«ولا شبر في غزة آمن»: حصار شامل في ظلّ الحرب

الإثنين 16 تشرين الأول 2023
نازحون إلى إحدى مدارس الأونوروا في رفح جرّاء قصف الاحتلال، في ظل انقطاع المياه عن القطاع. تصوير محمد عابد.

بعد ثلاثة أيام من بدء عملية طوفان الأقصى التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية في غزة وأدت إلى مقتل نحو 1300 إسرائيلي وأسر آخرين، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت الحصار الشامل على غزة قائلًا: «لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، كل شيء مغلق (..) نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقًا لذلك». توالت بعدها تصريحات وزراء البنية التحتية والطاقة بقطع الإمدادات وإغلاق المعابر ومنع دخول المساعدات الإنسانية، بالتزامن مع القصف المستمر لغزّة، ما أسفر حتى الآن عن استشهاد أكثر من 2700 فلسطيني.

انسحب الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنوه وجنوده عام 2005 من غزة بعد فشلهم في تحقيق أهدافهم العسكرية في العملية البرية التي حملت اسم «أيام الغضب»، لكن الاحتلال فرض منذ عام 2006 حصارًا على غزة بوصفها «كيانًا مُعاديًا» إثر نجاح حركة المقاومة الإسلامية حماس في الانتخابات التشريعية. يشمل هذا الحصار السيطرة على المنافذ البرية والبحرية والجوية وقيودًا مشددة على حركة الأفراد ودخول المحروقات والبضائع، بما فيها مواد البناء والمستلزمات الطبية والأجهزة الإلكترونية وحتى الدفاتر وألعاب الأطفال.

فصلت سياسة العزل القطاع، الذي تبلغ مساحته نحو 360 كم مربع، عن محيطه وانهمكت آلة الحرب الإسرائيلية باستهداف سكانه، البالغ عددهم مليونين و300 ألف نسمة، عبر هجمات عسكرية في خمسة حروب واسعة وعشرات الاستهدافات والعمليات. وقد أدى الحصار على غزة إلى ظروف معيشية كارثية وركود اقتصادي، إذ بلغت نسبة البطالة 47%، وارتفعت معدلات الفقر إلى 61.6%. اليوم، ومع قطع إمدادات الخدمات الأساسية من كهرباء وغذاء ومياه، ينذر الوضع بتفاقم الكارثة الإنسانية في غزة إلى مستويات غير مسبوقة.

كيف يتحكم الاحتلال بموارد غزة؟ 

يصل التيار الكهربائي إلى منازل غزة ما بين ثماني و12 ساعة في اليوم، لأن مصادر تزويد الكهرباء تغطي على الأكثر 41% من الاحتياج المتراوح ما بين 450 و500 ميغاوات في الأيام العادية، ويصل إلى 600 ميغاوات في ذروة فصلي الشتاء والصيف. تعتمد غزة على مصدرين أساسيين للكهرباء هما محطة توليد الكهرباء التي تنتج حوالي 60 إلى 70 ميغاوات، والجانب الإسرائيلي الذي يمد المدينة بـ125 ميغاوات عبر عشرة خطوط كهربائية، مقابل 11 مليون دولار يحصل عليها الاحتلال شهريًا من تحويلات عوائد الضرائب التي تجمعها إسرائيل نيابة عن السلطة الفلسطينية.

كانت القدرة التشغيلية للمحطة تصل ضعف هذا الحجم  قبل أن يقصف الاحتلال المحطة ويدمّر محوّلاتها ومخازن الوقود عامي 2006 و2014، كما أن عمل توربينات المحطّة نفسها، يحتاج لشحنات الوقود التي تصل غزة عبر معبر رفح، يقول محمد ثابت مدير العلاقات العامة والإعلام بشركة الكهرباء لحبر. على صعيد آخر، تقدم جميع شركات الاتصالات في غزة، بما فيها شركة الاتصالات الفلسطينية «بالتل»، خدماتها عبر مزود الاتصالات الحكومية الإسرائيلي، شركة «بتسيك» التي تمتلك نقاط تزويد من الكابلات البحرية في ساحل مدينتي يافا وحيفا. ومع تحكم «بتسيك» بوحدات التحكم الخاصة بالشبكات الفلسطينية، يمكن للجيش الإسرائيلي الرقابة والتجسس وجمع المعلومات من اتصالات الفلسطينيين بدون عوائق.

لا يتوقف هذا التحكم عند الكهرباء والاتصالات، إذ تحصل غزة على 84% من مياهها من الآبار الجوفية التي تزودها مياه الأمطار بمعدل 30 إلى 40 مليون متر مكعب سنويًا، وتشتري البقية من شركة المياه الإسرائيلية «ميكوروت». وتقدر نسبة العجز في احتياجات المياه بـ50%، فيما يعاني الخزان الجوفي، الذي اعتبرت الأمم المتحدة أن مياهه غير صالحة للاستخدام البشري منذ عام 2017، من الاستنزاف بسبب الضغط وكثافة السكان، والارتفاع الحاد في ملوحة مياهه، عدا عن الهجمات الصاروخية الإسرائيلية التي أضعفت قدراته المائية، وسرقة سلطات الاحتلال لمياهه عبر حفر آبار تحول المياه الجوفية إلى المستوطنات وتخفض مستويات المياه في البئر الجوفي.

تصل حصة الفرد من المياه العذبة في غزة إلى 21.3 لترًا فقط في اليوم مقابل 86 لترًا من معدل استهلاك الفرد الفلسطيني اليومي في الضفة، والذي يعتبر أقل من الحد الأدنى الموصى به عالميًا البالغ 100 لتر في اليوم. فيما تبلغ حصة الإسرائيلي من المياه نحو 300 لتر في اليوم، أي أكثر من سبعة أضعاف استهلاك الفرد الفلسطيني في الضفة الغربية، وأكثر بـ14 مرة من حصة الفلسطيني في غزة. علمًا بأن انقطاع الكهرباء يؤثر على عمل محطات معالجة المياه العادمة، ما يعني ضخها نحو البحر وزيادة نسب التلوث، وكذلك على عمل محطات تحلية المياه.

يقول الناطق الإعلامي باسم بلدية غزة، حسني مهنا، إن جميع إمدادات الكهرباء والمياه والاتصالات في غزة تخضع لسيطرة كاملة من الاحتلال، بشكل مباشر أو غير مباشر، ما يجعلها عرضةً للتهديد خلال أوقات التصعيد والعدوان الإسرائيلي المتكرر. وبالإضافة إلى قصف محطة توليد الكهرباء عامي 2006 و2014، سبق وقصفت الطائرات الإسرائيلية أبراج الاتصالات وتوزيع الإنترنت مع بدء الاجتياح البري لغزة عام 2008، وكذلك فعلت في أحد آبار المياه الرئيسية عام 2014، ما تسبب بتوقف ضخ المياه لمناطق حي النصر الغربي وأبراج المقوسي التي يغذيها البئر ويقطنها أكثر من 20 ألف نسمة.

ما تبعات الحصار الشامل اليوم؟

مع بدء القصف الإسرائيلي لغزة يوم الأحد، الثامن من تشرين الأول الجاري، تضررت الخطوط الأرضية لإمدادات الكهرباء في مناطق غزة وانخفض عدد ساعات التيار الكهرباء إلى ثلاث ساعات، يقول ثابت. ومع إعلان الاحتلال قطع الخطوط الرئيسية المزودة للكهرباء وإغلاق معبر رفح؛ ما يعني نفاد الوقود المخصص لتشغيل محطة الكهرباء أيضًا، دخلت غزة في انقطاع تام للكهرباء، وتعطلت شبكة الاتصالات في كل المناطق التي تعرضت للقصف.

وقد استهدف طيران الاحتلال مقر شركة الاتصالات الفلسطينية وعشرات الأبراج التابعة لها، ولذلك انخفضت تدريجيًا جودة الاتصال وتغطية الإنترنت حتى انقطعت بالكامل وأعلن مزوّدو خدمات الإنترنت اللاسلكي أنهم «لا يملكون أي شيء يقدمونه». يتوقع مهنّا أن تنعزل غزة عن العالم بشكل كامل خلال الساعات القادمة، قائلًا إن البنية التحتية من خطوط إنارة وأبراج كهرباء واتصالات وإمدادات مياه وشبكة الطرق قد تضررت بشكل مهول. مضيفًا أن نسبة العجز في إمدادات المياه وصلت لـ90%، وهي نسبة تتزايد مع مرور الوقت، إذ يعني وقف الكهرباء تعطل المضخات اللازمة لسحب المياه من الآبار الجوفية.

وتزود البلدية النازحين بالمياه عبر براميل تضعها في التجمعات التي يتوجهون إليها، بما فيها مدارس الأونروا أو بعض مناطق الجنوب. في حين تضطر البلدية لإلقاء المياه العادمة في البحر المتوسط حتى تتجنب طفحها في المناطق السكنية مع خروج محطات الصرف الصحي عن الخدمة بعد انقطاع الكهرباء وتعرضها للقصف العشوائي. يقول مهنا: «إحنا عارفين إنه هاي كارثة صحية، مش بس علينا، على كل المنطقة، وهذا اللي خايفين منه بالأيام القادمة»، مضيفًا أن أولوية البلدية حاليًا فتح الشوارع وتسهيل حركة عبور طواقم الإسعاف والدفاع المدني ورفع الأنقاض لإنقاذ المصابين والجرحى تحت الركام.

فصلت سياسة العزل القطاع عن محيطه الجغرافي الفلسطيني وانهمكت آلة الحرب الإسرائيلية باستهداف سكانه، البالغ عددهم مليونين و300 ألف نسمة، عبر هجمات عسكرية في خمسة حروب واسعة وعشرات الاستهدافات والعمليات.

«الوصول للغذاء رح يصير أصعب»، يقول مدير شبكة المنظمات الأهلية، أمجد الشوا، معتبرًا أن معونات الأونروا وبرنامج الأغذية العالمي «علبة سردين ورغيف خبز»، وهي أقل من الاحتياج بكثير، خصوصًا بعدما استهلك السكان ما في ثلاجاتهم خلال أول يومين بعد تعطل الثلاجات. يضيف الشوا أن المتاجر والمخازن والمطاعم معطلة بالمجمل والوصول الآمن لها معدوم. وقد تأثرت جميع القطاعات الحيوية المرتبطة بالكهرباء تباعًا، لكن الوضع في المستشفيات والمراكز الصحية يزداد حرجًا مع مرور الوقت. 

يوجد في غزة 36 مستشفى، 13 منها تابعٌ لوزارة الصحة؛ ويبلغ عدد الأسرة فيها جميعًا 3335 سريرًا. وقد أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية استشهاد أكثر من 2700 فلسطيني في غزة وإصابة 9042 آخرين منذ بدء العدوان الإسرائيلي، معظمهم من النساء والأطفال. تقول الناطقة باسم الهلال الأحمر الفلسطيني، نيبال فرسخ، إن نسبة الإشغال في مستشفيات غزة وصلت حدّها الأقصى، خصوصًا مع تدمير 23 سيارة إسعاف، وقتل 20 شخصًا من الكوادر الطبية 10 منهم مسعفون، وقصف 15 مستشفى بشكل مباشر أو غير مباشر، وقد توقف اثنتان منهما عن الخدمة بشكل كامل.

 

View this post on Instagram

 

A post shared by 7iber | حبر (@7iber)

«الناس بتسأل عن المخزونات والموارد، هذا الحكي مش عنا»، يقول الشوا، مؤكدًا أن النظام الصحي في غزة متهالك من قبل العدوان. وفي آذار الماضي، كانت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة  قد حذرت من تبعات استمرار منع الاحتلال الإسرائيلي إدخال الأجهزة الطبية وفرضه قيودًا على المرضى المتوجهين للعلاج في الضفة الغربية. حيث بلغت نسبة التراجع في خدمات الرعاية الصحية 66% ونسبة العجز في الأرصدة الدوائية 40% مقارنة بعام 2005. كما أن عدد الأسرة المتاحة لكل ألف شخص بلغ 1.4 سريرًا. وتمت الموافقة على 36% فقط من طلبات المرضى الفلسطينيين للحصول على تصاريح للسفر عبر معبر إيرز في عام 2022.

يقول الشوا إن قطع التيار الكهربائي عن المستشفيات وأقسامها ووحدات العناية المكثفة وغرف الطوارئ هو حكم بالإعدام على الجرحى: «عدا عن آلاف المرضى على أجهزة التنفس وبحاجة لعلاج، سرطانات وقلب وغسيل كلى وعمليات جراحية طارئة، الأولوية للمصابين بس هذول يموتوا يعني؟». تعمل المستشفيات في غزة مع انقطاع الكهرباء عن طريق ماتورات بديلة لا يمكن أن يستمر عملها أكثر من ثلاثة أيام، لعدم وجود الوقود الكافي ولمنع الاحتلال إدخال مولدات متطورة أو المعدات اللازمة لصيانتها، يقول ثابت.

وقد أوضح مدير مجمع الشفاء الطبي أن الوضع في المستشفى خرج عن السيطرة، لأن أعداد الجرحى أكبر من الطاقة الاستيعابية للمستشفى بنسبة 100%، ما يعني أن المجمع مهدد بالتوقف عن العمل في أي لحظة، و«سيتحول لمقبرة جماعية إذا استمر قطع الإمدادات»، يقول مهنا. ويضيف ثابت أن «كل ساعة تمر، تخرج منشأة طبية في غزة عن الخدمة (..) لدرجة أن جثامين الشهداء مرمية على الأرض، ما في وسع بالثلاجات، والناس مش قادرة توصل المقابر القريبة من غلاف غزة المهدد بالقصف».

«بطلنا حكي عن الوضع الصحي، الحكي هسة نعيش أو ما نعيش، ما في شبر آمن في غزة»، تقول فرسخ عن تهديد قوات الاحتلال الإسرائيلي للمواطنين بإخلاء شمال غزة، والقصف المستمر الذي شمل أيضًا النازحين قبل وصول وجهاتهم. مضيفةً أن جميع طواقم المسعفين في الهلال الأحمر لم يعودوا لبيوتهم منذ لحظة وقوع العدوان على غزة، إذ تعمل الكوادر الطبية على مدار الساعة: «طلبونا نخلي مستشفى القدس، وين نطلّع الناس من غرف الإنعاش؟ رح نظل معهم حتى لو قصفونا».

يطالب الشوا المجتمع الدولي بالتحرك السريع والعاجل لوقف العدوان وتوفير الاحتياجات الأساسية عبر ممر إنساني يمنع الإبادة الجماعية عن الفلسطينيين في غزة، «بلا شك شعبنا بتمتع بالإرادة، بس في احتياجات عشان الناس تظل عايشة وتصمد». أما مهنا فيقول إن الخوف هو من تحوّل كل غزة لمقبرة جماعية، وليس مجمع الشفاء الطبي فقط، في ظل استمرار الأزمة والقلق من انتشار الأوبئة: «هذا اسوأ عدوان وحصار مر علينا، ما شهدت المدينة هاي المدة من الإغلاقات وما تعافينا أصلًا من عدوان 2021».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية