اليوم التالي لطوفان الأقصى: أين تقف السلطة من المعركة؟

الإثنين 23 تشرين الأول 2023
اشتباكات مع قوات الاحتلال في مدينة الخليل في 18 تشرين الأول الجاري. تصوير مأمون وزوز. أ ب أ.

ليس الانتحار شيئًا غريبًا على قيادة الحركة «الوطنية» الفلسطينية في الضفة الغربية، فهي تناور في فضاء الانتحار منذ أن دُحرت في عام 1982 من لبنان. إذ دفعت الهزيمة الذاتية والفعلية للحركة الوطنية إلى انهيار مزدوج؛ أولًا، في التحول المادي والبطيء خاصة في مركز ثقل هذه الحركة الوطنية نحو التعاون مع المستعمر، وثانيًا، في صعود موقف رجعي يوظف الاستبداد، ويخلق من الفلسطينيين في الضفة الغربية مجموعة من الجماعات الثقافية والطبقية والدينية والسياسية، بل يسعى إلى هدم كل حراك ونبض حيوي في المجتمع الفلسطيني. وقد أفرز هذا الانهيار أطروحة رجعية أعلنت عن النصر المبهر للاحتلال، بل وأرسَت له أساسًا أيديولوجيًا يتجسد بمقولات على شاكلة الواقعية والسياسية والمناورة في زمن وفضاء العدو، ومحاولات مختلفة لبناء بنية فكرية تُعادي من يقاتل الاحتلال.

قد يظن القارئ أن هذه السلطة ستعتبر «طوفان الأقصى» نقطة تحول، أو على الأقل، فرصة لإعادة التفكير العميق في افتراضاتها الأساسية، خصوصًا تلك الافتراضات التي أصبحت سياسة شاملة بعد الانتفاضة الثانية وعقب رحيل الرئيس ياسر عرفات. وهذا يعني أن الثقة والاعتماد على دولة الاحتلال بدأتا في الانهيار، وأننا نتجه الآن نحو مرحلة جديدة من الصراع السياسي والعسكري. ما تحقق حتى الآن عقب «طوفان الأقصى» هو ثلاثية مهمة: أولًا، إعادة مركزية فلسطين للمنطقة من خلال إظهار أن أي معركة جادة في فلسطين يمكن أن تجر المنطقة كلها إلى الحرب. وثانيًا، أن دولة الاحتلال فقدت توازنها العسكري والسياسي بشكل سريع. وثالثًا أن من يعوّل على دولة الاحتلال لتوفير الردع في المنطقة سيحتاج للتفكير في آليات لدعمها، فحتى الآن تبدو دولة الاحتلال في تحركاتها وسياستها للعالم ولحلفائها على أنها عبء كبير.

ولكن السلطة اختارت الاستمرار بوظيفتها الأمنية ودورها السياسي المرتكز على ما تملكه من إمكانيات الإجهاض، ومن توفير غطاء فلسطيني لتحركات عربية ودولية تدور في فلك إفشال انتقال إنجازات المعركة بمعناها العسكري إلى إنجازات سياسية ملموسة. قد تستطيع السلطة احتواء الضفة الغربية من المشاركة الفاعلة في المعركة أو ربما لن تستطيع، ولكن خطورتها الكبرى تكمن في أنها تقدم نفسها كخيار أمريكي وأوروبي وإسرائيلي متاح لتهشيم أي إنجازات سياسية تخرج من معركة طوفان الأقصى.

تبدو السلطة الفلسطينية وكأنها تراهن على أن يكون لها دور فعّال في الأيام التي تلي الحرب، معتمدة على إمكانية توافر دعم دبلوماسي عربي ودولي يسعى لإعادة تفعيل مفهوم «حل الدولتين»، وذلك كغطاء سياسي لحل أمني في قطاع غزة.

من المهم الإشارة إلى أن هناك تحالفًا ضيقًا يحافظ على السلطة رغم كل ما يحدث، يجمع بين مصالح الطبقات الاجتماعية الرأسمالية التي تلعب دورًا محوريًا في السوق الفلسطيني، وبين نخب سياسية صعدت من خلال الأطُر التنظيمية والأمنية، وشرائح اجتماعية وطبقية متعددة تعتمد على السلطة في وظائفها بما في ذلك استمرار النظام السياسي الحالي في البيروقراطية والأمن والمجتمع المدني. ورغم هذا الائتلاف العريض، إلا أن ما شهدناه في الأعوام الماضية القليلة هو ارتكاز السلطة على قوة العضلات والرهان على الصمت، مع عمل دؤوب إما في إشغال المجتمع الفلسطيني في صراعات ثقافية وهوايتية وعشائرية، أو من خلال التعويل على صمت تلك الشرائح. 

تعاني قيادة السلطة الحالية من ثقل التاريخ، خاصة فشلها في المواجهة العسكرية مع قوات الاحتلال، فزمنها زمن تراجيدي متشبث بقناعات تولدت في خضم الفشل التاريخي للحركة الوطنية الفلسطينية. لقد تمكنت هذه القيادة من تجنب الزوال التاريخي عن طريق بناء بيروقراطية تتلقى تمويلاتها من الدول التي تدعم الاحتلال، مما جعل القرار السياسي لهذه السلطة موجهًا إلى حد كبير بفعل حلفائها ودولة الاحتلال نفسها. عقب الانتفاضة الثانية حولت السلطة الفلسطينية بوصلة العداء من دولة الاحتلال إلى الخصم الداخلي المتمثل بحركة المقاومة الإسلامية (حماس). بعد بداية الحرب كانت تصريحات الحكومات الأوروبية والأمريكية موجِّهًا للسلطة، خاصة في إمكانية وقف التمويل كإشارة ورسالة بألا تفكروا في دخول المعركة. واليوم تراهن السلطة على انتصار دولة الاحتلال، وعلى الدور الذي يمكن لها أن تلعبه في حال تحقق هذا الانتصار. 

ليس غريبًا، مثلًا، أن نجد جزءًا مهما من بيئتها الاجتماعية يقدم للمجتمع الفلسطيني نظرية المؤامرة كأساس لفهم مجريات السابع من أكتوبر. نظريات على شاكلة أن التهاوي العسكري المدوي في غلاف غزة لجيش الاحتلال هو خطة إسرائيلية بالتنسيق مع قوى المقاومة في قطاع غزة تهدف إلى ترحيل سكان قطاع غزة. تشكل نظرية المؤامرة هنا تحديدًا ركيزة مهمة من القدرة على الموازنة بين مصالح مختلفة، وجزءًا من قدرة السلطة على جمع مصالح مختلفة في نفس البنية السياسية، موفرةً لروّادها منطقًا للحدث يشارف على البارانويا. فهي ترفض أساسًا فكرة أن تكون دولة الاحتلال قد تهاوت فعلًا، فهذا يعني أن تهاويها هو بالضرورة تهاوٍ للسلطة وموقفها وقدرتها على الاستمرار بالسيطرة. ولكن الأهم أن هناك مؤامرة تُحاك، هدفها في النهاية ضرب استمرارية التعاون الأمني بين السلطة ودولة الاحتلال، أو ما يُسمى اليوم «المشروع الوطني» في أبجدية البعض. 

نظريات المؤامرة ليست فقط مادة للسخرية أو التجاهل، فهي تشكل اليوم ركنًا أساسيًا من موقف السلطة، مصحوبًا بخلق إشكاليات داخل التظاهرات وإطلاق النار والاعتقال والضرب، في محاولة لاحتواء الحالة في الضفة والحفاظ على وجودها رغم انهيار جيش الاحتلال في السابع من أكتوبر، ورغم استمرار الحرب على قطاع غزة، وبهذا تمنح نظريات المؤامرة السلطة فرصة لتأدية واجبها على مستويين: حماية الفلسطينيين في الضفة الغربية من توغل الجيش والمستوطنين، والعمل الجاد على الالتحام بمعركة مفصلية تاريخية. 

بدأت دولة الاحتلال في تحديد أهدافها السياسية من المعركة الدائرة في قطاع غزة، وهذه الأهداف تشمل القضاء على جبهة غزة العسكرية، والحد من قدرة حركة حماس على حكم غزة أو إنهاء هذا الحكم، بالإضافة إلى بناء نظام أمني جديد فيها. من جانبها، تبدو السلطة الفلسطينية وكأنها تراهن على أن يكون لها دور فعّال في الأيام التي تلي الحرب، معتمدة على إمكانية توافر دعم دبلوماسي عربي ودولي يسعى لإعادة تفعيل مفهوم «حل الدولتين»، وذلك كغطاء سياسي لحل أمني في قطاع غزة، حتى وإن كان هذا «الأفق» السياسي -كما غيره- مؤقتًا وأقرب لعملية «شرعنة» لقطاع يخرج من المعركة ليصبح كما الضفة الغربية؛ سلطة سياسية تمارس التعاون الأمني مع الاحتلال. 

المقاومة ومعضلة ما العمل؟

في السنوات الأخيرة في الضفة الغربية، صعدت العديد من أشكال المقاومة، بما فيها حراكات اجتماعية وسياسية، وعمليات فردية، وتنظيمات عسكرية تمركزت في مناطق دفاع ذاتي في المخيمات والبلدات القديمة. وكان للضفة والقدس مساهمات جادة في استمرار عمليات إطلاق النار على قوات الاحتلال في محيط منطقة نابلس وجنين وطولكرم وغيرها من مناطق الضفة الغربية. بحسب مركز معلومات فلسطين، فهناك أكثر من 300 عملية إطلاق نار منذ السابع من أكتوبر، وأكثر من 40 عملية نوعية تتضمن تفجير عبوات، وعملية الشهيد خالد المحتسب في القدس، ناهيك عن مئات التظاهرات. وكان آخر العمليات صد هجوم عسكري من قبل القوات الخاصة في مخيم نور شمس في طولكرم، أودى بحياة ضابط بوحدات المستعربين وإصابة تسعة آخرين، كما أدى لاستشهاد أكثر من 14 فلسطينيًا. وحتى الآن ارتقى في الضفة الغربية أكثر من 92 شهيدًا. كما تصاعدت أيضًا التظاهرات خاصة بعد قصف الاحتلال الإسرائيلي للمستشفى المعمداني، وحدثت لمواجهات ليلية مع قوات الأمن الفلسطيني وقوات الاحتلال في نقاط التماس اليومية.

تعاني الضفة من العديد من المعضلات في قدرتها على بناء سبل لإيجاد إجابات مقنعة حول العمل المطلوب منها، خاصة وأنها تفتقر لأي تنظيم اجتماعي أو سياسي قادر على استمالة الطبقة الوسطى وتحقيق اختراقات في طرق التنظيم وتحديد شكل ونوع المعركة.

ولكن علينا الانتباه إلى ثلاث قضايا مترابطة في حالة الضفة اليوم. الأولى أن قوات الاحتلال منذ اليوم الأول من المعركة حاولت التقليل والتخفيف من الاحتكاك اليومي بين الفلسطينيين والمستوطنين من خلال إغلاق الحواجز وزيادة التواجد في الطرقات الواصلة بين المدن الفلسطينية. كما أغلقت العديد من مداخل المدن والقرى وأطلقت سراح المستوطنين للقيام بحملات ترويع هدفها منع تجمع الفلسطينيين في أعداد كبرى وخلق حالة من الهلع والشلل. وثانيًا أن شكل المقاومة في الضفة الغربية يتخذ موضعًا دفاعيًا أكثر منه هجوميًا، وأنه في الأساس يقاتل على بقائه واستمراريته. وثالثًا أن السلطة الفلسطينية اتخذت موقفًا صارمًا للحيلولة دون المساهمة الفعلية في معركة غزة، من خلال تسليح المؤامرة والإشاعة ورفد عملها الأمني باختراق التظاهرات وإطلاق النار. 

تعاني الضفة من العديد من المعضلات في قدرتها على بناء سبل لإيجاد إجابات مقنعة حول العمل المطلوب منها، خاصة وأنها تفتقر لأي تنظيم اجتماعي أو سياسي قادر على استمالة الطبقة الوسطى وتحقيق اختراقات في طرق التنظيم وتحديد شكل ونوع المعركة. فعليًا، هناك طبقتان، الأولى طبقة عاملة تتواجد أساسًا في شمال الضفة الغربية وفي مواقع حضرية مكتظة، ابتكرت أدوات جديدة للعمل السياسي، لكنها تفتقر لقيادة سياسية ورمزية يمكن أن تشكل بديلًا للسلطة الحالية ونخبتها الحاكمة. والثانية هي طبقة وسطى كانت، في السنوات الأخيرة، تتجه لحالة أقرب إلى تجاوز السياسة نحو الحياة اليومية التي ترتكز على الاستهلاك وهوايات الاستهلاك والمواقع الحميمية التي تدور في فلك البيت والعائلة والصداقات، أي إلى حياة يمكن تسميتها بـ«ما بعد فلسطين».

تعتمد الطبقة الوسطى بالمقام الأول على القطاع العام الفلسطيني والمجتمع المدني والأكاديمي والتعليمي الكبير، وهي مستثمرة ماديًا في الحفاظ على هذه المساحة التي تجاوزت فلسطين. ويدفع موقفها المتشائم تجاه فلسطين وإمكانية استعادتها إلى التعاطي مع طوفان الأقصى بتشاؤم، معززةً نوعًا من الصمت المرتجف. فهي طبقة لا تمتلك القدرة على تنشيط نفسها أو تحريك ذاتها لمواجهة التحديات المعقدة التي تفرضها المرحلة الراهنة. وتاريخيًا، كان نشوء قيادة سياسية جديدة يتزامن مع الانقطاع في قوة وسيطرة النخب القديمة. لهذا، عادةً ما تطرح هذه الطبقة في الضفة الغربية سؤال ما العمل، لتجيب على السؤال: «لا يمكن عمل شيء». والضفة فعلًا معلقة بين ضعف شرعية النخب الحاكمة وإفرازاتها السياسية، دون أن تستطيع بناء بدائل لها.

هذا الصمت الذي يمتد عبر طبقات الموظفين العموميين والتجار والمثقفين والأكاديميين والمعلمين والأطباء والمهندسين هو دليل على قدرة النظام السياسي على فصل وتعطيل شريحة كبيرة من الفلسطينيين. فمن ناحية، هناك ظاهرة راديكالية مستثمرة في خلق قوى وإمكانيات جديدة تخرج من الطبقات العاملة في المخيمات والبلدات القديمة، في حين تجلس طبقة وسطى صامتة وخائفة بين رغبتين: الخلاص السياسي والتحرير، والشك والخوف من المقاومة نفسها. وتحديدًا في قدرة المقاومة على استدعاء رعب اللايقين وعدم الأمان وأنقاض التوقعات التاريخية الفاشلة. في هذا السياق، توظف الطبقة السياسية الحاكمة في الضفة الغربية الترهيب وشبح الفتن الداخلية لإبقاء هذه الطبقات غارقة في صمتها. 

غزة تعري «الحقيقة»

في طوفان الأقصى، حتى الآن، ظهرت صورتان: الأولى هي صورة انهيار الجيش وكل ما يستحضره ذلك من دلالات سياسية وتبعات على حلفاء هذا الجيش، والثانية هي صرخات المقاومة وأهل غزة ومطالبتهم بالانخراط في المعركة. وبطبيعة الحال ينخرط الالاف في الضفة الغربية بين اشتباكات وعمليات وتظاهرات وعمل إعلامي وقانوني وغيره. كما أن طوفان الاقصى لم يكن ممكنًا كخديعة دون مساهمة تلك المقاومة الصاعدة في الضفة الغربية بحرف أنظار الطبقة السياسية والأمنية الإسرائيلية عن غزة وتسخير جهدها للضفة الغربية، وحماية المستوطن هناك.

ولكن هذه الحرب كشفت حقيقة أخرى؛ أن هناك نظامًا سياسيًا مختلفًا في الضفة الغربية. فقوة النظام السياسي الفلسطيني في الضفة الغربية ليست قائمة على حب الناس له، ولا على قدرته على الإقناع أو شرعيته السياسية، ولا حتى على سياسات التخويف والفتن التي تساهم في ردع المجتمع الفلسطيني من التمرد عليه، بل قوة هذا النظام السياسي تكمن في توفيره للفلسطيني في الضفة الغربية، خاصة من أبناء الطبقة الوسطى العريضة ومن أبناء بيئة النظام السياسي نفسه، شخوصًا ورموزًا سياسية للنقد والاتهام بالتفريط والخيانة، أي نخبة تكمن قوتها في أنها تمنح لمن ينتقدها القدرة على الحفاظ على فلسطينيته ولكن دون أن يتحرك. فكما يقول الكثيرون «انساك، ما همّا باعوها».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية