الانتخـابات والحرب: غزة في السياسة الأمريكية

الأربعاء 28 شباط 2024
مظاهرات لغزة في واشنطن
مظاهرة داعمة لغزة بالقرب من مبنى الكابيتول في واشنطن العاصمة في كانون الأول الماضي. تصوير تاسوس كاتوبوديس. أ ف ب.

تقترب حرب الإبادة المفروضة على قطاع غزة من إكمال شهرها الخامس، وما تزال الولايات المتحدة راعيها الأول بكل ما تستطيع: دعم عسكري لا ينقطع، وغطاء سياسي لا يتأثر بـ«الخلافات» بين القادة، وفيتو أممي جاهز للاستخدام ضد أي دعوة لوقف إطلاق النار. 

لا جديد في الموقف الأمريكي الرسمي الذي لطالما كان مسخرًا للدفاع عن «حق إسرائيل» في السعي نحو تحقيق أهدافها العسكرية بأي ثمن ممكن. لكن في الداخل الأمريكي، يبدو مشهد الاحتجاج على المشاركة الأمريكية في الحرب مختلفًا. فرغم تواصل دعم النخب والأحزاب والشركات للكيان، إلا أن حجم واتساع المظاهرات الداعمة لفلسطين غير مسبوق. ومع اقتراب انتخابات الرئاسة الأمريكية الخريف المقبل، تثار الكثير من الأسئلة حول تأثير الموقف الأمريكي من الحرب على مسار التصويت.

حول جذور الموقف الأمريكي من الحرب، والموقف من قضية فلسطين في المشهد الأوسع في الولايات المتحدة، وحدود العمل السياسي فيها، حاورنا الكاتب والأكاديمي ستيفن سلايطة، أستاذ اللغة الإنجليزية والأدب المقارن في الجامعة الأمريكية في القاهرة. كتب سلايطة عدة كتب حول السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية وتجاه العرب والمسلمين، من بينها «العنصرية ضد العرب في الولايات المتحدة: جذورها وانعكاسها على السياسة» (2006)، و«حروب جاهلة: العرب والمسلمون وفقر الفكر الليبرالي» (2008)، «روح إسرائيل الميتة» (2011)، و«طقوس/حقوق غير مدنية: فلسطين وحدود الحرية الأكاديمية» (2015).

حبر: نشهد في الحرب الدائرة على غزة مشاركة أمريكية واضحة ومباشرة بشكل غير مسبوق، من حيث الدعم العسكري والغطاء السياسي، بحيث بتنا نسمع كثيرًا أن هذه المشاركة تتجاوز موقف الانحياز أو التأثر بضغط اللوبي الصهيوني، إلى حد كونها حربًا أمريكية بذاتها. كيف تفسر ذلك؟ 

ستيفن سلايطة: الأمر أشد تعقيدًا مما كان عليه في السابق في الولايات المتحدة. قبل 20 أو 30 عامًا، كان الرأي العام الأمريكي في صف «إسرائيل» بشدة، لكن الأمر ليس كذلك اليوم. فالاستطلاعات تشير لمستويات عالية من التعاطف مع الفلسطينيين بين الديمقراطيين، أو على الأقل من الدعم لوقف إطلاق النار. لكن الجهاز الحاكم في الولايات المتحدة برمته يقف خلف «إسرائيل». لذا، بتنا نشهد تباينًا متزايدًا بين ما يمكن أن نسميه الناس العاديين من جهة، ومن جهة أخرى الحكومة ومؤسسات الطبقة الحاكمة المصطفة معها، ولوبيات الشركات الخاصة، من مصنعي أسلحة ومستشارين وغيرهم. 

هذا متأثر كذلك بالصعوبات الاقتصادية التي يواجهها الكثير من الأمريكيين، مع غلاء أسعار الغذاء، وخروج التضخم عن السيطرة، وانعدام قدرتهم على الإنفاق بالدرجة التي كانوا معتادين عليها. هذا يخلق ضغطًا اجتماعيًا واقتصاديًا في الولايات المتحدة. بالتالي، في مجتمعات مختلفة، بات هناك من يسأل: لماذا تنفق حكومتنا كل هذه الأموال لتساعد دولة أجنبية على ارتكاب إبادة جماعية؟ البعض يعارض دعم الولايات المتحدة للإبادة على أسس أخلاقية، والبعض الآخر يساءله على أسس تكتيكية واستراتيجية. لذا، هناك أشكال مختلفة من المعارضة.

لكن على مستوى الحكومة والشركات، فالولايات المتحدة مكرسة بالكامل لدعم دور «إسرائيل» بوصفها قاعدة متقدمة للإمبريالية في العالم العربي، في قلب نقطة الالتقاء بين آسيا وإفريقيا. وهذا لم يتغير. صحيح أننا رأينا معارضة صغيرة داخل الكونغرس لما تفعله الولايات المتحدة، فهناك قلة من السياسيين يعبرون عن اعتراضهم، ولكن هؤلاء من صغار الموظفين إن جاز القول، وحتى هؤلاء يجبرون على إدانة حماس و7 أكتوبر واستخدام الفلسطينيين للعنف. 

لذا، أعتقد أنه من السليم وصف الحرب بأنها حرب أمريكية، لأن «إسرائيل» ما كانت قادرة على خلق الخراب والدمار الذي أنتجته لولا دعم الولايات المتحدة. لقد سلّحوا «إسرائيل» مرارًا وتكرارًا، ويستمرون في ضخ الأموال إليها، ويرسلون المستشارين الاستراتيجيين وحتى الجنود، رغم أنهم لا يقرون بذلك. بالتالي، هي بالفعل حرب أمريكية، سواء على مستوى أخلاقي أو استراتيجي أو عسكري. بالطبع، «إسرائيل» هي الطرف المعتدي وهي مسؤولة في النهاية، لكن كل شيء تفعله «إسرائيل» يحمل بصمات الولايات المتحدة، ويحظى بدعم مادي منها. لذا في رأيي، الولايات المتحدة متورطة بالقدر نفسه في الحرب والدمار الذي نشهده.

كيف تفهم هذا التغير الذي وصفته في الموقف الشعبي تجاه فلسطين؟ ما الدلائل عليه؟ ومن هي الأطراف والمجموعات التي تقوده؟

هناك دلائل مختلفة على هذا التغير في الرأي. أجريت استطلاعات رأي متنوعة تشير إلى مستويات متصاعدة من الدعم للفلسطينيين، أو على الأقل، من المعارضة لما تفعله «إسرائيل»، وأعتقد أن هنالك فرقًا بين الأمرين. لكن على كل حال، هناك زيادة. كذلك، نرى هذا التغير على وسائل التواصل الاجتماعي في الطريقة التي يجري فيها التعبير عن معارضة الإبادة الجماعية بشكل أوضح وأوسع. 

أبرز محددات هذا التغير في الموقف هو العمر. فالأمريكيون الشباب ينحازون بشكل كبير لصالح الفلسطينيين، بينما الأكبر سنًا ممن باتوا متمترسين وراء آرائهم الصهيونية لعقود طويلة يميلون للتمسك بهذه الآراء. لكن الشباب، تحديدًا من هم دون سن الخامسة والثلاثين، يدعمون الفلسطينيين بشكل كاسح، وليس فقط يعارضون «إسرائيل». كذلك، كثير من الأقليات الإثنية تدعم الفلسطينيين بقوة، وجزء كبير من المهاجرين أيضًا. وبشكل عام، فإن دعم الفلسطينيين بين جمهور الحزب الديمقراطي في تزايد.

بالتالي، فإن قاعدة الدعم لـ«إسرائيل» اليوم هي بالدرجة الأولى في المجتمع اليهودي الأمريكي، والمجتمع المسيحي الإنجيلي، وهؤلاء موجودون بأعداد ليست بسيطة في الولايات المتحدة. كذلك الطبقة الوسطى والعليا البيضاء وسكان الضواحي ما زالوا إلى جانب «إسرائيل». لذا، يمكن القول أن هناك شرخًا عمريًا، وشرخًا على أساس العرق والدخل. 

ما القوة التي يملكها هؤلاء الداعمون للفلسطينيين في المشهد السياسي الأمريكي من حيث التأثير على النقاش والسياسات المتعلقة بفلسطين؟

قد اعتبر متشائمًا، لكنني لا أعتقد أن لديهم أي قوة تذكر. الرأي العام واضح، وهناك مظاهرات داعمة لفلسطين في كل مكان، والكثيرون يرفعون صوتهم، والشعور السائد ضد الإبادة بيّن. لكن أحدًا لم يفعل شيئًا لإيقافها. بالتالي، ما يقوله لنا ذلك عن الولايات المتحدة هو أن صورتها عن ذاتها بوصفها ديمقراطية هي ضرب من الهراء. وفلسطين تفضح هذا النفاق في تصور الولايات المتحدة لنفسها، ولأفكارها عن حرية التعبير، وللكثير من الأمور. يمكننا النزول للشوارع، وكتابة المقالات والتغريدات، وفعل هذا أو ذاك، لكنهم لا يصغون إلينا ولن يصغوا. 

أعتقد -أو آمل على الأقل- أن هذا سيدفع الكثير من الأمريكيين الشباب النشطين الواعين للتفكير ليس فقط في المعاناة الهائلة التي يعيشها الفلسطينيون، بل أيضًا في حدود نظامهم السياسي، وديمقراطيتهم التشاركية المزعومة. لو كانت هذه ديمقراطية، لتوقف ما يجري منذ زمن طويل.

على ذكر المظاهرات الداعمة لفلسطين، بالنظر لحالة الاستعصاء أو الجمود التي وصفتها في الحياة السياسية الأمريكية، أي تأثير يمكن توقعه لهذه المظاهرات والحركات؟ 

لا أعتقد أنه سيكون لها أي أثر على مستوى السياسات في الولايات المتحدة. آمل أن تؤثر، وأعتقد أن المشاركين فيها شجعان حقًا، وآمل أن يستمروا. لكن ما من مؤشر على أن المظاهرات وحدها يمكنها أن توقف أي شيء. في النهاية، سيتوجب على الناس أن يصبحوا أشد جرأة ويبدأوا بتعطيل أجهزة الحكومة. ولا أعلم إن كانوا مستعدين لمثل هذه الخطوات. لكن الأمر سيتطلب ما هو أقوى من المظاهرات، وقد يشمل أشكالًا صغرى من التخريب. 

لكن علينا أن نتذكر أن قوة الدولة في الولايات المتحدة مهولة. على سبيل المثال، قبل أيام تظاهرت مجموعة صغيرة من المحتجين أمام منزل رئيسة مجلس النواب الأميركي السابقة نانسي بيلوسي، وألقوا الطلاء الأحمر على الرصيف في إشارة لدماء الفلسطينيين، وبيلوسي تقاضيهم بتهمة التخريب، وهي جناية. إن كان قراؤكم لا يعلمون، في النظام القضائي الأمريكي، الجناية جريمة كبيرة، وهي جريمة مكلفة وكثيرًا ما تقتضي السجن، وحين توضع في ملفك يصبح من الصعب جدًا العثور على وظيفة. لذا، فقوة الدولة طاغية. والولايات المتحدة، كالكثير من الدول، لديها الوسائل العسكرية والحضور الأمني الذي يمكنها من إغلاق وتعطيل الكثير من الأشياء وإرهاب الناس، وهم يفعلون ذلك بالفعل. 

بالتالي، أنا متفائل وسعيد بالكيفية التي بدأ الناس يفكرون بها تجاه فلسطين، لأنني لم أر مثل ذلك من قبل. لكنني متشائم بشدة تجاه قدرة الناس العاديين على التأثير على اتجاه السياسة الخارجية الأمريكية، لأنها مثل أي سياسة في الولايات المتحدة لا تمارس وفق مصالح الناس وإنما وفق مصالح الطبقة الحاكمة، التي تحظى بدعم الجيش والشرطة. 

في هذا السياق، كيف تعلق على حادثة إحراق الجندي آرون بوشنل لنفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن احتجاجًا على المشاركة الأمريكية في الحرب؟ كيف يمكن أن تنعكس الحادثة على الأمريكيين الشباب المعارضين للإبادة ومساحات الاحتجاج المتاحة لهم؟

ما فعله بوشنل لا يمكن وصفه من حيث القدر والشجاعة. بالطبع، يحاول الكثير من الأمريكيين تأطير ما فعله باعتباره نوعًا من الجنون، لكن هذا المنظور مهين بشدة، فضلًا عن كونه كسولًا. في المقام الأول، لسنا في موضع يخولنا الحكم على الحالة النفسية للبشر. لذا علينا أن نفكر بقرار آرون بشيء من العطف وأن نتوقف عن تقديم أعذار فظيعة من أجل تجنب المسائل الجوهرية. لقد فسّر -وببلاغة شديدة- لماذا أحرق نفسه. وتجاهلُ هذا التفسير يعبّر عن فشل فكري وأخلاقي مهول. 

ليس لدي الكثير لأقوله أكثر من ذلك. يكاد التحليل يكون غير أخلاقي في ضوء قرار هذا الشاب، ولا شك أنه سيكون قاصرًا. لست متأكدًا كيف يمكن أن ينعكس ذلك على الأمريكيين الشباب المناهضين للإبادة التي يمارسها الكيان الصهيوني، لكن صداه سيبقى يتردد بشكل هادف ومستمر، فقد بات على الفور المعيار الذي تحاكم وفقه كل التصورات الأخرى عن التضحية. أثبت أن روح جون براون [المناضل الأمريكي ضد العبودية] ما تزال حية.

ذكرت أن الدعم لفلسطين يأتي بشكل أساسي من جمهور الحزب الديمقراطي. وقد رأينا مرات عدة، خاصة في الانتخابات الأخيرة، توظيف شعار «أهون الشرّين» لدفع الناس للتصويت للحزب. هل تعتقد أن هذا سينجح مرة أخرى وأن المعارضين لبايدن في هذه الحرب سيصوتون له في حال كان الخيار، كما هو متوقع، بين بايدن وترامب؟

من الصعب الجزم بالأمر. أعتقد أن الناس في النهاية يميلون لما يعرفونه، وشعار «أهون الشرين» بالغ القوة في الولايات المتحدة. هناك ضخ مكثف ومستمر للتحكم بالناس وضبطهم من أجل التصويت لمرشح ديمقراطي مقابل المرشح الجمهوري الفظيع. وإن كنت لا تتبع هذا المسار، فسيتم إقصاؤك وتوبيخك. لكن رغم ذلك، يمكنني القول إن هناك أمرًا مختلفًا هذه المرة.

لقد نشأت وسط المجتمع العربي الأمريكي، وقد صوّت العرب والمسلمون الأمريكيون بنسبة كاسحة لصالح بايدن في انتخابات عام 2020. لم يكن ترامب رحيمًا مع هؤلاء، فقد عبّر عن العنصرية تجاههم، وفرض حظرًا على دخول المسلمين، وخلق وضعًا سيئًا جدًا بالنسبة لهم. هذا المجتمع متنوع، لكنه متقارب في مواقفه إلى حد كبير. وما أراه لم يسبق لي أن رأيته من قبل. أعتقد أن غالبية الجمهور الأوسع للحزب الديمقراطي سيتحاملون على أنفسهم في النهاية ويصوتون لبايدن. لكنني أعتقد أن المجتمع العربي والمسلم جادون، ولا أعتقد أنهم سيفعلون الشيء نفسه. هذه المرة مختلفة؛ إنهم غاضبون، وقد ضاقوا ذرعًا. 

إن كان لي أن أتحدث من تجربة شخصية، فوالداي مهاجران للولايات المتحدة، أبي من مدينة مادبا الأردنية، ولطالما تعامل بجدية شديدة مع الانتخابات، كما يفعل الكثير من المهاجرين، على اعتبار أنه «واجبه المدني» وما إلى ذلك. أمي كذلك، كانت تقول لي دومًا «عليك أن تصوت»، وكانت تأخذني إلى مركز الاقتراع حين كنت صغيرًا حتى أرى كيف يجري الأمر، وهو أمر مضحك لأنني لم أكترث يومًا بالانتخابات، فهي لا تعني لي شيئًا على الإطلاق. لكن أمي قررت ألا تصوت هذه المرة، لأول مرة في حياتها منذ أن أصبحت مواطنة أمريكية. تقول «لا أستطيع أن أصوت لترامب لأسباب واضحة، وسأكون ملعونة إن صوّتت لبايدن، مستحيل». أما أبي، فسيصوّت لترامب، لسبب واحد ووحيد وهو 100% نكاية في بايدن. إنه يكرهه ويريد أن يعاقبه بأي شكل ممكن. 

إنني أسمع هذا المنطق بشكل متكرر وسط المجتمع العربي والمسلم؛ الغضب كبير وحاد لدرجة أن الناس يقررون ألا يصوتوا، أو أن يصوتوا لترامب، أو لحزب ثالث. لدي فضول تجاه منطقة ديترويت التي تضم عددًا كبيرًا من العرب والمسلمين، والتي تنوب عنها في الكونغرس رشيدة طليب. هل سيدفعها الديمقراطيون للعمل على جمع أصوات المنطقة للحزب الديمقراطي؟ لا أعتقد أنها ستفعل ذلك، ولا أعتقد أنها ستتمكن من ذلك لأن الغضب في هذا المجتمع كبير لدرجة أنه سينقلب عليها. 

لكن السؤال يبقى ما إذا كان هذا الغضب سيستمر حتى تشرين الثاني. أعتقد أنه سيستمر إلى حد كبير في أوساط هذا المجتمع، وفي أوساط الشباب، لكن الكثيرين في النهاية سيرضخون للضغط ويصوّتون لـ«أهون الشرين». لا يعني ذلك أن بايدن سيفوز بالضرورة. ليس لدي قدرة على توقع هذه الأمور صراحة. لكنني أعتقد أنه سيتضرر بدرجة ما.

بالحديث عن المجتمع العربي والمسلم، كتبت في السابق عن العنصرية والإسلاموفوبيا في الولايات المتحدة. كيف تصف مستوياتها في الولايات المتحدة اليوم؟ هل تعتقد أن الحرب الحالية قد أججتها؟ وكيف يتم التعامل معها؟

يمكن القول إنها ازدادت. لطالما كانت حاضرة بالفعل، كجزء من وعي الأغلبية في الولايات المتحدة. لكنها تعززت بشكل كبير منذ حرب عام 1967. كانت الصهيونية دافعًا كبيرًا للعنصرية تجاه العرب والمسلمين بوصفها جزءًا من السردية التي تبرر الاستعمار الصهيوني، لأنهم كانوا بحاجة لنزع إنسانية البشر الذين طردوهم وحرموهم من بلادهم. لكنها تأججت منذ الحرب بلا شك.

لا بد أن قراؤكم سمعوا بتعرض ثلاثة شبان فلسطينيين لإطلاق النار في ولاية فيرمونت، أحدهم بات مشلولًا. قبل ذلك، قتل طفل فلسطيني في ضواحي شيكاغو. لذا، هناك تصاعد في العنف على هذا الأساس. وفي أي وقت يظهر الناس رمزًا مرئيًا لعروبتهم، كالكوفية مثلًا، قد يتعرضون للعنف اللفظي والسخرية وأحيانًا للعنف الجسدي كذلك. وفي أي وقت يجتمعون فيه للتعبير عن دعمهم لفلسطين أو عن فلسطينيتهم، سنجد مجموعة من الصهاينة مجتمعين على الطرف المقابل يوجهون لهم الإساءات. 

إن تبرير الإبادة الجماعية بحد ذاته أمر عنصري في جوهره، وهذه العنصرية يعبر عنها باستمرار في الخطاب والسردية السائدة بأشكال قد لا نكون واعين بها دومًا، لأنها باتت مطبعّة ومألوفة إلى حد كبير.

لكن علينا أيضًا أن نفكر بالعنصرية ليس بوصفها مسألة متعلقة بالتعامل الشخصي فحسب، بل كمسألة بنيوية وخطابية. إن تبرير الإبادة الجماعية بحد ذاته أمر عنصري في جوهره، وهذه العنصرية يعبر عنها باستمرار في الخطاب والسردية السائدة بأشكال قد لا نكون واعين بها دومًا، لأنها باتت مطبعّة ومألوفة إلى حد كبير. بالتالي، هناك العنصرية التي يعبر عنها بالعنف اللفظي أو الجسدي، لكن هناك أيضًا العنصرية اليومية التي نراها في التغطيات الإخبارية وفي طريقة كتابة العناوين. بدلًا من أن يقولوا «إسرائيل قتلت طفلًا فلسطينيًا» يقولون أن «قاصرًا فلسطينيًا تعرض للأذى»، أي أن الطفل العربي ليس طفلًا، بل قاصرًا أو شابًا، وهو لا يُقتل بشكل متعمد وإنما عن طريق الخطأ، وقاتله لا يسمّى.

أما التعامل مع هذه العنصرية، فيختلف من شخص لآخر. لكن بصورة عامة، أعتقد أن الناس يتجرأون أكثر على مواجهتها، ولا يتراجعون. هناك دومًا توجس لدى العرب والمسلمين الأمريكيين من الظهور العلني لما يلحق به من مخاطر، والبعض ما زالوا يتجنبون ذلك لأنهم لا يريدون أن يفقدوا وظيفتهم أو أن يتعرضوا للأذى. لكن بشكل عام، أعتقد أن الناس باتوا أكثر تحديًا ويرفضون أن يتم إسكاتهم، وهذا أمر رائع. 

بناء على ما قلته حول الانتخابات، وفقدان البعض القناعة بأن عليهم التصويت من أجل التصويت، أو أن الانتخابات هي السبيل الوحيد للمشاركة السياسية، هل تعتقد أن هذه الحرب والمعارضة التي خلقتها يمكن أن تدفع نحو البحث عن مساحات جديدة لممارسة السياسة؟ وهل يمكن لذلك أن يؤثر في بنى السلطة المؤسسية في الولايات المتحدة؟

آمل ذلك بحق. يجب أن يدفع ذلك باتجاه شيء مختلف. يمكن أن أحاجج بأن الشكل المعتاد لممارسة السياسة في الغرب بشكل عام وفي الولايات المتحدة تحديدًا هو بالضبط ما قادنا إلى هذه اللحظة، بمعنى أن هذا الشكل لم يخلق أي شيء قادر على منع الولايات المتحدة ووكيلتها المسعورة من شن حملة هوجاء لإبادة الأبرياء. 

هناك كليشيه سائد في الولايات المتحدة بأن علينا أن «نحاسب السياسيين». كثير من المتشائمين، وأنا من بينهم، لطالما قالوا إن هذه الجملة أكثر الشعارات هراءً في الحياة السياسية الأمريكية. كيف يمكن أن نحاسبهم؟ بأي آلية؟ ما الذي ستفعلونه على أرض الواقع؟ لا توجد محاسبة. نحن نصرخ ونتظاهر وهم لا يصغون لأنهم ليسوا مضطرين للإصغاء. علينا أن ندرك ذلك، وأن نفكر بشكل مختلف بشأن المشاركة السياسية والتنظيم السياسي.

أكبر حركة سياسية يسارية شهدتها في حياتي كبالغ كانت حملة بيرني ساندرز الانتخابية من عام 2015 وحتى 2020. وقد جمعت الكثيرين، من الليبراليين وحتى الشيوعيين؛ الطيف اليساري برمته على اختلافاته. صبّ الكثيرون، خاصة الشباب، طاقتهم ووقتهم من أجل هذا الدجّال العجوز، لينتهي به الأمر بدعم الإبادة بملء الصوت. هناك درس ينبغي أن نتعلمه من هذه الحالة، وهو أنه حين يقدم شخص نفسه كصهيوني ناعم أو صهيوني ليبرالي، فهذا ما يعنيه: حين تصبح الأمور جدية، سترجح كفة ولائه للكيان الصهيوني في النهاية مقابل إنسانية الفلسطينيين. 

لا ينبغي التسامح مع هذه الأشكال من الصهيونية الناعمة لأنها ستتصرف دومًا بهذا الشكل حين توضع على المحك. ولا ينبغي أن تصب كل طاقتك من أجل انتخاب شخص ما رئيسًا، لأنه حين تجهض مؤسسات الدولة هذه الحركة، فما الذي سيتبقى؟ سيتبقى لديك عجوز ثرثار يدعم الإبادة الجماعية. لذلك، أعتقد أن هذه فرصة لدفع الناس للتفكير بشكل مختلف بما تعنيه الديمقراطية، وبمدى القوة التي نملكها في مواجهة الدولة. إنها فرصة لإدراك أنه لا يمكن للتصويت أن يخرجنا من الإمبريالية. 

أما بخصوص أي قوة يمكن أن نخلقها، فلا أعرف حقيقة. سيتطلب الأمر الكثير من التفكير. لكن هذا التفكير يجب أن يكون أشد جدية وأقل ثقة بأن الولايات المتحدة تتصرف في صالح العالم. يجب أن يسقط هذا الافتراض. وغزة تقدم دليلًا واضحًا على أن الولايات المتحدة لن تتصرف في صالح العالم، مهما حاولتَ الضغط عليها. وقد بدأنا نشهد بالفعل تغيرًا في التفكير بهذا الاتجاه.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية