كتيبة المخيم: طولكرم في طوفان الأقصى

الأحد 28 كانون الثاني 2024
مخيم نور شمس
أطفال يسيرون بجوار الأنقاض في مخيم نور شمس في طولكرم، إثر غارات إسرائيلية على المخيم. تصوير زين جعفر. أ ف ب.

في اليوم الثاني من هذا العام، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيليّ مخيم نور شمس في محافظة طولكرم بالضفّة الغربيّة منطقة عسكرية مغلقة، وحشّد قوّة عسكريّة يزيد تعدادها عن ألف جندي ترافقهم عشرات الآليات وعربات النمر وجرافات الـ(D9) المُصفّحة، ودخلوا بها المخيم بهدف الوصول إلى مجموعة مقاومة تنشط فيه.

في طريق دخولها دمّرت آليات الاحتلال بيوتًا في المخيّم وجرّفت شوارعه واعتقلت المئات، وحاصرت مستشفيات المحافظة ومنعت التغطية الصحفيّة. واستمرت العملية 44 ساعةً في أوسع وأعنف اقتحام للمخيم منذ عملية السور الواقي إبان انتفاضة الأقصى قبل نحو عشرين عامًا.

خلال هذه الساعات، سُمِع صوت إطلاق الرصاص، وانفجارات متقطعة، ولم يَعرف أحد ما الذي يجري إلّا بعد انسحاب الجيش من المخيم. حينها خرج أفراد المجموعة لتفقد خط سير القوة المقتحمة وكان بينهم قائدها، شاب نحيل عشرينيّ يُدعى «أبو شجاع»، أعلن حينها إفشال أهداف القوة المقتحمة في الوصول إلى أفراد مجموعته بعد أن واجهوها بالكمائن.

بعد ساعات، بثّت المجموعة مشاهد مصوّرة لجزء من هذه الكمائن؛ فيها تفجير عبوات ناسفة بالآليّات العسكريّة وعرض لبقاياها المدمّرة. وتحدّث «أبو شجاع»، بكلمات بسيطة، لكنها تعرف السياق العام لفعل المقاومة في المخيم قائلًا: «صعب يكسروه، اغتالوا سيف أبو لبدة بعده زادت المقاومة وشدّت، لما يغتالوا أبو شجاع رح تشد أزيد». وأبو لبدة هذا من مؤسسي الكتيبة وقائدها السابق.

تُعرف هذه المجموعة في المخيم باسم «الكتيبة»، وهي واحدة من عدة مجموعات تنتشر في الضفة بشكل عام، ومنها محافظات جنين ونابلس وطولكرم وامتدادها من مخيمات وأرياف، وقد صعّدت من عملياتها ضد جيش الاحتلال بعد السابع من تشرين الأول. فما الذي نعرفه عن هذه الكتيبة وغيرها من الكتائب المقاومة في الضفة الغربية، والتي تقلق الاحتلال منذ ما بعد سيف القدس، وزادت عملياتها بشكل ملحوظ في الفترة ما بعد طوفان الأقصى؟

المقاومة المسلّحة بعد «سيف القدس»: ولادة جديدة

إبّان معركة «سيف القدس» في أيّار العام 2021، التي أطلقتها فصائل المقاومة من غزّة، أعلنت سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، عن أولى مجموعاتها المقاومة المنظمة في مخيم جنين. وستعرف تلك المجموعة باسم «كتيبة جنين»، وقادها وقتها شاب سيستشهد لاحقًا اسمه جميل العمّوري.

تلت تلك المجموعة مجموعات أخرى تضمّ مقاومين من فصائل مختلفة، وبينها عرين الأسود وكتيبة بلاطة في نابلس، ومجموعة الرد السريع وتنشط في مخيم طولكرم، ومجموعة نور شمس، وتنشط في المخيم الذي تحمل اسمه.

كان تأسيس هذه الكتائب العملَ المسلّح الأكثر تنظيمًا في الضفة الغربية في مرحلة ما بعد انتفاضة الأقصى، وهي الفترة التي تعرّضت فيها فصائل المقاومة المسلحة لحملات مستمرّة من القمع والتفكيك، من قبل جيش الاحتلال والسلطة الفلسطينية، ولذا لم تتمكن من البناء على تجربة الانتفاضة، وانتقل شكل التنظيم فيها إلى خلايا بسيطة العدد، مثل ما حصل مع تجربة الشهيد أحمد جرار والأسير عاصم البرغوثي العام 2018.

حاول جيش الاحتلال تفكيك هذه الكتائب عبر الاعتقالات، مستعينًا بالسلطة أحيانًا، كما حاول كذلك تفكيكها من خلال الاغتيالات المتكررة لأفرادها وقياداتها. لكن هذا لم يتمّ له، وقد تفرّعت عن هذه الكتائب كتائب أخرى.

ومع أن المبادرة في تنظيم الحالة الجديدة قد جاءت بالمقام الأول من سرايا القدس، إلّا أن تكوين القيادات والأفراد في هذه الكتائب يأتي تنظيميًا من عدة فصائل مقاومة؛ تتوزّع ما بين سرايا القدس، وكتائب القسام، وكتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح، وكتائب الشهيد أبو علي مصطفى التابعة للجبهة الشعبية. بهذا يعمل أفراد «الكتيبة» من الفصائل المختلفة معًا، تحت قيادة واحدة، وهو شكل من العمل العسكري المشترك انتشر خلال معارك الانتفاضة الثانية، وبالتحديد في معركة مخيم جنين أثناء التصدي لجيش الاحتلال الإسرائيلي العام 2002؛ حين أسس قادة من سرايا القدس وكتائب شهداء الأقصى غرفة عمليات مشتركة ضمت معهم مقاومين من تنظيمات أخرى.

ثمة إرث مكانيّ كذلك في المناطق الثلاثة التي تأسست فيها هذه الكتائب الثلاث الأولى والرئيسيّة في جنين ونابلس وطولكرم؛ فهي المناطق التي اصطلح عليها في الانتفاضة الثانية بـ«مثلث رعب الشمال» بسبب زخم العمليات الفدائية وعمليات الثأر للشهداء التي خرجت منها تجاه الأراضي المحتلة العام 1948 والتي بسببها بشكل رئيس شيّد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرئيل شارون العام 2002 الجدار العازل الذي يفصل الضفة الغربية عن الأراضي المحتلة عام 1948.

تركّزت عمليات كتيبة مخيم جنين في البداية في المدينة ثم توسّعت إلى القرى الشرقيّة وصولًا إلى طوباس ومنطقة غور الأردن، فيما وسّعت كتيبتا طولكرم نشاطهما في القرى المحاذية للجدار العازل، وامتدت إلى بعض قرى قلقيلية. وسّع هذا التمدّد ساحة الاشتباك مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، وفتح جبهات صغيرة الحجم لكن كثيرة العدد أشغلت الجيش بسبب كثرة الاقتحامات التي يلجأ لها من أجل ملاحقة المقاومين في قرى ومخيمات شمال الضفة. مما اضطرّه في حزيران 2023 إلى نقل أربع كتائب إلى الضفة، منها وحدات تتبع للكوماندوز وأخرى للواء غولاني. وبلغت عمليات المقاومة في محافظات جنين ونابلس وطولكرم في 2023، 2108 عملية في أعلى وتيرة لها منذ سنوات، وتمثلت العمليات في: إطلاق النار والاشتباك مع قوات الاحتلال وتفجير العبوات الناسفة بآلياته.

حاول جيش الاحتلال تفكيك هذه الكتائب عبر الاعتقالات، مستعينًا بالسلطة أحيانًا، كما حاول كذلك تفكيكها من خلال الاغتيالات المتكررة لأفرادها وقياداتها. لكن هذا لم يتمّ له، وقد تفرّعت عن هذه الكتائب كتائب أخرى، مثل ما حصل مع كتيبة طولكرم التي تفرّعت عنها كتيبة أخرى لمخيم نور شمس، والذي يقع على بعد شوارع فقط من مخيم طولكرم الذي تنشط فيه أساسًا كتيبة طولكرم.

يبلغ تعداد الكتيبة الواحدة عشرات المقاومين؛ وهي تنسّق فيما بينها، فمثلًا حين اغتال جيش الاحتلال الإسرائيلي مؤسس كتيبة نور شمس، سيف أبو لبدة، كان في جنين رفقة مقاومين من كتيبة جنين. لكن التنسيق الأكبر، سيكون بين مقاومي كتيبة نور شمس ومقاومي كتيبة مخيم طولكرم حيث يدخل مقاومو الكتيبتين في المعركة معًا، ويجري تبادل الأدوار على الأرض بسبب العامل الجغرافي.

طولكرم بعد طوفان الأقصى

تنشط مجموعات المقاومة في طولكرم في استهداف حواجز الاحتلال والمستوطنات المحيطة بالمدينة، مثلما حصل عندما استهدفت مستوطنة عنّاب يوم التاسع من تشرين الأول الماضي، التي قتل فيها مستوطن وأصيب آخرون قبل أن تتوصل المجموعة المقتحمة لمكان صفّارات إنذار المستوطنة وتشغلها لبث الرعب، والتغطية على انسحاب المجموعة المقتحمة. وقد بلغت عمليات المقاومة في المدينة خلال عام 2023 حوالي 340 عملية، توزعت ما بين اشتباك مع جنود الاحتلال، وإطلاق للنار على المستوطنات، وتفجير العبوات ناسفة في آلياته.

في حالات الدفاع التي يقتحم فيها الجيش مخيمي نور شمس وطولكرم، والتي بلغت خلال العام الفائت حوالي 18 اقتحامًا، تعمل مجموعات متطوعة من الشباب الصغار من أبناء المخيم تسمي نفسها مجموعات حرّاس الليل والرصد والتتبع والإرباك في إبلاغ المقاومين بتحركات الجيش أولًا بأول، وإشغاله بالأكواع المتفجرة والزجاجات الحارقة.

وعند دخوله المخيم تكون العبوات الناسفة مثل «عبوة شمس» محليّة الصنع قد زرعت في أطراف الشوارع التي سيدخل منها الجيش. وقد أوقعت هذه العبوّات إصابات في جيش الاحتلال، وقلّلت من حركة جنوده على الأرض. لجأت المقاومة إلى هذا التكتيك بسبب محاولات الاحتلال تجفيف مصادر السلاح الذي كان يصل لها، ولذا وجدت في العبوات الناسفة محلية الصنع حلًّا.

على مستوى أفراد الكتيبة، يبدو أن جهدًا توعوعيًا قد بذل في تدريبهم، فهم لا ينجرّون إلى اشتباكات مباشرة مع الجيش في المناطق المكشوفة مثلًا أو تلك التي سبق انتشار القناصة فيها، وباتوا بدلًا من تركيز كل قوتهم على صد الاقتحامات، يتركون المنطقة المقتحمة مزروعة بالعبوات الناسفة وينسحبون إلى أطراف المخيم والضواحي وريف المحافظة في محاولة للمناورة والاشتباك بشكل متقطع، سيما عندما يكون الاقتحام كبيرًا وبعدد آليات كبيرة معززة بالمسيرات والقناصة؛  لذلك كثيرًا ما يخرج جيش الاحتلال دون الوصول لأي من المقاتلين، مثلما حدث في الرابع من كانون الثاني حين ظلّ الجيش يناور لمدة 44 ساعة للوصول إلى مقاومين من الكتيبة دون جدوى.

«إسرائيل»، ومحاولة تدفيع الأهالي الثمن

عند اقتحامه المدينة، يسعى جيش الاحتلال للانتقام من أهلها، ولتحريض الحاضنة الشعبية على المقاومة، فيجرّف الشوارع، ويفجّر المنازل، ويعتدي على البيوت وسكّانها. وفي مشهد تكرّر في أكثر من اقتحام لأكثر من مدينة في الضفة المحتلة، قام جنود الاحتلال بتعصيب أعين المعتقلين وتصويرهم في وضعيات يسعى من خلالها لإهانتهم وكسرهم. كما اعتدى جنود الاحتلال على المؤسسات العامة في المدينة والمخيمات، بل وحتى على رياض الأطفال. وارتقى في مدينة طولكرم وحدها، منذ بداية طوفان الأقصى سبعون شهيدًا.

عند اقتحامه المدينة، يسعى جيش الاحتلال للانتقام من أهلها، ولتحريض الحاضنة الشعبية على المقاومة، فيجرّف الشوارع، ويفجّر المنازل، ويعتدي على البيوت وسكّانها.

ينحدر سكّان المخيم من لاجئين من حيفا وقضائها، لجؤوا أول الأمر بعد نكبة العام 1948 إلى منطقة  «سهل جنزور» بالقرب من جنين، وانتقل جزء منهم إثر عاصفة ثلجية ضربت المنطقة عام 1950 إلى مخيم نور شمس الذي تأسس عام 1951 وسمي بهذا الاسم نسبة إلى معتقل نور شمس الذي استخدمه الإنجليز إبان احتلالهم فلسطين لحبس الثوار المحكوم عليهم بالإعدام أو المؤبدات. منذ ذلك الحين يعيش أهل المخيمين ظروفًا اقتصادية واجتماعية متشابهة، وتربطهم علاقة قرابة ونسب. 

بعد انتهاء ذلك الاقتحام الأطول على المخيم الذي تبلغ مساحته قرابة 250 دونمًا، وبتعداد سكّانه الذين يبلغون عشرة آلاف نسمة، خرج «أبو شجاع» وقال: «رسالتنا أهم إشي إلى الحاضنة الشعبية أبناء المخيم، يظلوا صابرين».

يعرف «أبو شجاع» ويعرف مقاتلو الكتيبة أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يستهدف حاضنتهم الشعبية بعد الفشل في الوصول إليهم، من أجل رفع كلفة العمل المقاوم في المخيم، وهذا ما فعله الجيش بالفعل من تجريف البنية التحتية، وتكسير محتويات البيوت التي داهمها، واعتقال المئات من شبابه. أدى هذا الخراب إلى نزوح بعض عائلات المخيم إلى الضواحي القريبة من المخيم أو إلى مدينة طولكرم، بحسب فراس يوسف عضو لجنة الطوارئ في المخيم «مش الكلّ بتحمل، وقد ما بده يكون البني آدم جبار رح يتعب». وتعمل لجنة الطوارئ على إصلاح ما يخلفه الاحتلال من دمار في البنى التحتية في المخيم من إصلاح شبكات المياه والكهرباء، وإعادة تعبيد الشوارع بتبرعات من أهالي المخيم والمدينة، لكن جيش الاحتلال يعاود الكرة: «ما بنلحق نصلح برجعوا بيخربوا» يقول يوسف.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية