مقاضاة «إسرائيل» دوليًا: البحث عن العدالة عبر منظومة منحازة

الخميس 18 كانون الثاني 2024
إسرائيل في محكمة العدل الدولية
المصدر: جيتي إيميجز.

منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، فشل مجلس الأمن الدولي في إصدار قرار وقف إطلاق النار؛ إذ استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) أو لم تحصل مشاريع القرارات على العدد المطلوب من الأصوات لاعتمادها. عرقلت الولايات المتحدة وقف إطلاق النار مرتيْن؛[1] بحجة أن مشاريع القرارات لا تقّر صراحة «حق «إسرائيل» في الدفاع عن نفسها» أو أنها «لن تعود بالنفع سوى على حماس». وعبر تاريخ مجلس الأمن استخدمت الولايات المتحدة حق النقض 89 مرة منذ عام 1945، كانت 45 مرة منها ضد القرارات التي تنتقد «إسرائيل».

يتألف مجلس الأمن الدولي، بوصفه الذراع التنفيذي للأمم المتحدة، من 15 عضوًا، خمسة منهم أعضاء دائمون وهم: الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية. تملك هذه الدول العظمى التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية حق النقض ضد أي قرار يناقشه المجلس، وإذ فشلت جميعها في وقف العدوان الإسرائيلي على غزة بعد مرور أكثر من مائة يوم من الحرب واستشهاد أكثر من 23 ألف فلسطيني، لجأت جنوب إفريقيا في 28 كانون الأول الماضي إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، أعلى هيئة قضائية في الأمم المتحدة، متهمة «إسرائيل» بارتكاب جرائم حرب في غزة ترقى للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين، طالبة اتخاذ تدابير مؤقتة [بمعنى عاجلة] تشمل وقف العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة «قبل وقوع خسارة وشيكة لا يمكن تعويضها».[2] 

حول هذه الدعوى القضائية ومسارها وإمكانية عرقلتها، نحاور شهد الحموري، الأستاذة الجامعية في القانون الدولي في جامعة كينت البريطانية. أنهت الحموري دراستها العليا في تخصص القانون من معهد الدراسات السياسية بباريس، وعملت محاضِرةً حول حقوق الإنسان في جامعة مانشستر وباحثة في القانون الدولي في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان ومنظمة الشفافية الدولية. انضمت الحموري كمستشار أكاديمي لمنظمة الحق في فلسطين بعد أن قدمت استشارات قانونية في قضية رأي استشاري جارية حول قانونية الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين أمام محكمة العدل الدولية، ولها أبحاث عدّة حول سياسات الاحتلال الإسرائيلي وتقاطعاتها مع القانون الدولي.

حبر: في البداية، ما الذي يجعل دولة مثل جنوب إفريقيا تتقدم بقضية ضد «إسرائيل» أمام محكمة العدل الدولية؟ وكيف يجعلها تاريخها مع الفصل العنصري تتبنى مواقف أكثر تقدمية من الدول الإفريقية في محيطها حيال القضية الفلسطينية قبل ومنذ طوفان الأقصى؟

شهد الحموري: عاشت جنوب إفريقيا تجربة نظام الفصل العنصري أو الأبارتايد لمدة 46 عامًا،[3] منذ عام 1948 حتى عام 1994، حيث حكم المستعمرون البريطانيون والأفريكانيون المنحدرون من أصول هولندية الغالبية السوداء. وضعت هذه الحكومة قوانين تمييزية تقسّم الأفراد إلى مجموعات عرقية تحرم غير البيض من الاقتراع وتجبرهم على العيش في بلدات منفصلة وتقدم لهم خدمات تعليم ورعاية صحية منخفضة الجودة، بهدف الحفاظ على الهيمنة الاقتصادية والسياسية للأقلية ذات الأصول الأوروبية. بعد حملات طويلة خاضتها حركة الحقوق المدنية ضد المجازر التي ارتكبها النظام، أخذت الاعتراضات الدولية على الأبارتايد بالازدياد وعقدت أول انتخابات ديمقراطية (أو غير عنصرية) عام 1994، فاز بها نيلسون مانديلا رئيسًا للجمهورية، بعد أن مكث في السجن 27 عامًا على خلفية نشاطه الثوري.

من هذا المنطلق، تدرك جنوب إفريقيا معنى العيش تحت الاستعمار -مع حفظ الفروقات بين السياقيْن- خصوصًا وأن الاحتلال الإسرائيلي تورط في دعم حكومة الأبارتايد، ولذلك فهي بالمجمل تتضامن أخلاقيًا مع نضال الشعب الفلسطيني لتقرير مصيره. كان للمؤتمر الوطني الإفريقي، الحزب السياسي الحاكم في جنوب إفريقيا منذ إلغاء الفصل العنصري، علاقات وثيقة مع منظمة التحرير الفلسطينية، وأقامت جنوب إفريقيا علاقات دبلوماسية مع دولة فلسطين عام 1995، وأدانت العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين في جميع الحروب السابقة على غزة.

منذ السابع من تشرين الأول الماضي، أكدت جنوب إفريقيا أن «التصعيد الجديد [في إشارة لعملية طوفان الأقصى] ناتج عن الاحتلال غير الشرعي المستمر للأراضي الفلسطينية، واستمرار التوسع في المستوطنات، واقتحام المسجد الأقصى والأماكن المقدسة المسيحية، واستمرار قمع الشعب الفلسطيني»، ثم علّقت مطلع تشرين الثاني الماضي العلاقات الدبلوماسية مع «إسرائيل» وأغلقت سفارة تل أبيب في العاصمة بريتوريا، وحذرت مواطنيها من الملاحقة القانونية في حال تورطوا بالقتال مع الجيش الإسرائيلي، وصولًا إلى القضية التي ترفعها في محكمة العدل الدولية اليوم. يعتبر موقف جنوب إفريقيا تقدميًا إذا أردنا مقارنته بمواقف محيطها الإفريقي من دول الكاميرون، والكونغو الديمقراطية، وكينيا، وغانا التي أعلنت دعمها الصريح لـ«إسرائيل»«في مواجهة الإرهاب».

كان من المناسب جدًا أن تتقدم بالدعوى جنوب إفريقيا، إذ لهذا البلد خبرة قانونية واسعة على الصعيد الدولي، وتعرف بحكم تاريخها كيف يمكن للهيمنة أن تكون متغلغلة في الأنظمة القانونية. كان لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي أن استفاد من القانون الدولي من خلال الدفع نحو إدانة نظام الفصل العنصري بعد ارتكابه مذبحة شاربفيل، وكذلك كانت الحال فيما يتعلق بقرار محكمة العدل الدولية عام 1971 ضد احتلال حكومة جنوب إفريقيا، زمن الفصل العنصري، لأراضي ناميبيا. للأسف لا تتمتع الدول العربية، بخبرة كافية في هذا المجال.

 

View this post on Instagram

 

A post shared by 7iber | حبر (@7iber)

ما هي الاتفاقية التي استندت إليها جنوب إفريقيا لتقديم دعواها ضد «إسرائيل»؟ ولماذا لجأت لمحكمة العدل الدولية حصرًا بدلًا من المحكمة الجنائية؟

أولًا أعتقد أن الدعوى التي قدمتها جنوب إفريقيا متماسكة للغاية، وفقًا للمعايير الأساسية في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948.[4] تعرّف الاتفاقية الإبادة الجماعية في المادة الثانية على أنها أي فعل يرتكب بقصد التدمير، كليًا أو جزئيًا، لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية معينة. وتشمل تلك الأفعال قتل أفراد الجماعة، وإلحاق الأذى الجسدي أو العقلي الجسيم بهم، وتدمير ظروفهم المعيشية بهدف اجتثاثهم، ومنعهم من الإنجاب، ونقل أطفالهم قسرًا إلى مجموعات أخرى. صادقت 153 دولة على هذه الاتفاقية بما فيها «إسرائيل»، ويحق لأي من الأطراف الموقعة على الاتفاقية، حتى لو لم يقع بها النزاع، التوجه لمحكمة العدل الدولية للفصل في ارتكاب الإبادة، بحسب المادة التاسعة من الاتفاقية. 

انطلاقًا من هذه المسؤولية، تقدمت جنوب إفريقيا بمذكرة من 84 صفحة تدلل فيها على مؤشرات الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين عبر استهداف المستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء واستخدام الأسلحة المحرمة دوليًا وتهجير الناس عدة مرات. لكن الصعوبة في القضية هو اشتراط إثبات النية، وهو ما فعلته جنوب إفريقيا عبر توثيق تصريحات الوزراء والمسؤولين الإسرائيليين التي وصفت الفلسطينيين بأنهم حيوانات بشرية ودعت لحصارهم واستهدافهم بأشد الطرق. ولأن التدليل على نية الإبادة واتهام الاحتلال بها قد يستغرق سنوات طويلة، فقد طالبت جنوب إفريقيا المحكمة بإصدار تدابير مؤقتة عاجلة تمنع تفاقم الوضع أثناء البت في القضية حتى لا نتفاوض أو نحصل على قرار بعد أن أصبحت غزة عبارة عن بركة دم. ولذلك، لا تحتاج جنوب إفريقيا لإثبات الإبادة الجماعية في غزة اليوم، لكنها تحتاج لإثبات خطرها عبر تتبع نوايا الاحتلال وقادته، وانعكاسات هذه النوايا في جرائم وإجراءات ميدانية.

تملك محكمة العدل الدولية اختصاص إبداء الرأي الاستشاري، مثل قرارها غير الملزم عام 2004 بأن جدار الفصل العنصري الإسرائيلي في فلسطين ينتهك القانون الدولي وعلى «إسرائيل» وقف بنائه. وتختص المحكمة أيضًا في الفصل في النزاعات بين الدول حيث تكون قرارات المحكمة ملزمة ومستعجلة نسبيًا مثل القضية التي تقدمت بها جنوب إفريقيا، بعكس المحكمة الجنائية التي تختص بالادّعاء على شخصيات يشتبه في تورّطها بارتكاب جرائم حرب، بما في ذلك الإبادة الجماعية، والجرائم ضدّ الإنسانية. وبما أن «إسرائيل» ليست من الموقّعين على اتفاقية الجنائية الدولية المعروفة بنظام روما الأساسي،[5] عدا عن أن التجربة الفلسطينية في القضايا الاستشارية أو المحكمة الجنائية لم تؤد حتى الآن لمحاسبة أي من المسؤولين الإسرائيليين المتورطين في حروب غزة خلال حرب 2014 ومسيرة العودة الكبرى في 2019 والحرب الأخيرة في 2021، فإن اللجوء للعدل الدولية كان الخيار الأنسب من ناحية الحساسية الزمنية والاختصاص القانوني المعني بالفصل بين الدول.

ما المسار القانوني الذي تتخذه الدعوى القضائية التي رفعتها جمهورية جنوب إفريقيا ضد «إسرائيل» في محكمة العدل الدولية، وما الحجج التي يستند لها الطرفين؟

رفعت جنوب إفريقيا هذه القضية في 28 كانون الأول الماضي، وبعد أسبوعين جدولت مواعيد المرافعات الشفهية حيث يستعرض كلا الطرفين الحجج أمام قضاة المحكمة لمدة ثلاث ساعات لكل منهما. في الجلسة الأولى بتاريخ 11 من كانون الثاني الجاري، استعرضت جنوب إفريقيا معلوماتها حول القتل الجماعي للفلسطينيين في غزة، وتدمير منازلهم، وطردهم وتهجيرهم، فضلًا عن الحصار المفروض على الغذاء والماء والمساعدات الطبية. استندت جنوب إفريقيا للأرقام والتقارير الصادرة عن خبراء الأمم المتحدة، ما يعني أن محكمة العدل الدولية لن تستطيع مخالفتها أو التشكيك في مصداقيتها، مؤكدةً أن التصريحات التي أدلى بها المسؤولون الإسرائيليون، مثل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، هي دليل على نيّة الإبادة الجماعية.

مثّل جنوب إفريقيا في هذه القضية فريق قانوني من تسعة محامين بارزين متخصصين في القانون الدولي؛ أشهرهم جون دوغارد الذي عمل قاضيًا سابقًا في محكمة العدل الدولية وكان مقررًا خاصًا للأمم المتحدة لحقوق الإنسان وهيئة القانون الدولي. تابع دوغارد بشكل مكثف الظروف الإنسانية في فلسطين وسبق أن وصف ممارسات «إسرائيل» العنصرية تجاه الفلسطينيين بأنها أسوأ بكثير مما كان عليه الأبارتايد في جنوب إفريقيا. لمعت أيضًا في هذه المرافعة المحامية عديلة هاشم التي نشطت في الدفاع عن قضايا المهمشين وحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية، واهتمت بالبحث في النشاط الاستيطاني الإسرائيلي لفلسطين.

في المقابل، مثلت «إسرائيل» أمام المحكمة في اليوم التالي وطعن فريقها القانوني في اختصاص المحكمة قائلين إن اتفاقية منع الإبادة الجماعية لا تخوّلها إصدار أمر بوقف عملياتها العسكرية في غزة، وهو دفاع تقني يهدف لإطالة مدة مراجعة القضية. كما طلبت «إسرائيل» من القضاة إسقاط التهمة بدعوى أن العمليّات العسكريّة الإسرائيليّة في غزة هي عمل من أعمال الدفاع عن النفس ضد حماس وأن الجيش الإسرائيلي أخذ معيار التناسبية في الحرب بعين الاعتبار وأدخل المساعدات للنازحين، وأن جنوب إفريقيا قدّمت «تصريحات مجتزأة ومشوَّهة بشكل صارخ».

ضم الفريق الإسرائيلي المحامي البريطاني مالكولم شو الذي عمل مستشارًا قانونيًا لـ«إسرائيل» في السابق، ومثلها في قضية جدار الفصل العنصري (2004) وقضية الأسلحة النووية (1996) وقضية نقل السفارة الأمريكية إلى القدس (2018). ورافقه أيضًا أهارون باراك، وهو رئيس سابق للمحكمة العليا الإسرائيلية الذي عرف بوصفه عرّاب شرعنة تعذيب الفلسطينيين، وقتلهم في حال كانوا دروعًا بشرية. رغم الخبرة الواسعة لكليهما في التلاعب في القانون والتماس الثغرات، إلا أن دفاع «إسرائيل» وصف بين جمهور القانونيين بأنه هش وركيك، إذ استند إلى لعب دور الضحية مقابل الحقائق التي قدمتها جنوب إفريقيا لإقناع القضاة. اعتبر أستاذ القانون الدولي، فرانسيس بويل، وهو أول محام أقنع محكمة العدل الدولية بإصدار أمر ملزم قانونيًا بوقف القتال في قضية بين البوسنة وصربيا عام 1993 بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، أن الحجج التي قدمتها جنوب إفريقيا كافية لتفوز في القضية ضد «إسرائيل».

من المرجح أن تستغرق المحكمة أسابيع قليلة لإصدار قرار فيما يتعلق بالتدابير المؤقتة، لكن قضية اتهام الاحتلال بالإبادة ستستمر حتى لو قررت المحكمة عدم اتخاذ إجراء مؤقت بوقف الحرب في غزة. إذا قررت العدل الدولية تأييد التدابير المؤقتة، فإنه سيعتبر انتصارًا قانونيًا تاريخيًا، وسيصبح ملزمًا لجميع أطراف الصراع نظريًا فور صدوره. إذا لم تلتزم الجهات المعنية بالقرار، يُحال القرار لتصويت مجلس الأمن حيث من المحتمل جدًا أن تقوم الولايات المتحدة بعرقلته مجددًا، لكن الفكرة هذه المرة هي أن إبطال قرار قضائي يقضي بوقف النار بسبب مصالح سياسية تقودها أمريكا لدعم «إسرائيل» سيكون بمثابة قطع الشعرة الوحيدة المتبقية من ثقة الشعوب ودول العالم الثالث بكل منظومة الأمم المتحدة وعدالة القانون الدولي.

 

View this post on Instagram

 

A post shared by 7iber | حبر (@7iber)

ما هي الضغوط السياسية التي يمكن لإسرائيل والولايات المتحدة ممارستها للتأثير على قرار المحكمة؟ وهل هناك أي التزامات قانونية ستترتب على الدول التي أعلنت عن دعمها لقضية جنوب إفريقيا؟

من المهم أن ننظر كيف استقبلت «إسرائيل» القضية باستنفار واسع؛ وصفت وزارة الخارجية الإسرائيلية طلب جنوب إفريقيا بأنه «فرية الدم» وهو وصف يستخدم لترويج افتراءات تاريخية ضد المجتمعات اليهودية، وذكرت أن الادعاء «يفتقر إلى أساس واقعي وقانوني ويشكل استغلالًا مشينًا ومهينًا للمحكمة» واتهمت بريتوريا بالتعاون مع «منظمة إرهابية تدعو إلى تدمير إسرائيل»، في إشارة إلى حركة حماس. رغم ذلك، حرصت «إسرائيل» على المثول أمام المحكمة[6] حتى لا يصدر بحقها قرار غيابي ولأنها معنية بشرعنة احتلالها والظهور في قالب «احترام» أعراف المجتمع الدولي والحيلولة دون انحدار شعبيتها أكثر مما هي منحدرة خصوصًا في الأوساط الغربية التي يشكل المشروع الصهيوني امتدادًا لها.

أصدرت الخارجية الإسرائيلية تعليمات لدبلوماسييها بالضغط على المسؤولين لإصدار بيانات ضد القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا. وقال وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون إن قضية محكمة العدل الدولية لن تأت بفائدة، وعلّق المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر إن واشنطن «لم تشهد حتى هذه المرحلة أفعالا تشكل إبادة جماعية» وإن قضية محكمة العدل الدولية «ليست خطوة مثمرة في هذا الوقت». وبادرت بعض المؤسّسات الإفريقية لإسناد الاحتلال؛ مثل «مؤسسة حلفاء إسرائيل» في كينيا التي اتهمت الأمم المتحدة «بالولع بمعاداة السامية» وقال رئيسها إن الأونروا تدير نظامًا تعليميًا يغذّي المبادئ الجهادية بهدف «تفريخ إرهابيّين صغار».

بدت هذه الأصوات منبوذة للغاية وسط الدعم الدولي الذي تمكنت جنوب إفريقيا من حشده، وبدا مثيرًا للضحك كيف أدانت دولة غواتيمالا «مزاعم الإبادة الجماعية» أمام العدل الدولية. يظهر هذا الموقف مدى اليأس الذي تمر به السياسة الأمريكية ووصايتها على بعض الدول من أجل ضمان انحيازها لـ«إسرائيل»، لأن إدانة «إسرائيل» في هذه القضية هي إدانة للولايات المتحدة أيضًا، وبالتحديد إدارة بايدن التي ستجرّم بالتواطؤ بموجب المادة الثالثة الفقرة «هـ» من الاتفاقية الدولية لمناهضة الإبادة الجماعية.

أيدت الأردن وباكستان وبنغلاديش وبوليفيا وبلجيكا وتركيا وفلسطين وفنزويلا وماليزيا وناميبيا ونيكاراغوا قضية جنوب إفريقيا. وأصدرت «منظمة التعاون الإسلامي» التي تضم 57 دولة أيضًا بيانًا يدعم القضية. لم يتجاوز هذا السقف الدعم الرمزي المعنوي إذ لا يعتبر إسناد الدولة المتقدمة بالشكوى، مثل قيام تركيا بتزويد ملفات مرئية للمحكمة وإعلان الأردن نيته لتقديم مرافعة قانونية، انضمامًا رسميًا، خصوصًا وأن جنوب إفريقيا قررت خوض هذه المعركة القانونية -المتعلقة بإصدار قرار حول التدابير المؤقتة- منفردة لضيق الوقت.

وفي إطار ذلك، يمكن لمصر أن تزود المحكمة بمذكرة مكتوبة حيال زعم فريق الدفاع الإسرائيلي في جلسته الشفهية أن مصر هي المسؤولة عن منع دخول المساعدات الإنسانية والإغاثية إلى قطاع غزة، وهو ما نفاه رئيس الهيئة العامة للاستعلامات المصرية، ضياء رشوان. بعد صدور قرار المحكمة المبدئي، يمكن لهذه الدول الانضمام للقضية رسميًا عبر ترشيح قضاة ممثلين والمشاركة في مرافعات منفصلة ستكون جزءًا من محاولة إثبات إدانة الاحتلال بالإبادة أو حتى العكس، وهو ما أعلنت ألمانيا نيتها القيام به عبر التدخل كطرف ثالث إلى جانب «إسرائيل» بموجب المادة 63 من نظام المحكمة الأساسي حيث يسمح للدول طلب توضيحات حيال الاتفاقيات متعددة الأطراف.

كيف تقيّمين موضوعية تشكيلة القضاة المخولة بالبت في هذه القضية؟

تضم محكمة العدل الدولية 15 قاضيًا يتم انتخابهم من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن لفترة ولاية مدتها تسع سنوات، سيتم تعزيزهم بقاض إضافي من كل طرف في القضية. لا يمكن أن يكون هناك أكثر من قاض واحد من نفس البلد، وذلك بهدف أن يمثل القضاة أنظمة وثقافات قانونية مختلفة حول العالم، وأن يتمتع القضاة باستقلالية ومهنية عالية، لأن وجودهم في المحكمة لا يعني أنهم يعملون كممثلين لبلادهم. القضاة المنتخبون الحاليون هم من أستراليا، والبرازيل، والصين، وفرنسا، وألمانيا، والهند، وجامايكا، واليابان، ولبنان، والمغرب، وروسيا، وسلوفاكيا، والصومال، وأوغندا والولايات المتحدة.

يمكنني النظر في تشكلية القضاة الحالية على أنها محافظة، لا أعتقد أنها مثالية لأن إمكانية استجابتهم للضغوط السياسية واردة.

رجّح الخبير اللبناني المتخصص في العدالة الجنائية عمر نشابة تعرض قضاة المحكمة لضغوطات سياسية من حكومات بلدانهم أو من اللوبي الصهيوني، وبالتحديد رئيسة المحكمة القاضية الأميركية جوان دوناهيو والقاضي الفرنسي في المحكمة روني ابراهام والقاضي الألماني غيورغ نولتي والقاضية الأسترالية هيلاري تشارزورث والقاضي الياباني يوجي ايواساوا، أو أن يتأثروا بمواقف المسؤولين الرسميين في دولهم والتي بررت استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة. وعلى العكس من ذلك، هناك بعض التطلعات الإيجابية من تصويتات القضاة العرب وهم المغربي محمد بنونة والصومالي عبد القوي أحمد يوسف واللبناني نواف سلام.

وصلت دوناهيو لمحكمة العدل الدولية بترشيح من وزارة الخارجية الأمريكية حيث عملت نائبة لمستشارها القانوني. دوناهيو التي ستتقاعد نهاية شباط القادم بعد 14 عامًا متواصلة من العمل في المحكمة أمام اختبار حقيقي لمهنيتها ومصداقيتها بعد أن سبق اتهامها بالانحياز فى قضية تهجير سكان «أرخبيل تشاغوس» حيث كانت الصوت الوحيد بين القضاة ورفضت اتهامات التهجير لصالح بريطانيا. بنسبة 90% يؤيد قضاة المحكمة قرارات في مصلحة دولهم وأطرافهم؛ صوّت نائب رئيس المحكمة، القاضي الروسي كيريل جيفورجيان مع القاضية الصينية العام الماضي ضد قرار المحكمة المؤقت، الذى يطالب روسيا بوقف أي نشاط عسكري في أوكرانيا.

يحق للقضاة أن يقدموا حكمًا مشتركًا فيما بينهم أو حكمًا مستقلًا لكل منهم، إلا أن القرارات يتم اتخاذها وفق نظام الأغلبية، حيث تكفي ثمانية أصوات لدعم الطلب الجنوب إفريقي. لكن في حال تساوت الأصوات، يعتبر صوت رئيس المحكمة مرجحًا. تشير آراء الأوساط القانونية أن أي قرار للمحكمة لا يؤيد التدابير المؤقتة هو قرار مسيّس ويشكك بشرعية المحكمة ككل، والتي حكمت لصالح وقف إطلاق النار في أوكرانيا ودعت روسيا إلى وقف الأعمال العدائية في آذار 2022. 

ماذا لو فشلت الأمم المتحدة مجددًا في وقف إطلاق النار في غزة؟ ما الآثار المحتملة لذلك على شرعية محكمة العدل الدولية والقانون الدولي؟

قرار العدل الدولية نهائي وغير قابل للاستئناف. إذا فشلت المحكمة في دعم التدابير المؤقتة ووقف العمليات العسكرية الإسرائيلية في القطاع عبر الادعاء بأن «إسرائيل» «لم تنفّذ عمليات من شأنها أن تقود إلى إبادة جماعية» حتى لو دعمت المحكمة بقية المطالب مثل إدخال المساعدات، فهذا يعني فشل المنظومة الدولية بالكامل عن ممارسة دورها في إنصاف حقوق الإنسان، الإنسان العربي قبل الغربي، عدا عن خضوعها للتسييس الذي يفقدها الشرعية في أن تكون ذراعًا قضائيًا دوليًا. الحقائق في ملف جنوب إفريقيا كافية جدًا لدعم وقف إطلاق النار بشكل دائم في غزة وإدخال المساعدات لأهلها. وقد سبق للمحكمة اتهام صربيا بالفشل في وقف الإبادة الجماعية، بعد أن اعتبرت التهجير القسري والضرر المضاعف على الأطفال دليلًا على الإبادة الجماعية. إذا كانت هذه الاعتبارات، والتي تنطبق على غزة اليوم، غير كافية لوقف الحرب أقترح جديًا إغلاق قاعات المحكمة وتنحيتها عن هذا الدور.

أما إذا صدر القرار وفشلت المحكمة في تنفيذه، أي أن «إسرائيل» لم تلتزم به وهو سيناريو متوقع جدًا أو أن الولايات المتحدة أبطلته في مجلس الأمن بالفيتو، فهذا يكرس فكرة أن القانون الدولي ولد عقيمًا وهو مصمم لدعم الأقوى أو ما نسميه بـ«تحقيق عدالة الفائز». أقرّت محكمة العدل الدولية بالإجماع تدابير مؤقتة ضد ميانمار على خلفية خطر ارتكاب إبادة جماعية ضد سكان الروهينجا في قضية رفعتها غامبيا عام 2019، اضطر الجيش في ميانمار للالتزام بالقرار وأمرت المحكمة الحكومة بتقديم تقرير عن امتثالها للتدابير كل ستة أشهر رغم أن اتهام الإبادة الجماعية لم يثبت بعد. لا يوجد ما يمنع محاسبة «إسرائيل» وإلزامها بالاستجابة لتنفيذ قرار مشابه إلا الغطاء العسكري والسياسي والدبلوماسي الأمريكي. سيكرّس الفشل في وقف إطلاق النار بقرار دولي الفجوة بين مجلس الأمن الدولي وقرارات الجمعية العامة التي تؤيد القضية الفلسطينية في معظمها. تمثل هذه القرارات غير الملزمة وجهة نظر الجنوب العالمي الذي دعم وقف إطلاق النار وحق الشعب الفلسطيني في المقاومة وحتى اعتبار الصهيونية شكلًا من أشكال العنصرية.

على أية حال، إن صدور قرار إيجابي للمحكمة حتى لو لم ينفذ سيفتح هوامش من العمل المدني، حيث يمكن للمؤسسات الضغط على بلدانها لإصدار قرارات محلية بالاستناد إلى القرار الدولي، أو قيادة دول الجمعية العامة لقرارات دولية تعزل «إسرائيل» اقتصاديًا وسياسيًا. شخصيًا أميل للتفاؤل وتوقع خسارة «إسرائيل» هذه القضية والدخول في حقبة تنعدم فيها شرعيتها الدولية بين المجتمعات الغربية. على الاتفاقية التي أقرتها الأمم المتحدة بسبب جرائم النازية أن تعود لإدانة النازيين الجدد على ارتكابهم الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، وللمفارقة التاريخية أن تثبت ذلك جنوب إفريقيا، أي أن تقاضي ضحية الأمس أبارتايد اليوم، لكن بخلاف ذلك، أعتقد أننا سنكون مضطرين للعودة لنقاشات جذرية حول جدوى الأمم المتحدة.

  • الهوامش

    [1] الأول هو مشروع القرار البرازيلي في 18 تشرين الأول الماضي، أيده 12 عضوًا وامتنعت روسيا وبريطانيا عن التصويت، والثاني هو مشروع القرار الإماراتي في الثامن من كانون الأول الماضي، أيده 13 عضوًا وامتنعت بريطانيا عن التصويت.

    [2] بحسب الترجمة الأولية التي قدمها ملحق القوس الصادر عن جريدة الأخبار اللبنانية لنص المذكرة القانونية التي قدمتها جمهورية جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية.

    [3] تعتبر ممارسات الفصل العنصري في جنوب إفريقيا جزءًا من مخلفات الاستعمار البريطاني للبلاد قبل عام 1948، لكن حكم الفصل العنصري كنظام وقوانين بدأ في 1948 مع تولي حكومة المستوطنين حكم البلاد.

    [4] انتهكت «إسرائيل» منذ السابع من تشرين الأول الماضي اتفاقيات أخرى ذات صلة بالقانون الدولي الإنساني وهي اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الملحقة بها وميثاق الأمم المتحدة وإعلان سان بطرسبرغ لعام 1868 لحظر القذائف المتفجرة، وقانون الاحتلال الحربي واتفاقية لاهاي لعام 1907 الهادفة لوضع قيود على استخدام الأسلحة في النزاعات المسلحة، وبروتوكول جنيف بشأن حظر استخدام الغازات السامة في عام 1925 واتفاقية منع استخدام الأسلحة الكيماوية، واتفاقية أوسلو.

    [5] رغم أن المحكمة الجنائية أقرّت عام 2021 أن اختصاصها القضائي يشمل الأراضي الفلسطينية المحتلة.

    [6] سبق وأن قاطعت «إسرائيل» محكمة العدل الدولية على خلفية قرارها بشأن جدار الفصل العنصري عام 2004 بذريعة عدم الاعتراف بسلطة تلك المحكمة واتهامها بعدم العدالة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية