وتقديم الوجه الإبادي للكيان الإسرائيلي للرأي العام العالمي انقسامًا إفريقيًا حول الحرب العدوانية في غزة، ليس في مستواها الإنساني بل في دوافعها السياسية والتاريخية. فعلى خلاف المتصور، لم تعد قضية فلسطين تحظى بالإجماع الإفريقي حولها قياسًا لما كان سائدًا خلال العقود التي سبقت أوسلو. وخلافًا للتحليل السياسي الذي يضع المصالح والنشاط الصهيوني في القارة كسبب لكسر هذا الإجماع، توجد أسباب أخرى تتعلق بالسياسات العربية في إفريقيا ومسار حركة التحرر الوطني الفلسطيني التي دفعت قطاعاتٍ من النخب والدول الإفريقية إلى مراجعة سياستها نحو القرب من «إسرائيل».

كما في الدرس الهندي الذي تجلت آثاره واضحةً في طوفان الأقصى، تركت الأخطاء العربية في إدارة القضية خلال حقبة ما بعد عملية السلام الفاشلة آثارًا سلبيةً على قضية فلسطين في إفريقيا. ونسفت جهدًا سياسيًا ونضاليًا قادته دول ومنظمات ومثقفون، نجح بين الستينيات والسبعينيات في تحويل وجهة القارة بأكملها من الحياد والقرب من «إسرائيل»، نحو إجماع حول دعم الشعب الفلسطيني وكفاحه السياسي والمسلح لتحرير أرضه من الاستعمار، شأنه شأن الدول الإفريقية التي عانت عقودًا من الاستعمار العبودي.

عقيدة المحيط

في أعقاب ولادة الكيان الإسرائيلي تبنى رئيس الوزراء دافيد بن غوريون عقيدةً للسياسة الخارجية الإقليمية تسمى «عقيدة المحيط»، التي صاغها رؤوفين شيلواه عام 1931، والذي أصبح بعد ذلك بسنوات قليلة أول مدير للموساد عمل في كردستان لصالح الوكالة اليهودية. تقوم هذه العقيدة على إشكالية فكّ العُزلة الإقليمية المفروضة على الكيان من محيطه العربي من خلال بناء وتوسيع علاقات مع الدول والكيانات المحيطة بالوطن العربي كإيران وتركيا ودول آسيا الوسطى والدول الإفريقية، لاسيما جنوب الصحراء، وكذلك مع الأقليات العرقية والدينية مثل الموارنة في لبنان والأكراد في العراق. حيث تم تصورها كوسيلة لتعويض المقاطعة الدبلوماسية والاقتصادية واستراتيجية لتوازن القوى تهدف إلى مواجهة القومية العربية الصاعدة بعد ثورة 1952 في مصر.

شكلت ثلاث دول ركائز هذه العقيدة الإسرائيلية خلال هذه السنوات: إيران في عهد الشاه، وتركيا، وإثيوبيا في عهد هيلا سيلاسي. ومع كل منها نفذت حكومة بن غوريون سياسة تعاون كان المقصود منها أن تكون سرية، وتتعلق أساسًا بمجال الاستخبارات. وبالتالي فإن كل دولة من الدول الثلاث لديها معلومات وتحليلات عن الجيوش العربية والتي تثبت قيمتها بالنسبة للدولة اليهودية. ولكن هذا التحالف بين الأطراف يغطي أيضًا بعدًا اقتصاديًا. حتى عام 1979 كانت الهيدروكربونات الإيرانية تمثل غالبية واردات الطاقة الإسرائيلية. كما تم تنفيذ مشاريع التعاون التكنولوجي والزراعي المختلفة في إفريقيا وتركيا. نظرًا لكون صناعة الأسلحة الإسرائيلية من بين الأكثر تقدمًا خارج المجالين السوفياتي والغربي، فقد أصبحت الدول الثلاث من كبار العملاء في القطاع الدفاعي.[1] 

ضمن هذه العقيدة وسعت «إسرائيل» نشاطها في مدار الوطن العربي، ونجحت في فتح العديد من السفارات في الدول الإفريقية من خلال هيئة التعاون الدولي «ماشاف». ولعبت غولدا مائير، التي شغلت منصب وزيرة الخارجية (1956-1966) ورئيسة وزراء «إسرائيل» (1969-1974)، دورًا رئيسيًا في هذا النهجّ. حتى إنها قامت في عام 1962 بإدانة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في الأمم المتحدة، مما عزز سمعتها كدولة تدافع عن حقوق الإنسان. وفي عام 1963 افتتحت سفارة في نيروبي (كينيا) وحافظت على علاقات دبلوماسية مع حوالي ثلاثين دولة، بما في ذلك نظام جنوب إفريقيا الذي يمارس الفصل العنصري الذي أدانته سابقًا.[2]

في المقابل كانت الناصرية تقود حملة دبلوماسية مضادة لعقيدة المحيط الصهيونية. في كتابه «فلسفة الثورة» يتحدث عبد الناصر عن «عقيدته الإفريقية» قائلًا:

«تقع مصر في موقع بين ثلاث دوائر: العالم العربي والعالم الإسلامي والقارة الإفريقية (..) لذلك لا يمكننا، حتى لو أردنا ذلك، أن نبقى بعيدين عن الصراع الدموي الذي يدور اليوم في أعماق إفريقيا بين خمسة ملايين من البيض و200 مليون إفريقي. لا نستطيع ذلك لسبب بسيط وواضح: نحن في إفريقيا. وسيظل أبناء القارة يعتمدون علينا، نحن الذين نحرس البوابة الشمالية للقارة، والذين نعتبرهم همزة الوصل مع العالم الخارجي بأكمله. ولا يمكننا أن نتخلى عن مسؤوليتنا في نشر الوعي».

بدايةً من عام 1955، لم تعد مصر تمثل ثقلًا عربيًا فقط بل إفريقيًا أيضًا بوصفها ممثل القارة في مؤتمر باندونغ، الذي أسس لخط عدم الانحياز إلى جانب الهند وإندونيسيا والصين. أصبح الرئيس جمال عبد الناصر يملك قوةً إقليمية ساعدته على التأثير في محيط بلده الإفريقي، حيث ضم إلى المؤتمر ابتداءً خمس دول إفريقية هي غانا وإثيوبيا وليبيريا وليبيا والسودان. كما نجح في بناء قوس سياسي يمتد من شرق إفريقيا إلى غربها مع عدد من رؤساء الدول من ذوي التوجهات الاشتراكية، والذين كانوا قادةً لحركات تحرر وطني ضد الاستعمار، مثل الرئيس الغاني كوامي نكروما والرئيس الغيني الأول سيكو توري ورئيس الوزراء الكونغولي باتريس لومومبا. فقد شكل الخطاب الناصري المناهض للاستعمار، بدايةً من تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي، عنصر جذب سياسي وتأثير في قطاعات واسعة من النخب السياسية والفكرية الإفريقية. فيما ساهمت القاهرة عمليًا في دعم حركات التحرر الإفريقية بالسلاح والدعم اللوجيستي والسياسي في المنظمات الأممية. لكن المساهمة الأبرز للناصرية في التحرر الإفريقي كانت في بناء منظمة الوحدة الإفريقية التي بدأت منذ عام 1958، من خلال مؤتمرات ونقاشات مع صديقه نكروما، ثم تجلت ككيان إفريقي وحدوي في عام 1963، والتي كان جهدها الأساسي في تلك الفترة منصبًا على القضاء على جميع أشكال الاستعمار وحكم الأقلية البيضاء، حيث كانت هناك العديد من الدول التي لم تحصل بعد على استقلالها أو تحت سلطة الأقلية البيضاء. وكانت جنوب إفريقيا وأنغولا من هذه البلدان، وذلك من خلال إنشاء لجنة التحرير لمساعدة حركات الاستقلال.

يبدو طوفان الأقصى فرصةً لإعادة الروابط مع العمق الإفريقي، بالاستفادة من حالة النهوض التي تتمتع بها الحركة التضامنية العالمية مع فلسطين، ومن روابط لغوية ودينية وسياسية تجمع بين قضية فلسطين التحررية والحركة الإفريقية التحررية.

في الوقت نفسه، كان العمل الفدائي الفلسطيني قد بدأ بخطوات صغيرة ثم انطلق منتصف الستينيات أكثر تنظيمًا. كانت الأرضية الإفريقية جاهزةً كي تخرج من حيز القرب من «إسرائيل» أو الحياد، نحو دعم كفاح الشعب الفلسطيني. وضعت حرب 1967 القضية في مركز الاهتمام الدولي ولاسيما الإفريقي، فقد كان لوقوع المسجد الأقصى تحت الاحتلال وقع كبير في المجتمعات الإفريقية ذات الغالبية المسلمة. والتي استفادت من بعثات أزهرية شكلت جزءًا من السياسات الناصرية في بناء نفوذ عربي داخل القارة. ثم جاءت لحظة حرب 1973 التي غيرت المعادلة تمامًا، عندما قررت الغالبية العظمى من أعضاء منظمة الوحدة الإفريقية قطع جميع العلاقات الدبلوماسية مع «إسرائيل»، وهو أحد قرارات السياسة الخارجية المشتركة النادرة التي يتخذها أعضاء المنظمة.

في عام 1975 قال الرئيس الغابوني عمر بونغو، الذي اعتنق الإسلام قبل بضع سنوات، حول موقف بلاده الذي انحاز إلى الجانب الفلسطيني: «وفقًا لقرار منظمة الوحدة الإفريقية، قمنا بتعليق علاقاتنا مع «إسرائيل» (…) لا أستطيع أن أفعل أي شيء. أنا عضو في المؤتمر الإسلامي ولا أستطيع أن أكون مسلمًا وأعترف بإسرائيل، وأخاطر بإنكار ديني». كان هذا الدافع الديني حاضرًا لدى الأفارقة المسلمين. أما نظيره الزائيري موبوتو فيقول: «تجد زائير نفسها في لحظة اختيار. وعليها أن تختار بين الشعب الفلسطيني الشقيق والشعب الإسرائيلي الصديق. ولكن بين الأخ والصديق خيارنا واضح».[3] وهنا تلعب النزعات الإفريقية دورًا في الانحياز للشعب الفلسطيني بوصفه أولًا يمثل الضعيف في مواجهة القوي، وهي معادلة طالما وجد الأفارقة السود أنفسهم فيها دون مساند. وثانيًا كان الموقف الإسرائيلي من نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا محددًا أساسيًا لهذا الاختيار.

تجاهلت مالاوي وليسوتو وسوازيلاند توصيات المنظمة الإفريقية وأقامت علاقات رسمية مع «إسرائيل»، بسبب الضغط الاقتصادي والسياسي من جنوب إفريقيا، الحليف الأكبر لـ«إسرائيل» في القارة. لكن عاملًا آخر كان مهمًا في هذا التحول الإفريقي لصالح قضية فلسطين، وهو تطور المجتمع والنخب الإفريقية بعد موجة الاستقلالات، فقد أدى الوعي المتأخر والتقدمي لحقائق الشرق الأوسط، من قبل الحركات الطلابية والمثقفين، إلى تحول على مستوى الرأي العام الإفريقي. شكل الموقف الإفريقي التاريخي في حرب 1973، بداية انهيار عقيدة المحيط الصهيونية. والتي تلقت في عام 1974 ضربةً أخرى حين تمت الإطاحة بهيلا سيلاسي في إثيوبيا وحل محله العقيد منغيستو. ثم كان سقوط الشاه مع الثورة الإيرانية عام 1979 وتأسيس جمهورية معادية لـ«إسرائيل» نقطة نهاية هذه العقيدة، التي اختفت تدريجيًا من معجم الدبلوماسيين والاستراتيجيين الإسرائيليين لعدة سنوات.

قطيعة أوسلو

وضعت اتفاقية أوسلو حدًا لهذا الانحياز الإفريقي إلى جانب فلسطين، وأعادت لـ«إسرائيل» امتياز الاعتراف والنشاط في قارة تبدو عند مطلع التسعينيات واعدةً بالفرص الاقتصادية. قبل ذلك أدى توجه الرئيس المصري أنور السادات نحو التسوية مع الكيان الإسرائيلي إلى تراجع عددٍ من الدول الإفريقية عن مقاطعتها لـ«إسرائيل». كما خلف خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982 ونهاية الكفاح المسلح عمليًا إلى فتور في الحماس الإفريقي للقضية الفلسطينية.

بدايةً من عام 1980 أعادت ساحل العاج والكاميرون العلاقات الدبلوماسية مع «إسرائيل»، ولحقت بهما زائير في عام 1982، وليبيريا في 1983، ثم التوغو في 1987. دفعت إدارة الرئيس الأمريكي ريغان في ذلك الوقت عددًا من هذه الدول إلى تطبيع العلاقات مع «إسرائيل»، مستعينة بمؤسسات التمويل الدولية للضغط عليها، في وقت كانت فيه الدول الإفريقية بصدد التخلي عن نموذج دولة الرعاية ودخول المنظومة النيوليبرالية. لكن موجة التطبيع الأكبر جاءت بعد أوسلو، حيث تعترف اليوم 46 دولة من أصل 54 دولة في الاتحاد الإفريقي بالدولة اليهودية. ورغم ذلك حافظت الكثير من هذه الدول على نوعٍ من الحياد، وعلى علاقات جيدة مع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. فيما زعزعت الانتفاضة الثانية عام 2000 هذا الحياد، نحو انحياز إلى الجانب الفلسطيني، خاصة على المستوى الشعبي من خلال المظاهرات، لاسيما في الدول الإفريقية ذات الغالبية المسلمة.

منذ عام 2009 سعى بنيامين نتنياهو إلى إحياء «عقيدة المحيط»، من خلال تعزيز روابط الكيان الصهيوني مع أطراف الوطن العربي. كانت استراتيجية نتنياهو موجهةً ضد إيران، بدلاً من المشروع القومي العربي الغائب. فمنذ عام 2014 كان أحد التحديات الرئيسية لـ«إسرائيل» هو العثور على حلفاء لمعارضة البرنامج النووي الإيراني. في عام 2016، قام نتنياهو بجولة إفريقية، حيث زار البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية ذات الأغلبية المسيحية في شرق إفريقيا (كينيا ورواندا وإثيوبيا وأوغندا). وفي العام نفسه، عززت «إسرائيل» علاقاتها مع غينيا كوناكري، التي كانت الدولة الأولى التي قطعتّ علاقاتها الدبلوماسية مع «إسرائيل» في عام 1967. وكان الهدف آنذاك هو الحصول على حلفاء جدد في المنظمات الدولية من أجل مواجهة الحملات الدبلوماسية الفلسطينية، مثل تلك التي جرت في اليونسكو أو الأصوات المؤيدة للفلسطينيين في الأمم المتحدة، ذلك أن الكتلةً التصويتية لإفريقيا كبيرة ومؤثرة عدديًا. وقد تجسدت سياسة التطبيع تلك في الشعار الذي أطلقه نتنياهو خلال زيارة الرئيس الكيني أوهورو كينياتا في شباط 2016: «إسرائيل تعود إلى إفريقيا، وإفريقيا تعود إلى إسرائيل». وتم تطبيقه في عدة مجالات دفاعية وأمنية بقيادة الموساد، لا سيما في قطاعات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، فضلًا عن المساعدات العسكرية.[4]

إفريقيا المنقسمة

اليوم تجد إفريقيا نفسها منقسمةً بين كتلةٍ من الدول تحركها دوافع أخلاقية، كتلة تدعم الجانب الفلسطيني وكتلةٍ تبحث عن مصالحها القومية تدعم «إسرائيل»، للاستفادة من ريع هذا الدعم لدى الطيف الواسع من التحالف الغربي. ومع ذلك فإن موقف إفريقيا، الرسمية والشعبية، ليس بهذه البساطة، ومازال العرب والفلسطينيون قادرين على التأثير فيه لصالحهم. كان موقف الاتحاد الإفريقي واضحًا من طوفان الأقصى، حيث رفض وصف هجوم حركة حماس بـ«الإرهابي»، وشجع على «حل الصراع من خلال حلّ الدولتين». وكانت أغلب مواقف الدول الإفريقية ملتزمةً بموقف الاتحاد. في المقابل عبرت أقلية من الدول عن موقف داعم بشكل كلي لـ«إسرائيل»، وهي أساسًا كينيا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية التي قررت في 2020 افتتاح سفارة في القدس، والتوغو بوصفها الشريك التجاري الثاني لـ«إسرائيل» في القارة، ورواندا، وأوغندا، والكاميرون الحليف التاريخي للكيان الصهيوني في إفريقيا.

يمكن تفسير هذا الانقسام بدوافع أيديولوجية ومصلحية. أولًا وجود نزعات قومية إفريقية تعتبر العرب جزءًا من القوى الاستعمارية في القارة، وقد ظهرت هذه النزعات باكرًا في تنزانيا وفي جنوب السودان. وهذا الموقف الإيديولوجي القومي تطور في بعض الأحيان إلى عداء للعرب وصداقة لأعدائهم، وربما نجد له نظائر في الهند في العلاقة الهندوسية-الإسلامية، وعند بعض النخب التركية أو الكردية التي لا تعبر عن موقف الكرد أو الأتراك السائد. ويعود ذلك إلى سببين، الأول هو التعامل العنصري لقطاع من العرب مع الأفارقة السود، إما من خلال تراث طويل من النظرة الفوقية العربية تجاه السود وثقافة العبودية المتأصلة في التنظيم الاجتماعي منذ ما قبل الإسلام وحتى ما بعده. وثانيًا بسبب تحول الأقلية العربية في شرق إفريقيا وجنوب السودان إلى قوى استعمارية وطبقية، حتى قبل وصول الاستعمار الأوروبي إلى القارة.

 

View this post on Instagram

 

A post shared by 7iber | حبر (@7iber)

وقد نجحت «إسرائيل» في استثمار هذا التوجه مثلًا في جنوب السودان، مستفيدةً من الجرائم التي ارتكبتها الحكومة المركزية في الخرطوم، تجاه سكان الجنوب دينيًا وعرقيًا وطبقيًا على مدى عقود، فكانت أول من اعترف بدولة جنوب السودان الجديدة، بعد أن دعمت الحركة الانفصالية لسنوات بالمال والسلاح. كما لعبت شخصيات رئيسية في الحركة الإفريقية العالمية المعاصرة دورًا بارزًا في تحريف الموقف الأخلاقي الإفريقي تجاه الصهيونية بدل الانحياز للمظلومية الفلسطينية، وأساسًا ويب دو بوا (1868-1963) أحد رموز الحركة الإفريقية في أمريكا الذي كان يتخذ من الصهيونية نموذجًا إيجابيًا لبناء حركة عرقية إفريقية.[5] وكذلك مارتن لوثر كينغ، أحد زعماء حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة وواحد من الرموز الأساسية للحركة الإفريقية العالمية، والذي كان صديقًا لـ«إسرائيل» كما تكشف وثائق الأرشيف الصهيوني،[6] بوصفه أحد رواد نظرية الدمج بين «معاداة الصهيونية ومعاداة السامية».[7] 

ثانيًا المصالح الاقتصادية والدفاعية، حيث تفضل كثير من الدول الإفريقية البقاء على الحياد أو الانحياز إلى «إسرائيل» أحيانًا بحثًا عن مصالح اقتصادية وعسكرية مع «إسرائيل» مباشرةً أو من خلاها، مع الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا ومؤسسات التمويل الدولية والشركات متعددة الجنسيات وشركات السلاح، في ظل غياب أي ضغط عربي في الاتجاه المعاكس. باستثناء ما كان يقوم به معمر القذافي قبل 2011 من استثمارات ومساعدات مباشرة واستيعاب لكتلة من اليد العاملة، لعدد كبير من الدول الإفريقية مقابل منعها من تطبيع العلاقات مع «إسرائيل». واليوم، لا يبدو النفوذ الجزائري كافيًا للقيام بهذا الدور، حيث يقتصر فقط على رفع الفيتو في الاتحاد الإفريقي، إلى جانب جنوب إفريقيا، لمنع «إسرائيل» من أن تشغل منصب مراقب في المنظمة.

في المقابل يوجد تيار شعبي وثقافي إفريقي ما زال يحتفظ بأصول حركة التحرر الوطني الإفريقي -يشكل اليسار جزءًا كبيرًا منه- لاسيما في دول غرب إفريقيا، يدافع عن رؤية أممية في التضامن مع الشعب الفلسطيني، وقد أعطت الخطوة الجنوب إفريقية الأخيرة في محكمة العدل الدولية هذا التيار دفعةً كبيرةً. يتجلى هذا التيار خلال السنوات الأخيرة في دعم عمليات التحول السياسي في مالي وبوركينافاسو والنيجر وغينيا، ضمن توجه معادٍ للاستعمار الغربي غير المباشر للقارة. لذلك أصبحت العديد من الحكومات تقيم وزنًا للمسألة الفلسطينية، بوصفها رمزًا لآخر قضية استعمارية، خاصةً وأن دعم «إسرائيل» ليس من ورائه مكاسب سياسية أو شعبية في المجتمعات المحلية الإفريقية. لذلك احتفظ الفلسطينيون والعرب -رغم دورهم السلبي- بكتلة التوصية الإفريقية إلى جانبهم في المنظمات الأممية. فقد صوتت 47 دولة إفريقية في عام 2012 لصالح عضوية فلسطين في منظمة اليونسكو. وفي عام 2018 رفضت أغلب الدول الإفريقية قرارًا أمريكيًا يدين إطلاق صواريخ من غزة نحو فلسطين المحتلة.

يبدو طوفان الأقصى فرصةً أمام حركة التحرر الفلسطينية لإعادة الروابط مع العمق الإفريقي، مستفيدةً من حالة النهوض التي تتمتع بها الحركة التضامنية العالمية مع فلسطين. وأيضًا من روابط لغوية ودينية وسياسية تجمع بين قضية فلسطين التحررية والحركة الإفريقية التحررية، التي تسعى إلى تصفية بقايا الاستعمار في القارة. وفي ظل غياب الدور العربي الرسمي الذي يمكن أن يسد فجوة المصالح التي تتذرع بها أنظمة إفريقية عديدة لتطبيع علاقتها مع الكيان الإسرائيلي، لم يبق إلا دور المثقفين والمفكرين والنشطاء والمنظمات والجمعيات العربية والفلسطينية، لربط الصلات مع التيار الإفريقي الديكولونيالي الصاعد، لأن البيئة الإفريقية جاهزة سياسيًا وأخلاقيًا ونفسيًا لتكون إحدى القواعد الرئيسية العالمية في دعم حركة تحرير فلسطين.

  • الهوامش

    [1] Jean-Loup Samaan – Israël et l’Eurasie : le retour de la doctrine de la périphérie ? Géoéconomie 2014/5 (n° 72), pages 139 à 150

    [2] Sonia Le Gouriellec – Israël-Hamas : les pays d’Afrique subsaharienne dans la guerre de Soukkot – Le Grand Continent – 20 octobre 2023

    [3] Jean-Baptiste Onana – L’Afrique, les Palestiniens et Israël : système à double entente Outre-Terre 2006/1 (no 14), pages 393 à 401

    [4] Sonia Le Gouriellec – Israël-Hamas : les pays d’Afrique subsaharienne dans la guerre de Soukkot – Le Grand Continent – 20 octobre 2023

    [5] W. E. B. Du Bois, « Not Separatism », The Crisis, 17, février 1919, p. 166, cité in Amy Kirschke, « Du Bois, The Crisis, and Images of Africa and the Diaspora », in Geneviève Fabre et Klaus Benesch (dirs.), African Diasporas in the New and Old World. Conscioussness and Imagination, Amsterdam, Rodopi, 2004, p. 239-262, citation p. 244

    [6] Les relations israéliennes avec Martin Luther King

    [7] From M.L. King Jr., Letter to an Anti-Zionist Friend

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية