وائل الدحدوح: من الأسْر إلى نقل الإبادة

الإثنين 05 شباط 2024
تصميم محمد شحادة.

لو لم تكن غزّة تحت الاحتلال ربما كان الدحدوح سيواصل حياته في حيّ الزيتون التاريخيّ في غزّة؛ على طريقة أسلافه منذ مئات السنين؛ أفرادًا في عائلات ميسورة الحال يُديرُون أملاكًا كثيرة، وينشطون في الزراعة والتجارة.[1]

لكن الوعي المبكر للإنسان في نهاية المطاف ليس إلا خليط من تاريخ محيطه ومجموعة الأحداث التي تجري في هذا المحيط؛ وهذا ما كان عليه وعي الدحدوح المولود في العام 1970؛ والذي يحمل تاريخًا عائليًا من جيليْن حاربا الاحتلال؛ الأول في معارك 1948، مثل خالد محمود الدحدوح الذي استشهد دفاعًا عن مدينة يافا، والثاني حارب الاحتلال بعد 1967، مثل الحاج شعبان الدحدوح الذي اعتقل عام 1968 بتهمة دعم الفدائيين وتوفير المخبأ لهم.

ويتأثرّ هذا الوعي كذلك بمجريات الأحداث الحاضرة في محيطه حين خرج جيله في انتفاضة الحجارة عام 1987 لمواجهة المحتلّ. يقول الدحدوح عن الجوّ العام السائد في محيطه تلك الفترة: «مكنش ممكن الواحد إلّا يمارس أعمال الانتفاضة، زيه زي آلاف الشباب في البلد؛ احتلال بطخّ وبقتل ويجرح ويهدّم، فش إمكانيّة تقف متفرّج».

وائل الدحدوح: من المعتقلات البداية

أُسرَ الدحدوح ومعه آلاف الفلسطينيين بسبب نشاطهم في الانتفاضة، وحكم عليه بالسجن سبع سنوات. وهو ما  صقل وعيه على يد الحركة الأسيرة التي كانت تمرّ -من ناحية التنظيم والاهتمام بالفرد- بالمرحلة الثالثة من مسيرتها التي امتدت بين الأعوام 1984 و1993.

جاءت هذه المرحلة بعد مرحلتين؛ الأولى بين 1967 و1977 حاولت فيها إدارة السجون بشكل ممنهج  تحويل الأسرى إلى أرقام من خلال محاربة أشكال التنظيم الداخلي بين الأسرى بمنع الجلسات الثقافيّة والتوعويّة السياسيّة ومنع الكتب السياسية والأدبيّة عنهم، ومن خلال افتعال المشاكل بينهم.[2] أنهى الأسرى هذه المرحلة بعد إضراب معتقل عسقلان 1976 الذي امتد تأثيره لباقي المعتقلات فسمح لهم بإدخال الصحف والكُتب، والاجتماع في حلقات ثقافيّة وتنظيمية لتتحوّل المعتقلات إلى مراكز إنتاج الكوادر التنظيمية والفكرية والثقافية.

كادت مرحلة التنظيم هذه أن تنتهي عام 1985 عندما خرج آلاف المعتقلين، وبينهم قياديون، من المعتقلات في صفقة لتبادل الأسرى بين الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين -القيادة العامة- والاحتلال، لكن سرعان ما أعاد الأسرى فرز قيادات جديدة عملت على صقل وتنظيم وعي المعتقلين حديثي التجربة من أسرى انتفاضة الحجارة، من خلال إصدار المجلات والدوريات الثقافية السياسيّة والاحتفالات المجمّعة،[3] وكان الدحدوح ابن 18 عامًا أحد هؤلاء الأسرى صغار السنّ وحديثي التجربة الذين دخلوا المعتقل عام 1988.

برزت ممارسات الدحدوح للثقافة التي تلقاها في الأسر حين غطّى أحداث الانقسام الفلسطيني المسلح بين حركتيْ فتح وحماس في غزّة صيف العام 2007، ثم لاحقًا تداعيات هذا الانقسام سياسيًا.

يصف الأسير اللبناني المحرر حسن حجازي، والذي كان معتقلًا مع أحد أقارب الدحدوح في تلك الفترة، أثر نشاط الحركة الأسيرة التوعويّ والسياسيّ داخل المعتقلات على ثقافة الأسرى صغار السن بأنها مكّنت هؤلاء الشباب ليكونوا أكثر استعدادًا لتبني نمط من الثقافة والسلوك المرتبط بمواجهة المحتلّ، وتأسيس وعي معمّق من خلال تبادل الكتب، وإقامة النشاطات والدورات الثقافية اليومية ذات الطابع السياسي والثقافي، بالإضافة إلى الأنشطة المجمّعة.

يتحدّث الدحدوح عن تأثير هذه المرحلة من عمره على حياته الشخصيّة، وبدايات حياته المهنية لاحقًا بالقول إن مرحلة الأسر كان لها دور في إضفاء بصمة على شخصيّته وانعكست على أدائه في الميدان من خلال اهتمامه بالشؤون العامّة ومنها السياسية. كما ستشكّل هذه المرحلة مخزونه المعرفي، سواء أكان في مرحلة دراسته الصحافة أو في المرحلة التي تلتها، وهي عمله في الصحافة المكتوبة إبّان انتفاضة الأقصى. وبرزت ممارسات الدحدوح للثقافة التي تلقاها في الأسر حين غطّى أحداث الانقسام الفلسطيني المسلح بين حركتيْ فتح وحماس في غزّة صيف العام 2007، ثم لاحقًا تداعيات هذا الانقسام سياسيًا.

كانت ثقافة الحركة الأسيرة لسنوات طويلة تهتمّ بالوفاق الوطني داخل المعتقلات بين الفصائل، وتضمّ في قيادتها أسرى من كافة التنظيمات، ومن خارج فصائل منظمة التحرير، إضافة إلى الأسرى العرب. وتجري إدارة شؤون الأسرى بشكل توافقيّ في هذه القيادة، خاصة في القرارات التي تتطلب تنسيقًا بين المعتقلات مثل الإضرابات أو تصدير مواقف سياسيّة مثل موقف الحركة الأسيرة من أحداث الانقسام الفلسطيني في غزة العام 2007 عندما أصدرت وثيقة الوفاق الوطني التي دعت إلى نبذ مظاهر الفرقة والانقسام وما يقود إلى الفتنة، وتحريم استخدام السلاح مهما كانت المبررات لفض النزاعات الداخلية.[4]

في تلك الأحداث كان الدحدوح يعمل مراسلًا لقناة الجزيرة، وشارك في نقاشات كثيرة في شكل تغطية أخبار طرفيْ الانقسام؛ حركتيْ حماس وفتح. ولعب دورًا في الحفاظ على التوازن في التغطية، ونال بسببها ثقة الناس بكل أطيافهم وأيديولوجيّاتهم في غزة، «وائل مع الأيّام أصبح البوصلة الإنسانية والمهنية التي يلجأ لها الكثير من الصحفيين للتعامل مع القضايا الفلسطينية». كما يقول مدير مكتب المراسلين في القناة تلك الفترة ماجد خضر.

يعرف الأسير حجازي وعي الدحدوح الوحدوي هذا الذي انعكس في شكل تغطية أحداث الانقسام، ليس بين الفلسطينيين وحسب، إنما مع العرب أيضًا، فقد عاينه في فترة أسره عندما كانت عائلة الدحدوح تزور ابنها في سجنه وتلتقي بحجازي -لبناني الجنسيّة- وتهتمّ به كواحدٍ من أفرادها، «كانوا ييجوا يزوروني، الوالد والوالدة ومن ضمنهم وائل، كنت أشوفه في اللقاءات على شباك الزيارة، كان هناك نوع من التبّني [لإلي]. ما كان عنّا فرصة نشوف الأهل، كانت العائلة تيجي تزورني ووالدته تحديدًا، كنت أشعر إنها بمقام والدتي، وعوّضنا ربنا عن النقص في عدم رؤية أهلنا».

وائل الدحدوح مراسلًا حربيًا

مع نهاية العام 2008، دخل الدحدوح الاختبار الأول في تغطية الحروب، عندما شنّ الاحتلال الحرب الأولى على قطاع غزة. حينها، تفاجأ الناس من حجم القصف المكثف، والذي دهمهم في الشوارع دون أي إنذار، وفي مناطق مختلفة من القطاع وفي وقت واحد.

نقل الدحدوح أخبار المجازر إلى العالم، والتي استشهد فيها أكثر من 1400 فلسطيني في قطاع غزة، ومعها عرف الدحدوح معنى الحرب، وعرف كيف يختار من كمِّ الأحداث الكبير التي تحدث في الفترة نفسها، وفي مناطق متفرقة، تلك التي تختصر المشهد، لبثّها بما يخدم سرديّة غزّة أمام العالم، وخلالها حاول أكثر من مرّة أن يُمسك نفسه من أن يبكي على الهواء. وأصرّ أن ينقل قصص الناجين من المجازر.

وفي حرب العام 2012، ركّزت تغطية الدحدوح، بالإضافة إلى نقل أخبار المقاومة وشكل الاستهداف، على تقديم قصص الناس تحت القصف إلى العالم، والسعي لرواية قصص الشهداء، بحيث لا يتحوّلون أرقامًا يجري تناقلها، وكل هذا فعله دونما مبالغة أو تهويل.

كما كان الدحدوح ينقل واقع قطاع غزة المحاصر منذ سنوات إلى العالم، بما فيه قصص ناسه وأثر الحصار عليهم، بلغة سهلة ليس فيها تعقيد. وساعدت معرفة الدحدوح بقطاع غزة في شرح واقع الناس وأماكن سكناهم، وكما يقول زميله في بدايات عمله في الجزيرة زياد العجلوني «لا يوجد منطقة في قطاع غزة من شماله إلى جنوبه إلا وخبرها، وكأنه عاش في كل أزقة وحواري قطاع غزة».

خلال هذه الحروب، كان الدحدوح واحدًا من ناس غزّة؛ يُستشهدُ من عائلته الممتدة تحت القصف مثلما يُستشهد لأيّ عائلةٍ غزيّة، ويُشارك أفراد من عائلته كذلك في مقاومة المحتلّ ضمن راية الأجنحة العسكرية لفصائل المقاومة، منهم شقيقه أمين حمدان وعدد من أبناء عمومته وأبناء عمّاته ومنهم قائد سرايا القدس خالد الدحدوح، بالإضافة إلى استشهاد أطفال ونساء من العائلة. هكذا، ومع حرب العام 2014، كان الدحدوح قد راكم خبرة كبيرة في تغطية الحروب، وراكم كذلك محبّة عند الناس.

تحاشى الدحدوح أن يظهر انكساره أمام الكاميرا حتى حين فقد أفرادًا من أسرته في القصف، موجهًا رسالةً إلى المحتلّ حينما وثقّت هواتف الناس تأثره برحيلهم: «هذه دموع الإنسانيّة مش دموع الخوف والانهيار والجبن، وليخسأ الاحتلال».

ساهم الحضور المميز للدحدوح في تطوير علاقته بأهل غزة، وهو الذي نقل ما يعانونه للعالم، وعرفوا منه كذلك مجريات الحروب المتكررة عليهم، وعرفوا عبره أخبار نهايتها، ولذا عندما انتهت حرب العام 2014 على غزّة كان الدحدوح كعادته بين الناس المتجمهرين احتفاء بانتهائها، يُحاول إسماع صوتهم للعالم، فوجد نفسه مرفوعًا على أكتاف الناس.

يُدرك الدحدوح هذه الحالة بقوله إن التضامن والتعاطف والتأييد يثبت أن الناس متعطشّة إلى الصدق، وأنها تقدّر أي جهة أو جهد يتحدث عنها وعن آلامها بلسانها ولغتها ومفرداتها، «نحن لا نخترع العجلة ولسنا أول صحفيين نغطي الحروب، لكن الله ألهمنا أن نتحدث بلسان الناس». وبالطبع أسهم كون الجزيرة منصة واسعة الانتشار تُركّز على تغطية الحروب على غزّة في تعزيز علاقة الدحدوح بالجمهور.
الأهم بعد هذه الحروب أنه أدرك أهميّة ما يقوم به، والثمن المحتمل الذي يمكن أن يدفعه، إذ يقول إنه قد يتردد البعض ويتشتت للحظة خلال تغطية الحرب لكن في نهاية المطاف عليك أن تستجمع قواك وتكمل: «يا إمّا تروح في البيت وتقعد زيّك زي أي مواطن تنتظر قدرك ومصيرك المحتوم».

بهذا الفهم لمهنته، يكون الدحدوح قد استبعد صورة المثقف باعتباره أحد المهنيين مجهولي الهويّة؛ أيّ مجرد فرد كفؤٍ يمارس عمله وحسب، إلى اعتبار نفسه فردًا داخل المجتمع يحمل رسالة أو وجهة نظر ويعمل على الإفصاح عنها، ويكون مستعدًا لأن يدفع ثمن إيصال الرسالة -إن تطلب الأمر-. وفي اعتبار مبرّر وجوده في الحياة تمثيل الأشخاص والقضايا التي عادة ما يكون مصيرها النسيان أو التجاهل والإخفاء.[5]

وهذا ما تجلّى في الحرب الأخيرة على غزّة إذ مارس الدحدوح القناعة التي استخلصها من الحروب السابقة في أن مهنته ليست مهنة فرد كفؤ يمارس عمله وحسب، إنما مهنة لها تأثيرٌ على الناس في غزّة؛ لذا تحاشى أن يظهر انكساره أمام الكاميرا حتى حين فقد أفرادًا من أسرته في القصف، موجهًا رسالةً إلى المحتلّ حينما وثقّت هواتف الناس تأثره برحيلهم: «هذه دموع الإنسانيّة مش دموع الخوف والانهيار والجبن، وليخسأ الاحتلال».

وكذا فعل في المرتين اللاحقتين عندما اغتال الاحتلال زميله سامر أبو دقة وأصيب هو، وعندما اغتيل ابنه البكر حمزة، إذ أصرّ على مواصلة مهنته مهما كانت التبعات والأثمان وما دام قادرًا على الاستمرار، في شكل من أشكال الوفاء لمن سقط من شهداء.

بخلاف ما يُظهر على الكاميرا، يبكي الدحدوح فراق كل شخص يستشهد من عائلته في اتصالات الأصدقاء به كما يقول خضر. إن الصحفيين في غزّة، ومنهم وائل «يعملوا في حقل ألغام، إنت بدك تجمع بين اللي بيسموها موضوعية وبين وضعك الإنساني والأخلاقي، هذه معضلة والتوفيق فيها ليس سهلًا».

لا يقتصر الدحدوح على الظهور أمام الكاميرا لنقل مجريات الأحداث إنما يمتدّ هذا الدور إلى الصحفيين الشباب مثل زميله إسماعيل الغول (27 عامًا)، فيعمل معهم في الحرب كموجهٍ في شكل التغطية أولًا، ومن ثم كيفية التحرك على الأرض، والحفاظ على حياتهم. يقول الغول إن الدحدوح دائمًا ما يكون حريصًا على ألّا نتعرض للخطر «دائمًا يوصينا ديروا بالكم على حالكم، دعوات أب حنون، وحثّ متواصل على أن نكون في أمان، وائل البوصلة التي تصحح مسارنا».

يمكن القول إن ما شهدته العائلة في هذه الحرب كان يُقصد به الدحدوح نفسه، والدور الذي يقوم به؛ إذ اغتال الاحتلال أفرادًا من عائلته، وأصابه، واغتال زميله المصوّر، ثم عاد وقتل ابنه البكر حمزة بعد أقل من 48 ساعة على تصريح وزير التراث بضرورة إيجاد طرق مؤلمة أكثر من الموت بالنسبة للفلسطينيين، بهدف حسم المعركة وهزيمتهم وكسر معنوياتهم.

مثلما ورث الدحدوح من جيلين في عائلته ممارسة مقارعة المحتل في النكبة والنكسة، وتأثرًا بنشاط محيطه من شباب انتفاضة الحجارة الأولى وما تبعها في مرحلة الأسر، يعيد التاريخ دورته ويحمل الدحدوح وكثير من صحفيي غزّة توجهًا عامًا الآن كما يقول مراسل التلفزيون العربي باسل خلف الذي فقد هو الآخر مثل أغلب صحفيي غزة أفرادًا من عائلاته في هذه الحرب: «هناك قرار -الآن بسبب حجم المجزرة – عند كل الصحفيين الفلسطينيين، أن المسؤولية والواجب فوق كل شيء، هذا لا يعني أننا لسنا بشر، لكن الحدث صعب وكبير».

وهذا ما يدركه الدحدوح على الأرجح، لذا فإنه يمارس مهنته من وعيٍ إنساني وسياسيّ، في محاولةٍ على ما يبدو لإيصال فكرة مفادها: إن كان ثمة موت محتمٌ فليكن للطرف الآخر نصيب منه ولو بكسر صورته أمام العالم، وأنّ البنادق ليست كلها التي يطلق منها الرصاص.

  • الهوامش

    [1] عثمان مصطفى الطباع، إتحاف الأعزة في تاريخ غزّة، تحقيق ودراسة عبد اللطيف زكي أبو هاشم، مكتبة اليازجي، ط 1، 1999، مجلد 3، ص 172.

    [2] حسن عبدالله حسن محمّد، رسالة ماجستير بعنوان:«الصحافة العبريّة في تجربة المعتقلين الفلسطينيين خلال الاعتقال وبعد التحرر»، جامعة القدس، فلسطين، 2004/2005، ص 3.

    [3]  حسن عبدالله حسن محمّد، رسالة ماجستير بعنوان:«الصحافة العبريّة في تجربة المعتقلين الفلسطينيين خلال الاعتقال وبعد التحرر»، جامعة القدس، فلسطين، 2004/2005، ص 15.

    [4] وقد عبّرت عنها وثيقة الأسرى المعروفة بوثيقة الوفاق الوطني/ للاطلاع على الوثيقة من هنا.

    [5] إدوارد سعيد، المثقف والسُلطة، ترجمة محمّد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، ط1، 2006 ص 43

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية