من يحفر المناجم؟ حمى الذهب و«المسألة الآسيوية»

الأربعاء 11 كانون الثاني 2023
مناجم الذهب
مجسمات لعمال مناجم الذهب في مدينة سوتير كريك في كاليفورنيا. أ ف ب.

نشر هذا المقال للمرة الأولى بالإنجليزية في مجلة لندن ريفيو أوف بوكس، بتاريخ 21 تموز 2022.

عام 1852، نشرت مجموعة من قادة المجتمع المحلي من الصينيين في سان فرانسيسكو كتيبًا تعارض فيه وصف حاكم ولاية كاليفورنيا، جون بيغلر، المهاجرين الصينيين الـ7520 بأنهم عمال آسيويون أذلاء يخفضون أجور العمال البيض. «لا يأتي الرجل الصيني الفقير إلى هنا كعبد»، يكتب تونغ آشيك وتشون آشينغ في تحليل للمسألة الصينية، «إنه يأتي مدفوعًا برغبته بالاستقلال». نشر لوي كونغ مينغ، وولويس آه موي، وتشيوك هونغ تشيونغ، من التجار الصينيين في فكتوريا وميلبورن، كتيبًا آخر بعد ثلاثين عامًا بعنوان «المسألة الصينية في أستراليا». يستهدف الكتيب أسطورة «عمال المناجم» الصينيين ذاتها: «الطبيعة الإنسانية هي الطبيعة الإنسانية ذاتها حول العالم؛ والرجل الصيني محب للمال كغيره من الرجال، ومتلهف لاكتساب أكبر كم منه بالقدر ذاته، كأكثر منافسيه جشعًا».

اتبعت أستراليا وكاليفورنيا مسارات متوازية: فقد قاد اكتشاف الذهب في كل منهما إلى هجرة جماعية من جنوب الصين، تلاها رد فعل عنيف من العمال البيض. باتت سان فرانسيسكو تعرف باللغة الصينية الكانتونية «جبل الذهب القديم» (غاو غامسان)، بينما أشير إلى ميلبورن باسم «جبل الذهب الجديد» (سان غامسان). جلب الذهب حوالي 300 ألف عامل صيني وتاجر غالبيتهم من الرجال، إلى الولايات المتحدة والمستوطنات الكولونيالية البريطانية في القرن التاسع عشر – وهو عدد يفوق عدد 250 ألف صيني العاملين في مزارع القطن في الكاريبي في العقود التي تلت تحرير العبيد، بالرغم من أن الأخير هو الذي سيطر على المفاهيم الشائعة حول الشتات الصيني. تشير ماي نغاي، وهي مؤرخة لأمريكا الآسيوية في جامعة كولومبيا، في كتابها الجديد، إلى الطابع العالمي لإقصاء الآسيويين. وتتناول مصير العمال الصينيين في الولايات المتحدة وأستراليا، كما أنها تعتبر جنوب إفريقيا والستة آلاف صيني ممن استقدموا للعمل في مناجم الذهب في ويتووترزراند ما بين 1904 و1910، تجربة استعمارية بريطانية إضافية للعمالة بالسخرة.

غيرت حمى الذهب اقتصاد العالم. حيث استخرج في نصف قرن 435 مليون أونصة من الذهب، وهو أعلى من المجموع الكلي المتداول عبر ثلاثة آلاف عام منصرمة. عزز الإمداد المتزايد الإمبراطورية البريطانية والولايات المتحدة، وأطلق ما تدعوه نغاي «مرحلة جديدة من تراكم رأس المال». كتب إنجلز إلى ماركس في الخمسينيات من القرن التاسع عشر بأن اكتشاف مناجم الذهب يستدعي مراجعة لنظرياتهما. حيث إن «حالتي» كاليفورنيا وأستراليا «لم تذكرا في البيان [الشيوعي]: خلق أسواق واسعة جديدة من لا شيء. علينا أن نأخذ هذا بالحسبان». لقد أتاح الاكتشاف توسعًا في التجارة والمال، وتبنت الكثير من بلدان العالم مقياس الذهب كردة فعل. وبما أن 88% من الذهب قد انحصر في بريطانيا والولايات المتحدة، فإن هذا التحول قد عزز وضعية البلدين كدائنين ومقرضين عالميين. بينما انهارت في الوقت ذاته قيمة الفضة التي امتلكتها العديد من الاقتصادات الأخرى، وعلى رأسها سلالة تشينغ. لقد أسهم شراء الصين للفضة من أمريكا اللاتينية وآسيا، والذي بدأ في القرن الخامس عشر، في توحيد التجسدات المبكرة للسوق العالمية؛ وقد رمز التحول من الفضة إلى الذهب إلى التحول من اقتصاد عالمي يرتكز على آسيا إلى آخر يرتكز على شمال الأطلسي.

«تمثلت المسألة الصينية ببساطة في التالي: هل شكل الصينيون تهديدًا عرقيًا للبلدان الأنجلو أمريكية البيضاء، وهل يجب أن يمنع الصينيون عنها؟»، تكتب نغاي، التي يستخلص كتابها تناقضًا وطّد سياسة استبعاد الآسيويين. وجد السكان البيض عبر المحيط الهادئ أن المهاجرين الصينيين يشكلون تهديدًا لأسباب رزقهم الاقتصادي في وقت تخيل فيه الرأسماليون البيض في الولايات المتحدة والمستعمرات البريطانية تشغيل عمال صينيين مذعنين، بينما يسيطرون على تجارة آسيا والمحيط الهادئ أيضًا. «إن الذهب الذي سُمح لنا أن نحفر بحثًا عنه في مناجمكم هو ما أتاح لتجارة الصين أن تنمو بهذه السرعة»، هذا ما كتبه تونغ آتشيك عام 1852. «إذا أردت لجم الهجرة من آسيا، فعليك أن تقوم بذلك من خلال لجم التجارة الآسيوية». لقد تطور الاستبعاد الصيني كإجراء دفاعي من جانب العمال البيض والسياسيين الذين اعتبروا الهجرة الآسيوية المسيرة الحتمية لرأس المال العابر للحدود.

بدأت حمى الذهب في كانون الثاني 1848، عندما ادّعى جيمس مارشال، وهو من المحاربين القدامى في الجيش الأمريكي، ويعمل في معمل للنشارة يملكه جون سوتر على النهر الأمريكي، بأنه قد سحب كتلة صلبة من الذهب من قناة طاحونة المياه (بينما عزت روايات أخرى الفضل في الاكتشاف لزميل لمارشال يدعى جيم الهندي). وقد انتقل في غضون عام عشرات الآلاف من المنقبين في المناجم، أغلبهم من السكان الأصليين أو المحليين المنحدرين من أصول أوروبية، إلى تلال شمال كاليفورنيا؛ وبحلول عام 1854 انضم إليهم مئات الآلاف من العمال المهاجرين من الولايات الشرقية، وهاواي وتشيلي. وكان إدوارد هارغريفس أحد أولئك المترحلين إلى كاليفورنيا، وكان إنجليزيًا قضى بعضا من الوقت في أستراليا. وبعد أن لاحظ التشابهات الطبوغرافية بين كاليفورنيا ونيوساوث ويلز [غربي أستراليا]، اقتنع بأنه لا بد وأن تمتلك أستراليا احتياطيات من الذهب أيضًا. وقد اكتشف عام 1851 الذهب خارج باثيرست، حوالي مئة ميل من سيدني. وقد تبعه في غضون العقد التالي، قرابة 700 ألف شخص إلى شرق أستراليا، وأغلبهم من أوروبا والولايات المتحدة والصين.

وبحلول كانون الأول 1848 وصلت تقارير حول الاكتشافات في ورشة سوتر إلى هونغ كونغ. وقد كان أوائل الصينيين الواصلين بحثًا عن الذهب من منطقة سي يي على الجانب الغربي من نهر اللؤلؤ في غوانغ دونغ الصينية. وقد اعتمدت سي يي، نظرًا لتربتها الفقيرة وتضاريسها الجبلية، على التحويلات العائدة من المهاجرين في المناطق الأكثر ازدهارًا. كان هذا نمطًا متبعًا في الصين، ولكن بينما شق الآخرون طريقهم إلى دلتا يانغتسي أو جنوب شرق آسيا، حدث وأن انضم منقبو الذهب من سي يي إلى حمى الذهب في كاليفورنيا وأستراليا في وقت مبكر، وقد أحضروا معهم شبكات أقاربهم وأصدقائهم من قراهم. وقد شكلوا بحلول ستينيات القرن التاسع عشر ربع عدد عمال المناجم في كاليفورنيا وأستراليا. تشدد نغاي بأن هذه الهجرات قد اختلفت عن النهج السابق في عقود العمل بالسخرة في هاواي وجنوب شرق آسيا والكاريبي. حيث لم يكن الباحثون عن الذهب فقراء إلى ذات الدرجة: إذ كان بينهم حرفيون وتجار ومزارعون ملّاكون، أتاحت لهم تمويلات العائلة أو العشيرة تفادي عبودية الديون.

مهما كانت «معاداة العمالة الآسيوية» قبيحة، إلا أنها كانت تعبيرًا عن معاداة الرأسمالية، ومن أجل معالجة استغلال العالم الحديث، إذ من الضروري مواجهة أشكاله العنصرية وأنماط التطور اللامتساوي والسعي إلى توطينه أو تطبيعه.

أما بلدة المخيم الصيني في سفوح جبال السيرا نيفادا في كاليفورنيا فيربو عدد سكانها اليوم عن المئة بقليل، بينما كانت تحتضن أثناء حمى الذهب خمسة آلاف من عمال المناجم والتجار والغسالين والعاملين بالجنس وأصحاب المطاعم، الذين قدموا أطباقًا مثل فطيرة الحمام والدببة المشوية. مال عمال المناجم الصينيون إلى استخدام أداة تعرف باسم «الكرسي الهزاز»، يتم من خلالها غسل الأوساخ على طول لوح خشبي مثلم يلتقط قطع الذهب وهي في الطريق إلى الأسفل. وكان العمل في مجموعات أكثر فعالية، حيث قسمت المهمات إلى سحب الأوساخ والمياه وتنظيف الذهب. ورغم وجود هرميات صارمة أحيانًا لهذه المجموعات، إلا أنها كانت تتشارك بالعادة في الأرباح: ويحكى أنه ذات مرة قام فريق من عمال المناجم بكسر قطعة من الذهب تزن أربعين باوندًا من أجل تقاسمها بالتساوي.

عملت المجموعات الصينية والبيض والسكان المحليون وعاشوا إلى جانب بعضهم بعضًا بسلام في سنوات حمى الذهب المبكرة. إلا أن خطوط الانقسام العنصري ابتدأت بالتصلب مع شيوع أسطورة العمالة الصينية الشبيهة بالعبيد. ادّعى بيغلر، حاكم كاليفورنيا، بأن أولئك العمال كانوا يخضعون لسيطرة «أسياد صينيين» كانوا يحتفظون بعائلاتهم كرهائن بالقوة. وقد حاول من خلال استغلال مخاوف عمال المناجم البيض من تضاؤل أجورهم، ربط المهاجرين الصينيين مع السود المستعبدين وشعب هاواي أو شبكات عقود العمل بالسخرة الآسيوية في الأطلسي، بمضامين عنت أن كافة الأعراق «الملونة» غير حرة بطبيعتها. 

هناك شخصية أخرى شكلت أفكارها سياسة استبعاد الآسيويين، وهو هنري جورج، الاقتصادي والسياسي الأمريكي، وهو ناقد حازم لرأس المال الاحتكاري. (وللمفارقة، ألهمت أعماله لاحقًا سون يات سين، القائد الأول للكومنتاغ؛ الحزب القومي الصيني). نشر في 1869 مقاله «الصينيون في كاليفورنيا»، وكتب جورج بأن الانقسام بين العمالة ورأس المال هي معادلة صفرية، وأن الأجور المدفوعة للعمال الصينيين تعني بأن «حصة العمل باتت أقل، ورأس المال أكبر». وقد جادل نقاد جورج -بما فيهم ستيوارت ميل- بأن المهاجرين الصينيين سوف يكسبون أجورًا أعلى مع مرور الزمن لا محالة، وسوف يُستوعبون في قوة العمل. لكن جورج استمر في إصراره على ما تدعوه نغاي «الأسطورة المركزية لمعاداة عمال المناجم الأجانب»: أي فكرة أن العمال الصينيين كانوا وسيبقون غير أحرار. 

أدخلت كاليفورنيا عام 1825 أول قوانينها المعادية للصينيين، وهو ضريبة على عمال المناجم الأجانب استهدفت المهاجرين الصينيين على وجه التحديد. فترتب على الأجانب دفع ثلاثة دولارات شهريًا من أجل العمل؛ ولم يمض وقت طويل حتى باتت هذه الرسوم تشكل ربع إيرادات الولاية. وبعد أن استُنفدت المناجم ببطء، استولى رأس المال الكبير على الصناعة، ودخل اقتصاد كاليفورنيا في أعقاب الحرب الأهلية في ركود اقتصادي. أما العمال البيض «فوجدوا في المسألة الصينية كبش فداء عرقي ونظرية عرقية جاهزة في متناول اليد». ولم يقد هذا عمال المناجم أنفسهم بل الحرفيين من البيض -عمال البناء وعمال المعادن والنجارين- وقد أقلقهم مصير أقرانهم في صناعة السيجار، الذين تم إحلال العمال الصينيين محلهم.

حاولت التشريعات الأولى أن تصعب أمور العمل على المهاجرين الصينيين، إلا أن قانون بيج سعى بوضوح عام 1875 إلى إبقائهم خارج البلاد. فقد استهدف «العمال الأجانب» غير الأحرار و«الفتيات المستعبدات»، ومنعت العمالة المتعاقدة بالسخرة والمجرمون والبغايا من الهجرة إلى الولايات المتحدة. وبهذا حظرت كافة النساء الصينيات بشكل فعال، وترسخ اختلال التوازن الجنسي في الهجرة الصينية (شكلت النساء ما بين 3% إلى 7% من السكان الصينيين الأمريكيين حتى القرن العشرين)، وتقوننت الشعارات العرقية والجنسية. وصلت موجة التشريعات ذروتها في قانون استبعاد الصينيين عام 1882، الذي منع هجرة كافة العمال الصينيين، وهو القانون الأول من نوعه الذي يحدد مجموعة عرقية معينة. وقد تلى هذا موجة من العنف الأبيض ضد المجتمعات الصينية، شملت 439 هجمة معادية للصينيين -جرائم قتل وإعدامات خارج القانون وحرائق متعمدة- سجلت عبر ولايات أوريغون ووايومنغ وعلى طول الساحل الشمالي الغربي بين عامي 1885 و1887.

في أستراليا، أخذت التحذيرات المتعلقة بالمهاجرين الآسيويين وقتًا أطول كي تلتصق. فبدلًا من اعتبارهم «عمالة أجنبية»، اعتبر العمال الصينيون مبدئيًا مصدر إزعاج. ولكن العداء اشتد مع وصول المزيد من هونغ كونغ. بحسب صحيفة الإمباير، لم تكمن المشكلة في كون الشعب الصيني غير حر، بل في كونه حرًا أكثر من اللازم، «كتلة بغيضة من الوثنيين الأجانب» هددت «باجتياح» السكان البيض. حذرت صحيفة سيدني مورنغ هيرالد من «تدفق هائل من عرق أدنى، ليس لديه أي تعاطف مشترك مع الناس الذين يقيمون على ترابهم، ويجرّون خلفهم جحافل لا تحصى من سكان لا ينضبون عمليًا».

بحلول عام 1859 كان هناك 42 ألف صيني في فكتوريا، قرابة خمس الذكور البالغين فيها. بدأ المهاجرون الصينيون في الاستقرار ما بعد المدارات الشرقية وغامروا في المنطقة الشمالية وبريزبين. ومع تزايد المخاوف من «سيطرتهم» على السكان، ذكّى الحرفيون الحضريون والبحارة الضغينة لدى العمال. وعلى غرار معاصريهم في كاليفورنيا، لم تكن هذه هي الجماعات التي تأثرت بصورة مباشرة من الهجرة الصينية، ولكن تخوفًا من خسارة وظائفهم في نهاية المطاف، انطمست الفروقات المهنية واستُبدِلت بالفروقات العرقية، معبأة الأشد فقرًا في حركة سياسية ضد الآسيويين. منعت الاحتجاجات العامة عام 1888 المسافرين الصينيين القادمين من هونغ كونغ من النزول في ميلبورن أو سيدني. بذلك أسهمت مشاعر العداء للصينيين في تشكيل رؤيا قومية بدائية «لأستراليا بيضاء» تهدف إلى منع المستعمرة من التحول إلى فيجي أو هند أخرى. عندما دخل الاتحاد حيز التنفيذ عام 1901، مرر المشرعون قانون تقييد الهجرة، وهو قانون أكثر شمولية من نظيره الأمريكي: فبدل التركيز على العمال، استهدف كافة المهاجرين الصينيين. وبذلك شرعنت القوانين الأسترالية كما في الولايات المتحدة جدل العنصريين والهجمات العنصرية.

أرّخت حمى الذهب في جنوب إفريقيا لـ«إرساء» نصف قرن من الاستبعاد الآسيوي. اكتشف الذهب أولًا في باربرتون، في ترانسفال الشرقية، عام 1873. وقد وجد في الصخر الصلب، وتطلب عمليات كيميائية وتعدينًا مكلفًا لاستخراجه. وقد وظّف «الراندلوردز»، أو ملاك المناجم، الأفارقة المحليون بدايةً، ولكن بعد أن وجدوا أجورهم مكلفة، تحولوا إلى الصينيين العاملين بعقود السخرة، الذين كان الحد الأدنى لأجورهم في البداية يصل إلى شلن يوميًا، أي أقل من نصف ما تقاضاه الإفريقي الأصلي، وعُشر ما تقاضاه العمال البيض. توجس الناس في جنوب الصين آنذاك، من العمل في المجتمعات البيضاء، واختاروا بدلًا من ذلك الهجرة إلى جنوب شرق آسيا. أرسل التجار الصينيون في جوهانسبورغ رسائل إلى الوطن محذرين من المعاملة «الاستبدادية» التي يواجهها العمال الصينيون في جنوب إفريقيا، واصفين مناجم الذهب في ويتووترزراند على أنها «جحيم حي». بدأ الوسطاء البريطانيون باستخدام عمال من المقاطعات الفقيرة في الشمال، مثل هيباي وشاندونغ، حيث جعلت سنوات من الكوارث الطبيعية والقلاقل من ثورة الملاكمين السكانَ المحليين في حالة يأس. شًغّل ما يربو على 63 ألفًا خلال ثلاثة سنوات، ما بين عامي 1904 و1907، في ظل عقود مدعومة بتهديد العقوبات الجنائية، بما فيها الحجز، والجلد والتعذيب، وهو انحراف في عصر إلغاء الرق. أثبتت التجربة في جنوب إفريقيا أنها قابلة للتنفيذ لفترة وجيزة، إلا أن الظروف المروعة أفضت إلى موت ما يزيد على ثلاثة آلاف عامل من عمال المناجم ما بين عامي 1904 و1910. وقد شارك حوالي 20 ألفًا بشكل من أشكال التحرك العمالي، من «التراخي» والفرار من الخدمة إلى أعمال الشغب وتدمير مهاجع البيض، مناقضين القولبة النمطية حول الانصياع والخنوع.

لا يمكن تجاهل القولبة النمطية العرقية ببساطة على أنها لا أساس لها، إن الفروقات عبر الجماعات والأمم هي نتاج للاقتصاد والتاريخ، وليس الطبيعة، ولكنها حقيقية أيضًا.

ارتفع الغضب العام عام 1906، وسط شائعات حول تفشي المثلية الجنسية بين عمال المناجم الصينيين، وهجمات الصينيين ضد الجنوب إفريقيين من المستوطنين البيض. وقد وصل إلى السلطة حزب قومي أبيض يدعى «هيت فوك» (الناس) في السنة التالية، بناءً على برنامج يدعو إلى طرد العمال المهاجرين وتطبيق هرمية عرقية بين الجنوب إفريقيين من البيض والأفارقة المحليين. أعيد العمال المتعاقدون إلى أوطانهم بحلول عام 1910، وشرعت حكومة جنوب إفريقيا قوانين استبعاد جديدة تحد من الهجرة. بينما انتقد حزب العمال في بريطانيا وحلفاؤه العماليون، وضمن حملات الانتخابات العامة لعام 1906، الهجرة الصينية إلى جنوب إفريقيا، كونها نظام «شبيه بالعبودية». كانت التجربة مهينة للتقليد البريطاني بإلغاء العبودية، وشكلت تهديدًا للعمالة البيضاء في الوقت نفسه، كما جرت في ظل حكم المحافظين. أما على مستوى العالم، تكتب نغاي أن الأحداث في جنوب إفريقيا اعتبرت نقطة النهاية الحتمية لأيديولوجية عنصرية ساوت الهوية الصينية بالعبودية. فبدلًا من اعتبارها علاقات اجتماعية أو وضعية اقتصادية، أحيلت العبودية إلى «شرط عرقي» لا يستطيع الشعب الصيني نفضه.

تنامى الاهتمام في السنوات الأخيرة بالتشاؤم الإفريقي، وهي فكرة تعتبر التفوق الأبيض قوة متعالية عبر الزمن، نشأت من خلال عنف تجارة الرق في القرن السابع عشر. بدا في الربيع الماضي، وبعد أن ظهرت تقارير حول العنف ضد الآسيويين في الولايات المتحدة -ومن ضمنها مقتل ستة نساء صينيات وكوريات في أطلنطا- أن النشطاء بدأوا بتبني تفسير مشابه للأمريكي الآسيوي: يجوز للمرء أن يدعوه «التشاؤم الآسيوي». فللعداء العنصري ضد المهاجرين الآسيويين خاصية ميتافيزيقية تقريبًا في هذه الرؤية الناشئة للتاريخ، تعود إلى التعبير الأصلي للعنصرية ضد الآسيويين: أي سياسات الاستبعاد الصيني في القرن التاسع عشر.

إلا أن الرواية التي تسردها نغاي تقلب فرضيات التشاؤم العرقي. فبالكاد كان العداء الأبيض قضية في سنوات حمى الذهب المبكرة: وقد تصلبت فقط كنتيجة للضغط الاقتصادي، مع استنزاف المناجم وافتتاح خطوط السكك الحديدية. فإذا كانت المشكلة مع المهاجرين الصينيين تتجلى في الرخص النسبي لعمالتهم، فقد كان هذا نتاج عوامل عالمية، أي «التباعد الكبير» بين الاقتصادات الأورو-أمريكية والصينية في القرن التاسع عشر. ومع هذا، فكما أشار لوي وموي وتشيونغ في كتيبهم، باتت أجور الصينيين في أستراليا تداني سريعًا أجور العمال البيض، وتدحض كما تقول نغاي «أسطورة مستوى المعيشة الآسيوي الذي هو ظرف طبيعي، أي عرقي». ولكن ما كان حقًا على المحك هو انبثاق تقسيم عالمي غير عادل للعمالة أنتج انطباعًا باللامساواة الطبيعية. 

تصف نغاي بدقة محتويات محددة للعنصرية ضد الصينيين، بربطها مع العنصرية ضد السود، والمكسيكيين والشعوب الأصلية، الذين حرضوا ضد بعضهم بعضًا ليس من خلال المستوطنين البيض فحسب، ولكن من قبل المهاجرين الصينيين أنفسهم: فقد رد رجل الأعمال يوانغ شينغ من كاليفورنيا على سبيل المثال، على حديث بيغلر عن «عمال المناجم الصينيين» بالتشديد على المسافة أو التباين بين المهاجرين الصينيين و«العرق الإفريقي أو الرجل الأحمر». بينما قام آخرون -تجار وصحافيون وموظفون رسميون- باحتضان مبادئ التراكم التنافسي والفردانية، إذ تستدعي نغاي مقارنات بين إفادات تجار صينيين أستراليين، ممن رددوا مسلمات ليبرالية حول الحقوق المتساوية وعالمية البحث عن الربح وكتابات ميل. وحتى في غضون انقسامات نهايات القرن التاسع عشر، كانت عالمية الاقتصاد والسياسة الليبرالية ما تزال ممكنة، حيث الالتزام بالمعاملات المالية في ظل شروط متساوية توحد تطلعات البرجوازية من كافة الألوان. 

بعلي تصور نغاي للعرق من شأن الدينامي مقارنة بالثابت، والعالمي مقارنة بالمحلي، إلا أن من الممكن أن نلاحظ بعض الثوابت في هذا التصور. ما يربط المواقف التي تصفها بوجهات النظر الأمريكية والأوروبية نحو آسيا والشتات الآسيوي الأكثر حداثة -كافة الأحاديث عن الأمم والشعوب، و«الأقلية النموذجية»، والنمور الآسيوية والأمهات النمور- هي السمة المميزة للكفاءة الاقتصادية، كموضوع للإعجاب والخوف في آن معًا، وهنو ما أسمته كولين لي بـ«الشكل العنصري الآسيوي». لقد شكلت المخاوف الاقتصادية عند الحديث حول آسيا وشعوبها، وسيطًا وتعبيرًا عن العرق بحد ذاته. فلا يمكن تجاهل القولبة النمطية العرقية ببساطة على أنها لا أساس لها، حيث إن ذلك يعني تجاهل الروابط الحقيقية والفعلية بين رأس المال وآسيا والمحيط الهادئ. إن الفروقات عبر الجماعات والأمم هي نتاج للاقتصاد والتاريخ، وليس الطبيعة. ولكنها حقيقية أيضًا. لقد كانت «المسألة الصينية» مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمرحلة على غاية الأهمية لتراكم رأس المال العالمي، حيث بدأت ثروات جديدة تتراكم حول العالم، وتتمركز في أيدي الأورو-أمريكيين وتفاقم الفقر والتنافس في الهوامش. ومهما كانت «معاداة العمالة الآسيوية» قبيحة، إلا أنها كانت تعبيرًا عن معاداة الرأسمالية. ومن أجل معالجة استغلال العالم الحديث، من الضروري مواجهة أشكاله العنصرية وأنماط التطور اللامتساوي الذي يسعون إلى توطينه أو تطبيعه. فلو كانت «المسألة الصينية» مثل كافة العنصريات الحديثة، هي مسألة رأسمالية، فإن العكس قد كان صحيحًا لفترة طويلة أيضًا.

Leave a Reply

Your email address will not be published.