«زاكا» والإعلام الغربي: تحالفٌ صنعَ أكاذيب السابع من أكتوبر

الإثنين 04 آذار 2024
متطوع في منظمة «زاكا» قرب كيبوتس كفار غزة، 14 تشرين الثاني 2023. أ ف ب.

«وجدنا طفلًا مقطوع الرأس، بحثنا عن رأسه ولم نجده»؛ «رأيتُ امرأة حامل وسط بركة من الدماء.. بُقر بطنها، وطُعن جنينها»؛ «كانت الجدران والحجارة تصرخ: لقد اغتُصبت». منذ السابع من أكتوبر، اجتُرّت هذه المزاعم ومثيلاتها مرات لا تحصى على ألسنة المسؤولين الإسرائيليين والغربيين، وعلى شاشات وصفحات وسائل الإعلام الغربية، وظلت تتكرر حتى بعد أن بدأ التشكيك بصدقيتها. لكن ما لم يحظ بكثير من الانتباه هو أن لهذه التصريحات منبعًا رئيسًا: منظمة إسرائيلية للاستجابة للطوارئ تدعى «زاكا». 

حضر أعضاء «زاكا» مبكرًا في مواقع الهجمات، فارضين سطوتهم باعتبارهم «شهود عيان» يتبعون جهة غير حكومية. وسرعان ما باتوا وافري الحضور في كبرى مؤسسات الصحافة الغربية: من رويترز، وسي إن إن، والنيويورك تايمز، والبي بي سي، إلى الواشنطن بوست، والوول ستريت جورنال، والغارديان، وغيرها الكثير. رغم ذلك، لم تكلف معظم هذه المؤسسات نفسها عناء البحث في خلفية «زاكا» وأعضائها. مثل هذا البحث كان ليحطم مشروعية الاعتماد عليها كمصدر رئيس لاتهامات بهذه الخطورة. فما سيتكشف سريعًا يرسم صورة لمنظمة متطرفة لطالما لاحقتها بلاغات الاحتيال والتزوير والفساد وحتى الاعتداء الجنسي. 

تلاعب واختلاس وفضائح جنسية

عام 1989، نفذت حركة الجهاد الإسلامي عملية استشهادية في القدس قتل فيها 16 إسرائيليًا. أحد الشهود على العملية كان يهودا ميشي زهاف، اليهودي الحريدي ذي الثلاثين عامًا، الذي نشأ في بيت معادٍ للصهيونية على أسس دينية، والذي كان قد قاد في شبابه مظاهرات معارضة لكسر السبت اليهودي، رشق فيها الشرطة بالحجارة. كان حضوره في ذلك المكان «نقطة تحول»، إذ دفعه لإدراك «المصير المشترك لليهود»، وتأسيس منظمة «زاكا» في العام نفسه، لتسجل رسميًا بعد ذلك بست سنوات. 

تعمل منظمة «زاكا» للبحث والإنقاذ (واسمها اختصار بالعبرية لـ«التعرف على ضحايا الكوارث») على جمع رفات القتلى، سواء في عمليات المقاومة أو حوادث السير أو الكوارث الطبيعية، من أجل دفنهم وفق الشريعة اليهودية التي تقتضي جمع كامل الجثمان وغسل الدماء، وتحضيرهم للدفن في أقرب وقت ممكن. تعتمد المنظمة بالكامل على التبرعات والمساعدات الحكومية، وغالبية أعضائها متطوعون من الحريديم المتشددين دينيًا. ونظرًا إلى أن الحريديم لا يخدمون في جيش الاحتلال لأسباب دينية، صُوّر هذا التطوع باعتباره مساهمتهم البديلة في المجتمع الإسرائيلي.

سرعان ما برز اسم المنظمة خلال الانتفاضتين الأولى والثانية، لتتوسع فتضم وحدات متعددة، وحتى تنشئ وحدة دولية أرسلت أعضاءها للكثير من مواقع الكوارث الطبيعية حول العالم. في الوقت نفسه، تعززت علاقتها بالحكومة، حيث تقول «زاكا» على موقعها إنها «تعمل بتعاون لصيق مع وزارة الخارجية الإسرائيلية والجيش وأجهزة الحكومة الأخرى». بدا وكأن المنظمة تحقق لـ«إسرائيل» هدفًا مزدوجًا؛ فمن جهة تخفف -ظاهريًا على الأقل- من التوتر الداخلي بين المتدينين والعلمانيين، ومن جهة أخرى تعمل على ترويج صورة «إسرائيل» كفاعل خير عالمي. 

نجحت «زاكا» بالفعل في حشد اعتراف دولي، فعام 2005، صنفتها الأمم المتحدة منظمةً إنسانية دولية، وفي 2016، منحتها الصفة الاستشارية. من بين الإشادات التي يعددها موقع «زاكا»، يقول الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون إن منظمته «سعيدة بكون «زاكا» شريكة في عملياتنا الإنسانية»، فيما تمدح سامانثا باور، السفيرة الأمريكية السابقة للأمم المتحدة والرئيسة الحالية للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، ميشي زهاف شخصيًا، قائلة إنه ومنظمته يمثلان «كل من يؤمن بمبادئ المساواة وحقوق الإنسان والكرامة».

داخل «إسرائيل»، لم تكن صورة ميشي زهاف ومنظمته ناصعة بنفس الدرجة. فعلى مستوى المصداقية، عُرف عن «زاكا» مبكرًا نشرها للمبالغات والتأويلات والأكاذيب. عبّر عن ذلك مراسل لإذاعة الجيش الإسرائيلي عام 2002 بالقول إن «زاكا ترسل كل شيء: ما حدث، ما يظنون أنه حدث، وما لم يحدث كذلك.. في الماضي، أرسلوا عدة أنباء اتضح أنها أكاذيب». 

عبر اختلاقها عشرات القصص حول قتل الأطفال واغتصاب النساء، تمكنت «زاكا» من ترويج نفسها كوجهة مثالية لتبرعات «دعم ضحايا الإرهاب»، ووفّرت لـ«إسرائيل» وليمة من المواد الدعائية التي سرعان ما التهمتها وسائل الإعلام الغربية، محولّة إياها لوقود لحرب الإبادة.

كما أن تاريخ «زاكا» لا ينسجم كثيرًا مع صورة مساهمتها في الوئام الداخلي. فانطلاقًا من مهمتها في تطبيق الشريعة اليهودية، كان الوقوف ضد عمليات التشريح وإحراق الجثث وحتى التنقيب عن الآثار في مواقع الدفن من أهم أولوياتها. تعمل المنظمة على ذلك عبر الضغط على الشرطة واللجوء للقضاء وحتى ملاحقة جثث اليهود حول العالم؛ فحيث يموت يهودي في ظروف غامضة، تسافر «زاكا» لنقل جثته ومنع تشريحه. عام 2007، اشتُبه بتورط المنظمة في إحراق منشأة إحراق جثث قرب نتانيا، بعد أن قدمت شكوى ضدها، وبارك ميشي زهاف منفذ العملية. في شبابه، ذهب ميشي زهاف أبعد من ذلك حين كان عضوًا في منظمة «كيشيت» السرية، التي كانت ترسل الطلقات والمتفجرات الزائفة لمنازل الأطباء وعلماء الآثار مصحوبة بعبارة «هذه المرة ستكون عبر البريد فقط»، وتصب الدهان والمُليّنات في مصادر مياههم، حسبما اعترف بنفسه في كتابه.

لكن تلك لم تكن أكبر فضائح «زاكا». ففي آذار 2021، نشرت هآرتس تحقيقًا يضم اتهامات لميشي زهاف بالاغتصاب والاعتداء الجنسي على امرأة وخمسة أولاد على الأقل، أصغرهم كان في الخامسة من عمره، بمشاركة ومساعدة إخوته ومقربين منه. في شهادتها، تقول المرأة إن ميشي زهاف اعتدى عليها عام 2011 حين تواصلت معه لمساعدة عائلتها الواقعة في ضائقة مالية، ثم هددها بالقول «إذا أخبرت أحدًا بأي شيء، ستدهسك إحدى سيارات زاكا». استجوبت الشرطة المرأة بعدها بعامين، لكنها أغلقت التحقيق «لنقص الأدلة».

بعد نشر التحقيق، تقدم آخرون بشكاوى مماثلة، وسُرّب تسجيل يُسمع فيه ميشي زهاف وهو يطلب من أحد موظفيه تنظيم حلقة جنس جماعي. على إثر ذلك، فتحت الشرطة تحقيقًا جديدًا ليتبين أن ميشي زهاف اعتدى على العشرات منذ الثمانينيات، فيما قال شهود من الحي الذي يقطنه ميشي زهاف وعائلته في القدس إن الأنباء لم تكن مفاجئة لهم. فقد سبق وأدين شقيقه رامي عام 2014 باغتصاب امرأة من أقاربه، فيما فرّ شقيقه الآخر موشيه من «إسرائيل» حينها. وسط الزوبعة، استقال ميشي زهاف من منصبه، واعتذر عن تلقي «جائزة إسرائيل» المرموقة التي كان يؤاف غالانت، وزير الحرب الحالي ووزير التعليم حينها، قد أعلن منحه إياها قبلها بأقل من شهر تكريمًا لـ«مساهمته في المجتمع الإسرائيلي». ورغم أنه أنكر جميع الاتهامات، بل هدّد بمقاضاة مشتكيه بتهمة التشهير، إلا أن ميشي زهاف حاول الانتحار بُعيد الفضيحة، ليدخل في غيبوبة ويموت بعدها بعام. 

إضافة لكل ذلك، لطالما أثار الوضع المالي لـ«زاكا» الشكوك، كونها سعت لجمع الأموال بكل طريقة ممكنة (بما في ذلك مقاضاة رجل قتل طفلته وأخفى جثتها لأنه اضطر «زاكا» لكسر السبت بحثًا عنها). شكّلت الانتفاضة الثانية فرصة ذهبية لاستقطاب التبرعات من داخل وخارج «إسرائيل»، نظرًا إلى أن «زاكا» كثيرًا ما كانت أول الواصلين لمواقع العمليات الاستشهادية واستطاعت بذلك الترويج لدورها في «تكريم» القتلى بجمع أشلائهم. لكن سرعان ما «انتهت الأوقات السعيدة»، كما قال متحدث باسم المنظمة، تعليقًا على تراجع التبرعات التي تلقتها مع خمود الانتفاضة. تقلص دخل «زاكا» من 3.7 مليون دولار عام 2003 إلى 2.1 مليونًا عام 2004. وبحلول 2005، باتت تدين للبنوك وجهات أخرى بـ1.8 مليون دولار. 

عندها، بدأت «زاكا» تبحث عن المال في أماكن أخرى. فنظرًا إلى أن حجم الدعم الذي تتلقاه من الحكومة الإسرائيلية يعتمد على عدد متطوعيها، بدأ هذا العدد يتضخم وفق السجلات المقدمة لوزارة الداخلية، ليبلغ ثلاثة آلاف عام 2022. لكن تحقيقًا أجرته هآرتس كشف أن العدد الفعلي للمتطوعين لا يتجاوز الألف، وأن هذا التزوير أدخل للمنظمة ملايين الدولارات، وأن الحكومة غضّت الطرف لسنوات عنه وعن مخالفات أخرى كعدم تحقيق شروط التدريب اللازمة. 

من جهة أخرى، عنى تراجع التمويل أن على «زاكا» أن تتنافس مع المنظمات التطوعية الشبيهة، وعلى رأسها «زاكا – تل أبيب» (التي انفصلت مبكرًا عن المنظمة الأم التي تتخذ القدس مقرًا لها) و«إيحود هاتزالا» (الإغاثة المتحدة)، فضلًا عن المنظمة الأكبر، نجمة داوود الحمراء. باتت هذه المنظمات تتصارع على الوصول أولًا لمواقع الحوادث والعمليات، وعلى إبراز اسمها في كل فرصة متاحة، على أمل جلب التبرعات.

جرى كل ذلك بينما كان كبار موظفي «زاكا» يتلقون حصة كبيرة من ميزانيتها كأجر سنوي، ويستخدمون اسم المنظمة لتحويل التبرعات لشركاتهم الخاصة، وشراء الفلل وحجوزات الفنادق الفارهة وتذاكر الطيران. 

لكن أزمة «زاكا» المالية تفاقمت بعد فضيحة ميشي زهاف، حيث سجلت ميزانيتها عجزًا في أربع من السنوات الخمس الأخيرة، لتصل إلى حافة الإفلاس العام الماضي. لذا، كانت هجمات السابع من أكتوبر بمثابة عطاء ضخم رسا على «زاكا»، جنت منه أكثر من 13.7 مليون دولار من التبرعات حتى نهاية كانون الثاني، إضافة لتلقيها عقدًا من وزارة «الدفاع» لتنظيف مواقع الهجمات. منذ اللحظات الأولى، حوّلت «زاكا» تلك المواقع إلى مسارح دعائية لحصد التمويل لصالح منظمة كانت شاهدة على «الفظائع». وكلما اشتدت فظاعة الصورة، ارتفعت الأسهم.

بحسب إيتان شوارتز، المستشار في مديرية الإعلام التابعة لرئاسة الوزراء الإسرائيلية، «كان لشهادات متطوعي «زاكا»، كأوائل المستجيبين على الأرض، تأثير حاسم في فضح الفظائع في الجنوب للصحافيين الأجانب الذين يغطّون الحرب. لقد كانت دولة إسرائيل بأكملها منخرطة في صياغة الرواية القائلة بأن حماس تساوي داعش وفي تعميق شرعية الدولة للردّ بقوة كبيرة».

مجددًا، بدا أن «زاكا» قد حققت هدفًا مزوجًا. فعبر اختلاقها عشرات القصص حول قتل الأطفال واغتصاب النساء، تمكنت من ترويج نفسها كوجهة مثالية للتبرعات بنية «دعم ضحايا الإرهاب»، ووفّرت في الوقت نفسه لـ«إسرائيل» وليمة من المواد الدعائية التي سرعان ما التهمتها وسائل الإعلام الغربية، محولّة إياها لوقود لحرب الإبادة.

شهادات خيالية

«حين ندخل بيتًا ما، نستخدم خيالنا. الجثث تخبرنا القصص التي حدثت لها، تقول لنا: هذا ما حدث».
يوسي لانداو

حين كان في العشرين من عمره، قرر الأمريكي اليهودي يوسي لانداو الهجرة إلى «إسرائيل». في صباه، شارك لانداو عائلته التطوع في منظمة إغاثية في نيويورك. بُعيد انتقاله، التقى بميشي زهاف، فكان من أوائل المتطوعين في «زاكا». حين وقعت هجمات 11 سبتمبر، كان لانداو يزور عائلته في نيويورك، فتطوع لإسعاف الجرحى، وكاد أن يصبح أحدهم عند انهيار البرجين. برز اسم لانداو كرمز للتطوع، فارتقى داخل هيكل المنظمة وشارك في بعثاتها الدولية. وحين حل السابع من أكتوبر، كان مسؤول عمليات المنطقة الجنوبية.

كان لانداو أحد أول المروجين لادعاءات قطع رؤوس الأطفال في مستوطنات غلاف غزة، زاعمًا على شاشة سي إن إن بعد عشرة أيام على الهجوم أنه رأى «طفلًا في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة بلا رأس». سرعان ما أصبحت روايته فضفاضة أكثر، فبات يؤكد لوسائل إعلام إسرائيلية ودولية العثور على «أطفال مقطوعي الرأس»، قبل أن يصبحوا «رضّعًا مقطوعي الرأس». في مقابلته على سي إن إن، قال أيضًا إنه وجد في مستوطنة بئيري عائلة من والدين وطفلين في السابعة أو السادسة من العمر، مقيدي الأيدي، وعلى أجسادهم علامات تعذيب، وقد قتلوا بطلقات في الرأس من الخلف. وفي مؤتمر صحافي بعدها بأيام، قال إنه رأى في بئيري جثة امرأة حامل قتلت بطلقة من الخلف وبقر بطنها وأخرج جنينها. 

كل هذه «الشهادات» أثبت كذبها. فقصة قطع رؤوس الأطفال التي تلقفها نتنياهو وبايدن، فضلًا عن الصحافة الغربية، صرح جيش الاحتلال نفسه بأنه «لا يستطيع تأكيدها»، ولحق به البيت الأبيض، قبل أن تتداعى الرواية بأكملها. بينما نقلت هآرتس أنه ما من دليل على قصة المرأة الحامل، وأن سكان بئيري أنفسهم لم يسمعوا بوجودها. أما قصة العائلة المقتولة، فلم تنطبق على أي من قتلى المستوطنة، إلا أن توأمًا في الثانية عشرة من العمر قتلا بالفعل في بئيري حين أطلقت دبابة إسرائيلية النار على البيت الذي كان فيه مقاومون من كتائب القسام، وفق تقرير نشره موقع ذا إنترسبت.

لم يثنِ ذلك وسائل الإعلام الغربية عن مواصلة الاعتماد على لانداو وغيره من أعضاء «زاكا» كمصادر في تغطياتها. فحتى بعد صدور تقارير تشكك برواية لانداو، أفردت النيويورك تايمز له ولزملائه مساحة واسعة للحديث عن «الصدمة» التي عاشوها نتيجة ما رأوه. في التقرير نفسه، تقر الصحيفة بأن «بعض النقاد تحدوا» هذه المزاعم، وأن «عددًا من أعضاء «زاكا» قدموا شهادات مضللة لوسائل الإعلام». لكنها تنقل تبرير لانداو لهذه «المبالغات» بقوله إن البعض انتحل صفة التطوع في المنظمة، وأن متطوعي «زاكا» كانوا يعملون تحت الضغط. كما نقلت الصحيفة عنه نفيه أنه ادعى العثور على جثث أطفال مقطوعي الرؤوس، رغم أن هذا الزعم موثق بصوته وصورته في مصادر عدة. لم تنقل النيويورك تايمز أيضًا أنه قبل أن يقدم لها الأعذار، كان قد صرح بأن المشككين بروايته «يجب أن يُقتلوا مع إرهابيي حماس».

لا حاجة للأدلة

كان لانداو واحدًا من بين عشرات المتطوعين في «زاكا» الذين شُرّعت لهم الأبواب لتقديم رواياتهم حول ما حدث في السابع من أكتوبر. من بينهم كان سيمحا غرينيمان، نائب قائد منطقة موديعين في المنظمة، الذي لعب دورًا رئيسًا في ترويج روايات الاغتصاب. 

نقلت الغارديان عن غرينيمان قوله إنه وجد في أحد الكيبوتسات «امرأة عارية من أسفل الخصر، محنية فوق سرير، في رأسها من الخلف طلقة، وفي يدها قنبلة يدوية». وفي تقرير لاحق على الغارديان أيضًا، قال إنه وجد في بيت آخر «امرأة ميتة وفي مهبلها أدوات حادة وأظافر». في موقع بوليتكو، نُشر تقرير يستند بالكامل إلى شهادة غرينيمان، مركزًا على أزمته النفسية في استيعاب ما رآه، بما في ذلك صور «النساء المقتولات.. كثير منهم كان الدم يسيل على أرجلهن، تفهم عندها أن ما حدث لم يكن إطلاق نار سريع فحسب». يقول غرينيمان إنه حين حضر إلى موقع حفلة «نوفا» قرب قاعدة ريعيم، وجد أشلاء مقطعة، وشابات عاريات من أسفل الخصر أطلقت عليهن النار، مجددًا استنتاجه بأن «شيئًا أكثر من إطلاق النار قد حدث لهن».

تتكرر المزاعم ذاتها نقلًا عن غرينيمان على صفحات مجلة التايم، وإذاعة إن بي آر، وفي جلسة استماع عقدت في الأمم المتحدة، تحدث فيها إلى جانب هيلاري كلينتون، ومديرة العمليات السابقة في فيسبوك، شيريل ساندبيرغ. يقول غرينيمان في الجلسة إن المرأة التي زعم أن «زاكا» وجدتها مقتولة وفي مهبلها أدوات حادة وأظافر «كان جسدها مشوهًا إلى درجة أننا لم نتمكن من التعرف عليها.. انتهك جسدها بشكل لم نتمكن من فهمه أو التعامل معه».

مرارًا، قدم غرينيمان نفسه تصريحات متناقضة تدفع للتشكيك بصحة روايته وبقدرته على الحكم على ما يزعم أنه رآه. «أنا لست طبيبًا، لكن مما تراه تفهم أن شيئًا فظيعًا قد حصل»، يقول في تقرير بوليتكو. في مقابلة مع قناة آي 24 الإسرائيلية، يضيف: «لا يمكنني القول إنه تم اغتصاب نساء لأنني لست طبيبًا ولا أستطيع إجراء فحوص طبية، أستطيع فقط جمع الجثث. لكن حين أجد امرأة مقيدة اليدين من الأمام، محنية على سريرها في بيتها، عارية من أسفل الخصر، وتنزف من أماكن عدة، فليس علي أن أجيب عمّا إذا كانت قد اغتصبت أم لا. ما من شك في ذلك».

بالنسبة للمؤسسات الإعلامية الغربية، ليست الحقيقة سوى شيء يصنع وفق الرغبات، ويعاد إنتاجه مرارًا وتكرارًا تحت غطاء اسم المؤسسة البرّاق، مهما خالفته الحقائق.

تنقل الغارديان عن عدد من متطوعي «زاكا» قولهم أنهم في البداية «لم يفكروا في الاغتصاب على الإطلاق»، عازية ذلك إلى كونهم محافظين دينيًا. يقول غرينيمان لبوليتكو إنه حين تبادرت للمتطوعين «الشكوك» بذلك، أبلغوا السلطات التي طلبت منهم توثيق الحالات بالفيديو، وحصلوا على تصريح خاص بذلك من حاخام «إسرائيل» الأكبر، مضيفًا «حاولنا، لكننا غير مدربين على فعل ذلك بشكل صحيح». لكن في مقابلة آي 24، التي أجريت بعد أسبوع واحد من نشر تقرير بوليتكو، يقول تعليقًا على المطالبات بنشر الصور كأدلة على مزاعم الاغتصاب: «لن ننشر صورًا كهذه أبدًا. كعضو في «زاكا» أحد أول الأشياء التي تتعلمها.. هي ألا تلتقط أي صورة أبدًا، لأننا نحترم الموتى». 

المؤكد أن كثيرًا من وسائل الإعلام الغربية لم تكن بين هؤلاء المطالبين بالأدلة. في تقرير استند حصرًا على شهادات من «زاكا»، تنقل رويترز عن المتطوع إيتزيك إيتاه أنه «حين تجد امرأة عارية ملقاة على وجهها، وواضح أنها لم تخلع ملابسها بنفسها، فهذه امرأة تعرضت للاغتصاب». متطوع آخر أوردت البي بي سي شهادته في تقرير حول مزاعم الاغتصاب كان الإسرائيلي الأوكراني نحمان ديكشتينا، الذي قال إنه رأى في موقع حفلة ريعيم «أكوامًا وأكوامًا من [جثث] النساء، كانت ملابسهن العلوية ممزقة، فيما كن عاريات بالكامل من الأسفل». جاء ذلك في شهادة مكتوبة سلّمتها «زاكا» مترجمة ومنقحة.

لكن الضجة الأكبر كانت للتقرير الذي نشرته النيويورك تايمز، والذي لم تقتصر عيوبه على الاستناد لـ«زاكا». في تقرير أنات شوارتز، المجندة السابقة في استخبارات سلاح الجو الإسرائيلي، التي لم تكن لديها أي خبرة صحافية قبل الحرب، نجد اسم لانداو مجددًا مع آخرين من «زاكا»، يتحدثون عن العثور على جثث نساء عاريات مقيدات. «لم ألتقط صورًا لأنني ممنوع من التقاط الصور.. لكنني أندم على ذلك»، يقول لانداو. ينقل تقرير على ذا إنترسبت أن شوارتز أمضت وزملاءها شهورًا في محاولة الوصول لما يؤكد الرواية، لكنها في النهاية لم تعثر سوى على ما كان منشورًا حتى حينه: أقوال المسؤولين والجنود الإسرائيليين، وبالطبع، «زاكا». لم يمنع ذلك النيويورك تايمز من المضي في نشر القصة، لكن بعد أن نفت عائلة إحدى الضحايا المزعومة صحة ما نُقل حول وقوع «اغتصاب جماعي» لابنتهم، بدأت صدقية التقرير تتهاوى، تزامنًا مع ظهور إعجاب شوارتز بمنشورات تدعو لتحويل غزة إلى «مسلخ»، لتقر لاحقًا بأنها «لم تجد دليلًا مباشرًا» على ادعاءات الاعتداء الجنسي. 

كان غياب الدليل القاسمَ المشترك في شهادات متطوعي «زاكا»، لكن ردهم على المطالبات المتكررة بتقديم أدلة كان انعدام التدريب المحترف. «لسنا محققين جنائيين»، يقول غرينيمان، دون الالتفات إلى أن ذلك يعني أيضًا أنه غير مخول بتقديم الأحكام التي صدّرها. بعد تفنيد قصة لانداو حول بقر بطن امرأة حامل في بئيري، أصدرت «زاكا» بيانًا قالت فيه إن متطوعيها «ليسوا خبراء في علم الأمراض وليست لديهم الأدوات المهنية اللازمة لتحديد هوية الشخص المقتول وسنه وكيف قُتل. ليست لديهم سوى شهادات العيان». ألا أن التدريب المحترف لم يكن وحده ما ينقص متطوعي «زاكا». فبحسب مصدر في جيش الاحتلال، كثيرًا ما كان عملهم فوضويًا وغير متقن، حتى في ما يفترض أنه في صميم مهمتهم. «لم تكن «زاكا» تكتب أي شيء على أكياس الجثث، وبوسعك أن تنسى أمر التوثيق»، يقول المصدر. 

وسط هذه الفوضى من التناقضات والتأويلات والأكاذيب، قد يتساءل المرء: كيف اختيرت «زاكا»، بتاريخها الفضائحي ومصداقيتها المعدومة وافتقارها للحرفية، لتكون المستجيب الأول في مواقع هجمات السابع من أكتوبر؟

ليس عن طريق الصدفة، تقول هآرتس. ففي تحقيق حول استفادة المنظمة من حضورها في مواقع الهجمات، تعزو الصحيفة هذا الاختيار للصلات التي يملكها حاييم أوتمازغين، رئيس العمليات الخاصة في «زاكا»، بجيش الاحتلال. فبوصفه ضابط احتياط في وحدة الجبهة الداخلية بالجيش، استخدم أوتمازغين علاقاته الوطيدة بقادته في الوحدة لمنح «زاكا» الأفضلية التي وظّفتها لإطلاق حملة دعائية ناجحة. قاد أوتمازغين بنفسه العمل في عدة مواقع، من بينها حفلة ريعيم ومستوطنات كفار عزة وبئيري، مانعًا منظمات منافسة من دخولها باعتبارها «مناطق عسكرية مغلقة»، ومستخدمًا المساحة المتاحة له حتى لتصوير فيديو غنائي يدعو المشاهدين للتبرع للمنظمة. بذلك، كان أوتمازغين حلقة وصل بين «زاكا» والجيش، ضامنًا الخروج بنتائج مفيدة للطرفين.

صناعة الحقيقة

عام 1997، كان المخرج والكاتب والصحافي الاستقصائي المستقل أندريه فلتشيك يجوب وحيدًا شوارع حي سيت سوليه العشوائي الفقير في هاييتي، ليتعثّر بقاعدة عسكرية أمريكية، اصطف فقراء الحي في طابور على بابها. كان هؤلاء ينتظرون الدخول إلى ما تبين أنه «عيادة»، تدرب فيها الممرضون والأطباء الأمريكيون على المرضى، وأجروا فيها عمليات جراحية بحد أدنى من التخدير الموضعي، بلا تعقيم ولا أجهزة تشخيص أو أي من الشروط البديهية في منشأة صحية. قرب العيادة، كانت هناك منشأة أخرى ناصعة ومكيّفة ومجهّزة بكل الأدوات والأجهزة المطلوبة، لكنها مخصصة للجنود والكوادر الأمريكيين وحدهم. كتب فلتشيك تحقيقًا مرفقًا بصور وثقت كل ما رآه، وأرسله إلى النيويورك تايمز والإندبندنت وغيرها، دون أن يتلقى منهم جوابًا. 

روى فلتشيك هذه القصة في مقال عام 2012 حول «موت الصحافة الاستقصائية» في الغرب. «وحدها الفظائع التي تخدم المصالح الجيوسياسية والاقتصادية للغرب يمكن اعتبارها فظائع حقيقية ويمكن الكتابة عنها وتحليلها في وسائل إعلامنا الكبرى»، يقول فلتشيك. 

كانت التغطية الغربية لهجمات السابع من أكتوبر وحرب الإبادة التي تلتها واحدة من أبرز الأمثلة على هذه الحقيقة، وأشدها دموية. رغم الاعتماد الكبير على «زاكا» كجهة قدمت لوسائل الإعلام الغربية ما تريد أن تسمعه، ومنحتها واجهة تختبئ خلفها لقول ما افترضته سلفًا، لم يكن اللجوء للمنظمة سوى مثال واحد على طريقة عمل هذه المؤسسات. فبعيدًا عن المحاضرات المهنية التي يحلو لها تقديمها، خاصة للعاملين في الصحافة خارج العالم الغربي، تؤكد قصة «زاكا» أنه بالنسبة لهذه المؤسسات، ليست الحقيقة سوى شيء يصنع وفق الرغبات، ويعاد إنتاجه مرارًا وتكرارًا تحت غطاء اسم المؤسسة البرّاق، مهما خالفته الحقائق. 

Leave a Reply

Your email address will not be published.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية