رباعي بنك الاتحاد: أمل جديد لموسيقى الحجرة في الأردن

الأربعاء 15 تشرين الثاني 2017

يحيي رباعي بنك الاتحاد الوتري حفله السادس لهذا العام يوم السبت، الثامن عشر من هذا الشهر، وتأتي الأمسية استمرارًا لمجموعة حفلات موسيقية قدّمتها الفرقة بشكل شبه شهري منذ انطلاقها آذار الماضي، برعاية البنك، وفي مسرحه الواقع في منطقة الشميساني بعمان. يشكّل المشروع التجربة الأولى المستدامة في مجال الرباعي الوتري في الأردن، والرباعي -كما يشير اسمه- يتكون من أربع آلات وترية، آلتي كمان وفيولا وتشيللو، تركيبة تغطي على بساطتها غالبية المدى الصوتي المستخدم في الموسيقى الكلاسيكية، ممّا أعطاها إمكانات مدهشة جعلتها من أكثر الفرق شعبيةً في تاريخ الموسيقى. ويتكون رباعي بنك الاتحاد من عازفي الكمان نبيه بولص ويعرب سميرات، إضافة إلى فراس حتّر على الفيولا وفادي حتّر على التشيللو، أربعة موسيقيين يحمل كل منهم خلفية مختلفة وخاصة به، ومسيرة مهنية امتدت خارج الأردن نحو أوروبا أو أميركا.

تشكل الرباعيات الوترية مكونًا مركزيًا من موسيقى الحجرة، أي الموسيقى المكتوبة لعدد قليل من الآلات والمخصصة في الأصل للأداء في البيوت والمساحات الخاصة وليس في المسارح. وقد بدأ ازدهار الرباعيات منتصف القرن الثامن عشر، حين بدأ مؤلفون مثل هايدن وموتسارت كتابة رباعيات مخصصة للعزف مع أصدقائهم، كما انتشرت في السوق مقتطفات من أشهر الأوبرات، أعيد توزيعها لرباعي وتري كي يستطيع الناس تبادلها وعزفها أينما أحبوا، فصار الرباعي طريقة تفاعلية لانتشار أفكار العصر تتجاوز مجرّد التلقي نحو مشاركة في إعادة خلق العمل الفني في المساحات الخاصة، والمساهمة في إغناءه والتعليق عليه.

وجود أربع آلات متساوية تؤدي أدوارًا مختلفة، في الوقت نفسه أتاح المجال لاستعراض مختلف أنواع تقنيات التأليف التي ينتقل من خلالها اللحن من آلة إلى ثانية قبل أن ترد عليهما الثالثة أو تسكتهما الرابعة، تتفق مع بعضها أو تدخل في صراعات. أحيانًا تتولى آلة حكاية القصة بينما يرافقها البقية بإطراء، أو تدلي آلة بتصريح معين فتعلق الأخرى بسخرية أو بإحباط، مما دعا جوته لوصف الرباعي الوتري بـ”استراق السمع على محادثة بين أربع أشخاص أذكياء”. أما عن معنى وطبيعة تلك المحادثة بدون كلمات، فالمجال مفتوح، حدوده خيال المستمع.

ظلت موسيقى الرباعي في القرن الثامن عشر بالرغم من ذكاءها وخفتها أقرب لحوار يومي عابر، قبل أن يرفعها بيتهوفن إلى شكل شعري يصبح فيه الحوار فلسفيًا معقدًا، مغيرًا الرباعي الوتري إلى الأبد. كما ترافق القرن التاسع عشر بظهور الرباعيات الوترية المحترفة في حفلات عامة للمرة الأولى، الشيء الذي لم يمنع استمراره كممارسة منزلية، حيث دفعت الحركة الرومانسية بالرباعي إلى قلب الحياة اليومية للطبقة الوسطى، فكان من الشائع أن يجتمع أربعة أصدقاء لتشكيل رباعي في الحديقة أو خلال السهرة لعزف أحدث ما في السوق من أعمال، نشاط فكري يشكل محور جلسات طويلة من الدردشة وتبادل الأفكار.

جعلت تلك الحميمية من الرباعي مساحة للمؤلفين للتعبير عن عوالمهم الأكثر خصوصية، ولتجريب أفكارهم الجديدة مع أصدقائهم قبل تطبيقها على الأوركسترا وأمام جمهور غريب، مما ترك لنا مخزونًا ثمينًا من الأعمال التي تشكّل تذكارات مصغرة أو دفاتر خواطر تحكي قصص حب وإحباط، وتشهد على أفكار عصرها القومية وموسيقاه الشعبية، كما دخل الرباعي بقوة في القرن العشرين سواء في الموسيقى المعاصرة أو الجاز.

يحافظ مسرح بنك الاتحاد إلى حد ما على تلك الحميميّة التي ميزت الرباعي تاريخيًا، بأبعاده المتواضعة وغياب خشبة بالمعنى التقليدي، وبهندسته الصوتية التي تجعله مثاليًا لموسيقى الحجرة. يضاف إلى ذلك محاولات العازفين لكسر الحاجز بينهم وبين الجمهور بالشرح عن الأعمال الموسيقية بلغة بسيطة وعفوية تخاطب الجميع، ولو أنها تسرق الانتباه عن الموسيقى أحيانًا حينما تخرق الصمت الذي يحضر لنقلة حساسة بين حركتين من عمل واحد.

وكخطوة إضافية للتتقرب من الجمهور، يعدّ الرباعي مقدماته تلك وإعلاناته الرسمية بالعربية، الشيء الذي يعتبر عادةً حدًا أدنى من الرغبة في التواصل، إلّا في الأردن، حيث يتحول التقديم بلغة البلد من مسلَمة إلى ظاهرة تستوجب المديح، مع اعتياد الجميع على الفرق الكلاسيكية التي تقدم نفسها بالإنجليزية فقط، وكأنما هناك رغبة للتأكيد على أن الموسيقى الكلاسيكية رفاهية أجنبية ليست مخصصة للجميع، مستوردة للعرض والاستعراض وليس للاستخدام المباشر أو اليومي.

كما يميّز المشروع بطاقاته التي تباع بمبلغ رمزي وتخفيضات للطلاب، أيضًا بعكس غالبية المؤسسات الراعية في الأردن التي تستمر باعتبار الموسيقى الكلاسيكية أداةً ربحية بالدرجة الأولى، واثقةً من أن أفراد الطبقات الميسورة ستدفع أسعارها مهما كانت خيالية، ليس مقابل مجهود فني غير موجود أصلًا، بل للاستمرار جزءًا من طقس اجتماعي يتعلق بصورتهم أمام بعضهم وأمام أنفسهم.

أدخل رباعي بنك الاتحاد إلى الأردن طيفًا واسعًا من الأعمال شملت أعمالًا لبيتهوفن وميندلسون وبورودين، أظهر من خلالها صوتًا جهيرًا قويًا يناسب موسيقى القرن التاسع عشر أكثر من غيرها، كما قدّم في حفله الأخير عملين لموتسارت: الرباعية الثانية من مقام ري التي كتبها بعمر 16 عامًا، ورباعية البيانو من مقام صول الصغير، عملان يظهران الفرق بين موتسارت المراهق وموتسارت في مرحلته المتأخرة الغنية بالجمل الشعرية الطويلة والتحولات المقامية.

تحتاج فرق الرباعي الوتري بتعقيدها وحساسيتها إلى وقت طويل لتطور صوتها الخاص، الذي يأتي محصّلة لأشهر من التدريب والنقاش والمراقبة المتبادلة، يعتاد من خلالها كل عازف على التقاط أدنى مؤشرات زملائه من نفَس أو حركة قوس أو طريقة إصدار صوت ما، ليتكيف معها بدوره من أجل بناء خطاب متجانس وموحد. ربما يبقى الحديث في الوقت الحاضر عن رباعيات وترية دائمة في المدارس والمعاهد من قبيل الأحلام الوردية، لكن رباعي الاتحاد قد يكون خطوة أولى تجاه التأسيس لممارسة موسيقية محلية تقوم على المدى الطويل وعلى العمل المؤسساتي، وليس على فرق عابرة أو مؤقتة، تتشكل تبعًا لنزوات الممولين ولمناسبات معينة ثم تنتهي بانتهاءها.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية