الحرب على غزة: هل دخلت الجبهة العراقية مرحلة جديدة؟

الخميس 01 شباط 2024

أشعلت مجزرة المستشفى المعمداني في 17 تشرين الأول الماضي شرارة استهداف المقاومة الإسلامية في العراق للقواعد العسكرية الأمريكية في المدن العراقية والسورية، عبر الصواريخ والطائرات المسيّرة ردًا على دعم واشنطن لتل أبيب في الحرب على غزة. وصل عدد هذه العمليات خلال مائة يوم من الحرب 180 عملية، كان أبرزها هجوم نُفذ قبل أيام بطائرة مسيرة على قاعدة «البرج 22» الأمريكية على الحدود الأردنية السورية، أسفر عن مقتل ثلاثة جنود أمريكيين وإصابة 40 آخرين. جاء هذا الهجوم كجزء من استهداف طال ثلاثة قواعد أمريكية في سوريا، هي الشدادي والركبان والتنف، وهدفًا إسرائيليا هو منشأة زفولون البحرية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.

لم تكن هذه المرة الأولى التي تضرب فيها قاعدة التنف، حيث سبق أن تعرضت في الرابع من كانون الثاني لهجوم بمُسيرتين مجهولتي المصدر، تمكنت القوات الأمريكية من إسقاطهما قبل وصولهما للقاعدة. لكن الضربة الأخيرة وصفت بكونها «الأولى من نوعها» و«تصعيدًا كبيرًا للوضع في الشرق الأوسط». حمّل الرئيس الأمريكي جو بايدن في تجمع انتخابي مسؤولية الهجوم «لجماعات مسلحة تنشط في سوريا والعراق مدعومة إيرانيًا»، متوعدًا بمحاسبة المسؤولين عن الهجوم بالوقت والطريقة التي تختارها الولايات المتحدة. وبحسب مسؤولين أمريكيين فإن واشنطن لا تريد حربًا مع طهران، ولذلك فإن الرد على إيران قد يستمر لبعض الوقت ويأخذ مستويات ومراحل متعددة، تشمل ضرب الأساطيل البحرية الإيرانية في الخليج أو استهداف قادة إيرانيين في سوريا أو العراق حيث حصلت اغتيالات واستهدافات أمريكية نوعية مؤخرًا.

في سياق ذلك، أعلن الأمين العام لكتائب حزب الله العراقي، أبو حسين الحميداوي، تعليق العمليات العسكرية والأمنية ضد الولايات المتحدة دفعًا لإحراج الحكومة العراقية. مؤكدًا التزام الحزب بالدفاع عن غزة «بطرق أخرى» والجاهزية للدفاع أو استئناف الهجمات «إن حصل أي عمل أميركي عدائي تجاههم»، في حين علّقت وزارة الدفاع الأميركية على البيان قائلة «إن الأفعال أبلغ من الأقوال».

ماذا يحصل على الجبهة العراقية؟

تفاعل العراق مع أحداث طوفان الأقصى منذ اندلاعها عبر الجهود الدبلوماسية والاحتجاجات الشعبية والمشاركة العسكرية، إلا أن المستويات الرسمية والشعبية والفصائلية شهدت تفاوتًا ملموسًا. منذ البداية، اعتبرت الحكومة العراقية أن عملية طوفان الأقصى «هي نتيجة طبيعية للقمع الممنهج الذي يتعرض له الفلسطينيون منذ عهود مضت على يد سلطة الاحتلال الصهيوني، التي لم تلتزم يومًا بالقرارات الدولية والأممية»، وأدانت المجازر التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي والترحيل الذي يتعرض له الفلسطينيون في غزة محذرةّ من «اندلاع صراع إقليمي إذا استؤنفت الحرب». 

في الوقت نفسه، حاولت الحكومة النأي بنفسها عن المشاركة المباشرة؛ وقد وصف رئيس الوزراء العراقي محمد السوداني استهداف السفارة الأمريكية في بغداد أوائل تشرين ثاني الماضي «بالعمل الإرهابي»، قائلًا في مناسبة أخرى إن «الحكومة هي من تقرر موقف العراق من أي حدث أو ظرف إقليمي، وهي المسؤولة عن اتخاذ القرارات الكبيرة، وفقًا للدستور، وانطلاقًا من المصلحة العليا للعراقيين». حاول السوداني احتواء أو وقف التصعيد الذي تشنه الفصائل المسلحة ضد القواعد الأمريكية لما له من «أثر خطير على استقرار حكومته والدعم الأميركي لها»، خصوصًا وأن هذا التصعيد يمكن تفسيره على أنه هجمات من قبل أفراد من القوات المسلحة العراقية أو «الإطار التنسيقي» وهو تجمع برلماني غير رسمي لأحزاب عراقية تشكّل الحكومة، وتنضوي تحته بعض الفصائل المسلحة.

تضم «المقاومة الإسلامية في العراق» بشكل رئيسي كتائب حزب الله العراقي، وكتائب سيد الشهداء، وحركة النجباء، وأنصار الله الأوفياء. تأسست بعض الفصائل المسلحة بعد الغزو الأمريكي للعراق وكان لها دور في مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بوصفها جزءًا من قوات الحشد الشعبي التي تأتمر بإمرة القائد العام للقوات المسلحة. يقول الباحث العراقي المتخصص في شؤون الحركات والجماعات الإسلامية، عبدالله الطائي، إن بعض الفصائل العراقية المحسوبة على راية المقاومة الإسلامية لم تنخرط بالهجوم العسكري، مثل منظمة بدر وعصائب أهل الحق اللتين اكتفتا بالدور الإعلامي والجماهيري. مضيفًا أن بعض الفصائل غير المنخرطة في العمليات العسكرية تشكل جزءًا من التحالف الرسمي الحاكم وترغب بالحفاظ على مكتسباتها السياسية التي حققتها من الحكومة الحالية وانتخابات مجالس المحافظات، والمصالح الاقتصادية بعد ارتفاع أسعار النفط وأزمة الدولار وسلسلة العقوبات الأمريكية عليها.

قبل ثلاثة أشهر من اندلاع طوفان الأقصى، نجح السوداني في إبرام هدنة بين الأمريكيين وبعض فصائل المقاومة الإسلامية لوقف أي هجمات بين الطرفين، على أن تتعهد الولايات المتحدة بعدم اغتيال قيادات الفصائل وتتولى الحكومة العراقية حصرًا البت في مصير القوات الأميركية ومهامها. غير أن المقاومة الإسلامية في العراق استأنفت استهدافها للمصالح الأمريكية بهجوم لطائرتين بدون طيار على «قاعدة عين الأسد الجوية» غرب العراق في 17 تشرين الأول الماضي، تلاهما هجوم مسيّرة على «قاعدة حرير الجوية» في كردستان العراق في اليوم نفسه.

أسفرت هجمات المقاومة الإسلامية على الأهداف الأمريكية والإسرائيلية عن إصابة ما لا يقل عن 110 أمريكيًا، ومقتل أربعة، من خلال عمليات وصل عددها خلال مائة يوم من الحرب 180 عملية.

تلقت عين الأسد وحدها 41 ضربة من أصل 180 ضربة توزعت ما بين القواعد الأمريكية في سوريا والعراق وأهداف إسرائيلية بحرية في الأراضي المحتلة. تعتبر عين الأسد إحدى أكبر القواعد التي تتمركز فيها القوات الأمريكية بعد احتلال العراق عام 2003 رغم تسليمها للجانب العراقي عام 2011. تضم القاعدة عنابر تخزين الطائرات المقاتلة ومدرجين لهبوط وإقلاع الطائرات ومستشفى ومخازن أسلحة وذخيرة وتأوي حاليًا حوالي ألفي جندي. في الثامن من يناير عام 2020، قصفَ الحرس الثوري الإيراني القاعدةَ بصواريخ بالستية أسفرت عن أضرار مادية وإصابات طفيفة، ردّاَ على اغتيال اللواء قاسم سليماني قائد فيلق القدس. 

يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، طارق الزبيدي، إن الفصائل العراقية المسلحة لطالما اعتبرت القواعد الأمريكية أهدافًا مشروعة، رغم أن الحضور الأمريكي في العراق يأتي ضمن المهام الاستشارية التي تؤديها كجزء من التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية، لكن هذه القوات تورطت في أدوار قتالية ضد ثكنات قوات الحشد الشعبي العراقية، الأمر الذي خلق أزمة أخرى بين الحكومة والفصائل والقوات. ورغم أن عمليات المقاومة انطلقت بدافع وقف العدوان على غزة، بدليل التهدئة التي رافقت الهدنة المؤقتة بين حماس و«إسرائيل»، إلا أنها بغض النظر عن الحرب تظل ملتزمة بإزالة الوجود الأمريكي من العراق. 

بالإضافة إلى استهداف المقاومة الإسلامية في العراق قواعد أمريكية في إقليم كردستان وسوريا عشرات المرات، استهدفت كذلك أهدافًا في المدن والموانئ الإسرائيلية؛ حيفا وأسدود وإيلات. نُفذت أول عملية في الأراضي المحتلة بقصف هدف في إيلات (أم الرشراش) مطلع تشرين الثاني الماضي فيما وصف بأنه «مرحلة جديدة لنصرة فلسطين». يقول المحلل السياسي صباح العكيلي إن الأهداف البحرية للمقاومة العراقية وإن كانت لا تملك آثارًا واسعة مثل تلك التي تحققها حركة أنصار الله في البحر الأحمر لما يتيحه موقع اليمن الجغرافي على باب المندب من مساحة ضغط، إلا أنها تأتي كجزء من تحركات متناغمة لمحور المقاومة تساند بعضها البعض وتعبّر عن وحدة الساحات.

إلى جانب الصواريخ الجوالة (الكروز)، استخدمت الفصائل المسلحة في عملياتها العسكرية الطائرات المسيّرة ذات الرؤوس الحربية المتفجرة والأجنحة الثابتة لمهاجمة القواعد أمريكية ومن بينها العملية الأخيرة في قاعدة التنف. يقول المحلل العسكري الأمريكي مايكل نايتس إن إيران قدمت هذه الطائرات حصرًا للوحدات التي تقودها كتائب حزب الله العراقي، وظهرت في عرض عسكري قامت به قوات الحشد الشعبي عام 2021.

في المحصلة، أسفرت هجمات المقاومة الإسلامية على الأهداف الأمريكية والإسرائيلية عن إصابة ما لا يقل عن 110 أمريكيًا، ومقتل أربعة؛ ثلاثة في البرج 22، بالإضافة لمقاول أمريكي مات إثر نوبة قلبية ناجمة عن ضربات جوية في تشرين الأول. يُذكر أن البرج 22 يعمل كمركز لوجستي للوحدات العسكرية الأمريكية في سوريا ويتمركز فيه حوالي 350 جنديًا، ويقع بالقرب من قاعدة التنف التي نفذت مهامًا ضد تنظيم الدولة الإسلامية وأهداف إيرانية شرقي سوريا، وشكلت أيضًا -بحسب وزارة الدفاع الأمريكية- جزءًا من شبكة الدفاع الأردنية. 

الوجود الأمريكي في دائرة الاستهداف

يقول الطائي إن الأمريكيين حرصوا على تجنب التصعيد إلى حرب شاملة في حدود ردّهم على استهداف قواعدهم في المنطقة، وحاولوا في الوقت نفسه تنفيذ عمليات دقيقة لردع الفصائل العراقية المسلحة، وبالتحديد كتائب حزب الله العراقي وحركة النجباء اللتان شاركتا بزخم في الهجمات السابقة. قتل الجيش الأميركي في أواخر تشرين الثاني الماضي ثمانية أشخاص جراء غارات على مواقع لقوات الحشد الشعبي جنوب غربي بغداد، فيما اعتبر أول رد معلن على عمليات المقاومة العسكرية. كما استهدفت غارة أمريكية مطلع كانون الثاني الجاري القائد في حركة النجباء المعروف باسم أبو تقوى السعيدي ومساعده أبو سجاد، بعد ضرب سيارتهم أثناء دخول مقر الدعم اللوجستي للحركة في بغداد. 

فشلت الضربات الأمريكية في ردع الفصائل عن تنفيذ عمليتهم في قاعدة البرج 22، والتي قوبلت بغضب شديد من الأوساط الأمريكية التي دعت «للانتقام العسكري» و«ضرب الأراضي الإيرانية» وهاجمت إدارة بايدن بأنها «تسمح للأعداء بمهاجمة القوات الأمريكية دون عقاب»، رغم أن المسؤولين الأمريكيين اعتادوا وصف هذه الهجمات بالفشل لأنها لا تتسبب بإصابات خطيرة أو أضرار في البنية التحتية. أدانت الحكومة العراقية انتهاك سيادة العراق بالضربات الأمريكية داخل حدودها، وأدانت في الوقت نفسه استهداف التنف، وتكثّفت جهودها لإرساء هدنة جديدة بين الطرفين، وصلت حد تهديد السوداني بالاستقالة إن لم توقف المقاومة عملياتها وتفسح المجال للحكومة في قيادة مفاوضات تفضي إلى انسحاب قوات التحالف الدولي، بما فيها القوات الأمريكية، من العراق. 

حرص الأمريكيون على تجنب التصعيد إلى حرب شاملة في حدود ردّهم على استهداف قواعدهم في المنطقة، وحاولوا في الوقت نفسه تنفيذ عمليات دقيقة لردع الفصائل العراقية المسلحة.

في أعقاب ذلك، أعلنت كتائب حزب الله العراقي تعليق العمليات العسكرية والأمنية ضد القوات الأمريكية «دفعًا لإحراج الحكومة العراقية». يقول العكيلي إن قرار الكتائب مرحلي ومرهون بنتيجة جولات التفاوض حول انسحاب الولايات المتحدة من العراق والتي إن تعرقلت قد تقود لاستئناف الضربات بشكل أقوى، كما أنه لا ينسحب على الأهداف الإسرائيلية، التي قصفت المقاومة الإسلامية إحداها صباح اليوم مستهدفة ميناء حيفا، «العراق اليوم لا يحتاج للقوات الأمريكية بعد أن أصبحت محاربة داعش مشكلة أمنية أكثر من كونها عسكرية، لكن أمريكا تحاول التفاوض بطعم الانتصار وليس الهزيمة عبر السعي لتغيير شكل وجودها من تفكيك التحالف الدولي إلى محاولة تحقيق تحالف ثنائي بدلًا من إجلاء قواتها بالكامل»، بحسب قوله.

أحيت الحرب على غزة وهجمات المقاومة ملف الانسحاب الأمريكي من العراق وأطلقت جولات تفاوض بين الطرفين أدت للاتفاق على صياغة جدول زمني يحدد مدة وجود مستشاري التحالف الدولي في العراق ولإنهاء المهمة العسكرية للتحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية، لكن الزبيدي لا يرى أن مشهد خروج القوات الأمريكية من أفغانستان سيتكرر في العراق نظرًا للحرص الأمريكي على التواجد بالعراق ولو كان ضمن إطار محدود دعمًا لمصالحها الأمنية المرتبطة باستقرار «إسرائيل» ومحاربة محور المقاومة. مضيفًا أن للولايات المتحدة عدة أوراق ضغط في الساحة العراقية أبرزها الملف الإقتصادي؛ إذ تفرض واشنطن قيودًا على حركة الاقتصاد العراقي من خلال ربطه بها وإبعاده عن التأثير الإيراني عبر تقييد البنك المركزي العراقي من الوصول إلى احتياطاته من العملات الأجنبية، خصوصا الدولار، المحتفظ بها لدى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي منذ غزو العراق عام 2003. ولذلك، يعتقد الزبيدي أن الحكومة العراقية تحاول الوصول لصيغة تفاهمية دبلوماسية مع الولايات المتحدة لأن إخراجها بالقوة أو إلغاء حضورها بالكامل قد يمكّن واشنطن من ممارسة الضغط الاقتصادي أو بث تهديدات أمنية تتمثل في مساندة التنظيمات الإرهابية أو دعم بعض المكونات السياسية لشق الصف الوطني».

يأتي قرار إدارة بايدن في الرد على استهداف التنف في توقيت مفصلي يخوض فيه حملة انتخابية للفوز بولاية رئاسية جديدة، حيث تشير التقديرات الأمريكية أنه سيضرب المصالح الإيرانية في المنطقة، وإن كانت ضغوطات الحزب الجمهوري تطالب بضرب إيران داخل أراضيها. يقول العكيلي إن الولايات المتحدة إن أرادت فعلًا وقف التصعيد حيال ضربات المقاومة الإسلامية في العراق، عليها الضغط على «إسرائيل» لوقف إطلاق النار أو التوصل لهدنة مؤقتة على الأقل، لأن تطورات الحرب في غزة هي التي تحكم أي تصعيد قادم مرتبط بتوسع الجبهات، ولأن نفوذ محور المقاومة أثبت أنه يمتد إلى ما هو أبعد من الأراضي الفلسطينية ليشمل إيران، والعراق، ولبنان، وسوريا، واليمن، حيث تمتلك كل ساحة استقلالية قرارها لكنها تشترك جميعًا بالعداء للاحتلالين الأمريكي والإسرائيلي.


ساهم الزميل فقار فاضل في إعداد هذا التقرير.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية