من سرقة الأعضاء إلى قصف المستشفيات: أطباء «إسرائيل» في خدمة الإبادة

الأربعاء 22 تشرين الثاني 2023
أطباء صهاينة

في آذار 2021 حصلت الطبيبة الأمريكية الإسرائيلية حنا كاتان على جائزة القدس، وهي واحدة من أرفع التكريمات الطبية، وقد مُنحت هذه الجائزة لجهودها الاستثنائية في تأسيس أقسام طبية تعنى بصحة المرأة في ثلاث مستشفيات ومراكز طبية إسرائيلية، ومساهمتها المستمرة في الكتابة حول أخلاقيات الطب في المجلات البحثية. كاتان، التي خدمت لمدة عامين في الجيش الإسرائيلي، وتترأس اليوم مركز الأسرة الوطني في مستوطنة «القناة» المقامة قرب رام الله، هي واحدة من مائة طبيب إسرائيلي وقّعوا بيانًا للمطالبة بقصف مستشفيات غزة. «المستشفيات أهداف مشروعة في الحرب، نحن لسنا مستعدين لأن يتخذ الجيش موقفًا يجازف فيه بحياة الجنود الإسرائيليين لحماية الإرهابيين داخل المستشفيات»، تقول كاتان في لقاء صحفي.

يأتي هذا البيان، الذي اتهم سكان غزة «بتحويل المستشفيات لأوكار إرهابية تجعل من تنفيذ الجيش الإسرائيلي للإبادة الجماعية حقًا وواجبًا»، ضمن جزء من تاريخ طويل للأطباء الإسرائيليين الذين تورطوا طوعًا في جرائم الاحتلال الإسرائيلي حتى قبل النكبة، عندما تولى الأطباء مهمة تسميم آبار مياه الشرب في مزارع الفلسطينيين. منذ البداية، تخلى الطبيب الإسرائيلي في محطات عدة عن مسؤوليته الإنسانية والمهنية في حماية أرواح المدنيين، وخدم المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية في استهداف الأسير الفلسطيني وعافيته بدءًا من المشاركة والإشراف على تعذيب المعتقلين داخل غرف التحقيق، وانتهاج سياسة الإهمال الطبي تجاه الأسرى الفلسطينيين، إلى سرقة أعضاء جثامين الشهداء المحتجزة.

تعذيب تحت إشراف الأطباء

تمتلك مصلحة السجون الإسرائيلية نظامًا صحيًا منفصلًا عن النظام الصحي الإسرائيلي العام، إذ تتولى شركة خاصة تعيين أطباء ومسعفين غير تابعين لنقابة الصحة أو وزارة الصحة الإسرائيليتين أو لأي جسم مختص طبيًا. وتشكّل المنظومة الأمنية، سواء جهاز المخابرات (الشاباك) أو مصلحة السجون، المرجعية الوظيفية والمهنية الأساسية لهؤلاء الأطباء الذين يفترض بهم أن يعالجوا الأسرى والمعتقلين، وتشكّل كذلك الضمانة القانونية بأن لا يتعرضوا لأي مساءلة لاحقًا. تدير المصلحة 32 سجنًا، لكل منها طبيب إسرائيلي واحد (غير اختصاصي)، ولها جميعًا خمس عيادات طبية، أي أن كل عيادة تخدم ستة سجون على الأقل.

بالتزامن مع أحداث هبة القدس -أو انتفاضة السكاكين- في تشرين الأول عام 2015، داهمت قوة إسرائيلية منزل الصحفي والأسير الفلسطيني المحرر، محمد القيق في رام الله واعتقلته بموجب قرار إداري. نُقل القيق إلى مستوطنة بيت إيل، قرب رام الله، وتُرك فيها مقيّدًا لمدة 20 ساعة في العراء قبل وصوله إلى مركز تحقيق المسكوبية حيث التقى طبيبًا إسرائيليًا أعدّ له استمارة «لياقة بدنية»، وهو إجراء تقليدي لوصف الحالة الصحية للمعتقل وما قد يعانيه من أمراض مزمنة.

لم يوثّق الطبيب آثار التعذيب وسوء المعاملة البادية على القيق الناجمة عن تنقله ما بين مراكز الشرطة والمستوطنات، وتكبيل يديه للخلف لفترة طويلة، وتعرّضه للضرب والإهانة ما قبل الوصول لمركز التحقيق. تقول منسقة وحدة التوثيق والدراسات في مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، إن اللقاء الأول مع الطبيب يُستخدم لتمييز نقاط الضعف الجسدي لدى المعتقل الفلسطيني، بحيث يدركها جهاز التحقيق ويستغلها، بالتعذيب الجسدي أو النفسي، للضغط على الأسير. «الأسير اللي بعاني من الديسك، بتعمّدوا شبحه بأكثر طريقة مؤلمة لفقرات الظهر. الأسير اللي بعاني صعوبات بلع، بتعمّدوا تعذيبه بالخنق».

وأحيانًا يحضر الأطباء مع قوة الاعتقال، رصدت مؤسسة الضمير مشاركة طبيبة إسرائيلية في اعتقال شابة فلسطينية كجزء من قوة تابعة للجيش. قامت الطبيبة بإدخال يدها في جميع تجاويف جسم المعتقلة حتى المِهبل كإجراء تفتيش احترازي.

«الحديث عن الطبيب الإسرائيلي زي الحديث عن الجندي والمحقق، ما في أي فرق بينهم»، يقول القيق الذي قرر الإضراب عن الطعام بعد خمسة أيام من التعذيب شبحًا. لم يكن الإضراب كافيًا لوقف التحقيق الذي استمر 25 يومًا، إذ نُقل وهو مضرب إلى العزل في سجن مجدو، حيث صدر بحقه أمر اعتقال إداري لمدة ستة شهور، على خلفية «ارتباطه بحركة حماس والكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت ولاتهامه بأن له نشاطًا عسكريًا»، بحسب ادعاء قاضي محكمة عوفر العسكرية.

يستخدم الاحتلال اللقاء الأول بين الأسير الفلسطيني والطبيب لتمييز نقاط الضعف الجسدي، بحيث يدركها جهاز التحقيق ويستغلها بالتعذيب الجسدي أو النفسي.

يقول القيق إن الطبيب الإسرائيلي يشرف على تعذيب المعتقلين، إذ يقدم للمحققين بشكل مستمر موجزًا عن الحالة الصحية للمعتقل مفادها منحهم الضوء الأخضر لاستكمال التحقيق ما لم يشارف المعتقل على الموت، وبغض النظر عن خوضه لإضراب عن الطعام أو حرمانه من النوم لأيام متواصلة أو كسر أضلاع قفصه الصدري. يُذكر أن 40 فلسطينيًا تعرضوا لإطلاق النار قبل أو أثناء الاعتقال خلال عام 2022، تم التحقيق مع غالبيتهم بينما هم ينزفون ويعانون من إصابات بليغة وقبل إنقاذ حياتهم، «هذول أقر الطبيب بأهليّتهم لإكمال التحقيق» يقول القيق، معتبرًا أن الاعتبارات الإنسانية أو المهنية غير واردة بتاتًا عند الأطباء الإسرائيليين المتورطين بالضرورة في استشهاد 79 فلسطينيًا قيد التحقيق حتى عام 2021.[1]

«إذا بتضلك مُضرب، رح تموت بالكلى»، هذا ما أخبر به الأطباء الإسرائيليون في سجن مجدو وعيادة الرملة القيق مع تدهور وضعه الصحي، في محاولةٍ لإقناعه بالعدول عن قراره. لا يتورط الأطباء في التزام الصمت حيال ممارسات مصلحة السجون فحسب، بل يشاركون بشكل مباشر في تنفيذها بدون أدنى محاولة لتحسين ظروف سجن المعتقل. «يعطي الأطباء موافقات طبية على ممارسات السجان، ولا مرة رفض طبيب نقل أسير مضرب عن الطعام للعزل الانفرادي أو تكثيف الحراسة المشددة عليه أو نقله في رحلة عذاب بين السجون عبر البوسطة وصناديقها الحديدية»، تقول المنسقة في مؤسسة الضمير.

عندما نُقل القيق لمستشفى العفولة بعد 45 يوم من إضرابه، بلغ ضغط الأطباء عليه حد تهديده بالتغذية القسرية، وهي إحدى أساليب التعذيب المُفضية للموت، والتي أقر الكنيست قانونًا يجيزها عام 2015. لم يكن وجود القيق في مستشفى «مدني» أكثر مهنية وإنسانية، إذ بقيت يداه وقدماه مكبلتين كل واحدة لجهة في السرير، ولَحَم الجنود الفراغات في الحماية الحديدية للنافذة، وثُبتت كاميرا فوق رأسه لمتابعة تحركاته.

قتل الأسرى ببطء

جراء ظروف الاعتقال والتحقيق، يدخل بعض الأسرى الفلسطينيين السجون مُحمّلين بأمراض وإصابات جديدة، ما لم تتفاقم لديهم أية أعراض لأمراض مزمنة أو سابقة للاعتقال، وما لم تتطور لديهم ظروف صحية حرجة جراء بيئة السجن أو الإهمال الطبي فيه. بلغ عدد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال حتى نهاية تشرين الأول الماضي قرابة 7000 أسير، أكثر من 750 منهم مرضى، و200 من هؤلاء مصابون بأمراض مزمنة كالقلب والغدة الدرقية والسكري والضغط. تعتبر عيادة سجن الرملة العيادة المركزية لمصلحة السجون، حيث ينقل إليها الأسرى المقعدون والمصابون بإصابات بليغة وممن يحتاجون لمتابعة طبية مكثفة مثل الأورام ويقبع فيها ما بين 14-16 أسير بشكل دائم.

«كنت حبيس غرفة مظلمة، رطبة، مكتظة بالروائح العفنة، تشمُّ منها رائحة الموت، تُطبق على أنفاسي من كلّ جوانبها. الهواء راكد، ساكنٌ لا حياة فيه. الباب مغلق والشبّاك مفقود. فتحة صغيرة في الباب، تفتح وتغلق كلّما أرادوا أن يتفقّدوا أرواح هذه الأجساد (..) كانت قبرًا يوضَع فيه الأحياء، فالداخل فيها مفقود والخارج منها مولود».

هكذا يصف الأسير الفلسطيني المحرر وليد الهودلي في روايته «مدافن الأحياء» واقع عيادة سجن الرملة، والتي وقّع على أوراق الخروج منها على مسؤوليّته الخاصة معتبرًا أنه إن كان مضطرًا للاختيار بين موتين فموته «عند أخوة النضال ورفاق الأسر أفضل ألف مرة من الموت في مسلخ الرملة».

في أحسن الأحوال، يصف الطبيب  للأسرى في عيادة الرملة، التي تفتقر لأدنى مقومات الرعاية الصحية، مسكنات آلام، أشهرها الأكامول الذي يستخدم لعلاج كل الحالات الطبية. يقول الحقوقي في مجال الأسرى ناجي عباس، إن الاحتلال يشمل نظريًا الأسرى في سلة الأدوية التي يقدمها للمواطن الإسرائيلي، والتي تشمل جميع العلاجات والفحوصات الطبية ما عدا التجميل والأجهزة والأطراف الطبية، لكن الأزمة الحقيقية ليس في توافر العلاج من عدمه، بل في الإهمال الطبي الذي يعيق وصول الأسير للرعاية الصحية.

تقول المنسقة في مؤسسة الضمير إن الأسرى يشتكون لأسابيع طويلة من آلامهم دون أن يأخذ الطبيب حالتهم على محمل الجد، وإن حصل ذلك، فإن الإجراءات الطويلة لتنسيق عقد الفحوصات قد تستغرق أشهرًا وأحيانا سنوات. مثلًا، اعتقل الأسير وليد شرف في آب 2017، ونتج عن التحقيق معه آلام حادة في المثانة والكلى، ظلّ شرف يطالب برؤية الطبيب، فنقل إلى عيادة سجن عوفر ثم إلى عيادة سجن الرملة. مطلع عام 2019، أي بعد عام ونصف من اعتقاله، أجريت الفحوصات اللازمة لشرف في مستشفى سوروكا حيث تبين إصابته بمشاكل صحية في الكبد.

حتى في الحالات الطبية الطارئة تتعمد سلطات الاحتلال المماطلة؛ رفضت مصلحة السجون طلب محامي الأسير ليث كنعان باستلام الدواء الخاص به، والذي تم اعتقاله قبل يومين من التاريخ المحدد لإجرائه عملية جراحية في الوجه والعين، بعد إصابة مباشرة تعرض لها من قبل قوات الاحتلال فقد على إثرها إحدى عينيه. كانت حجة السجن وجود ممرض يفحص المعتقلين ويعطيهم العلاج اللازم، لكن تقارير المؤسسات الحقوقية رصدت منع الأسير من تغيير الضماد الذي يضعه على عينه بعد ساعات طويلة من الضرب والحرمان من النوم.

يصبح الواقع الطبي أكثر حرجًا في حالة المرضى المصابين بالسرطان. تفاقمت الظروف الصحية للشهيد بسام السايح بينما كان في الأسر منذ اعتقاله في تشرين الأول 2015، إذ كان يعاني من سرطان الدم والعظام، وتعرّض للإغماء أثناء التحقيق جراء ضغط المحقق على صدره، ما تسبب بزيادة نسبة العجز في عضلة القلب إلى 80% وفقدان القدرة على الحركة والكلام. لم يتلق السايح العلاج اللازم من جرعات الكيماوي، واستشهد في أيلول 2019 في سجون الاحتلال بانتظار زراعة نابضة قلبية له، تاركًا وراءه وصية يقول فيها: «لا تتركوا إخواني الأسرى المرضى للقهر والظلم والألم، هناك من ينتظر منكم أكثر مما منحتموني إياه».

يقول عباس إن موافقات أطباء السجون -وهم لا يمتلكون الكفاءة والاختصاص للإشراف على الأسرى وتشخيصهم- على استمرار العزل أو تغيير شكل ونوع العلاج تعيق الادعاءات القانونية للمحامين: «السلطات الإسرائيلية معتمدة على قرار طبيب مصلحة السجون، موافقته تدحض أي نقاش قانوني من قبلنا (..) قبل أربع اشهر قدمنا التماس لأسير فلسطيني من القدس رجله مقطوعة، الاحتلال رفض فك تكبيل إيديه ورجليه أثناء العلاج بسبب خطر الهروب، طب رجله مقطوعة».

«الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميّت»

لا يعرف الأسرى المرضى حتى تشخيص آلامهم،  إذ لا يتعاملون مع أطباء يتحدثون العربية ولا يخبرهم أحد بنتائج التشخيص أو صور الأشعة أو الفحوصات. يقول عباس إن طبيب السجن يتحكم بالحالة الطبية للأسرى إذ لا يخبرهم بمواعيد فحوصاتهم ولا يزودهم بتقاريرهم الطبية: «بوخذوا أدوية بعرفوش شو هي، هاي حبة دواء كتبلك إياها الدكتور، بدون اسم بدون روشيتا»، وهو ما يثير الشك حول مصداقية العلاج أو مدى ملاءمته للحالة المرضية أو حتى إمكانية تورط الاحتلال في إجراء تجارب سريرية على الأسرى.

وهو ما كشف عنه بحث علمي أجرته أستاذة علوم الجريمة والعمل الاجتماعيّ في الجامعة العبرية بالقدس، نادرة شلهوب كيفوركيان عام 2019، عن أن الاحتلال يجري تجارب عسكرية (منها على سبيل المثال تجارب على قنابل الغاز) وتجارب سريرية على الأطفال والأسرى الفلسطينيين. كما أدلت عضو الكنيست داليا إيتسك، والتي ترأست لجنة العلوم البرلمانية في الكنيست، بشهادة أكدت إجراء وزارة الصحة الإسرائيلية تجارب أدوية (تحت الاختبار الطبي) على أجساد الأسرى الفلسطينيين والعرب، وصل عددها الإجمالي لستة آلاف تجربة سنويًا.

تحدث الهودلي أيضًا في روايته عن أن أجساد الأسرى بمثابة حقول تجارب يستخدمها الاحتلال لأغراضه الطبية والتي قد تشمل أيضًا سرقة أعضاء جثامين الشهداء. يبلغ عدد جثامين الشهداء المحتجزة عند الاحتلال الإسرائيلي 429 شهيدًا وشهيدة، منهم 256 دفنوا في مقابر الأرقام دون أن تعرف عنهم العائلات أية معلومة، و173 شهيدًا ما زالت إسرائيل تحتفظ بجثامينهم في ثلاجات؛ أقدمهم هو جثمان الشهيد عبدالحميد أبو سرور الذي استشهد عام 2016، وآخرهم خمسة أسرى استشهدوا في السجون بعد عملية طوفان الأقصى. وكان الاحتلال قد توقف عن تنفيذ سياسة احتجاز جثامين الشهداء عام 2008، إذ كانت معظم الجثامين المحتجزة -والتي دفنت في مقابر الأرقام- لشهداء الانتفاضتين الأولى والثانية، لكنه عاد لتفعيل هذه السياسة بالتزامن مع حربه على غزة عام 2014. وبعد عام من الحرب أصدر الكابينت الإسرائيلي قرارًا يشرعن احتجاز الجثامين.

في الغالب، يحتجز الاحتلال جثامين الشهداء ممن نفذوا عمليات فدائية أو استشهدوا داخل السجون الإسرائيلية، أو أعدموا على الحواجز الاسرائيلية، لمدة غير محددة قد تستغرق ثلاثة أيام أو 54 عامًا مثل الشهيد راجح صافي الذي استشهد عام 1969. تقول الناشطة في الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء الفلسطينيين، سلوى حماد، إن ما يعرفونه عن ظروف احتجاز الجثامين محدود، وهي موضوعة في ثلاجات معهد الطب الشرعي الإسرائيلي (أبو كبير) في حرارة تحت 70 درجة مئوية: «بعض الجثامين اللي سلموها كانت مفرّزة لدرجة إنه الناس تخاف تمسكه بطريقة غلط، ينكسر. في شهيد فرّزوه وإيده محطوطة تحت راسه، أهله دفنوه بهاي الهيئة، ما قدروا يحركوا إيده».

عادة ما يُجري أهالي الشهداء الذين يستلمون جثامين أبنائهم تصويرًا طبقيًا مقطعيًا لكامل أعضاء الجسم في أي مستشفى حكومي فلسطيني قبل دفنها. ورغم أن بعض العائلات تحتفظ بتقارير تشريح جثامين أبنائها المحتجزة عند الاحتلال والتي حضرها طبيب شرعي فلسطيني، إلا أن ذلك لا ينفي الشكوك حيال إمكانية سرقة الأعضاء وتورط الأطباء الإسرائيليين في ذلك. وذلك لأن قرار التصوير المقطعي لجثامين الشهداء التي تم تسليمها بدأ منذ 2016، فما تم تسليمه قبل ذلك دُفن بدون هذا الإجراء، ما يعني أن سرقة الأعضاء في الغالب حدثت للشهداء المدفونين في مقابر الأرقام المغلقة عسكريًا -والتي يحظر دخولها- والذين تحللت جثامينهم بمرور هذا الوقت بعد أن دفنوها دون أية أصول دينية، وعلى عمق لا يتجاوز 50 سم، بحسب حماد.

في كتابها «على جثثهم الميتة»، كشفت الطبيبة الإسرائيلية المتخصصة في علم الأنثروبولوجيا، مئيرا فايس، عن سرقة أعضاء الشهداء الفلسطينيين في فترة ما بين عام 1996 و2002، بينما كانت تجري بحثًا في معهد أبو كبير للطب الشرعي، حيث يتم الاحتفاظ بالجثامين. وفي لقاء بثته القناة الإسرائيلية الثانية في تشرين الثاني 2015، أقر رئيس معهد أبو كبير السابق يهودا هس بهذه الاتهامات، قائلًا إن أعضاء بشرية (قرنيات وصمامات قلبية) وأنسجة وجلد اُخذت من جثامين الشهداء الفلسطينيين، دون علم أو موافقة ذويهم، وذلك لعلاج إصابات جنود الاحتلال.

«أطباء غزة واقفين على ثغر، بنقصفوا مع المرضى في المستشفيات، وأطباء الاحتلال بشجعوا الإبادة الجماعية، هذا الفرق بيننا»

وقد استندت تحقيقات استقصائية كثيرة على هذه التصريحات لتفسير تحوّل «إسرائيل» لأكبر مركز عالمي لتجارة الأعضاء البشرية في ظل رفض اليهود الإسرائيليين التبرع لاعتبارات دينية، عدا عن تأسيس أكبر بنك للجلود في العالم. وقد ظهرت فكرة إنشاء بنك الجلد الإسرائيلي بعد حرب 1973 لمعالجة الجنود الذين أصيبوا بحروق أثناء المعارك، لكن الحاخامات عارضوا تأسيسه حتى عام 1986، عندما أصدروا فتوى تجيز جمع واستخدام الجلود لدواعي طبية. يحفظ هذا البنك احتياطيًا من الجلد البشري ما يصل إلى 170 مترًا مربعًا، أي ما يزيد عن مخزون بنك الجلد الأمريكي الذي تأسس قبله بأربعين عامًا ورغم ضآلة عدد المستوطنين أمام عدد سكان الولايات المتحدة، بحسب الباحث أنس أبو عرقوب.

تقول فايس في كتابها إن الاحتلال حصد جلود الفلسطينيين بشكل دائم ومجاني فترة الانتفاضة الأولى: «لم يتم تسليم الجثامين في الغالب، لكن الجثامين التي دفنتها عائلاتها أخذوا جلودها من منطقة الظهر بطريقة لا يمكن لغير الأطباء المختصين ملاحظتها». تقول حماد إن الحديث عن بنك الجلد يتجدد اليوم مع المفاوضات بشأن ملف الأسرى والتي تشمل الجثامين أيضًا، وقيام الاحتلال بسرقة جثامين 145 شهيدًا[2] في 17 تشرين الثاني الجاري من محيط مستشفى الشفاء في غزة.[3] «مرّات أمهات الشهداء بيسألوني عن بنك الجلد، من وين جابوها؟ من جثامين أولادنا؟»، تذكر حماد أن الحملة تواصلت مع المنظمات الحقوقية الدولية والمفوض السامي لحقوق الإنسان والصليب الاحمر لإلغاء سياسة احتجاز الجثامين، أو إعادة النظر فيها في ضوء هذه الفضائح، وضرورة ملاحقة كافة المؤسسات والأطباء الذين شاركوا في ارتكابها، لكن شيئا لم يتغير.

حتى اليوم، لم يُتّخذ أي إجراء جنائي أو قضائي بحق الاتهامات الموجهة ضد الأطباء الإسرائيليين، بما فيها 1200 شكوى تعذيب وصلت اللجنة العامة لمناهضة التعذيب في «إسرائيل»، وذلك لعدم وجود أدلة كافية أو لتبريرها بالضرورة الأمنية. «أما انتهاك اتفاقيات جنيف أو اتفاقية لاهاي أو بروتوكولات الأمم المتحدة، هاي كلها أنا بشكك بأهميتها بعد ثلاثين سنة من العمل في القانون الدولي»، تقول المنسقة في مؤسسة الضمير. «أطباء غزة واقفين على ثغر، بنقصفوا مع المرضى في المستشفيات، وأطباء الاحتلال بشجعوا الإبادة الجماعية، هذا الفرق بيننا»، يقول القيق. 

  • الهوامش

    [1] بحسب دراسة« زنزانة «26»: دراسة حول تعذيب الأسرى في مراكز تحقيق الاحتلال»، الصادرة عن مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان عام 2021، صفحة 46.

    [2] لا يشمل هذا الرقم، شهداء المقاومة الذين ارتقوا في معارك غلاف غزة خلال الحرب الحالية على القطاع لعدم توافر معلومات حولهم حتى الآن.

    [3] بحسب مدير عام وزارة الصحة منير البرش.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية