جذور التسوية: بورقيبة وعرفات و«إسرائيل»

الثلاثاء 13 حزيران 2023
تصميم: محمد شحادة.

بينما كان رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، يصافح رئيس الوزراء الإسرائيلي، إسحاق رابين، يتوسطهما الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، في باحة البيت الأبيض، بعد توقيع اتفاقية أوسلو، في 13 أيلول 1993، كان الرئيس التونسي السابق، الحبيب بورقيبة، حبيسًا في قصره بمدينة المنستير بعد خروجه من السلطة. وحين أسر له كاتبه الخاص بخبر التوقيع قال بصوت متهدجّ وبفرنسية ذات لكنةٍ مغاربية ضاغطًا على حرف الراء: «قليل جدًا، ومتأخر جدًا». بدأت علاقة الرجل بقضية فلسطين، قبل عقود، على نحو شديد التعقيد، يبدو معه الخروج بموقف فاصل بشأن هذه العلاقة صعبًا. هل كان بورقيبة «عميلًا للغرب والصهيونية العالمية» كما يصفه خصومه القوميون والإسلاميون؟ هل كان فكره فعلًا جسرًا للتسويات التي شهدناها لاحقًا؟ هل كان رؤيويًا حقًا في تحليل الصراع ومآلاته المستقبلية كما يُشيع أنصاره ومحبوه؟

تحمل سيرة بورقيبة الكثير من المتناقضات. لذلك تبدو شخصيته أكثر تعقيدًا من حصرها في أحكام فاصلة تقوم على ثنائية الأبيض والأسود. لكن الثابت أنه سار في طرق لم يسلكها غيرها، في جسارة لا تنبع من تحليله الواقع فقط بل من إيمان عميق بصواب شخصي، أي من الأنا شديدة التضخم، التي صنعت شخصيته الكاريزماتية وصنعت أيضًا مصيره المأساوي.

الاقتراب من العدو

لاجئًا في القاهرة، سيعايش بورقيبة أول مرةٍ قضية فلسطين، من خلال شبكة واسعة من أصدقائه الفلسطينيين، على رأسهم الصحافي محمد علي الطاهر والمفتي الشيخ أمين الحسيني. وفي القاهرة سيكتب بورقيبة، نيابةً عن القيادات المغاربية الوطنية، مذكرة موقف المغرب العربي من قضية فلسطين، والذي سيقدمها بنفسه إلى وفد لجنة التحقيق الأنجلو-أمريكية في آذار 1946. وقد كُلفت اللجنة بفحص الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية في فلسطين الانتدابية وتقديم توصيات. لتظهر المذكرة لاحقًا في التقرير النهائي للجنة: «تقرير لجنة التحقيق الأنجلو-أمريكية بشأن مشاكل يهود أوروبا وفلسطين»، والذي نشر في لوزان السويسرية في 20 نيسان من العام نفسه.

يلخص بورقيبة رؤيته للصراع، في كون القضية الفلسطينية ومحاولات إنشاء «وطن قومي لليهود» هي «قضية استعمارية»، مقيمًا المقارنةً بينها وبين الحالة الاستعمارية الفرنسية في شمال إفريقيا، حيث يشير في فصل تحت عنوان «تشابه الأهداف والوسائل الاستعمارية بفلسطين وبالشمال الأفريقي» إلى أن مساعي الدول الغربية في إنشاء وطن قومي لليهود ستفشل -إما قريبًا أو على المدى البعيد- كما فشلت السياسات الاستعمارية الفرنسية في شمال إفريقيا».[1]

حافظ بورقيبة لاحقًا على هذا التحليل للصراع، فلم تغيّر التطورات التي حصلت عام 1948، تحليله، متجاهلًا الطبيعة الجديدة لهذا النوع الجديد من الاحتلال. في تلك السنة اختفى بلد وشعبه من الخرائط والمعاجم. شكلت المعارك التي اندلعت في الفترة من تشرين الثاني 1947 إلى آذار 1949، والتي شهدت إعلان دولة «إسرائيل»، حلقة خاصة. بعيدًا عن كونه احتلالًا استعماريًا بسيطًا لدولة بأخرى، فقد أدى إلى استبدال شعب بمجتمع من 600 ألف مستوطن أُرسلوا إلى فلسطين خلال الانتداب البريطاني. اختفى الفلسطينيون فجأةً من الخطب والمعاجم، وسيشار إليهم من الآن فصاعدًا بعبارات عامة وغامضة: «لاجئين» أو «عرب إسرائيل» للأقلية الصغيرة التي نجت من الطرد الواسع.[2] في هذه الأثناء قرر بورقيبة مغادرة منفاه المصري عائدًا إلى تونس، بعد أن فقد الأمل في أن تكون الجامعة العربية رافعةً للحركة الوطنية التونسية الساعية نحو الاستقلال، حيث كانت الجامعة ورئيسها عزام باشا غارقين في قضية فلسطين. ومن خلال صديقه، هوكر دوليتل، القنصل الأمريكي في الإسكندرية وقبلها في تونس،[3] سيتوجه بورقيبة إلى الأمم المتحدة طمعًا في كسب الدعم الدولي لقضيته الوطنية.

يصعب وضع توصيف واضح لموقف بورقيبة من الصراع العربي الصهيوني. فالرجل الذي دعا باكرًا للتفاوض مع «إسرائيل»، سارع إلى مقاطعة مصر بعد زيارة السادات للقدس وفتح تونس لتكون مقرًا للجماعة العربية بعد خروجها من القاهرة، وتحمل كلفة استقبال منظمة التحرير أمنيًا وسياسيًا في الثمانينيات.

كان سعي بورقيبة ورفاقه في حركة التحرير الوطني لضمان الدعم الدولي، لا سيما الغربي، في مواجهة فرنسا دافعًا أساسيًا لاقترابهم من العضو الجديد في الأمم المتحدة، «إسرائيل». في كتابه ««إسرائيل» وبلاد المغرب: من إقامة الدولة إلى أوسلو»، يعود مايكل لاسكيار، إلى بدايات هذه العلاقة السرية، حيث أقيمت أولى الاتصالات بين «إسرائيل» وتونس في نيويورك بين عامي 1951 و1952، في ذروة الحملة الدولية التي قادها بورقيبة في سبيل الاستقلال، عندما اقترب ممثلو تونس من البعثة الإسرائيلية لدى الأمم المتحدة من خلال مساعي قادها سياسيون أمريكيون. ومن بين مبعوثي حزب الدستور الجديد الذين التقوا بالمسؤولين الإسرائيليين الباهي الأدغم، وهو عضو بارز في المكتب السياسي للحزب وأحد المقربين من بورقيبة. في 25 حزيران 1952، جرى اجتماع بين الأدغم وجدعون رافائيل عضو البعثة الإسرائيلية، سعى فيه القيادي التونسي للحصول على دعم إسرائيلي لاستقلال تونس وأكد لرفائيل أن حزبه لم يكن وراء أعمال الشغب المعادية لليهود التي جرت في تونس في أعقاب النكبة.[4] كما أجرت «إسرائيل» اتصالات مع قيادي تونسي آخر، هو صلاح بن يوسف، الذي سيصبح فيما بعد في المعسكر الناصري والخصم السياسي الرئيسي لبورقيبة. اتصل بن يوسف بالإسرائيليين في التاسع من شباط 1953 للتعبير عن إحباطه من عدم دعم «إسرائيل» لتونس وأوضح أن الدول العربية هي الوحيدة التي تساعد جهود استقلال تونس وأنه لا مفر من أن تقف تونس معهم في المستقبل في مواجهة «إسرائيل».[5]

قبل ذلك كان بورقيبة قد دعا لأول مرة إلى تسوية مع «إسرائيل» في مقابلة مع جريدة لوموند الفرنسية نشرت في حزيران 1952. بعد ذلك بعامين، وأثناء وجوده في المنفى السياسي في فرنسا، أخبر بورقيبة أليك إل إيسترمان، رئيس المكتب التنفيذي للمؤتمر اليهودي العالمي، أن الحكومة التونسية المستقبلية «ستدخل جامعة الدول العربية ولكنها لن تتبع بالضرورة سياسات الجامعة أو تدعم أنشطتها السياسية فيما يتعلق بقضية فلسطين، مشيرًا إلى أنه يفهم القومية اليهودية، لكن بصفته عربيًا، يعتبر إنشاء دولة «إسرائيل» شكلًا من أشكال الاستعمار. لكن من حيث السياسة العملية، لن يدعم القضاء على «إسرائيل» وسيسعى لتحقيق السلام في الشرق الأوسط من خلال لعب دور حيوي للتأثير على الدول العربية في هذا الاتجاه».[6]

من خلال تحليله للأرشيف السري الإسرائيلي، يذهب مايكل لاسكيار، إلى أن الإسرائيليين انقسموا حول ما إذا كانوا سيحتفظون بعلاقات سرية مع تونس قبل الاستقلال. اعتقد البعض أن الاتصالات يمكن أن تحافظ على موقف اليهود المغاربيين، بينما أكد آخرون أن القنوات المفتوحة، كما في اجتماع الأدغم ورفائيل، ستؤدي إلى ردود فعل فرنسية سلبية.[7] من نهاية عام 1953 حتى خريف 1955، عندما شغل موشيه شاريت منصب رئيس وزراء «إسرائيل» ووزير خارجيتها، لم يؤيد العلاقات السرية، ولكنه دعم التعاون الإسرائيلي المغاربي المستقبلي من أجل «منع امتداد المقاطعة العربية إلى شمال إفريقيا. في حكومتي دافيد بن غوريون وليفي إشكول، اختارت «إسرائيل» القنوات المفتوحة والخلفية بمجرد أن منحت فرنسا استقلال تونس والمغرب في عام 1956. لقد تصوروا أن من خلال الصراع بين الرئيس جمال عبد الناصر وبورقيبة توجد فرصة يمكن أن تضعف الوحدة العربية.

لاحقًا في شباط 1956، عندما كانت تونس على وشك تحقيق الاستقلال، عقد بورقيبة اجتماعًا سريًا مع السفير الإسرائيلي يعقوب تسور، كشف فيه الرئيس التونسي عن معارضته الجذرية لنهج عبد الناصر، وأدرك من خلاله السفير الصهيوني أنه من المهم بالنسبة لبورقيبة حشد تأييد يهود الولايات المتحدة لتأمين المساعدة الاقتصادية الأمريكية. استمرت الاجتماعات الإسرائيلية التونسية غير الرسمية حتى اندلاع أزمة السويس في وقت لاحق من ذلك العام. في الثالث من تشرين الأول 1956، التقى تسور بوزير المالية التونسي الذي طلب مساعدة «إسرائيل» في بناء مستوطنات زراعية تعاونية. وتم تفويض تسور، الذي التقى أيضًا مع مساعد آخر لبورقيبة، بالموافقة على الطلبات التونسية بهدف إضعاف المقاطعة الاقتصادية العربية ودخول المجال المغاربي. اتفق الطرفان على أن باريس ستعمل على أفضل وجه كمركز لتنسيق المشاريع المشتركة تحت رعاية بنحاس سابير، وزير التجارة والصناعة الإسرائيلي. لكن هذه المشاريع قد سقطت بمجرد اندلاع حرب السويس.

بعد انضمام بلاده إلى جامعة الدول العربية، لم يخف بورقيبة استياءه من الطبيعة القومية العربية، التي طبعها بها الرئيس عبد الناصر. بحلول منتصف الستينيات، أصبح الخلاف بين الزعيمين غير قابل للتسوية. قاطع بورقيبة اجتماعات جامعة الدول العربية بسبب الخلافات المتعلقة بالقضايا العربية، ويشير لاسكيار إلى أن أنه سمح حتى لليهود بالمغادرة نحو «إسرائيل» عبر فرنسا، مما وسع نشاط الوكالة اليهودية في تونس. لكن بورقيبة كان في الوقت نفسه يعلن مواقف متشددة تجاه «إسرائيل»، من خلال نقد سلوك التيار القومي في مجابهة الصهيونية، حيث يقول في مقابلة صحافية نشرت عام 1959 ناقدًا غياب استراتيجية واضحة لمقاومة «إسرائيل»: «إذا كنت ترغب في إنهاء وجود بلد معين، فعليك إعداد الاستراتيجيات التي ستؤدي إلى القضاء عليها، ولا تكتف برفع الشعارات». فقد استغل الزعيم التونسي، النكسات التي تعرضت لها الناصرية بعد انهيار الوحدة مع سورية (1961) وحرب اليمن، كي يكون أكثر جسارة في طرح مواقف شاذةً عن السائد.

منعطف أريحا

في الثالث من آذار 1965 وقف الحبيب بورقيبة خطيبًا في وسط مدينة أريحا، ملقيًا قنبلةً سياسية ستجعل منه الشخص الأكثر شتمًا في الإذاعات والصحف العربية في ذلك الربيع. وسط جمع من سكان المدينة واللاجئين الذين فقدوا بيوتهم خلال النكبة قال بورقيبة:

«إن الإكثار من الكلام الحماسي أمر سهل وبسيط للغاية. أما ما هو أصعب وأهم فهو الصدق في القول والإخلاص في العمل وإذا اتضح أن قوانا لا قبل لها بمحق العدو ورميه في البحر فعلينا ألا نتجاهل ذلك، بل يجب أن ندخله في حسابنا وأن نستخدم، مع مواصلتنا الكفاح بالسواعد، الاستراتيجية وأن نستوحيها في مواقفنا حتى نتقدم نحو الهدف مرحلة بعد مرحلة مستعينين في ذلك بالحيلة والجهد (..) وما كنا لننجح في تونس خلال بضعة سنوات لولا أننا تخلينا عن سياسة (الكل أو لا شيء) وقبلنا كل خطوة تقربنا من الهدف، رغم أن فرنسا كانت ترضى بها على أساس أنها أخف الضررين، وظنًا منها أنها ستبقى وتضمن بذلك التوازن وما بقي من نفوذها وسطوتها واستعمارها، وكلما خطونا خطوة إلى الأمام ضيقنا الخناق على الاستعمار بالمظاهرات والمقاومة المسلحة وغيرها من الوسائل التي تضطره لقبول الخطوة الموالية باعتبارها أيضًا أخف الضررين، وهكذا إلى أن وجدت فرنسا نفسها في آخر معركة حيث لم تجد بدًا من الاندحار. أما هنا فقد أبى العرب الحل المنقوص ورفضوا التقسيم وما جاء به الكتاب الأبيض ثم أصابهم الندم وأخذوا يرددون: ليتنا قبلنا ذلك الحل، إذن لكنا في حالة أفضل من التي نحن عليها».[8]

خلف الخطاب أزمةً دبلوماسية عميقة بين تونس وبقية الدول العربية، لا سيما دول الطوق والعراق. في القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد، خرجت المظاهرات حاشدةً وأصدرت أغلب الحكومات العربية بيانات تنديد، وتعرضت السفارات التونسية في المشرق العربي لهجمات من المتظاهرين، ودعمت الأنظمة الحاكمة في مصر وسوريا هذا الغضب الشعبي بقوة. كما سحبت القاهرة ودمشق سفيريهما في تونس.

ردّ بورقيبة على الحملة العربية ضده بمزيد من الإصرار على موقفه. فور عودته إلى تونس فصلّ في خطاب دعوته التي أطلقها في أريحا قائلًا:

«إنني لو كنت زعيم فلسطين، لتفاوضت مع الإسرائيليين، كما تفاوضت مع فرنسا، كلما وجدت منها ميلًا إلى ذلك. ولقد حدث، عندما كنت في القاهرة، عام 1945، أن دعاني السيد لوكوي، سفير فرنسا هناك، فلم أتردد في الاتصال به، الأمر الذي أثار استنكار بعض التونسيين المستقرين في مصر (..) وتساءلت: أي حرج في ذلك، بعد السنوات الخمس، التي قضيتها في سجون فرنسا، والعامين اللذين أمضيتهما في المنافي؟ وأوضحت أنني سلمت للسفير لوكوي تقريرًا حول مطالبنا الوطنية، وأن هذا التقرير، نال إعجابه، وجعله ينقلب على حكومته، ويذهب إلى فرنسا، لبيان وجهة نظره. هكذا يقتضي الكفاح. أمّا أن أغلق باب داري، وأقيم فيها، على مقتي للفرنسيين، فلن أكون إلاّ كهذا الرجل، الذي ما كاد يفتح باب داره، في أول أيام الحماية، ويشاهد جنديًا فرنسيًا، حتى أغلق الباب، وعاد إلى عقر بيته، ولم يبارحه إلاّ إلى قبره. إن طريقة كهذه، تصادف، بدون شك، هوى في نفس «إسرائيل»، خصوصًا وأنها تمكّنها من استغلال السباب والتهديد، اللذين توجههما إليها الإذاعات العربية، للحصول على مزيد من الأموال والأسلحة، بدعوى أنها مهددة بالخطر من قِبل العرب. أمّا الاتجاه المعقول، الذي يجلب لنا عطف الدول، فإنه لا يروقها».[9]

في هذا المناخ من القطيعة العربية، عاد بورقيبة مرةً أخرى إلى فتح قنوات التواصل مع كيان الاحتلال. من خلال فحص الملفات السرية الإسرائيلية، ينقل مايكل لاسكيار في كتابه أن وزير الخارجية التونسي الحبيب بورقيبة الابن (نجل الرئيس) قد جاء واشنطن في أيار 1965، بحثًا عن الدعم المالي لخطة التنمية الاقتصادية التونسية ذات الأربع سنوات. فيما حثت وزارة الخارجية الأمريكية الألمان والفرنسيين على منح تونس 20 مليون دولار كمساعدات، وحثت «إسرائيل» على شراء النبيذ التونسي. كما لم تدخر وزارة الخارجية في عهد غولدا مئير وخليفتها أبا إيبان أي جهد للتقرب من بورقيبة وتعزيز مكانته.

في تشرين الثاني 1965، وبمناسبة زيارة بورقيبة إلى ليبيريا، بناءً على طلب من أجهزة الأمن الليبيرية وبمعرفة رئيس الأمن التونسي، عزز جهاز الموساد الإسرائيلي عناصر الأمن المحلية في حراسة بورقيبة الأمنية. ومما يثير الاهتمام جهود وزارة الخارجية الإسرائيلية للترويج لترشيح بورقيبة لجائزة نوبل للسلام لعام 1966. ورغبة في تجنيبه الإحراج، تقرر أن يتعامل طرف ثالث مع الأمر. وهكذا، قرر الأستاذ في الجامعة العبرية، ناثان روتنستريتش، بالاشتراك مع سفير «إسرائيل» في واشنطن، أن يكون هذا الطرف رئيس جامعة البرازيل لترشيح بورقيبة للجنة الجائزة. كان واضحًا منذ البداية أن بورقيبة لن يحصل على الجائزة، ولكن كما لاحظ أحد مسؤولي وزارة الخارجية: «من المهم أن نتمكن من لفت انتباه بورقيبة إلى أننا وراء المبادرة».[10] 

ابتداء من عام 1966، بدأ سفير «إسرائيل» في فرنسا، والتر إيتان (بمساعدة الموساد) محادثات سرية في أوروبا مع السفير التونسي في باريس محمد المصمودي. في الوقت نفسه، حافظ رئيس المؤتمر اليهودي العالمي إيسترمان على روابط مباشرة مع بورقيبة وابنه، وكذلك المصمودي. فقد كان بورقيبة يفضل أن يكون التواصل مع «إسرائيل» بشكل غير مباشر من خلال صديقه إيسترمان، في حين أن جميع القنوات الإسرائيلية التونسية المباشرة الأخرى تمر عبر دبلوماسيين في أوروبا، أمن طرق القناة الخلفية مع السفير المصمودي.

يشير مايكل لاسكيار إلى أن هذه القناة كانت تقوم بنقش خمس قضايا أساسية: أولًا، المسعى الإسرائيلي لتقوية موقع بورقيبة الدولي في مواجهة عبد الناصر، كي يكون نموذجًا للقيادة العربية المعتدلة. ثانيًا، تسهيل الاتصالات الاقتصادية بين تونس و«إسرائيل» من قبل اليهود الغربيين الذين يشغلون مناصب حيوية في التمويل. تضمنت المشاريع التي تمت مناقشتها بناء فندق في المهدية، كمشروع تعاوني لشركة مملوكة بشكل مشترك لـ«إسرائيل» والبارون إدموند دي روتشيلد. وتطوير مصنع للزجاج في تونس. وتأثيث «إسرائيل» لمعدات الفنادق عن طريق شركة بريطانية. ثالثًا، سعي التونسيون أن تضغط «إسرائيل» على الفرنسيين لتحسين العلاقات الفرنسية التونسية، التي تدهورت منذ عام 1961، والتأثير على الولايات المتحدة وألمانيا الغربية لمنح مساعدات اقتصادية ومساعدات عسكرية. رابعًا، لم تخف تونس رغبتها في التوسع السياحي. في الأشهر الأخيرة من عملها في وزارة الخارجية، حثت غولدا مائير سفير «إسرائيل» في واشنطن على حشد الدعم اليهودي الأمريكي من خلال مطالبة الجاليات اليهودية بإضافة تونس إلى قائمة مناطق الجذب السياحي الخاصة بهم. كما أبلغ إيسترمان بورقيبة الابن أن «إسرائيل» مستعدة لتقديم مهاراتها في مجال السياحة وأن الاتجاه المتزايد للسفر بين يهود العالم، وخاصة اليهود الأمريكيين، يمكن أن يكون مصدرًا ماليًا مهمًا لحركة السياحة في تونس.

في التحليل النهائي الذي يسوقه لاسكيار، كان بورقيبة مترددًا في السعي إلى أي علاقات طويلة المدى مع «إسرائيل». لقد ولّدت الهزيمة العربية، وصعود منظمة التحرير الفلسطينية، حقائق جديدة دفعت باتجاه التوصل إلى تسوية سلمية. لم يكن بورقيبة خائب الأمل تمامًا، فقد أسر لإيسترمان في تشرين الأول 1967 بأن القادة العرب سيتفاوضون في نهاية المطاف مع «إسرائيل»، لكن هذا السلام الدائم لا يمكن تحقيقه طالما أصرت «إسرائيل» على مبدأ «ما قمنا باحتلاله أصبح ملكنا». وألمح إلى أنه في ضوء الظروف الأخيرة سيكون من الأفضل له أن يقلل من تأييده العلني لأي سلام في الشرق الأوسط.[11]

عرفات: البورقيبي الأخير

بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، طرح بورقيبة في الثاني من تموز 1973 مبادرة جديدة حول الصراع مع «إسرائيل» تقوم على ثلاثة بنود: قبول «إسرائيل» بمبدأ تقسيم فلسطين، وفقًا لقرار التقسيم، الصادر عن الأمم المتحدة، عام 1947، وتعيين الحدود بين العرب و«إسرائيل»، عن طريق المفاوضات، وإقامة دولة فلسطينية. وقال في خطاب حول المبادرة: «ثمة شعبان، يتنازعان أرضًا واحدة. وأنا أقول، لماذا لا نتصور إمكان تقسيم فلسطين بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟ بالطبع، سيضحي كل شعب بشيء ما. الإسرائيليون، من جهتهم، يتخلون عن الأراضي، التي احتلوها بقوة السلاح، ويحتفظون بما منحتهم إياه الأمم المتحدة، عام 1947، بموجب قرار التقسيم رقم 181. لم يكن ما اقترحته لقاءَ الإسرائيليين فقط، بقدر ما هو حل للنزاع القائم بينهم وبين العرب. إذ إنني أتبين أن الوضع، يسير من سيئ إلى أسوأ». وقد جاء ذلك بعد أسابيع قليلةٍ من لقاء جمعه برئيس منظمة التحرير ياسر عرفات. خلال حرب أكتوبر 1973، دعم النظام التونسي الهجوم المصري والسوري على «إسرائيل»، ومثل دول مغاربية أخرى، أرسل قوات لدعم الجهود العربية.

لاحقًا أصبحت أفكار بورقيبة حول مرحلية النضال والقبول بالحد الأدنى لتحقيق الحد الأقصى تجد لها صدى لدى قطاع من النخبة السياسية الفلسطينية، لا سيما في قيادة حركة فتح وخاصة ياسر عرفات، وهو ما تجلى بوضوح في «البرنامج السياسي المرحلي لمنظمة التحرير»، الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني في حزيران 1974، بتأثير من عرفات والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، بقيادة نايف حواتمة.[12] 

تحمل سيرة بورقيبة الكثير من المتناقضات. لكن الثابت أنه سار في طرق لم يسلكها غيرها، في جسارة لا تنبع من تحليله الواقع فقط بل من إيمان عميق بصواب شخصي، أي من الأنا شديدة التضخم، التي صنعت شخصيته الكاريزماتية وصنعت أيضًا مصيره المأساوي.

بدايةً من سبعينيات القرن الماضي، توطدت العلاقة بين بورقيبة وعرفات، وبين أجهزة الأمن التونسية وجهاز الأمن الموحد للثورة بقيادة صلاح خلف (أبو إياد)، بسبب مواقف بورقيبة الداعمة لاستقلال الحركة الوطنية الفلسطينية من الهيمنة العربية، كما يصفها. فقد دعا منذ أوائل عام 1964، أن ينظم الفلسطينيون أنفسهم داخل حركة جبهة التحرير الوطني على النمط الجزائري، ورفض بشدة الطرح المصري في الوصاية على حركة التحرير الفلسطينية وكذلك الطرح الأردني في إعادة ضم الضفة الغربية، والطرح السوري في السيطرة على منظمة التحرير. من هذا المنطلق كانت قيادة فتح ترى في بورقيبة داعمًا قويًا لها، ومن خلال هذا الباب دخلت أفكاره إلى مجال تفكير عرفات، الذي لم يكن يخفي إعجابه ببورقيبة. وقد توطدت هذه العلاقة أكثر بعد أن فتح الرئيس التونسي المجال لقيادة المنظمة كي تستقر في تونس بعد خروج المقاومة من لبنان بعد حصار عام 1982، وذلك بدعم أمريكي – فرنسي.[13] ولعل في توجه عرفات ورفاقه إلى تونس، بدلًا من دمشق التي اختارتها فصائل اليسار حينذاك مقرًا لها، مؤشرًا على ابتعادهم عن خيار الكفاح المسلح والدخول في منطق التسوية، فقد كانت تونس بوصفها بعيدةً عن حدود العدو ومهدًا لأفكار بورقيبة الداعية للتسوية باكرًا رمزًا لهذا التوجه لدى أبو عمار.

أخيرًا، هل تكفي هذه المراجعة التاريخية لوضع توصيف واضح لموقف بورقيبة من الصراع العربي الصهيوني؟ لا أعتقد ذلك. فالرجل الذي دعا باكرًا للتفاوض مع «إسرائيل»، سارع إلى مقاطعة مصر بعد زيارة السادات للقدس وفتح تونس لتكون مقرًا للجماعة العربية بعد خروجها من القاهرة، وتحمل كلفة استقبال منظمة التحرير أمنيًا وسياسيًا في الثمانينيات. هي هكذا شخصية بورقيبة معقدةً ومتناقضة.

لكن تعقيدها وتناقضها -على الأقل فيما يتعلق بالصراع مع «إسرائيل»- ينبع من خصائص الفلسفة السياسية «البورقيبية» كما يسميها تلاميذ بورقيبة وأنصاره، والتي يفصلها تلميذه الباجي قائد السبسي في كتابه «بورقيبة، الأهم والمهم»[14] في ثلاث ركائز أساسية: أولًا التوّنسة، أي الانعزالية القُطرية، بمعنى أن الرجل لم يكن مؤمنًا بالوحدة العربية كمشروع سياسي، لذلك كان ترتيب التناقضات عنده ينطلق من مصلحة تونس حتى وإن تعارض ذلك مع المصلحة القومية. ومن الأمثلة على ذلك الموقف الغريب الذي اتخذه بورقيبة -الذي يُعد أحد قادة الحركات الوطنية البارزين في النصف الأول من القرن العشرين- تجاه القضية الفيتنامية، حيث كان مؤيدًا للولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد الفيت كونغ، مبررًا ذلك في مقابلة صحافية بأن تأييده للمقاومة الفيتنامية لن يعود عليها بالنفعّ فهو مجرد موقف، ولكنه سيعود على تونس بالسوء، في حال توقف الدعم الأمريكي (المعونة المالية والعسكرية). ثانيًا سياسة الوسط، أي عدم التوجه إلى مواقف جذرية في أي قضية، وبالتالي المحافظة على توازن قوى وعلاقات مع الجميع. ثالثًا، المرحلية، وهو التكتيك الذي يقول قائد السبسي أنه -أي بورقيبة- قد تعلمه من الملك عبد العزيز آل سعود، حين قصده في الخمسينات طلبًا للعون في إطلاق الكفاح المسلح. وهو تكتيك يقوم على قوة المساومة والقبول بالمتاح الأدنى والمطالبة بالأقصى أي «خُذ وطالب» كما يقول بورقيبة نفسه ويكرر دائمًا.

لكن بورقيبة الذي عاش حتى رأى بعينيه مصائر اتفاق أوسلو، لم يكشف لنا موقفه من تجربة السلام الوخيمة، كما فصل لنا موقفه في الستينيات من تجربة الكفاح المسلح الفاشلة. إلا أن موقفه من أوسلو ابتداءً حين قال: «قليل جدًا، ومتأخر جدًا»، يكشف عن خيبة أمل متأخرةٍ.

  • الهوامش

    [1] الحبيب بورقيبة – تونس والقضية الفلسطينية (1937 – 1965)، ص 24 – كتابة الدولة للأخبار والإرشاد – تونس 1966.

    [2] Elias Sanbar -Hors du lieu، hors du temps. Pratiques palestiniennes de l’histoire -Dans: Les usages politiques du passé -p. 117-125 -Éditions de l’École des hautes études en sciences sociales -2001

    [3] L. Carl Brown – «Mon Ami» Hooker Doolittle : Early. American Contacts with Habib Bourguiba – Princeton University – Middle East Institute.

    [4] Michael M. Laskier, North African Jewry in the 20th Century. (New York : New York University Press, 1994), p. 283.

    [5] Michael M. Laskier – Israel and the Maghreb at the Height of the Arab-Israeli Conflict : 1950s – 1970s – Middle East Review of International Affairs- Vol. 4 No. 2/June 2000.

    [6] المصدر السابق.

    [7] Conversation with Bourguiba, August 9, 1954, secret, ISA/FM, 2541/21A – – Michael M. Laskier – Israel and the Maghreb at the Height of the Arab-Israeli Conflict : 1950s – 1970s – Middle East Review of International Affairs- Vol. 4 No. 2/June 2000.

    [8] «الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1965». بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1966 – جريدة العمل التونسية -7/3/1965.

    [9] خطاب الرئيس بورقيبة إلى أعضاء المكتب القومي للطلبة الدستوريين -تونس والقضية الفلسطينية 1937 – 1965 (ص 111 -119) كتابة الدولة للأخبار والإرشاد 1966 – مطبعة الشمال، تونس.

    [10] Michael M. Laskier -Israel and the Maghreb at the Height of the Arab-Israeli Conflict: 1950s – 1970s -Middle East Review of International Affairs-Vol. 4 No. 2/June 2000.

    [11]  المصدر السابق.

    [12]  نايف حواتمة، قيس عبد الكريم -البرنامج المرحلي، 1973-1974: صراع، وحدة في المقاومة الفلسطينية، بيروت، لبنان: دار التقدم العربي, 2002

    [13]  محمد مزالي – نصيبي من الحقيقية، ص602 -دار الشروق، القاهرة – الطبعة الأولى 2007.

    [14]  الباجي قائد السبسي – بورقيبة الأهم والمهم، ص 387 – دار الجنوب للنشر، تونس 2011.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية