قصة كوبا مع الطب (1): عصر البدايات

أطباء كوبيون في هافانا. تصوير إسمايل فرانسيسكو.

قصة كوبا مع الطب (1): عصر البدايات

الخميس 18 شباط 2021

هذا المقال هو الجزء الأول من سلسلة من ثلاثة أجزاء حول قصة الطب في كوبا. لقراءة الجزء الثاني: الصحة في «الفترة الاستثنائية». الجزء الثالث: الداء والدواء في الألفية الجديدة.

ما زلنا نعيش في حضرة الوباء. يقول العلماء إن الفيروس بطفراته المختلفة قد يبقى لسنوات عديدة، وإن كان البعض يتوقع السيطرة عليه نهاية هذا العام. ألقت الجائحة بظلالها على مجمل شؤون حياتنا، ووضعت القطاعات الصحية تحديدًا تحت المجهر، إذ فاقمت هشاشةُ النظم الصحية تداعياتِ الوباء وكلفته البشرية. أدّت عقود من الخصخصة والتقشف إلى نقص حاد في الاستثمار في الصحة، وحين حل الوباء، بدت العديد من الأنظمة الصحية عاجزة عن التعامل مع الأزمة. حدّ النقص في الكوادر الطبية من قدرة الهياكل الصحية على احتواء الجائحة وإنقاذ المزيد من المرضى. امتلأت أسرّة المستشفيات، وظهرت الحاجة إلى المزيد من غرف العناية وأجهزة التنفس والكادر المؤهل لإدارتها. اضطر الأطباء في بعض البلدان لاختيار من سيحاولون إنقاذه، كما اضطرت بعض العائلات لتجنب خيارات علاج مكلفة، وفُقدت الكثير من الأرواح التي كان يمكن إنقاذها.

استخدم مصطلح «كارثة عالمية» بشكل فضفاض للإشارة إلى شمولية الفاجعة واتساعها على مستوى العالم. لكن، رغم أن قابلية التأثر بالجائحة، من حيث المبدأ، عالمية ولا حدود لها، تم توظيف هذه السمة العالمية للتقليل مما يمكن فعله في مواجهتها، في حين كانت «حتى أمريكا وأوروبا» تتكبد خسائر بشرية هائلة. في تعليقه على وفاة طفلة بانفجار الزائدة الدودية بسبب نقص الأسرّة في أيلول الماضي، قال وزير الصحة الأردني السابق سعد جابر إن ما جرى «يمكن أن يحدث في أي عمل وبأي مجال»، معتبرًا إن المحتجين الغاضبين «يطالبوننا بخدمة مايو كلينك بإمكانات دولة فقيرة». في كثير من البلدان، قُدمت محدودية الموارد على أنها حاجز لا يمكن تجاوزه، وكانت آثار الجائحة في الخطابات الحكومية قدرًا محتومًا لا مفر منه.

يمكن سرد الكثير من الحجج النظرية المعاكسة حول ما كان يمكن فعله أو تجنبه، سواء على مستوى بنية قطاع الصحة أو كفاءته. لكن أحد أوضح الأمثلة العملية على بطلان هذا الادعاء بالعجز أمام الجائحة، وعلى أنه يمكن للدول الفقيرة أن تبني نظامًا صحيًا عامًا مجانيًا وكفؤًا وقادرًا على الاستجابة للأزمات، يكمن في التجربة الحية في مجال الصحة العامة لجزيرة كاريبية صغيرة ومحاصرة: كوبا.

قلّما تحضر كوبا في الإعلام السائد، سواءً الغربي أو العربي، كمحط فضول حقيقي. فمنذ انتصار الثورة الكوبية عام 1959 وتأسيس نظامها الاشتراكي، كان جلّ ما يُعرف أو يُنقل عن تجربة كوبا في بناء نظامها الصحي خاضعًا للتبسيط أو التشويه بناءً على موقف سياسي من ثورتها ونظام الحكم فيها. في الوقت الذي كانت فيه العديد من الدول تعاني من نقص الكوادر الطبية، أرسلت كوبا أطباءها إلى العديد من مستشفيات العالم لتقديم العون في مواجهة الوباء. حين تناقلت وسائل الإعلام في بدايات الجائحة صور الأطباء الكوبيين الواصلين إلى إيطاليا والصين وغيرها في بعثات طبية تضامنية، كان تميز هذا النظام وفاعليته واستعداده لتقديم المساعدة الطبية في ظل ما تعانيه دول أخرى قد وصل حدًا يصعب تجاهله. لكن في حين جرى الاحتفاء بهؤلاء الأطباء بوصفهم فاعلي خير، استمر التعتيم على النظام الصحي الأوسع الذي صنع هؤلاء الأطباء وتمكن من احتواء الجائحة بكفاءة عالية.

إن قصة الطب في كوبا هي قصة الثورة فيها. فقد كانت الصحة أحد أهم مطالب الثورة، وعاملًا من عوامل إشعالها، وأحد أهم مكتسباتها منذ انتصارها وحتى اليوم.

هناك ثلاثة مجالات رئيسية تقوم عليها الصحة في كوبا: الرعاية الصحية الأولية الشاملة بما تتطلبه من خلق كم من الكوادر المؤهلة، وصناعة التكنولوجيا الحيوية والدوائيات، والاستجابة للكوارث الطبيعية واحتواء الأوبئة.

رغم مواردها المحدودة حققت كوبا مؤشرات صحية تضاهي الدول الصناعية المتقدمة وتفوقها أحيانًا. إذا وضعت هذه المؤشرات في سياق  الدمار الذي أحدثته الولايات المتحدة في الجزيرة عبر الحصار المفروض عليها منذ الثورة، تصبح إنجازات كوبا مذهلة حقًا. فاق متوسط العمر المتوقع في كوبا نظيره في الولايات المتحدة أول مرة عام 1980 وما زال يفوقه. وبلغ معدل وفيات الرضع مستوى أقل من نظيره في كل من نيوزيلندا وكندا والولايات المتحدة. وفي الوقت الذي كانت فيه الكثير من دول العالم تفتح أبواب قطاعاتها الصحية أمام رأس المال وتُخضع الطب لقوانين السوق، تمسّكت كوبا بالحق في الرعاية الصحية المجانية، حتى في أحلك أزماتها وأشدها تأثيرًا، خلال التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

بعد سبعة عقود على الثورة، بلغت كوبا إحدى أعلى النسب في العالم من الأطباء إلى المرضى، بتسعة أطباء لكل ألف نسمة. كانت هذه النسبة نتيجة الأولوية التي منحتها كوبا لتعليم وتدريب وتوظيف جيش من العاملين في الصحة القادرين على الوصول لكل كوبي أينما كان لتقديم الرعاية له، ليس فقط حين يمرض، بل بهدف منع المرض وتحسين جودة الحياة، عبر نظام صحي تشكل الرعاية الأولية حجر الزاوية فيه.

قضت كوبا على الكثير من الأمراض السارية، عبر تطوير الكثير من العلاجات واللقاحات للأمراض الأوسع انتشارًا في المجتمع. كما حققت خطوات كبيرة في علاج أمراض مستعصية، كالسرطان. وعملت مؤخرًا على تطوير لقاح ضد فيروس كورونا بلغ مرحلة متقدمة من التجارب السريرية، عبر قطاع تكنولوجيا حيوية سجل الكثير من الاختراقات العلمية، وصناعة دوائية تغطي حوالي 70% من احتياجات الجزيرة من الأدوية، وتصدّر إلى عشرات الدول في العالم. نشأ هذا القطاع وتطور للاستجابة للأمراض التي يعاني منها سكان الجزيرة، وللتعامل مع آثار الحصار على الصحة العامة. ففي حين تتحكم شركات الأدوية الكبرى حول العالم بأولويات تمويل البحث العلمي في هذا المجال، ظل قطاع التكنولوجيا الحيوية الكوبي مملوكًا بالكامل للدولة، ومسخرًا للعمل على تحسين صحة الناس. دون أي منافسة في «السوق»، استمر القطاع في الابتكار، لتسجل وزارة الصحة عام 2008 اللقاح العلاجي الأول لسرطان الرئة المتقدم، الذي طوره مركز المناعة الجزيئية في العاصمة هافانا، وهو أحد لقاحات عديدة أنتجتها الجزيرة، كان من ضمنها، اللقاح الأول في العالم ضد التهاب السحايا ب، الذي حصد أرواح آلاف الأطفال الكوبيين. لم يكن التمويل العام الممنوح للقطاع سوى نتيجة للدور الذي لعبه الاقتصاد السياسي المخطط مركزيًا والذي تديره الدولة، واستراتيجية التنمية التي أعطت الأولوية للرعاية الصحية والتعليم والبحث العلمي منذ أوائل الستينيات.

ليست جائحة كورونا أول جائحة أو أزمة صحية تتعامل كوبا معها، بل إن خبرتها في التصدي للأوبئة والكوارث الطبيعية هي ما عززت قدرتها على التعامل الوباء الحالي. فقد طورت الجزيرة عبر العقود قدرات مهمة في مجال العمل الصحي الإغاثي، وكانت الكوادر الصحية الكوبية تتواجد أينما وجدت الزلازل والأعاصير والأوبئة، خاصة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية. كانت الاستجابة لمثل هذه الأزمات جزءًا من فهم أوسع للصحة بوصفها حقًا أصيلًا لكل إنسان، وهو الفهم الذي وجّه تطور النظام الصحي الكوبي عبر السنوات.

إن قصة الطب في كوبا هي قصة الثورة فيها. فقد كانت الصحة أحد أهم مطالب الثورة، وعاملًا من عوامل إشعالها، كما كانت على رأس أولوياتها وأحد أهم مكتسباتها منذ انتصارها وحتى اليوم. عقب فشل هجوم الثوار الكوبيين على ثكنة مونكادا في مدينة سانتياغو دي كوبا عام 1953، اعتقلت قوات نظام باتيستا المحامي الشاب فيديل كاسترو، ليختار في محاكمته أن يترافع عن نفسه، ويلقي خطابه الذي سيشتهر بعنوان «التاريخ سيبرّئني»، والذي يعكس إلى أي حد كانت الصحة همًا أساسيًا للقيادة الكوبية منذ البداية، ويدفعنا اليوم للتساؤل عمّا كان سيحل بصحّة الكوبيين لولا قيام الثورة. يقول فيديل في مرافعته:

«وحده الموت يمكن أن يحرر الإنسان من كل هذا البؤس… يهتز المجتمع إشفاقًا عند سماعه بخطف أو مقتل طفل واحد، لكنه لا يبالي بإجرامٍ بجموع آلاف الأطفال الذين يموتون كل سنة بسبب نقص المرافق، معذبين متألمين… سيكبرون مصابين بالكساح، وفي عمر الثلاثين لن تجد سنًّا واحدًا سليمًا في أفواههم… وفي النهاية، سيموتون من البؤس والخديعة. المستشفيات العامة الممتلئة دومًا لا تقبل سوى المرضى الموصى بهم من قبل سياسيين أقوياء، يطالبون بدورهم هذا التعيس وأسرته بأصواتهم الانتخابية، حتى تستمر كوبا للأبد في الوضع نفسه أو أسوأ».

لا شك أن في تاريخ كوبا ونظامها وتجربتها، على العموم وفي مجال الصحة تحديدًا، الكثير مما هو استثنائي وغير قابل للاستنساخ، خاصة في ظل أنظمة أخرى لا تقوم على المبادئ ذاتها. رغم ذلك، في قصة كوبا مع الطب الكثير مما يمكن ويجدر دراسته بعمق والاستفادة منه، خاصة بعد أن هزّت الجائحة الكثير من «المسلمات» التي سادت منذ التسعينيات، وأعادت الصحة إلى الواجهة، ليس كحقل يجب البحث فيه فحسب، بل كحاجة ملحة لمليارات البشر حول الكوكب. ستحاول هذه السلسلة المطولة المكونة من ثلاثة أجزاء استعراض هذه التجربة بتعمق، وتتبع تطور النظام الصحي الكوبي عبر مراحله المختلفة، وما يقوله ذلك عن الاقتصاد السياسي للصحة حول العالم.

فيديل كاسترو معتقلًا إثر فشل الهجوم على ثكنة مونكادا عام 1953.

طب جديد وأطباء جدد

 

«كانت الصحة العامة شيئًا تعلمناه أثناء تقدمنا».
– خوليو لوبيز، طبيب كوبي وأحد مطوري مناهج التعليم الطبي في كوبا في الثمانينيات.

على عكس ما يعتقد، بلغت الرعاية الصحية في كوبا قبل الثورة مستوى متقدمًا مقارنة بدول أمريكا اللاتينية الأخرى، تقدمها ثلاث جهات، عامة وخاصة وتبادلية.[1] عشية الثورة، كان الطب العلاجي مدفوع الأجر متطورًا، حيث يدرس طلبة النخبة الكوبيون الطب في جامعة هافانا حسب المنهاج الأمريكي، ويتخصص العديد من الأطباء في الولايات المتحدة. لكن في حقيقة الأمر، قلة من الكوبيين كانت لديهم القدرة المالية على الوصول والاستفادة من الخدمات الطبية المتمركزة في المدن. فمعظم الخدمات قدمها القطاع الصحي الخاص للأغنياء وأبناء الطبقات الوسطى في المدن الكوبية الرئيسية. أما غالبية فقراء المدن والفلاحين والسود الكوبيين لم يحظوا برعاية صحية جيدة، وكثير منهم لم يحظَ بأي شكل من أشكال الرعاية.

ورثت الثورة الكوبية انقسامًا حضريًا-ريفيًا على مستوى الصحة، تداخلت فيه الطبقة والعرق والمسكن بشكل وثيق. ففي حين أن الأغنياء والحضريين والبيض، حصلوا بدرجات متفاوتة على أفضل رعاية صحية وأسرع وصول إليها، عانى 60% من الفلاحين من نقص خطير في التغذية، وكان لديهم ثاني أعلى معدلات لوفيات الرضع والأمهات في أمريكا اللاتينية، وكان متوسط العمر المتوقع لديهم أقل من المعدل العام في البلد بتسع سنوات.[2] وفي الوقت الذي كان لكل 248 شخص في هافانا طبيب واحد، كان الطبيب الواحد يخدم 2608 شخص في المقاطعات الشرقية التي يسكنها السود بالغالب.[3] واستحوذ أهالي العاصمة على أغلبية المرافق الطبية والحصة الأكبر من مجمل الأطباء العاملين في الجزيرة. قبل الثورة، يقول جون كيرك، أستاذ دراسات أمريكا اللاتينية في جامعة دالهاوسي في كندا، كان 62% من الأطباء يعملون في هافانا وحدها، وكان 64% من مجمل الأسرّة موجودًا فيها. كان هذا لخدمة 20% من السكان.[4] لعل واقع انعدام المساواة ونقص منسوب العدالة في الرعاية الصحية كان أهم العوامل المُشكلة لأيديولوجيا الصحة ما بعد الثورة.

خلال سنتين من الثورة، فقد النظام الصحي الكوبي نصف أطبائه. حدث ذلك حين فر قرابة 3000 طبيب إلى الولايات المتحدة، تحديدًا إلى ميامي، للبحث عن «حياة أفضل». يقول الباحث وعضو حزب الخضر الأمريكي، دون فيتز في كتابه «الرعاية الصحية الكوبية: الثورة المستمرة» إن الحكومة الجديدة أدركت سريعًا أن توفير الخدمات الطبية للمناطق الريفية يتطلب إعادة تنظيم تقديم الرعاية لتصل بالمجان إلى كل مكان في الجزيرة، وهذا يتطلب توفير المزيد من مقدمي الخدمة، تحديدًا بعد خروج الأطباء. تعاقدت كوبا بعد الثورة مع أساتذة طب من ست وعشرين دولة، جاء معظمهم من الأرجنتين والمكسيك والإكوادور إضافة إلى الاتحاد السوفييتي ودول اشتراكية أخرى. كان هذا لتغطية العجز الذي سببه رحيل غالبية أساتذة كلية الطب في جامعة هافانا، الجامعة الوحيدة التي تدرس الطب في البلاد في حينه. إذ بقي 12 أستاذ طب من أصل 250، شكلوا مع الأساتذة الجدد نواة النظام التعليمي الجديد.[5] 

رغم أن خروج الأطباء من البلد خلق حاجة أساسية لتعليم وتخريج أطباء جدد لتوفير الخدمة الطبية للأرياف والمناطق الفقيرة، إلا أن الثورة في الرعاية الصحية لم تتمحور حول الوصول والتكلفة فحسب، على الرغم من أنهما شكلا أهم العوائق التي يجب التغلب عليها. كان الثوار الكوبيون يسعون أيضًا إلى خلق تغيير جوهري في ممارسة الطب والطريقة التي ينظر بها الأطباء إلى مهنتهم. فالطب الذي سعى فيديل كاسترو وتشي جيفارا ورفاقهما لتأسيسه، يجب ألا يستمد قيمته من الثروة أو السلطة بل من قدرته على تحسين حياة الناس وضمان عافيتهم ورفاهيتهم. وهذا تطلب خلق «طبيب جديد» بعيدًا عن علاقات السوق وعن نموذج الطبيب «المقاتل الانفرادي» الذي يسعى بصدق وحسن نية لمساعدة الناس عبر ممارسة الصدقة.

دعا «تشي» إلى «أن يكون مبدأ بناء الجسم القوي أساس المعركة ضد المرض»، وهو ما لن يتم من خلال «عمل فني يجريه الطبيب على كائن حي ضعيف».

بعد الثورة، نظّمت وزارة الصحة الكوبية سلسلة من اللقاءات والحوارات مع الأطباء والعاملين في المجال الطبي لوضع التصورات ومناقشة شكل وأهداف الرعاية الصحية الجديدة. في افتتاح هذه السلسلة، دعا الطبيب إرنستو «تشي» جيفارا الأطباء الكوبيين إلى إعادة التفكير في الطب والاشتباك مع الأفكار القديمة التي حكمت علاقتهم بعملهم ومرضاهم. «يجب أن نتذكر كيف كانت حياة كل منا قبل الثورة، ما الذي فعله كل منا وكيف كان يفكر، كطبيب أو بأي صفة أخرى في الصحة العامة. علينا أن نفعل ذلك بحماسة نقدية عميقة. وسنخلُص إلى أن قرابة كل ما فكرنا أو شعرنا به في الحقبة الماضية يجب أن يطويه الماضي، ويجب أن نخلق إنسانًا من نوع جديد»، قال تشي في كلمته أمام مجموعة من طلبة وخريجي الطب في هافانا في آب 1960.[6]

يعتبر هذا الخطاب التأسيسي مرجعًا للعديد من المشتغلين في دراسة الصحة في كوبا. فهو يعبر بوضوح عن رؤية القيادة السياسية التي كثيرًا ما ينظر لأشخاصها كمقاتلين ومنظرين سياسيين فحسب. في الحقيقة، كان لهؤلاء قدرات هائلة على العمل التنظيمي ووضع الرؤى والسياسات على مستويات مختلفة. في كلمته، ذكّر جيفارا الأطباء بأن الثورة، لم تسقط ديكتاتورًا فحسب، بل نظامًا بأكمله، وأنه على أنقاض النظام المنهار، يجب أن يبنى نظام يجلب السعادة والرفاهية للناس، وعلى الطب أن يغيّر من نفسه كي ينخرط في تحقيق هذه المهام الوطنية، بحسبه. ولأن غالبية من هم في القاعة أطباء من العاصمة هافانا، تحدث «تشي» صراحة عن توجه الثورة نحو تعليم «أطباء جدد» من خلفيات اجتماعية مُيّز ضدها تاريخيًا، ولم تحظَ بفرصة الوصول للجامعات أو ممارسة مهنة الطب؛ كان يشير بشكل رئيس إلى الفلاحين والفقراء. دعا «تشي» إلى «أن يكون مبدأ بناء الجسم القوي أساس المعركة ضد المرض»، وهو ما لن يتم من خلال «عمل فني يجريه الطبيب على كائن حي ضعيف»، كما يقول، بل عبر فهم أوسع للصحة باعتبارها قضية اجتماعية كما هي قضية بيولوجية. من وجهة نظره، على الطب أن «يحول نفسه إلى علم يعمل على منع الأمراض»، بدلًا من تركيزه المفرط على التدخلات العلاجية. أكد «تشي» على فهم المحددات الاجتماعية للمرض، والاقتراب من المريض، ومعرفة نفسيته بعمق، وختم كلامه بعبارة شهيرة لبطل الاستقلال الكوبي، خوسيه مارتي: «الفعل أفضل طريقة للقول».[7]

ولادة العيادة: الطريق إلى «الجوهرة»

سخرت الثورة إمكانيات هائلة لتوسيع الخدمات وبناء مرافق جديدة، ومن أجل استيعاب المزيد من الطلبة افتتَحت كليات طبية جديدة في جامعتي لاس فيلاس وسانتياغو دي كوبا، ورفعت عدد المستشفيات التعليمية من أربعة إلى سبعة. كان القانون أحد المجالات التي سعت الثورة من خلالها لتعزيز العدالة الصحية في الجزيرة الثورية. ففي نهاية عام 1960، أُلزم خريجو الطب بقضاء عام في الخدمة الريفية (لاحقًا ستزيد الخدمة لعامين). هدفت السنوات الخمس الأولى من عمر الثورة إلى التغلب على أزمة تقديم الرعاية تحديدًا في الأرياف. بعد أشهر على انتصار الثورة، ذهب أكثر من 350 طبيبًا كوبيًا إلى مناطق التي لم يكن فيها أطباء مسبقّا، وبعضها لم ير طبيبًا قط، وبحلول عام 1963، أنشأت الحكومة الثورية 42 مستشفى و122 عيادة شاملة في المناطق الريفية.[8]

كان المطلوب من العيادة الشاملة أن تقدم الرعاية الصحية الأولية للأحياء والمنازل وأماكن العمل، وأن تجمع بين الطب الوقائي والعلاجي. بحلول عام 1964، استدخلت العيادات الشاملة التخصصية، إلى جانب العيادات الشاملة، بحيث يخدم في كل منها طبيب عام وممرض وطبيب أطفال وطبيب نسائية وتوليد وطبيب باطني وأخصائي اجتماعي. لاحقًا، أصبحت هذه الفرق تضم فريقًا مصغرًا خاصًا برعاية كبار السن، يشمل طبيب أسرة وممرضًا وطبيبًا نفسيًا وعاملًا اجتماعيًا. يصف فيتز الإنجازات التي حققتها العيادة الشاملة التخصصية في العقد الأول من الثورة بالقول إنه «لأول مرة، كان هناك نقطة دخول واحدة إلى النظام الصحي، وسجلات متماسكة لكل مريض. لقد دمجوا ملايين الكوبيين، الذين لم يسبق لهم رؤية طبيب من قبل، في النظام الصحي». إضافة لهذا، لعب موظفو العيادة دورًا مهمًا بتنسيق برامج الرعاية الأولية والصحة العامة، بما في ذلك مكافحة الأمراض المعدية والخدمات البيئية وسلامة الغذاء والصحة المدرسية وطب العمل، وذلك بما يتوافق مع أهداف وزارة الصحة التي ركزت في السنين الأولى على وفيات الرضع والنساء الحوامل والأمراض المعدية والطب الوقائي وفتح سجلات طبية للمرضى.[9] 

طبيب يفحص طفلًا في ريف كوبا، عام 1960. وآخر يقيس وزن طفل في عيادة عام 1980.

صحيح أن الثورة أمّمت مرافق الرعاية الصحية مثل المختبرات والصيدليات ومستودعات الأدوية، لكنها لم تؤمّم المستشفيات والعيادات الخاصة، ربما لأنها كانت تخشى أن يقع على عاتقها تقديم كل الرعاية الصحية منذ الأيام الأولى للثورة. لكن مع خروج نصف الأطباء من البلد وتوسع الخدمات الطبية العامة، بدأ القطاع الخاص والتبادلي يضعفان حتى تلاشيا مع مطلع السبعينيات. في ذلك الوقت، توسعت الخدمات الطبية التي قدمتها المزيد من العيادات التخصصية والمستشفيات، وارتفع عدد المستشفيات الريفية من مستشفى واحد قبل الثورة إلى 53 مستشفى.[10] استمر فيديل كاسترو بتوجيه الدعوات للطلاب للإقبال على التخصصات الطبية، وبحلول عام 1970، لأول منذ الثورة، عاد عدد الأطباء في البلاد لما كان عليه قبل خروج الثلاثة آلاف طبيب. تضاعف كذلك عدد الممرضين والممرضات عما كان عليه قبل الثورة، وكانت 30% من طلبات الالتحاق بالجامعات موجهة لكليات الطب التي يدرس فيها الطلاب بالمجان.[11]

بعد عدة سنوات من تأسيسها، ورغم أهمية ما قدمته، ظهرت عدة مشاكل في العيادات التخصصية. من جانب، وقعت الرعاية الأساسية بكاملها على عاتقها مما أعاق تقديم بعض الخدمات، ومن جانب آخر لاحظ الخبراء الصحيون أن العيادات لم تعالج مشكلة الفصل بين الأخصائيين، حيث كثيرًا ما كان يتم تناقل المرضى من أخصائي إلى آخر، مما يضعف الخدمة ويهدر الكثير من الوقت. وجد واضعو السياسات الكوبيون أن النهج الفيزيولوجي التقني ما زال يطغى على العناصر الاجتماعية للصحة، حيث خلص تقييم أجرته وزارة الصحة في أوائل السبعينيات إلى أن الأطباء لا يزالون يعتقدون أن أفضل رعاية تأتي من متخصصين، كما أن الطب واصل التركيز على علاج المرضى دون الانخراط في المجتمع، ولم تحظَ الرعاية الوقائية بالاهتمام المطلوب.[12]

في نهاية عام 1974، أعادت كوبا تصميم العيادات التخصصية مع تبني نموذج «طب المجتمع». طُلب من الفرق الطبية أن تمضي حوالي 12 ساعة في الأسبوع في القيام بزيارات منزلية وتثقيف صحي في المنطقة الجغرافية المحددة لها، بحيث تخدم كل عيادة 30 إلى 40 ألف شخص. بعد أن عالجت كوبا التفاوتات في الرعاية الصحية وأنشأت خدمة وطنية شاملة ومجانية، بدأت مع تطبيق نموذج «طب المجتمع» بتعزيز ما يسميه الكوبيون «الطب النشط». يقول فيتز، إن ما قصده الكوبيين بالطب النشط يعني ألا ينتظر الأطباء بشكل سلبي حتى يمرض المريض، بل أن يبحثوا عن أولئك المعرضين لخطر كبير للتدخل قبل أو بعد بدء المرض مباشرة. «كانوا يبحثون عن الاضطرابات التي من المحتمل أن تؤثر على المراهقين أو النساء أو كبار السن، وكانوا يقظين بشكل خاص لمؤشرات ارتفاع ضغط الدم أو أمراض السكري أو القلب أو السكتة الدماغية أو الربو أو السل».[13]

يقوم الحق في الصحة في كوبا على مجموعة ركائز أساسية منها أن الدولة ضمنت في الدستور أن تقديم الرعاية الصحية سيكون مجانيًا للجميع، لا بل سيحظى الجميع بنفس المستوى من الرعاية الذي تضمنه الدولة وتقدمه منفردة.

أكدت كوبا أن الرعاية الصحية حق أساسي من حقوق الإنسان، وضمنت هذا الحق بدستور جديد تمت الموافقة عليه عام 1976.[14] ينص الدستور على أن الدولة تضمن الحق في الرعاية الصحية عن طريق ما يلي: توفير الرعاية الطبية المجانية في المستشفيات، وتركيب شبكة الخدمات الطبية الريفية والعيادات ومراكز العلاج الوقائي والتخصصية، وتوفير رعاية أسنان مجانية، والترويج لحملات الصحة العامة، والتثقيف الصحي، والفحوص الطبية المنتظمة واللقاحات العامة، وغيرها من التدابير لمنع تفشي المرض. يقوم الحق في الصحة في كوبا، كما يقول كيرك، على مجموعة ركائز أساسية منها أن الدولة ضمنت في الدستور أن تقديم الرعاية الصحية سيكون مجانيًا للجميع، أي أنه لن يدفع أي كوبي بغض النظر عن موقعه الاجتماعي ثمن الرعاية الصحية كما كان الحال قبل الثورة، لا بل سيحظى الجميع بنفس المستوى من الرعاية الذي تضمنه الدولة وتقدمه منفردة. أما الركيزة الثانية فهي توفير الرعاية بغض النظر عن المسكن والعرق.[15] (على الهامش، لنا أن نتخيل المساهمات العميقة التي أحدثها الطب في كوبا لمكافحة العنصرية البنيوية في البلاد. كان الكوبيون السود قبل الثورة محرومين من الخدمة الطبية والتعليم، ونادرًا ما كانوا يُقبلون في كلية الطب. لقد كانت عملية بناء الطب الجديد في كوبا بعد الثورة في جوهرها، أو هي ذاتها، عملية مكافحة العنصرية البنيوية).

بعد عقد من استدخال العيادات المجتمعية، زاد العمر المتوقع في كوبا إلى 73.8 سنة، بعد أن كان 59 سنة قبل الثورة، وانخفض معدل وفيات الأمهات أثناء الولادة بنسبة 50% بين عامي 1975 و1984، وكان أحد أكبر التغييرات التي ساهمت فيها العيادات الشاملة المجتمعية أنه لأول مرة منذ الثورة، بدأت وفيات الأطفال في الانخفاض المستمر على المدى الطويل، بعد الصعود والنزول خلال السنوات الأولى للثورة.[16] يقول كيرك إنه مع تبني العيادات المجتمعية، كانت كل كوبية حامل تحصل بالمتوسط على 8.5 فحص طبي خلال مدة الحمل، وفحص شامل قبل الولادة، بالإضافة لمجموعة من الاختبارات والفحوصات المخبرية المنتظمة. وتحظى حالات الحمل عالية الخطورة باهتمام إضافي في «دور رعاية الأمومة المجتمعية» المنتشرة في البلاد، والتي تحتوي على مرافق نهارية وليلية، وبرامج للتغذية التكميلية، ووصول سريع إلى أخصائيين آخرين. علاوة على ذلك، يخضع الأطفال الأصحاء الذين تقل أعمارهم عن سنة واحدة لخمسة عشر زيارة للطبيب في السنة، وابتداءً من عامهم الأول، يتم تحصين الأطفال الكوبيين ضد 13 مرضًا[17] من أمراض الطفولة. [18] 

في عام 1983، أعلن فيديل أن الحكومة الكوبية قد درّبت خلال 24 عامًا من عمر الثورة 16,833 طبيبًا، و4,000 طبيب أسنان، و30,000 ممرضًا، و29,000 فني صحة متوسط المستوى، وبَنَت 256 مستشفى، و397 عيادة شاملة، و255 عيادة شاملة تخصصية، و146 عيادة، و21 بنكًا للدم، و81 دار أمومة.[19] في كثير من هذه المجالات، كانت كوبا الثورية قد بدأت تقريبًا من الصفر.

رغم ما حققته العيادات المجتمعية من تأثيرات مهمة على صحة السكان، بقي المخططون الصحيون الكوبيون يبحثون عن صيغة هيكلية تقرّب العيادة أكثر للأحياء والأسر، وتركز على قضايا متعلقة بنمط حياتهم، وتسمح بفهم أفضل لمحددات المرض الاجتماعية. وحسب تقييمهم لم تستطع العيادات المجتمعية القيام بذلك بالشكل المطلوب. تقول ليندا وايتفيلد، أستاذة الأنثروبولوجيا الطبية التطبيقية والصحة العامة في جامعة جنوب فلوريدا في كتابها مع لورانس برانش «الرعاية الصحية الأولية في كوبا: الثورة الأخرى»، إن النموذج لم يلبِّ الأهداف التي حددتها الحكومة الكوبية من ناحية الاهتمام بالعوامل الاجتماعية التي تؤثر على الصحة عبر التركيز على تحسين خيارات نمط الحياة الصحية. اعتقد المخططون الصحيون الكوبيون أن العزلة النسبية للأطباء عن المجتمعات، أعاقت قدرتهم على المشاركة بنشاط وبقوة في برامج الوقاية المجتمعية.[20] لهذا، كان التحول الأهم الذي طرأ على هيكل النظام الصحي الكوبي عام 1984، حين تبنت وزارة الصحة نموذج عيادة طب الأسرة، الذي يضع الأطباء في المجتمعات المحلية لفترات طويلة من الزمن، مما يسمح لهم بالتعرف على الاحتياجات الصحية للمجتمع. ترافق هذا مع إقرار وزارة الصحة برنامج «الطب العام الشامل» كتخصص مدته ثلاث سنوات. (في كوبا، عند الانتهاء من كلية الطب، يدخل قرابة 97% من الخريجين برنامج إقامة في «الطب العام الشامل» لمدة ثلاث سنوات، أو برنامج طب أسرة. وبعد التخصص، يبدأ حوالي 65% من الأطباء ممارسة طب الرعاية الأولية، ويكمل الباقون تخصصًا ثانيًا).[21] سيكلّف برنامج طب الأسرة الجديد أطباءَ الأسرة، أو الأطباء العامين الشاملين لاحقًا، بتقديم الرعاية الأولية على مستوى الحي. كل فريق مكون من طبيب/ة وممرض/ة وأحيانًا أخصائي/ة، سيكون مسؤولًا عن 120-150 عائلة (600-800 شخص)، ويعيش الفريق في مبنى العيادة التي يستقبلون المرضى فيه في الفترة الصباحية، ثم يقومون بزيارات منزلية داخل الحي بفترة ما بعد الظهيرة. تقول وايتفيلد، إن العامل الأهم الذي توفر مع عيادة طب الأسرة هو الوقت. عبر عيادة الحي، لم يتعرف الممارسون على مرضاهم فحسب، بل وعائلاتهم أيضًا، والأهم من ذلك، ضمن محيطهم الاجتماعي الذي يعيشون فيه. يعطي أحد أطباء عيادة طب الأسرة في كوبا مثالًا توضيحيًا: «هم لا يأتون إلى العيادة، بل أنا أذهب لرؤيتهم في بيوتهم. هناك، أرى الرضيع والأم، لكنني أرى الجدة أيضًا، والخال العجوز، والابنة المراهقة. أستطيع أن أعرف كيف يشعرون؛ إن كانت الجدة مكتئبة، أو إن كانت الابنة تحتاج للتحدث مع أحد حول موانع الحمل، أو إن كان الخال يفرط في الشرب. وأستطيع أن أرى كيف يتجاوبون مع الرضيع الجديد. ولأنني أذهب بشكل متكرر، فإنني أستطيع أن أرى إن حدثت تغيرات في العائلة عبر الوقت».[22]

كان التحول الأهم حين تبنت وزارة الصحة نموذج عيادة طب الأسرة، الذي يضع الأطباء في المجتمعات المحلية لفترات طويلة من الزمن، مما يسمح لهم بالتعرف على الاحتياجات الصحية للمجتمع.

أصبحت عيادات طب الأسرة بعد استحداثها نقطةَ الدخول الأولى للنظام الصحي الكوبي، بحيث تُحول من يحتاج من المرضى إلى العيادات الشاملة التخصصية، التي بدورها تُحول إلى المستشفيات والمؤسسات الطبية المتخصصة الأخرى. أما العيادات الشاملة التخصصية، ستتوسع شيئًا فشيئًا لتقدم الإجراءات التشخيصية، والفحوصات المخبرية، وطب الأسنان والعلاج الطبيعي، واستشارات الطب الطبيعي والتقليدي، إضافة إلى تخصصات الرعاية الأولية، مثل الطب الباطني وطب الأطفال والطب النفسي والولادة. يضرب فيتز مثالًا يساعدنا على تخيل مستوى التنوع والشمولية الذي بلغته هذه العيادات في الألفينات، إذ يقول إن عيادة زارها في هافانا كانت تحتوي على غرف أو خدمات خاصة بـ: المختبر، والتطعيم، والأشعة السينية، وقياس البصر، وطب العيون، والتوليد، وتنظيم الأسرة، والموجات فوق الصوتية، وتنظيم الدورة الشهرية، وأمراض الفم، وطب الأقدام، وعلم النفس، والعمل الاجتماعي، والعظام، وعلاج النطق، والعلاج الطبيعي، والوخز بالإبر، والعلاج بالتدليك، والعلاج الانعكاسي، والعلاج الكهرومغناطيسي، والعلاج بالطين، والعلاج الحراري وصالة للألعاب الرياضية للبالغين، وصالة للألعاب الرياضية للأطفال.

في كتابه «من أجل شفاء الإنسانية: الحق في الصحة عبر التاريخ»، يعتقد آدم جافني، الباحث في الصحة العامة وأستاذ في كلية الطب في جامعة هارفارد، أن برنامج «طب الأسرة» في كوبا شكل تبنيًا للتوجه المجتمعي إزاء الحق في الصحة الذي ركز عليه مؤتمر «ألما آتا» الدولي للرعاية الصحية الأولية، والذي انعقد برعاية منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) عام 1978، في العاصمة السابقة لكازخستان السوفيتية، وقد حمل المؤتمر اسمها.[23] اعتبر إعلان «ألما آتا» أن الرعاية الصحية الأولية هي مفتاح تحقيق الصحة للجميع، وأن تبنيها سوف يسمح للجميع بالتمتع بحياة صحية بحلول عام 2000. أكد الإعلان على أن الصحة «تعني العافية الجسدية والعقلية والاجتماعية، وليست مجرد الخلو من الأمراض، وهي حق أصلي للإنسان». رحب الكثيرون بالإعلان، واعتبره هالفدان ماهلر، المدير السابق لمنظمة الصحة العالمية، بمثابة ثورة حقيقية في التفكير في الصحة، قبل أن يطوي الإعلان النسيان مع هيمنة سياسات الرعاية الصحية النيوليبرالية التي طبقها البنك الدولي في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، والتي أضعفت هياكل الصحة في دول الجنوب وتركت تداعيات هائلة على مستوى الصحة العالمية، كما يقول جافني.

يتفق العديد من المنشغلين بالصحة العامة أن كوبا حققت خلال العقود الثلاث الأولى من الثورة إنجازات عظيمة على مستوى التنمية ككل والصحة بشكل خاص. لقد قامت كوبا بتوفير وتوسيع الرعاية الطبية وتحقيق التغطية الشاملة والمجانية، وحدّت بشكل كبير من التفاوتات الصحية على مستوى الطبقة والعرق والمسكن. كما عملت على إنتاج أطباء جدد، وأسست نهجًا استثنائيًا ومتكاملًا للرعاية الصحية، وبنت نظامًا صحيًا يركز على الرعاية الوقائية، كانت «عيادة طب الأسرة» حجر الزاوية فيه و«جوهرته». بحلول الثمانينيات، كانت الجزيرة قد قضت على معظم الأمراض المعدية، ومُنحت الأولوية للتركيز على أمراض أخرى، كأمراض القلب والأوعية الدموية والسرطان.

التكنولوجيا الحيوية: العلم في خدمة المجتمع

 

«لقد اتخذ وطننا طريقًا لا يُحاكم فيه الذكاء، بل يُحفّز ويُكافأ. اتخذ وطننا طريقًا يجب علينا جميعًا فيه أن ندرس ونستقصي… مستقبل وطننا يجب أن يكون بالضرورة مستقبل رجال العلم».
– فيديل كاسترو، 1960، الأكاديمية الكوبية للعلوم.

سنة 1980، في إحدى جولاته الطبية في الخارج، زار عالم الأورام الأمريكي راندولف لي كلارك كوبا، والتقى بقائدها العام ليخبره عن اكتشاف سيلهم كاسترو والكوبيين، وسيفتح أبوابًا جديدة للبحث العلمي وتطوير العلاجات: الإنترفيرون.

الإنترفيرونات هي بروتينات تنتجها أنواع مختلفة من خلايا الجسم، وتعمل على تحفيز الخلايا المناعية لمقاومة الفيروسات ومنع انتشارها، لذا يمكن وصفها بأنها مضاد فيروسات طبيعي. في السبعينيات، نجح الطبيب الفنلندي كاري كانتيل في استخلاص الإنترفيرون من خلايا الدم البيضاء في مختبراته في هلسكني، وأنتج المادة الخام له حتى يستخدمها الباحثون في كل أنحاء العالم، حيث دفعه التزامه بقضايا الصحة العامة لئلا يسجل براءة اختراع لاختراقه هذا. مع بداية الثمانينيات، بات العلماء يعتقدون أنه يمكن للإنترفيرون أن يكون أحد العلاجات الواعدة للسرطان، وهذا ما أثار اهتمام فيديل فورًا حين أخبره كلارك بذلك خلال زيارته.[24]

عرض كلارك، وهو أحد المنخرطين بشكل كبير في أبحاث الإنترفيرون، على فيديل استضافة باحث كوبي في مشفاه دي أندرسون في تكساس، والذي يعد أول مستشفى للسرطان في الولايات المتحدة الأمريكية. شكر فيديل كلارك، واستسمحه بأن يرسل باحثين اثنين بدلًا من واحد، وعلى الفور، سافر كل من مانويل ليمونتا، أخصائي أمراض الدم، وفيكتوريا راميريز، أخصائية أمراض الجهاز الهضمي إلى تكساس. وهناك، اطلعا على أحدث الأبحاث حول الإنترفيرون، وبعد أكثر من أسبوع غادرا تكساس وتوجها إلى النمسا لملاقاة كاري كانتيل. بعد عودة الباحثين إلى هافانا، تم تنظيم مجموعة عمل أخرى للذهاب مجددًا إلى هلسكني، تكونت هذه المرة من ستة أشخاص، كان من بينهم بيدرو لوبيز-ساورا الحاصل على درجة الدكتوراة في العلوم البيولوجية من فرنسا عام 1978 تحت إشراف البلجيكي كريستيان دي دوف، الحائز على جائزة نوبل للطب عام 1974.[25] «كنا جميعًا أطباء»، يقول لوبيز-ساورا، «لكن ثلاثة منا كانوا أيضًا متخصصين في الكيمياء الحيوية … كنت أعمل لفترة من الوقت على الخمائر عندما ظهرت قضية الذهاب إلى العمل على مضاد للفيروسات في أوائل عام 1981».[26] بعد أيام قليلة من عودتهم إلى هافانا، بدأت المجموعة بالعمل في بيت رقم 149، وهو فيلا قديمة خُصصت لهم وجُهّزت بمختبر جديد فيه جميع المعدات التي يجتاحها لوبيز-ساورا وبقية العلماء لاختبار ما تعلموه وصناعة الإنترفيرون لكوبا. يقول أحد الباحثين الستة «كنا نعمل كل يوم بشكل مستمر حتى الساعة العاشرة أو الحادية عشرة ليلًا. كان فيديل يزور كل يوم تقريبًا، فقط ليطرح الأسئلة. كان العمل مكثفًا جدًا (..) كانت تلك بداية تطوير التكنولوجيا الحيوية برمتها في كوبا».

في كتابه «العلاج الكوبي: المنطق والمقاومة في العِلم العالمي»، يقول سيمون ريد-هنري، مدرس الجغرافيا السياسية والتاريخية في كلية كوين ماري في جامعة لندن، إن الباحثين الكوبيين نجحوا في استخلاص الإنترفيرون في أسابيع، في حين احتاج العلماء في بلدان أخرى إلى سنة لإتمام المهمة ذاتها. ينقل ريد-هنري ملخص الرسالة التي أرسلها ليمونتا إلى كلارك لإبلاغه بالأمر: «في 12 أبريل [1981] وصلت المجموعة إلى كوبا بعد 12 يومًا من التدريب [في هلسكني]. في 18 أبريل تم تكييف مكان لبدء العمل المخبري. وبحلول منتصف مايو تمت أول عملية تنقية للإنترفيرون».

البيت 149 في هافانا حيث عمل العلماء الكوبيون على تنقية الإنترفيرون. 

لم ينتظر العلماء الكوبيون طويلًا ليروا إنجازهم يُستخدم على أرض الواقع لحل مشاكل البلد. فبعد أسابيع من هذه التنقية الأولى، تعرضت الجزيرة لوباء حمى الضنك النزفية، وهو مرض فيروسي ينقله البعوض. وصل الوباء إلى ذروته ذلك العام مع تشخيص 11 ألف حالة يومية جديدة، وأكثر من 116 ألف شخص في المستشفيات. تقول هيلين يافي، أستاذة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي في جامعة غلاسكو في اسكتلندا، في كتابها الصادر عن جامعة ييل الأمريكية بعنوان «نحن كوبا: كيف صمد شعبٌ ثوري في عالم بعد ــ سوفييتي»، إن وزارة الصحة الكوبية أذنت في ذلك الوقت للوبيز-ساورا وباقي علماء البيت رقم 149 باستخدام الإنترفيرون كمضاد للفيروسات من أجل وقف تفشي الوباء. أجريت الاختبارات في البداية على 300 شخص أكثر من نصفهم كانوا أطفالًا. بعد بدء عملية التلقيح الواسعة، وجد العلماء أنه في الحالات الشديدة من حمى الضنك، لم يكن الإنترفيرون مفيدًا، لكنه حدّ من احتمالية حدوث صدمة الضنك النزفية في حالات العدوى الحديثة لدى الأطفال، لذا تراجعت نسبة الوفيات، وفي غضون بضعة أشهر تلاشى الوباء إلى حد كبير.[27]

بعد تجربة حمى الضنك، زادت قناعة الكوبيين بضرورة الاهتمام أكثر بالعلوم الطبية المبتكرة والاستثمار فيها. أنشأت كوبا عام 1981 «الجبهة البيولوجية» التي ستتولى أمور تطوير القطاع على المستوى الاستراتيجي، وسيكون لها وصول مباشر إلى المال العام والسلطة السياسية بشكل يفوق نظراءها في الغرب، كما يقول ريد-هنري.[28] بعد عام من إنشاء الجبهة، انتقل لوبيز-ساورا وفريقه من بيت رقم 149 إلى مختبر جديد أكبر وأحدث وأفضل تجهيزًا، ليستفيد منه 80 باحثًا يعملون في «مركز البحوث البيولوجية» المؤسس حديثًا، والذي عيًن لوبيز-ساورا مديرًا له.

يشرح ريد-هنري كيف أنه، وبعد أن تطور مشروع إنتاج الإنترفيرون بالتنقية إلى مركز بحوث يضم 80 باحثًا في عام 1982، بدأ لوبيز-ساورا ورفاقه مشروعًا موازيًا يسعى إلى استنساخ الإنترفيرون لإنتاجه مخبريًا، بشكل أسرع وأكفأ. باختصار، ما كان يفكر به العلماء الكوبيون في ذلك الوقت هو البناء على تجربة إنتاج الإنترفيرون، واستخدامها كقاعدة لتطوير مهارات أكثر تقدمًا، خصوصًا في مجال الهندسة الجينية. في تلك الأثناء، قرر اجتماع مركز البحوث البيولوجية إرسال عالم الأحياء الجزيئي لويس هيريرا إلى معهد باستور في باريس لتعلم التقنيات المستخدمة في استنساخ البروتينات. كان هيريرا في ذلك الوقت رئيس قسم علم الجينات الجرثومي في المركز الوطني للبحوث العلمية، الذي تأسس عام 1965. وكانت الدولة قد أرسلته سابقًا للتدرب في فرنسا وإيطاليا وتشيكوسلوفاكيا، وعمل لاحقًا في جامعتي زيورخ وهارفارد. عاد هيريرا إلى كوبا عام 1983، وتم تكليفه بتشكيل الفريق الذي سيعمل على محاولة إنتاج الإنترفيرون المُؤْتلف، أو المعاد تركيبه. في العام نفسه، شكلت وزارة الصحة فريقًا آخر من المتخصصين من مختلف مراكز العلوم الطبية، بقيادة عالمة الكيمياء الحيوية وعضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي الكوبي، كونسِبسيون كامبا، للعمل على مهمة واحدة ووحيدة: إيجاد لقاح لالتهاب السحايا ب الذي أصبح المشكلة الصحية الرئيسية في كوبا في ذلك الوقت. بعد عام من بدء العمل على استنساخ الإنترفيرون، نجح هيريرا وفريقه، إذ طوروا تقنية كانتل وأنتجوا الجيل الثاني من الإنترفيرون، ألفا 2 ب المؤتلف، المستنسخ من خلال الخميرة. في الأثناء، بقيت كامبا تعمل مع فريقها على لقاح لالتهاب السحايا ب.

من المفيد التوقف قليلًا عن السرد للإشارة إلى أن هذا الجيل من العلماء الكوبيين، جيل لوبيز-ساورا وهيريرا وكامبا، كان أول جيل يحصل على تعليم كامل في ظل الثورة، من المرحلة الإعدادية أو الثانوية إلى التعليم العالي. كان معظمهم، كما تقول يافي، رجالًا ونساءً من أسر فلاحية أو عاملة، استفادوا من التعليم المجاني واستثمار الدولة في التعليم والصحة، ومكّنتهم الدولة من الدراسة وأرسلتهم للتدرّب، سواء في الاتحاد السوفييتي ودول المعسكر الاشتراكي سابقًا أو في البلدان الغربية. وكانت كامبا واحدة من عشرات الآف النساء اللواتي استفدن من الإصلاح التعليمي الذي «فتح الجامعات للشعب» ومنحهتن الثورة فرصة دراسة الطب مجانًا، بعد أن كانت الجامعة والمهنة حكرًا على نساء المدن من الأسر الغنية البيضاء. في الحقيقة، قد يفوق هذا ما كان يتخيله تشي جيفارا حين تساءل، بعد شهور على الثورة في لقائه، سابق الذكر، مع الأطباء والعاملين في القطاع الطبي: «ما الذي سيحدث لو لم يكن هؤلاء الأولاد [حديثو التخرج الذين لم يرغبوا في الذهاب إلى المناطق الريفية] الذين تستطيع عائلات معظمهم تحمل تكاليف سنوات من الدراسة، هم من أكملوا دراساتهم ويبدأون الآن ممارسة مهنتهم؟ ما الذي سيحدث لو خرج، بدلًا منهم، مئتان أو ثلاثمئة فلاح، بشكل سحري، من قاعات المحاضرات الجامعية؟».

سيشكل هذا الجيل من العلماء ما تسميه يافي «الكتلة الحرجة» من رأس المال البشري، التي لم تكن لتتشكل لولا استثمارات كوبا الضخمة في التعليم والصحة العامة على مدى عقود ما بعد الثورة. بعد سنوات قليلة سيدير كل من لوبيز-ساورا، وهيريرا، وكامبا، مؤسستين من أهم المؤسسات التي سيقوم عليها قطاع التكنولوجيا الحيوية في كوبا: مركز الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية (CIGB)، الذي سيتأسس عام 1986 وسيشغل هيريرا منصب مديره العام ولوبيز-ساورا نائبه. فيما ستشغل كامبا منصب المديرة العام لمعهد فينلاي، الذي سينتج أول لقاح لالتهاب السحايا ب في العالم بعد تأسيسه عام 1987.[29]

كونسبسيون كامبا، ولويس هيريرا.

حين بدأ فريق كامبا بالعمل على إنتاج اللقاح، كانت اللقاحات ضد التهاب السحايا أ وج متوفرة على الصعيد الدولي، لكن في العام 1983 بدأت حالات التهاب السحايا من النوع ب بالارتفاع في البلاد، وهي السلالة التي تبين، كما يذكر ريد-هنري، أن تطوير لقاح لها أصعب بكثير من باقي السلالات. عام 1988، وبعد خمس سنوات من العمل، أنتج فريق كامبا أول لقاح ناجح ضد التهاب السحايا ب في العالم. اختبر العلماء اللقاح على أنفسهم وأطفالهم قبل بدء التجارب السريرية، كما حدث في حمى الضنك، وهو أمر متعارف عليه في كوبا من ما قبل الثورة. في مقابلتها مع مجلة ميديك ريفيو عام 2007، تقول كامبا: «في ذلك الوقت، كان الباحثون الذين اكتشفوا اللقاح وطوروه هم أول من تلقاه. حين حان أوان تطعيم الأطفال، حل أطفالنا أولًا. شرحنا لهم أن هذا اللقاح عملت عليه أمهاتهم وآباؤهم وأنه سيحميهم من المرض». (على الهامش، لنا أن نتخيل، بالمقارنة مع لقاح كورونا، كيف يمكن أن تختلف استجابة الناس وثقتهم بلقاح ما، باختلاف السياق والطريقة التي ينتج بها والهدف الذي ينتج من أجله). بعد إجراء تجربة عشوائية مزدوجة التعمية ضمت أكثر من 100 ألف طالب تتراوح أعمارهم بين 10 إلى 14 سنة، أظهرت النتائج أن اللقاح الكوبي لالتهاب السحايا ب فعال بنسبة 83%. بين عامي 1989 و1990، تم تلقيح ثلاثة ملايين كوبي غالبيتهم من الفئات الأكثر عرضة من الأطفال والشباب، وتراوحت فعالية اللقاح بين 83% و94%. وحصل اللقاح على الميدالية الذهبية للأمم المتحدة للابتكار العالمي. [30]

إن قصة تأسيس معهد فينلاي الذي كانت نواته مجموعة تترأسها كامبا للعمل على إنتاج لقاح لالتهاب السحايا ب، مثلها مثل قصة الإنترفيرون والتعامل مع حمى الضنك، تدلل على الطريقة التي نشأ فيها قطاع التكنولوجيا الحيوية في كوبا وتطور كاستجابة محلية لظروف الجزيرة الصحية، أي أن أساس هذا القطاع والدافع الرئيس له كان صحة الكوبيين والكوبيات. بكلمات أخرى، وكما يقول ريد-هنري، في كوبا، استجاب العلم كنظام لمشاكل المجتمع الأكثر إلحاحًا.[31]

بدا الفرق جليًا بين التكنولوجيا الحيوية في كوبا المدفوعة بالطلب على الصحة العامة، وبين التكنولوجيا الحيوية المدفوعة بالضرورات الاقتصادية والربح في أماكن أخرى في العالم. منذ تأسيسها عام 1981 حتى نهاية عقد الثمانينيات، أنفقت «الجبهة البيولوجية» مليار دولار في إنشاء البنية التحتية لقطاع التكنولوجيا الحيوية عبر بناء مجموعة من المعاهد ومرافق البحث والإنتاج ومصانع المعالجة ومؤسسات علمية وبحثية أخرى في غرب هافانا لتعزيز الاستجابة لقضايا الصحة العامة في الجزيرة. سيطلق على هذا التجمع المؤسساتي اسم «مدينة العلوم» أو «القطب العلمي»، وفي قلبه يقع مركز الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية الذي كان منذ تأسيسه عام 1986 وما يزال القمة المؤسسية للقطاع واللحظة المحورية في تطور التكنولوجيا الحيوية في كوبا.

فيديل مع مجموعة من العلماء الكوبيين في افتتاح مركز الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية عام 1986.

التجسيد الأول لمساعي مركز الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في إنتاج تكنولوجيا حيوية منخفضة التكلفة وعالية العائد كان إنتاجها لقاحًا محليًا لالتهاب الكبد الفيروسي ب. كانت الولايات المتحدة قد طورت أول لقاح ضد المرض عام 1981، على يد العالمين بروخ بلومبرغ وإيرفنغ ميلمان، وأنتجته شركة ميرك للأدوية (التي، بالمناسبة، وزّعت على حَمَلة أسهمها 10.5 مليار دولار في نهاية عام 2019). لكن بحكم الحصار الذي تفرضه الولايات المتحدة على كوبا منذ انتصار الثورة، والذي اشتد أثره بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، كانت كوبا تضطر للحصول على لقاح التهاب الكبد الأمريكي بأسعار مرتفعة عبر مسارات استيراد معقدة وطويلة، الأمر الذي اضطرها إلى أن تستورد منه كميات قليلة للحالات الأكثر عرضة للمرض، مثل مرضى غسيل الكلى ومقدمي الخدمة الطبية لهم. لم تتمكن كوبا من تلقيح سكانها إلا بعد أن أنتج مركز الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية، الذي يترأسه هيريرا، لقاح كوبيًا عام 1990، لتبدأ عام 1992 برنامجًا وطنيًا للتطعيم ضد المرض، بدأ بتطعيم الرضع حديثي الولادة، ثم الفئات الأشد عرضة للخطر، ووضع هدف تطعيم كل السكان تحت عشرين عامًا بحلول عام 2000. جدير بالذكر أن الولايات المتحدة، التي سبقت كوبا باللقاح بقرابة عشرة أعوام، بدأت بتطعيم الرضع حديثي الولادة عام 1992؛ العام نفسه الذي بدأت فيه كوبا بذلك. وبحلول عام 1995، كان 99.2% من الرضع تحت السنة في كوبا قد تلقوا اللقاح، مقابل 68% في الولايات المتحدة.

عبر الاستجابة لأمراض سكان الجزيرة، ومن خلال الدعم الكبير الذي قدمته الدولة، والاستثمار الطويل في الصحة والتعليم، ومساهمتهما بخلق رأسمال بشري كفؤ ومدرب، نشأ قطاع التكنولوجيا الحيوية في كوبا وتطور بشكل استثنائي خلال عقد الثمانينيات. ستستمر التكنولوجيا الحيوية وصناعة الدوائيات بممارسة دورها الاجتماعي الفريد، وبشكل مغاير لما هو سائد في قطاع تحكمه المضاربات ومصالح المساهمين. لكن، ومع سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكك الكتلة الاشتراكية وفقدان كوبا معظم ائتمانها وأسواق صادراتها ووارداتها النفطية، وبعد تشديد الولايات المتحدة الخناق عليها ودخولها بما يعرف بـ«المرحلة الاستثنائية»، ستلعب التكنولوجيا الحيوية دورًا جديدًا، وستأخذ على عاتقها مهمات وطنية أخرى.

  • الهوامش
    [1] صيغة تقوم على شراء خدمة طبية بموجب عقود محددة المدة، غالبًا ما تكون سنوية، وهي صيغة أقرب ما تكون لعقود تأمين الموظفين.
    [2] كان متوسط العمر المتوقع 50 سنة بالمناطق الريفية، بينما كان 59 سنة على الصعيد الوطني.

    We Are Cuba: How a Revolutionary People Have Survived in a Post-Soviet World,Helen Yaffe,Yale University Press publications,2020, p.g 123

    [3] Cuban Health Care :The Ongoing Revolution, Don Fitz, Monthly Review Press, 2020, p.g32-33

    [4] Cuban Medical Internationalism: Origins, Evolution, and Goals, John M. Kirk and H. Michael Erisman,Palgrave Macmillan, 2009, p.g 42

    [5] Cuban Health Care :The Ongoing Revolution p.g 44-45

    [6] Che Guevara Talks to Young People (The Cuban Revolution in World Politics), Ernesto Guevara, Mary-Alice Waters, Pathfinder, Montreal, 2000, p.g 43-50.

    [7] Che Guevara Talks to Young People (The Cuban Revolution in World Politics), Ernesto Guevara, Mary-Alice Waters, Pathfinder, Montreal, 2000, p.g 53.

    [8] Cuban Health Care :The Ongoing Revolution p.g 23-25

    [9] Cuban Health Care :The Ongoing Revolution p.g 69-70

    [10] We Are Cuba: How a Revolutionary People Have Survived in a Post-Soviet World, p.g 127

    [11] Cuban Health Care :The Ongoing Revolution p.g 44-45

    [12] Cuban Health Care :The Ongoing Revolution p.g 69-70

    [13] Cuban Health Care :The Ongoing Revolution p.g 71

    [14] أعاد دستور 2019 التأكيد على هذا الحق. انظر/ي: Universal Health in Cuba: Healthy Public Policy in All Sectors, Pastor Castell-Florit Serrate, MEDICC Review, October 2019, Vol 21, No 4.

    [15] Cuban Medical Internationalism: Origins, Evolution, and Goals, John M. Kirk and H. Michael Erisman,Palgrave Macmillan, 2009, p.g 44

    [16] Cuban Health Care :The Ongoing Revolution p.g 74

    [17] تشمل التحصينات الروتينية لقاح بي سي جي، وشلل الأطفال، والتهاب النخاع، والدفتيريا، والكزاز، والسعال الديكي، والتهاب الكبد ب، والنزلة المستدمية ب، والمكورات السحائية ب وج، والحصبة الألمانية، والنكاف، والحصبة.

    [18] Cuban Medical Internationalism: Origins, Evolution, and Goals, John M. Kirk and H. Michael Erisman,Palgrave Macmillan, 2009 p.g 50-52

    [19] Primary Health Care in Cuba: The Other Revolution, Linda M. Whiteford and Laurence G. Branch, Rowman & Littlefield, 2008, p.g 28

    [20] Primary Health Care in Cuba: The Other Revolution, Linda M. Whiteford and Laurence G. Branch, Rowman & Littlefield, 2008, p.g 35

    [21] في العديد من دول الجنوب، وعلى عكس كوبا، يفوق عدد الأخصائيين عدد العاملين في الرعاية الأولية بكثير. هذا مرتبط بشكل رئيس بالقواعد التي فرضها السوق: ما فعله القطاع الصحي الخاص عبر السنوات بتركيزه على الطب العلاجي القائم على التكنولوجيا المتطورة، والمربح أكثر، أدى إلى خلق قيمة اقتصادية واجتماعية للأخصائيين على حساب العاملين بالرعاية الصحية الأولية. كل ما تفعله النظم الصحية العامة في دول الجنوب للمحافظة على أطبائها عبر إلزامهم بمجموعة من الشروط والإجراءات الجزائية لن يجدي نفعًا. من الصعب على دول أنهكتها القروض والسياسات النيوليبرالية، المواءمة بين وجود السوق والمحافظة على الطاقم الطبي في القطاع العام المنهك والمهلهل.

    [22] Primary Health Care in Cuba: The Other Revolution, Linda M. Whiteford and Laurence G. Branch, Rowman & Littlefield, 2008, p.g 53

    [23] To Heal Humankind: The Right to Health in History, Adam Gaffney, Routledge,2017, p.g 174

    [24] مع مرور السنوات وتطور البحوث، تبين أن الإنترفيرون مفيد في عدد محدود فقط من أنواع السرطان، إلا أن توظيفه استمر في علاجات مختلفة كان آخرها أحد علاجات كوفيد-19.

    [25] قصة كوبا مع الانترفيرون مذكورة في العديد من كتب الصحة العامة التي تدرس حالة كوبا مؤخرًا:

    We Are Cuba: How a Revolutionary People Have Survived in a Post-Soviet World,Helen Yaffe, Yale University Press publications, 2020

    The Cuban Cure :Reason and Resistance in Global Science,S. M. Reid-Henry,The University of Chicago Press,2010

    [26] The Cuban Cure :Reason and Resistance in Global Science, p.g 29

    [27] We Are Cuba: How a Revolutionary People Have Survived in a Post-Soviet World, p.g 130-132

    [28] The Cuban Cure :Reason and Resistance in Global Science, p.g 64

    [29] سمي بهذا الاسم عام 1991 تكريما لكارلوس خوان فينلاي، عالم وبائيات كوبي اكتشف عام 1900 أن الحمى الصفراء تنتقل عبر البعوض، وبالتالي أسهم في مكافحتها، وفي التأسيس لدراسة الأمراض المنقولة عبر ناقل وبائي. منذ تأسيسه عام 1987 وحتى عام 1991 كان اسمه “المركز الوطني للقاحات المُكوّرات السحائية”، لبحث وإنتاج لقاح VA-MENGOC-BC ولقاحات بشرية أخرى.

    [30] اللقاح الأكثر استخدامًا في العالم ضد التهاب السحايا (ب) في العالم. تم إعطاء أكثر من 60 مليون جرعة في أمريكا اللاتينية.

    [31] The Cuban Cure :Reason and Resistance in Global Science, p.g 46

Leave a Reply

Your email address will not be published.