من النقص إلى الفائض: كيف نعالج التوسع غير المدروس في قطاع الطاقة؟

تصميم محمد شحادة.

من النقص إلى الفائض: كيف نعالج التوسع غير المدروس في قطاع الطاقة؟

الخميس 13 تموز 2023

هذا المقال هو الجزء الرابع والأخير من ملف «تنويع المصادر وأزمة الطاقة الكهربائية في الأردن»، يمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا.

كمحصلة للإشكالات في تنظيم قطاع الطاقة في الأردن ودخول مشاريع مختلفة لتوليد الكهرباء دون دراسة كافية، يكثر الحديث عن تضخم قطاع التوليد بما يفوق حاجتنا وعن التكاليف التي يعكسها، وهو ما تكرر مرارًا في لجان الطاقة النيابية، بدعوتها لضرورة مراجعة اتفاقيّات التوليد كون الدولة تتحمل تكاليف «طاقة زائدة لا نستهلكها»، ليثير ذلك تساؤلات إن كان هذا التوسع سببًا أساسيًّا في مشكلة خسائر الدولة في قطاع الطاقة.

توضع خطط التوسع في المشاريع التوليدية على ضوء دراسات فنيّة تقوم بها شركة الكهرباء الوطنيّة، لضمان استمرار التوازي بين نمو التوليد مع نمو الطلب على الطاقة، وذلك بتوفير قدرات كهربائيّة كافية تلبي الاحتياجات، مع ضرورة وجود احتياطي في القدرات التوليديّة (وهو ما أصبح يتعارف عليه بالفائض) بحيث يضمن توفير الكهرباء في حالات ارتفاع الطلب الكبير على الطاقة أو في الطوارئ، تفاديا لأيّ أزمة انقطاع في التيار. وبحسب وزارة الطاقة، فإنّ فائض استطاعات الطاقة الضروريّ هو ما بين 10% و15%، لكن حين مقارنة الحمل الأعلى (ذروة الطلب على الطاقة) مع القدرات التوليدية في السنوات العشر الأخيرة، نجد أنّ الفائض في أغلب السنوات قد تجاوز هذه النسبة بكثير، ليصل إلى 46% في عام 2014 مثلًا، ومع دخول مشاريع الطاقة المتجددة فإن هذه النسبة أصبحت في ازدياد ملحوظ، يتوقّع زيادته مع دخول مشروع العطارات.

الاتفاقيّات طويلة الأمد التي توقّعها الحكومة مع شركات التوليد هي تعاقدات «خذ أو ادفع»، أي أّنّ الشركة الوطنية ملزمة بدفع الحد الأدنى من كلف وحدات التوليد، وهي ما تسمى بكلفة الاستطاعة التوليديّة (Capacity charge) في حال تشغيل المحطات أو توقّفها. وبالنظر إلى أن تكلفة الاستطاعة تشكّل ما يقارب 38% من تكلفة توليد الكيلوواط من الطاقة، فإنّ وجود استطاعات تفوق الحاجة بشكل كبير تمثل تكلفة كبيرة غير مستغلّة. وإضافة لذلك، تأتي تكلفة الاستثمار في الشبكة التي تقوم بها شركة الكهرباء الوطنية لاستيعاب هذه المشاريع.

لتجاوز أزمة الفائض، روّجت الحكومات رؤية جديدة في القطاع مفادها تحول الأردنّ إلى مركز لتصدير الكهرباء في الإقليم، والخوض في تفاوضات ومشاريع للربط الكهربائيّ، أهمّها الربط مع لبنان والعراق، رغم ما يحفّ هذه المشاريع من إشكالات فنيّة وحالة من عدم التيقّن. كما توجّهت لتخفيض التعرفة الكهربائيّة وإلغاء تعرفة الحمل الأقصى عن القطاع الصناعي لتشجيعه على زيادة استهلاكه من الطاقة.

المطالبات المتصاعدة بمراجعة اتفاقيّات الطاقة، دفعت الدولة للدخول في عدة قضايا تحكيمية لإعادة النظر في سعر الشراء من بعض المشاريع التوليدية، رغم علم مسبق بضعف موقفها ضد المستثمرين، فتوقيع اتفاقيات التوليد في الأردن كان نتيجة فوز شركات استثمارية بعطاءات تنافسية دولية طرحتها الحكومات، كانت قد حدّدت حجمها ونوعها حسب الحاجة التي درسها مركز المراقبة والتحكم في شركة الكهرباء الوطنية، آخذين بالاعتبار جاهزية الوحدات للعمل وكفاءتها التشغيلية وكلفتها الاقتصادية خلال تلك الفترة.

أمّا الأسباب التي أدّت لمشكلة الفائض في الاستطاعات، فكانت أوّلها عدم الدقّة في نسب نموّ الطلب على الكهرباء، والتي تواجه الشركة الوطنيّة الكثير من الانتقادات بما يخصّ طريقة احتسابها واعتمادها، حيث جاءت دون المتوقّع في السنوات الماضية. فبحسب استراتيجيّة الطاقة 2007-2020 كانت توقّعات النموّ على الطلب في السيناريو الأقّل نموًّا نحو 6%، بينما لم تتجاوز في المعدل 2% في السنوات الخمس الأخيرة. قد يكون احتساب النموّ بهذا التسارع جاء في سنوات شهد فيها الاقتصاد الأردني نموًّا متسارعًا نسبيًّا، ورغم وجود مؤشرات على تباطؤ النموّ في سنوات لاحقة، إلّا أنّ الحكومة أصرّت على الخوض في مشاريع توليدية جديدة بأحجام كبيرة.

أمّا السبب الثاني فهو فشل الاستراتيجيّات الحكوميّة في تخفيض الحمل الأقصى أو تسطيح منحنى الأحمال (ترحيل الحمل) بحيث تتقلص الحاجة لما يسمى بوحدات الذروة، وهي وحدات توليديّة يتمّ تشغيلها في ساعات قليلة خلال العام في أوقات ذروة الطلب على الكهرباء، والتي عادة ما تكون في ساعات البرودة أو الحرّ الشديدين، وهو ما يعتبر تكلفة اقتصاديّة مرتفعة جدًا. حيث بلغت تكلفة إنشاء وحدتيّ توليد الذروة (مشروعي التوليد الخاص الثالث والرابع) 100 مليون دينار، دخلتا الخدمة في 2020 لساعات قليلة.[1] كان من الممكن الاستعاضة عن هذه الوحدات بتطبيق استراتيجيّة استبدال العدادات الميكانيكية بالعدادات الذكية، ما سيسمح بإدخال التعرفة المتغيّرة، التي تنعكس على استهلاك المشتركين بتوزيع أحمالهم بشكل أفضل خلال أوقات النهار والليل، وينعكس على إعادة توزيع الحمل الكهربائي، وتحسين إدارة الشبكات، وتقليل نسبة الفواقد الكهربائية. فاستراتيجيّة الحكومة كانت تضع هدف استبدال جميع عدّادات المملكة لعدادات ذكية بحلول عام 2022، إلّا أنّ الاستبدال لم يتجاوز الـ30% في أحسن تقدير. هذا بالتوازي مع أنّ استراتيجيّات توفير الطاقة التي تعمل على خفض الأحمال، كاستبدال السخانات الكهربائية بالشمسية وأنظمة التوفير، لا تزال ضعيفة في تطبيقها على المستوى الوطنيّ. وفي هذا الصدد، يذكر أنّ خطة صندوق النقد الأخيرة تقتضي بتغيير التعرفة الكهربائيّة إلى نموذج التعرفة المتغيّرة حسب الأوقات، إلّا أنّ الفارق كبير بين تطبيقها في إطار استراتيجيّ وطنيّ يهدف لتنظيم الطلب على الطاقة وترشيده، يراعي التبعات الاقتصاديّة والاجتماعيّة خلال عمليّة التحوّل، وبين ما يرمي إليه الصندوق بزيادة التحصيل المالي للشركة الوطنيّة من خلال تغيير أسعار الطاقة بما يراه مناسبًا.

من جانب آخر، يمكن تخفيض كلف التوليد من خلال بدائل يمكن لها خفض الحاجة لمشاريع توليدية جديدة وكبيرة مكلفة، كتخفيض الاعتماد الكلّي على الاستطاعات التوليدية المحليّة المستخدمة كنسب احتياطيّة للحالات الطارئة، بأخرى معتمدة بشكل أكبر على الربط الكهربائي كمصدر من مصادر توفير احتياجات النظام عند اللزوم، خاصة وأنّ مشاريع الربط الأردنيّ مع الشبكات الأخرى (الجانب المصريّ بالتحديد) بتطور متسارع ومستمر. كما أنّ إعادة النظر في منهجية إقصاء الطاقة المتجددة من ضمن حسابات الاستطاعات التوليدية اللازمة لخدمة الحمل الأقصى وعدم اعتبار 30% من مشاريع الطاقة المتجددة من ضمن استطاعة النظام -بسبب تذبذب الكميات المنتجة من محطات الطاقة المتجددة وانخفاض جهوزيتها مقارنة بالطاقة التقليدية- ستظل عبئًا اقتصاديًا ما لم تضف لنسب الاحتياطي التوليدية. ويمكن تجاوز مشكلة التذبذب في كميات الطاقة المتجددة بدراسة بناء محطات هجينة تدمج العمل بين الطاقة شمسيّة والغاز، للتوفير في كميات الوقود المستهلكة.

يبقى إيجاد سوق عربيّ وإقليميّ مشترك للطاقة واحدًا من أهمّ مشاريع المنطقة، التي من شأنها المساهمة بشكل فاعل في حلّ أزمات الطاقة، ليس حصرًا في الأردن، بل على مستوى الإقليم كاملًا.

إن الحلول والمقترحات لأزمة الطاقة في الأردن يجب أن تكون واقعية وقابلة للتنفيذ، بحيث يتسنى للقوى الشعبية والمدنية والنقابية الدفع باتجاه تطبيقها، وتشكيل سياسات وطنية جديدة ومتوازنة تضع السيادة الطاقية في مقدمة أولوياتها. فرغم التعاقدات المجحفة التي انخرطت فيها الحكومات الأردنية ولن تستطيع الإفلات من تبعاتها لشروطها الجزائية العالية، يمكن البدء ببناء تدريجي لقدرات القطاع بعيدًا عن أي تبعيّة اقتصاديّة وسياسيّة، بحيث يمكن له النمو والتوسّع محليًّا، بما يقلل الحاجة إلى المشاريع الضخمة الممولة من القطاع الخاص والاستثمار الخارجيّ من جهة، ويقلل تكاليف استيراد الطاقة من جهة أخرى. سوف ينعكس هذا بشكل إيجابي على الوضع المالي للشركة الوطنيّة بما يخفف حاجتها للصناديق الدوليّة، وذلك لن يكون إلّا بالتوجه بقوّة نحو تبنّي مصادر الطاقة المتجددة، لكن بوضعها هذه المرّة في إطارها الصحيح، لتكون منفعة عامّة بدلا من سلعة تجاريّة.

بذلك، فإن وضع استراتيجيّة وطنيّة مستقبليّة، توجّه لتخصيص الحصص الجديدة من خليط الطاقة لأجل بناء قدرات في الطاقة المتجددة، يعد اللبنة الأولى في هذا المسار، وهو باستغلال هذه القدرات في أنظمة التوليد الذاتية اللامركزيّة (أي بقدرات صغيرة محدودة)، وإتاحتها للأفراد والمؤسسات والمشاريع الصغيرة، بشكل أكثر عدالة بين القطاعات المختلفة، لتلبية احتياجاتهم من الطاقة بشكل مباشر، ولخفض الحاجة للطلب على الشبكات الكهربائيّة. سيتولّد عن هذا تحسينٌ للأوضاع المعيشيّة على مستوى الأفراد بخفض فاتورة الطاقة، وتقليص تكاليف الدولة بإزاحة الحاجة للاستثمار في التوليد المركزي الكبير، أو البنى التحتية التعزيزية الكبيرة للشبكات، إضافة لخفض لقيمة الدعم المقدّم للفئات المستفيدة من هذه الأنظمة. لذلك، تعدّ الأنظمة اللامركزية واحدة من أهمّ الوسائل التنمويّة التي يمكن نشرها وتعزيزها على النطاق الوطنيّ بفاعلية، وسبيلًا لتقليص دور الشركات الكبرى في القطاع. لكن نشر هذه الأنظمة بقوّة يبقى بحاجة لتفعيل دور الصناديق والمؤسسات التمويلية العامّة في الدولة والتشبيك فيما بينها، لخلق أدوات ونوافذ تمويل منخفضة التكاليف يمكن الوصول لها بيسر، مثل بنك تنمية المدن والقرى ومؤسسة الإقراض الزراعي ومشروع كهربة الريف وصندوق تشجيع الطاقة المتجددة، لتصبح هذه المؤسسات هي الممول الأوسع لأنظمة الطاقة المتجددة المخصّصة للمشاريع التنموية والأفراد، وتتوجه للشراكة مع القطاع الهندسي والتجاري والخبرات المحليّة في إنشاء هذه الأنظمة.

أمّا بالنسبة للتّخمة التي أصابت قطاع الطاقة باستجلاب مصادر توليد فائضة عن حاجته، ما تسبب في ارتفاع تكاليف إنتاج الطاقة، والضغط على نمو قطاع الطاقة المتجددة، فالحل في حفز الطلب على الكهرباء بتشبيك القطاعات والوزارات الوطنيّة لكهربة أنشطتها، ككهربة قطاع النقل الذي يستهلك وحده ما يقرب من 49% من الطاقة الأوليّة المستوردة للأردنّ، وإدخال مشاريع جديدة كتحلية مياه البحر، ليعاد استغلال الاستطاعات التوليدية بالطاقة القصوى ويفتح المجال لمشاريع جديدة في الطاقة المتجددة، لينعكس على تخفيض فاتورة الطاقة للدولة، وتعزيز استغلال المصادر المحليّة، وحفز جميع القطاعات اقتصاديًّا وتقليل تكاليفها.

في هذا الصدد، يتوجبّ ذكر خطورة الاتفاقيّة الأخيرة بين الأردن و«إسرائيّل» برعاية إماراتيّة، والتي تسعى لوضع خط مشترك لتبادل 200 مليون متر مكعب سنويّا من المياه الإسرائيليّة، مقابل الكهرباء المنتجة من محطة للطاقة الشمسية بقدرة 200 ميغاواط يصدّرها الأردن، والتي من شأنها جرّ الأردن لارتهانات خطيرة بوضع الكيان يده على قطاع المياه، بعد أن اقتحم قطاع الطاقة الأردنيّ باتفاقيّة الغاز الإسرائيلي. وعليه يجب الضغط لإلغاء هذه الاتفاقيّة، والسعي لتحقيق تكامليّة محليّة بين قطاعي الطاقة والمياه، باستخدام التكنولوجيا الطاقة المتجددة الحديثة لتحلية المياه، وإعادة هيكلة شبكات المياه بما يسمح لها تقليص الفاقد من الطاقة والمياه، وهو ما يسمح بتعزيز دور الطاقة النظيفة في الأردن وتوفير احتياجاته من المياه مستقبلًا.

أخيرًا، يبقى إيجاد سوق عربيّ وإقليميّ مشترك للطاقة واحدًا من أهمّ مشاريع المنطقة، التي من شأنها المساهمة بشكل فاعل في حلّ أزمات الطاقة، ليس حصرًا في الأردن، بل على مستوى الإقليم كاملًا. فمحليًّا، من شأنه الدفع باتجاه تعزيز مشاريع الربط الكهربائي الحاليّة مع مصر وفلسطين والعراق، وإنشاء مشاريع ربط جديدة ومتوسعة تربط المنطقة بشكل إقليميّ على المستوى العربي، أن يعزز استقرار الأنظمة الكهربائية، ليقلل بذلك المشاكل الفنيّة ويزيد من استيعاب الشبكات للطاقة المتجددة، ومن جهة أخرى يحقق منفعة اقتصاديّة كبيرة باستغلال جميع الاستطاعات المتعاقد عليها في التوليد، لإنتاج أكبر قدر من الطاقة وبيعها لدول الجوار التي يعاني بعضها نقصًا كبيرًا في إمدادات الطاقة، بما يحقق المنفعة المشتركة.

  • الهوامش

    [1] الاقتصاد السياسي الأردني بناء في رحم الأزمات، جعفر حسان، الآن – ناشرون وموزعون، عمّان 2020.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية