عامان على حرب أوكرانيا: هل اقتربت النهاية؟

الأحد 25 شباط 2024
قوات أوكرانية في منطقة دونيتسك. في 20 شباط 2024. تصوير أناتولي ستيبانوف. أ ف ب.

(نشر هذا المقال بالإنجليزية في مجلة Canadian Dimension بتاريخ 22 شباط)

يمكن القول إن أحدًا لم يستطع التنبؤ بدقة بتقلبات الحرب في أوكرانيا، المستمرة منذ عامين. في البداية بالغ المحللون في تقدير قوة الجيش الروسي، معتقدين أنه سيهزم أوكرانيا سريعًا. وحين تبين أن ذلك غير صحيح، أخطأ المحللون مرة أخرى بالتقليل من شأن روسيا، معتقدين أن أوكرانيا لا بد أن تنتصر.

بدأت الدائرة تدور مرة أخرى الآن، وتلقي بظلالها القاتمة على الغرب، وهو يواجه واقع أن روسيا لم تنهَرْ تحت ثقل العقوبات، كما لا يظهر الجيش الروسي أي إشارة نحو التفكك، بل إن أوكرانيا هي التي تبدو في وضع أسوأ في المعارك الأخيرة. لذلك، فالسؤال المطروح الآن هو إذا ما كان وجوم الغرب الحالي مبررًا أم أنه سوء فهم آخر للواقع.

يختلف الوضع العسكري اليوم كثيرًا عنه قبل عام، عندما كان المعلقون العسكريون يتوقعون بثقة أن النصر النهائي أصبح في متناول أوكرانيا. عُلقت الكثير من الآمال على الهجوم الذي خُطط لربيع وصيف عام 2023، والذي كان اتجاهه واضحًا على نطاق واسع؛ لدرجة أنه منح الروس الكثير من الوقت للاستعداد. كان الأوكرانيون يخططون لضرب جنوب مقاطعة زباروجيا للوصول إلى البحر الأسود وبحر أزوف، بحيث يفصلون شبه جزيرة القرم عن روسيا ويقطعون طرق إمدادها. ساد الاعتقاد بأن روسيا ستضطر حينها إلى الاعتراف بهزيمتها، بل إن النخب الروسية الساخطة قد تجرد بوتين من السلطة أيضًا في سبيل إنقاذ ما يمكن إنقاذه وسط هذه الكارثة.

بينما اعتقد بعض المحللين العسكريين أن هذا الهدف قد يكون مبالغًا فيه بالنسبة لأوكرانيا، إلا أنهم مع هذا توقعوا بأن يحقق الأوكرانيون تقدمًا ملحوظًا في بعض المناطق. ارتفع منسوب التفاؤل، واستمر ذلك حتى بعد أن واجه الهجوم -الذي رُوّج له كثيرًا- مصاعب كبرى، مباشرةً بعد انطلاقه في مطلع حزيران. تغيرت السردية بعدها، وسارع المعلقون للقول إن السيطرة على الأراضي ليست بالأمر المهم، إنما ما يهم هو تدمير جيش العدو، وأن الروس يعانون -على حد زعمهم- من إصابات تفوق إصابات الأوكرانيين (وهو ادعاء لم يقدم عليه برهان دامغ قط). وفق تلك السردية، كان حساب الاستنزاف لصالح أوكرانيا. إذ بالدعم الاقتصادي الغربي الهائل، بات محتومًا انتصار أوكرانيا على روسيا التي باتت أضعف بكثير.

أشد المحللين تفاؤلًا يتحدثون الآن عن أن أوكرانيا عليها أن تصمد في مواقعها خلال عام 2024، لتعاود الهجوم عام 2025. وحتى هذا يعتمد على زيادة الإمدادات الغربية من الأسلحة إلى أوكرانيا.

بيد أن الأمر لم يكن كذلك. فمع بداية تشرين الأول، كان الجيش الأوكراني قد تخلى عن هجومه، بعدما تقدم 10 كيلومترات على أكثر تقدير في محورين صغيرين على الجبهة. استُهلك المخزون الهائل من الذخيرة الذي تم تكديسه من أجل الهجوم، في حين كان الجيش الروسي، وهو أبعد ما يكون عن خسارة معركة الذخائر، قد أصبح أقوى من ذي قبل. بحلول منتصف تشرين الأول، بات الروس الذين أسندوا بأعداد كبيرة من المجندين الجدد، وبتصنيع عسكري متزايد، وإمدادات من الأسلحة من إيران وكوريا الشمالية، يهاجمون على طول الجبهة التي تمتد لما يقارب ألف كيلومتر. الأسبوع الماضي أثمر هجومهم أخيرًا باحتلال أحد أكثر المواقع الأوكرانية تحصينًا، وهي بلدة أفديفكا. وما يزال متوقعًا أن يحقق الروس المزيد من التقدم. 

علاوة على فشل هجوم أوكرانيا في الصيف، عزز الاستيلاء على أفديفكا أجواء الوجوم بين السياسيين الأوكرانيين والمعلقين في الغرب، واختفى الحديث عن انتصار أوكراني كليًا تقريبًا. فحتى أشد المحللين تفاؤلًا يتحدثون الآن عن أن أوكرانيا عليها أن تصمد في مواقعها خلال عام 2024، لتعاود الهجوم عام 2025. وحتى هذا يعتمد أيضًا على زيادة الإمدادات الغربية من الأسلحة إلى أوكرانيا، إضافة إلى حل الأوكرانيين أنفسهم لمشاكل أعداد القوات المسلحة. أما في الوقت الحالي، فإن تدفق السلاح قد تباطأ عن العام الماضي، بينما يجاهد الجيش الأوكراني لتجنيد عدد ملائم من السكان. نُقل عن العسكريين المسؤولين عن التجنيد إقرارهم بأنهم لم يحققوا أهداف التجنيد الإلزامي، وحتى من ينجحون في تجنيدهم هم غالبًا من كبار السن و«فاقدون للياقة البدنية، ويعانون من مشاكل صحية تحد من قدراتهم القتالية»، بحسب معلقين موالين لأوكرانيا. يجري العمل حاليًا على تمرير قانون تجنيد جديد في البرلمان الأوكراني، ولكن حتى إذا مُرِّر، سيقتضي الأمر مرور أشهر كي تصبح تأثيراته ملموسة، وليس هناك ضمانات بأنه سينجح في تمكين الدولة الأوكرانية من سحب المزيد من سكانها العازفين عن الخدمة العسكرية. يعلق المحلل العسكري الأمريكي روب لي بأن «أوكرانيا تواجه قضيتين خطيرتين الآن: نقص الذخيرة ونقص المشاة». وهذا هو تقريبًا تعريف الجيش الذي يخسر.

من الناحية الأخرى، لدى روسيا مشاكلها أيضًا. فخسائرها كبيرة، وبينما تظهر قدرتها على كسب انتصارات تكتيكية محدودة، فإنها لم تثبت بعد قدرتها على تحويل هذه الانتصارات إلى نجاحات عملياتية أوسع. وفي الوقت نفسه، تستمر باستهلاك الإمدادات بمعدل أسرع من إنتاجها، وهي عملية لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، إذ سرعان ما سينفد المخزون. وفي حين تطلق روسيا القذائف المدفعية أكثر من أوكرانيا بكثير، إلا أنها لم تعد تطلق الكم الذي أطلقته في السابق. وهذا يقود البعض للقول إن «القدرات المحلية الروسية لإنتاج الذخيرة ليست كافية في الوقت الحالي لتلبية احتياجات الصراع مع أوكرانيا».

زيادة الإنتاج العسكري الروسي تعني بأن الصناعة الروسية تفوق حاليًا الناتو بأكمله في أغلب الحقول المهمة، مثل القذائف المدفعية والدبابات والمسيّرات.

رغم ذلك، فإن الزيادات في الإنتاج العسكري الروسي تعني بأن الصناعة الروسية تفوق حاليًا الناتو بأكمله في أغلب الحقول المهمة، مثل القذائف المدفعية والدبابات والمسيّرات. وحتى الآن، ليس هناك مؤشرات على أي انخفاض مهم في قدرات روسيا القتالية. رغم أن القذائف الروسية باتت أقل فعالية إلى حد ما، إلا أنها تبقى قوية، وقد تم تعويض انخفاض فعاليتها بالاستخدام المتزايد للمسيرات و«القنابل الانزلاقية» الكبيرة التي تطلق من الجو، مثل قنابل فاب 500 و1500 كيلوغرام، التي ألقي العشرات منها يوميًا على أفديفكا خلال الأيام الأخيرة من المعركة هناك. تتفوق روسيا عسكريًا حاليًا بشكل كبير على أوكرانيا، وحتى لو ازدادت المساعدات الغربية لأوكرانيا بشكل مفاجئ، فلا يبدو أنها ستزداد إلى الحد الذي يجعلها متكافئة مع روسيا، هذا إذا نحينا جانبًا الأفضلية الكبيرة المطلوبة لتحقيق اختراق عسكري.

أضف إلى ذلك أن روسيا تتمتع بأفضلية ملحوظة في القدرات البشرية، ليس لأن تعدادها السكاني أكبر بكثير من أوكرانيا فحسب، بل أيضًا لأنها أثبتت قدرتها على تجنيد أعداد كبيرة من المتطوعين. بحسب كيريلو بودانوف، رئيس الاستخبارات العسكرية الأوكرانية، تجند روسيا حوالي 30 ألف متطوع شهريًا، وهو عدد قريب من الادعاءات الرسمية الروسية التي تقارب 400 ألف متطوع سنويًا. بالمقابل، أثبتت أوكرانيا خلال العام المنصرم أنها غير قادرة على تجميع ولا حتى نصف هذا العدد من المجندين من خلال التجنيد الإجباري (أما التطوع في الجيش الأوكراني فبات شحيحًا هذه الأيام). ادعى المحللون الغربيون لزمن طويل أن إحدى أكبر أفضليات أوكرانيا على روسيا هي الرغبة الأكبر بالقتال، لكن إذا صحّ هذا يومًا ما، فإنه لا يبدو كذلك اليوم.

كل هذا يجعل احتمالات النصر الأوكراني الحاسم تبدو ضئيلة جدًا. فحتى لو استطاعت أوكرانيا استعادة المبادرة بشكل ما، يبدو مستبعدًا أن تستعيد يومًا درجة التفوق العسكري اللازم لتحقيق هدفها السياسي المعلن باستعادة حدودها لعام 1991. ليس من الحكمة القول باستحالة الأمر، إلا أنه يصعب حقيقة تخيل كيف سيتم ذلك في الوقت الحالي. وحتى لو تمكنت من ذلك، فسيستغرق الأمر سنوات طويلة جدًا، إلى حد يدفع المرء للتساؤل عمّا سيتبقى من أوكرانيا وسكانها بنهايتها.

لدى روسيا مشاكلها أيضًا. فخسائرها كبيرة، وبينما تظهر قدرتها على كسب انتصارات تكتيكية محدودة، فإنها لم تثبت بعد قدرتها على تحويل هذه الانتصارات إلى نجاحات عملياتية أوسع.

بالنظر إلى هذا الواقع، بدأ النقاش يتنقل أكثر فأكثر من كيفية مساعدة أوكرانيا على كسب الحرب إلى كيفية مساعدة أوكرانيا على إجبار روسيا على التخلي عن أهدافها السياسية المتطرفة (تحييد أوكرانيا ونزع عسكرتها) وتقّبل نتائج أكثر محدودية. قد يتطلب هذا أن تحتفظ روسيا بالأراضي التي تسيطر عليها عند وقف إطلاق النار، مع احتفاظ أوكرانيا بخيار الانضمام إلى الناتو فيما بعد. هذا هدف أكثر واقعية بالنسبة لأوكرانيا من استعادة حدودها السابقة. ولكن يجب الانتباه إلى أن هذا أيضًا سيتطلب سنوات عديدة من الصراع، من أجل إقناع القيادة الروسية بعدم قدرتها على تحقيق ما يفوق ذلك والقبول بما أنجزته من انتصارات. مرة أخرى، فإن الثمن الذي يتوجب على أوكرانيا دفعه لمثل هذه الحرب المطولّة سيكون هائلًا، ما يضطر المرء إلى التساؤل ما إذا كان الأمر يستحق ذلك.

في واقع الحال، بعد سنتين من الصراع، فإن المحصلة ما تزال غير أكيدة، رغم توضح الكثير من الأمور. تبدو فرص النصر الأوكراني الحاسم الآن ضئيلة جدًا، لكن الأقل تأكيدًا هو ما إذا كانت روسيا نفسها تستطيع تحقيق مثل هذا النصر. ليس هناك الكثير من المؤشرات على تحقيق روسيا اختراقًا مفاجئًا للخطوط الأوكرانية والعودة إلى حرب المناورات السريعة. إلا أن هنالك احتمالًا بأن يتسبب استمرار الضغط خلال الأشهر القليلة القادمة بحصول شيء ما في مكان ما يؤدي إلى انفجار على الجانب الأوكراني. إلا أن هناك احتمالية بأن يصمد الأوكرانيون بشكل ما، وأن خليطًا من الدعم الغربي المتجدد والتعبئة الناجحة للقوات المسلحة الأوكرانية، ستمكن الأوكرانيين من الحفاظ على درجة من التوازن العسكري، تؤدي إلى جمود طويل الأجل.

تحظى الأشهر القليلة القادمة بأهمية حاسمة، كونها ستحدد على الأرجح في أي مسار من هذه المسارات ستتجه الحرب. وفي انتظار ذلك، يبقى أمامنا قتال طويل ودامٍ.


بول روبنسون هو أستاذ في كلية الدراسات العليا في الشؤون العامة والعالمية في جامعة أوتاوا، وزميل متقدم في معهد السلام والدبلوماسية. ألف عددًا كبيرًا من الأعمال حول التاريخ الروسي والسوفييتي، بما فيها «المحافظة الروسية» (Russian Conservatism)، الصادر عن منشورات جامعة شمال إلينوي عام 2019.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية