شرق الصهيونيّة: يهود فلسطين العرب الذين أرضختهم الصهيونيّة

مجموعة طلاب في الجامعة الأمريكية في بيروت. أخذت الصورة بين عامي 1898 و1914. المصدر: مكتبة الكونغرس.

شرق الصهيونيّة: يهود فلسطين العرب الذين أرضختهم الصهيونيّة

الإثنين 10 كانون الثاني 2022

نشر هذا المقال للمرة الأولى بالإنجليزية في مجلة أيون، بتاريخ 3 كانون الأول 2021.

في عام 1885، وُلِدَ أنيس، جدّي لأبي، رعيّة عثمانيًّا، لكنّه مات مواطنًا عربيًّا عام 1977، عن عمر 92 عامًا، وبعد عامين من اندلاع الحرب الأهليّة اللبنانية. ترعرع في طرابلس عندما كان الشرق العربيّ يخضع بأكمله للسيادة العثمانيّة، وتلقّى تعليمه في المدارس الأمريكيّة التبشيريّة الّتي انتشرت في الإمبراطوريّة خلال قرنها الأخيرة؛ وأصبح أنيس خوري مقدسيّ أستاذًا متميّزًا للغة العربيّة في «الجامعة الأمريكيّة» في بيروت. كان مشهورًا بأعماله في الأدب العربيّ، ويُعرفُ بـ«الأستاذ أنيس»؛ المعلّم الذي علّم العربية لأجيال من الطلبة، في أشهر الجامعات الحديثة في الشرق الأوسط. وكان كذلك عضوًا فخورًا في أكاديميّات اللغة العربيّة في القاهرة ودمشق، وهي المؤسّسات الّتي جسّدت حقبة حديثة من التعايش الّذي شكّل جيل جدّي من العرب المسلمين والمسيحيّين واليهود.

آمن ذاك الجيل -الذي تشارك أكثر من مجرّد لغة وحضارة- بقدرته على أن يحيا ويقود نفسه إلى مستقبل عربيّ حداثيّ. كان الاختلاف الدينيّ بالنسبة لأنيس -كما لغيره- بمثابة معضلة طائفيّة رفضوا اعتبارها عائقًا لا يمكن تجاوزه للوصول إلى التضامن الوطنيّ. كانت الطائفيّة مشكلة من بين مشاكل أخرى عديدة، مثل الجهل، والفساد، والحكومات الاستبداديّة، التي مثّلت مع بداية القرن بالنسبة لذلك الجيل أخطارًا حقيقيّة، ولكن ليست مميتةً بالضرورة.

أنيس خوري مقدسي، جد كاتب المقال (يسارًا) مع حافظ إبراهيم (في الوسط) وخليل مطران (يمينًا) حوالي عام 1920. المصدر: مذكرات أنيس مقدسي.

بحلول الوقت الّذي وُلِدتُ فيه عام 1968، كان جدّي أستاذًا فخريًّا وأحد أعمدة المجتمع البروتستانتيّ الصغير، والّذي امتاز بنسب تعليم مرتفعة جدًّا. آنذاك، انحسر التفاؤل الّذي كان سائدًا في النصف الأوّل من القرن العشرين بشكل دراماتيكيّ؛ حيث قسّمت الإمبراطوريّات الأوروبيّة منذ وقت طويل الإمبراطوريّة العثمانيّة، بسخرية تمخّض عنها عدّة دول جديدة ومن بينها لبنان. وفي ظلّ الأنظمة القمعيّة شهد الشرق العربيّ ضمورًا في السياسات المدويّة المعادية للاستعمار، والّتي كانت سائدة في خمسينيّات وستّينيّات القرن الماضي خلال الحرب الباردة. وكان لبنان قد اختبر حربًا أهليّة قصيرة عام 1958. 

لكنّ كارثة الشرق العربيّ الحقيقيّة كانت قد وقعت قبل ذلك بعقد من الزمن، في عام 1948، عندما مزّق الصهاينة فلسطين عازمين على تأسيس دولة يهوديّة. وفي خضمّ سعيهم لتحقيق ذلك المخيال الدينيّ العرقيّ، أغرقوا المنطقة في حالة من الحرب وانعدام الاستقرار. صادر الصهاينة مملتكات الفلسطينيّين الأصلانيّين وطردوهم من أراضيهم ومنازلهم عام 1948، وردًّا على ذلك، وجدت المجتمعات اليهوديّة المتجذّرة في الشرق العربيّ نفسها كبش فداء، وتحت تهديد خطر دائم. منذ ذلك الحين، صُوِّر العرب واليهود على أنّهم في حالة عداء أبديّة وجوديّة، كما لو أنّ صراعاتهم السياسيّة المريرة الحديثة قد أعادت إحياء ما زُعِمَ أنّها صراعات دينيّة قديمة. 

ومن المثير للاهتمام أن أقرأ لجدّي قصيدة بعنوان «درس من الحركة الصهيونيّة»، نُشِرَت في آذار 1914 في «مجلّة الكلّيّة» الصادرة عن «كلّيّة البروتستانت السوريّة» الّتي هي اليوم الجامعة الأمريكيّة في بيروت (AUB). 

بدايات الصدام مع الصهيونيّة

يتحدّث المطلع الشعريّ عن كلمة «الصهيونيّة» في وقت لم تكن فيه الصهيونيّة بعد قد صُبِغَتْ بأفعالها اللاحقة. تقرّ القصيدة بحداثة الصهاينة المستعمرين الصناعيّة، والّذين كانوا قد وصلوا فلسطين من أوروبا في لحظة انحطاط عربيّة. كان الدرس الّذي استخلصه جدّي من الحرب الصهيونيّة يتألّف من أمرين؛ الأوّل هو أنّ التصميم الّذي أظهره الصهاينة وفاعليّتهم في إعادة بعث أنفسهم قد يدفع العرب إلى «مضاهاتهم في مساعيهم ومشروعهم». وربّما يعكس هذا الدفع باتّجاه التقدّم خصوصيّة حداثيّة جدّي العربيّة البروتستانتيّة، والّتي كانت متأثّرة بشدّة بالمعاهد والثقافة التبشيريّة الأمريكيّة. 

لكنّ النداء العاجل للعرب للانضمام إلى قافلة الحداثة عَكَسَ مجازًا منتشرًا متمثّلًا بالنهضة الفكريّة والثقافة العربيّة المسكونيّة المعروفة بحركة «النهضة». ذلك أنّ التصميم الصهيونيّ في حدّ ذاته، وهنا يأتي الدرس الثاني الأكثر أهمّيّة الّذي استخلصه جدّي، كان يهدّد بسحق العرب الّذين كانوا بحاجة إلى التوقّف عن ندب ماضيهم المجيد والتغلّب على شروط حاضرهم المتردّي. «ألا يثير العجب أنّ أمّة موسى قد استوطنت سواحلنا وبتفانٍ تحرث الأرض؟»، هكذا كتب جدّي أنيس. وقد رأى أنّ اليهود الأوروبيّين قد أحدثوا صحوة يهوديّة ثمّ عملوا على تنظيم الحركة الصهيونيّة، لكنّه أشار أيضًا إلى الخطر الّذي يمثّله المستعمرون المموّلون جيِّدًا على عرب سوريّا الّذين ما يزالون «نائمين». كان مصرًّا على أنّ الله قد أنعم على العرب بأرض أخرجت رجالًا شجعانًا ولغةً جميلة تتعالى على الاختلافات الدينيّة، وكان الأمر عائدًا إلى العرب أن يختاروا في النهاية؛ إمّا إفساح المجال للغرباء المتعصّبين، أو إدراك أنّ لديهم ما يكفي لبناء مستقبل حرّ وكريم. كتب جدي في خلاصة كلامه الموجّه إلى شعبه العربي: «إذا تعرّضت للإذلال في النهاية، فلا تقل إنّه القدر أو الحكم الإلهي اللذان أخفيا نفسيهما طوال الوقت». 

ساهم جدّي في أرشيف عربيّ مليء بالتناقضات كان لا يزال يحاول فهم الصهيونيّة وعلاقتها بالعالم العثمانيّ المتلاشي. لم يكن ثمّة سبب وجيه لجدّي، أو للمسلمين والمسيحيّين في جميع أنحاء بلاد الشام، للاعتراض على الديانة اليهودية نفسها، أو الاعتراض على الرغبة في إحياء طائفيّة ثقافيّة أو روحيّة يهوديّة. ففي النهاية، كان التعايش متجذّرًا بعمق في الشرق العربيّ، والقرون الأربعة من الحكم العثمانيّ لم تصنع عالمًا مشتركًا بين المسلمين وغير المسلمين، بل عمّقت هذا التقليد الّذي كان قائمًا أصلًا منذ ظهور الإسلام. 

ورغم أنّ الشريعة الإسلاميّة قد فضّلت المسلمين على غير المسلمين في إمبراطوريّة حكمها سلاطين عثمانيّون مسلمون، إلّا أنّ اليهود والمسيحيّين كانوا جزءًا لا يتجزّا من نسيج حضاريّ متنوّع. فقد وُجِدُوا في كلّ زاوية من زوايا الإمبراطوريّة العثمانيّة، وفي الشرق العربيّ تكلّم يهود الإمبراطوريّة ومسيحيّيوها اللغة العربيّة. وعلى النقيض من أوروبا، لم يتعرّض اليهود للاضطّهاد في الإمبراطوريّة العثمانيّة، الّتي لم تسعَ إلى جعل كلّ رعاياها على الدين نفسه، أو حتّى إلى تشاركهم اللغة أو الثقافة ذاتها. وفي حين أنّ قادة الإمبراطوريّة قد اضطّهدوا الأرمنيّين في نهايات الإمبراطوريّة وارتكبوا المجازر بحقّهم، وطاردوا العرب القوميّين، إلّا أنّه لم يكن ثمّة «مسألة يهوديّة» في الإمبراطوريّة، ولا كان ثمّة في المقابل معاداة عرقيّة للساميّة. 

كلّ قائد صهيونيّ مؤثّر كان أوروبيًّا، وثمّة تفسير لظهور الصهيونيّة في أوروبا وليس في العالم العثمانيّ؛ ففي المدن والبلدات الأوروبيّة كان حاضرًا ذاك الخليط الكريه بين العداء للساميّة والتعصّب القوميّ الّذي دفع ببعض اليهود إلى الحلم بتأسيس دولة قوميّة منفصلة. لم يكن ثمّة تهديد ملحّ يدفع اليهود العثمانيّين أو العرب إلى التخطيط لإعادة تشكل فلسطين متعدّدة الأديان إلى دولة قوميّة عرقيّة يهوديّة. وقد ساهم بشكل مؤكّد عيش أقلّيّة يهوديّة تحلم بتلك الأحلام في حقبة العنصريّة الغربيّة الذهبيّة والاستعماريّة في صياغة وتشكيل الكيفيّة الّتي أرادوا من خلالها تحقيق ذلك. 

لم يكن في النهاية تفكير ثيودور هرتسل، الأب المؤسّس للصهيونيّة السياسيّة من فيينا، بفلسطين موقعًا لدولته اليهوديّة لأنّها مجرّد أرض رموز وقصص التاريخ والإيمان اليهوديّين؛ بل كان تحديدُها موقعًا لدولته أيضًا بسبب انتمائه لعالم أوروبيّ اعتبر وجود الأصلانيّين غير ذي صلة بمسار التاريخ والمصير. في كتابه الصهيونيّ: «الدولة اليهوديّة» (1896) كتب هرتسل: «يجب أن نبني هناك حصنًا أوروبيًّا ضدّ آسيا، يجب أن نبنى بؤرة حراسة للحضارة ضدّ البربريّة». ولم يفكر هرتسل وغيره من الأيديولوجيّين الصهاينة بالعرب الأصلانيّين إلا بوصفهم غير قادرين إطلاقًا على تطوير أنفسهم، وبشكل مؤكّد لا يستحقّون فلسطين نفسها. لقد اعتبروهم بسطاءً، كائنات لا سياسيّة، فلّاحون سلبيّون، واعتقدوا أنّه من خلال المنفعة الاقتصاديّة سيتصالحون عاجلًا أم آجلًا مع واقع الاستعمار الصهيونيّ لفلسطين. 

تكمن خيالات هرتسل في جوهرها من قصّة الصهيونيّة الحديثة المعروفة جيّدًا، والّتي زرعت نفسها في مشهد عربيّ عثمانيّ متعدّد الأصوات. ما ليس معروفًا جيّدًا هو عدد العرب المسلمين والمسيحيّين واليهود الّذين تصارعوا مع الصهيونيّة في محاولة لفهمها وفكّ منطقها، وقد حدث ذلك أحيانًا بعد لقاءات مع ممثّلين صهاينة تحدّثوا عن الحاجة إلى الصداقة والتعاون بين العرب واليهود، دون الكشف أبدًا عن الهدف النهائيّ الّذي يُحرّك الصهيونيّة الأوروبيّة في فلسطين. كثيرون من العرب المتعلّمين، أمثال جدّي أنيس، أُعْجِبوا بالأساليب الحديثة ظاهريًّا للصهاينة، ولكنّهم مثله تنبّهوا سريعًا إلى تداعيات تلك الأساليب على عرب فلسطين. فقد أرسل يوسف ضياء الخالدي، رئيس بلدية القدس المسلم العربيّ العثمانيّ، رسالة إلى الحاخام الأكبر لفرنسا عام 1889، يطلب منه إحالتها إلى هرتسل، وفيها يقرّ بأنّ الفكرة وراء الصهيونيّة «نظريًّا» تبدو فكرة طبيعيّة وعادلة تمامًا لمحاربة معاداة الساميّة الأوروبيّة، إلّا أنّ تطبيقها في فلسطين متعدّدة الأديان لم يكن كذلك. وقد عبّر الخالدي في رسالته عن مخاوفه المتنامية من الأبعاد الاستعماريّة للصهيونيّة في فلسطين. 

ظلّت فكرة تحقّق الدولة اليهوديّة بعيدة المنال طالما أنّ الإمبراطوريّة العثمانيّة لا تزال قائمة. وقد تجادل الصهاينة فيما بينهم حول قابليّة دولة يهوديّة للحياة في فلسطين، وضرورتها، وشكلها، وتداعياتها، خاصّة أولئك الّذين ارتحلوا إلى فلسطين واعتبروا وجود عدد كبير من السكّان العرب الأصلانيّين معضلة واضحة للمشروع القوميّ المتمثّل بتأسيس دولة يهوديّة. في المقابل، بدأ ظهور المزيد والمزيد من المستعمرات اليهوديّة، الّتي بنيت أحيانًا على أراض تمّ شراؤها من ملّاك عرب غائبين، يثير شكوكًا فلسطينيّة مستمرّة، وكان قلق العرب يتعاظم كلّما عرفوا المزيد عن الصهيونيّة. 

بعد عام 1904، رفضت موجة جديدة من المستعمرين المتحمّسين القادمين من أوروبا الشرقيّة وروسيا اللغة العربيّة، وتجنّبوا الاندماج في المجتمع المحلّيّ. وفي عام 1911، كتب نجيب نصّار، مالك وناشر صحيفة «الكرمل» العربيّة -والّذي صادقه جدّي عندما كانا يدرسان في بيروت- بحثًا قصيرًا عن الصهيونيّة، حذّر فيه نصّار قرّاءه من حداثة التنظيم الصهيونيّ ودوافع وجدّية البرنامج السياسيّ للصهيونيّة. وقد أصرّ على أنّه لم يكن ليُعارض أبدًا الهجرة اليهوديّة لو لم يكن للصهيونيّة طموحات سياسيّة. كان نصّار يدرك مدى الجهد الّذي بذله هرتسل لإقناع اليهود في جميع أنحاء العالم بالصهيونيّة، ولكنّه قال إنّ الصهاينة لم يرغبوا في أن «يتعثمَنوا»، بل أرادوا بناء دولتهم القوميّة الانفصاليّة في فلسطين، ولذلك توجّبت مقاومتهم بشكل عاجل. 

أيضًا، في عام 1911، ألقى روحي الخالدي، ابن أخ يوسف ضياء الخالدي، خطابًا في البرلمان العثمانيّ في إسطنبول، مَدَحَ فيه اليهود، ولكن في الوقت نفسه، حذّر من أنّ الصهيونيّة قد تجلب انهيارًا وشيكًا في العلاقات ما بين اليهود والعرب. وفي عام 1913 زار جورجي زيدان، الصحفيّ المقيم في القاهرة، فلسطين ورأى بوضوح ما كان يجري، وكرّر في مجلّته المسكونيّة «الهلال» تحذير نصّار الصارخ للعرب من خطر الاستعمار الصهيونيّ لفلسطين. 

صراع اليهوديّة العربيّة واليهوديّة الصهيونيّة

كان ثمّة حاجة واضحة لدى العرب المسلمين والمسيحيّين أينما كانوا لتفسير ما تعنيه الصهيونيّة، فكلّ شيء حول الصهيونيّة كان يشي بالغرابة؛ اللغات الّتي تحدّثها المستعمِرون والمهاجرون، الأيديولوجيّة القوميّة، الملابس، نمط المستوطنات، الجهود الدؤوبة الّتي بذلها قادة الحركة الأوروبيّون مثل عالم الاجتماع الداروينيّ الألمانيّ آرثر روبين، الّذي عمل مع المنظّمة الصهيونيّة العالميّة والصندوق القوميّ اليهوديّ على التخطيط لاستعمار «علميّ» لفلسطين، يهدِفُ إلى فصل اليهود عن العرب. لهذه الأسباب، دوّن العرب المتعلّمون سجلًّا هامًّا من الملاحظات والأفكار الّتي ميّزت في غالبيّتها بين الصهاينة واليهود الأصلانيّين، وهو الأمر الّذي رفضت الصهيونيّة الاستعماريّة فعله. وتمكّن أمثال روحي الخالدي وجدّي وآخرون مثل المربّي المقدسيّ خليل السكاكيني، من التمييز بين ديانة رئيسيّة شكّلت أساسًا مشتركًا للديانات التوحيديّة الثلاث الكبرى، وما بين الحركة السياسيّة الّتي ظهرت نتيجة جانب من تجربة اليهود في المناخات القوميّة المريرة في وسط وشرق أوروبا. 

ومع ذلك، كان لدى اليهود العرب حساب فكريّ أكثر صعوبة مع بدايات ظهور الصهيونيّة في فلسطين، إذ أصرّ الصهاينة على تمثيلهم للشعب اليهوديّ بكلّيّته. وعلى النقيض من العرب المسيحيّين والمسلمين، كان صراع اليهود العرب مع الصهيونيّة محتدًّا في سياق الصراع على الهويّة الذاتيّة، لا بوصف الصهيونيّة تمثّل إحباطًا لطموحاتهم في إعادة بعث أنفسهم حداثيًّا. فبعض اليهود الأصلانيّين وجدوا في فكرة الإحياء اليهوديّ في فلسطين شكلًا مهمًّا للتعبير عن الذات اليهودية الجمعيّة في إمبراطوريّة عثمانيّة لطالما ثمَّنَت التنوّع الدينيّ، لكنّ آخرين عدّوا ذلك بدعة غريبة ستفصلهم عن مواطنيهم من العرب المسيحيّين والمسلمين. 

حفّزَت الحالة التنظيميّة والتمويل والثقة الاستعماريّة لدى العديد من الصهاينة الّذين استقرّوا في فلسطين صراعًا ثقافيًّا ومؤسّساتيًّا حول الممثّل الحقيقيّ للجالية اليهوديّة في فلسطين، وكذلك حول شكل الحياة اليهوديّة في فلسطين مستقبلًا. وقد أحدث هذا الصراع اليهوديّ الداخليّ شرخًا بين الصهاينة الأوروبيّين الأشكناز الّذين وصلوا حديثًا إلى فلسطين، وبين اليهود الشرقيّين (السفارديم) الّذين كانوا قد استقرّوا منذ فترة طويلة في الإمبراطوريّة العثمانيّة. وبالطبع، بين هؤلاء وبين اليهود الشرق أوسطيّين الّذين لم يكونوا أشكنازًا ولا بالضرورة شرقيّين (سفارديم).

لم تكن خطوط الشرخ صارمة الوضوح، فقد كان ثمّة من الأشكناز العرب الّذي وُلِدُوا في فلسطين ورفضوا الصهيونية الاستعماريّة، بقدر ما كان ثمّة يهودًا شرقيّين (سفارديم) اعتنقوا الصهيونيّة وعملوا منذ البداية لصالحها أو تبرّعوا للعديد من المنظّمات الصهيونيّة. وقد امتدّ جدال اليهود بشأن الصهيونيّة إلى مجالسهم المجتمعيّة ومدارسهم، ومنها تلك المموّلة من «الاتّحاد الإسرائيليّ العالميّ» المموّل فرنسيًّا، وفي الصحافة اليهوديّة الناطقة بعدّة لغات، وفي منازلهم. في النهاية امتدّ تأثير الصراع إلى كلّ المجتمعات اليهوديّة الشرقيّة، من المغرب إلى المشرق، حتّى في مدينة سالونيك اليونانيّة ومدن أخرى كبرى في الإمبراطوريّة العثمانيّة. 

كان السؤال الّذي هيمن على المسار السياسيّ للصهيونيّة في فلسطين هو: هل ينتمي اليهود إلى أمّة مسكونيّة تضمّ مواطنين من مختلف الأديان، أم ينتمون بشكل أساسيّ وحصريّ إلى أمّة سياسيّة تضمّ يهودًا فقط؟ بالنسبة لقادة الصهيونيّة الأوروبيّين، فقد كانت لديهم إجابتهم الّتي اشتغلوا بناءً عليها، خاصّة بعد انعقاد «المؤتمر الصهيونيّ العالميّ» الأوّل، في مدينة بازل السويسريّة عام 1897، وتمثّل عملهم في الدعوة إلى سيادة يهوديّة في فلسطين أو عليها. وفورًا شرعوا في الحضّ على هجرة اليهود الأوروبيّين الّتي وصلت لاحقًا حدّ الهجرة الجماعيّة، رغم معارضة العرب، وتمكّنوا من شراء الأراضي الّتي سيؤسِّسون عليها الأساس المادّيّ للدولة اليهوديّة في فلسطين. 

لم يكن سؤال الصهيونيّة سؤالًا سهلًا لليهود العرب. ذلك كان الحال بالنسبة للصحفيّة النسويّة إستر أزهري مويال وزوجها الصحفيّ شمعون مويال، وكذلك الصحفيّ شمعون ملّول، الّذين كان من الصعب عليهم التوفيق في العلاقة بين الصهيونيّة وبين كونهم عربًا. فهم، وعلى العكس من الصهاينة الأوروبيّين، كانوا يحبّون الثقافة العربيّة ويتحدّثون العربيّة، وكغيرهم من العرب اليهود في سوريّا ومصر، كانوا يعتقدون، أو أقنعوا أنفسهم، أنّ الصهيونيّة كانت تعبيرًا ثقافيًّا قوميًّا يمكنه التعايش مع واقع التعدّد الدينيّ في فلسطين العثمانيّة. حتّى إنّ الزوجين مويال، وتكريمًا لالتزامهما بعالم تشاركيّ، سمّيا مولودهما الأوّل على اسم صديقهم المصريّ عبد الله نديم، والّذي كان بِلا أبناء. 

لم تكن محاولة العرب اليهود التوفيق بين الصهيونيّة والعربيّة مجرّد مناورة خادعة لتهدئة القلق العربيّ المتصاعد، كما كان الحال مع الصهاينة الأوروبيّين البارزين، وكان من بينهم ناحوم سوكولوف الّذي زار بيروت ودمشق عام 1914، للقاء شخصيّات عربيّة ثقافيّة وعامّة بارزة، وفيكتور جاكوبسون مدير «البنك الصهيونيّ الأنجلو فلسطينيّ» في إسطنبول، الّذي سعى إلى إقناع الصحفيّ الشابّ أسعد داغر بإمكانيّة التعاون بين العرب واليهود. 

على سبيل المثال، كتب ملّول عام 1913 أنّه «يجب أن نبني قوميّتنا كأمّة ساميّة، على أسس ساميّة، لا أن نختلط بالثقافة الأوروبيّة، فمن خلال العربيّة يمكننا إيجاد ثقافة عبريّة حقيقيّة. لكن إن أدخلنا إلى ثقافتنا أساسات ثقافيّة أوروبيّة، سيكون ذلك ببساطة بمثابة انتحار». مع ذلك، التزم ملّول بالعمل لصالح صهيونيّة تهيمن عليها نزعة أوروبيّة، وكان قد انضمّ إلى المكتب الصهيونيّ في حيفا عام 1911، في الوقت نفسه الّذي كان فيه مراسلًا لصحيفة «المقطّم» العربيّة الصادرة في القاهرة. سعى ملّول، برفقة الزوج مويال، وبشكل مستمرّ، إلى محاربة معاداة الصهيونيّة في الصحافة العربيّة، وطمأنة القرّاء العرب أنّ الصهيونيّة كانت في الحقيقة منسجمة مع الطموحات العربيّة القوميّة. لكنّ العبريّة لا العربيّة أو التركيّة، كانت عشيّة الحرب العالميّة الأولى اللغة السائدة داخل المجتمع اليهوديّ متعدّد اللغات في فلسطين، والّذي تكتّلت فيه هويّاتيّة يهوديّة قوميّة استبعدت الفلسطينيّين بشكل واضح. 

تراجع العرب المسلمون والمسيحيّون عن إعجابهم المبكّر بجوانب الحداثة الصهيونيّة، بغضّ النظر عن طبيعة ذلك الإعجاب، بعد انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة في أعقاب الحرب العالميّة الأولى. فقد كرّس «إعلان بلفور» الصادر في تشرين الثاني 1917، والّذي تبعه فرض الانتداب البريطانيّ على فلسطين عام 1920، مرحلة استعماريّة صريحة للصهيونيّة. فقد منحت كلّ من رسالة وزير الخارجيّة البريطانيّ آرثر بلفور إلى القائد الصهيونيّ والتر روتشيلد، إضافة إلى السياسة البريطانيّة المعلنة، امتيازًا للمشروع الأوروبيّ السياسيّ المتمثّل بـ«الوطن القوميّ اليهوديّ» على حساب حقّ الأصلانيّين العرب بتقرير مصيرهم. ورغم ادّعاء المسؤولين الاستعماريّين البريطانيّين بأنّهم حافظوا على حالة عدالة متّزنة، إلّا أنّهم كانوا مسؤولين عن التفريق بين العرب واليهود بشكل ممنهج في فلسطين. فقد رفضت بريطانيا أيّ إمكانيّة لهوية فلسطينيّة قوميّة علمانيّة، وتجاهلت أو سحقت أيّ ظهور لمقاومة فلسطينيّة سعت لإظهار هذا النوع من الهويّة. 

الأعلام البريطانية والصهيونية مرفوعة في قرية عربية. التقطت الصورة بين عامي 1898 و1930. المصدر: مكتبة الكونغرس.

وفي الأثناء، كانت الصهيونيّة تشنّ حربًا مفتوحة غير معلنة على فلسطين العربيّة. حيث ضغط الصهاينة على البريطانيّين علنًا للسماح بهجرة يهوديّة غير مقيّدة إلى فلسطين، بغضّ النظر عن رغبات السكّان الأصلانيّين، لإرساء الأسس لدولتهم القوميّة العرقيّة الدينيّة المنفصلة. ذلك أنّهم أرادوا تحويل الغالبيّة الأصلانيّة إلى أقلّيّة في بلادهم، كما يظهر من رسائل حاييم وايزمان، قائد الحركة الصهيونيّة الروسيّ إلى بلفور عام 1918: «الأرقام الضخمة ليست في صالحنا». تفضح رسائل وايزمان احتقاره العنصريّ لـ«العرب»، وازدراءه اليهود الأصلانيّين المعادين للصهيونيّة؛ فقد اعتقد أنّ ثمّة في فلسطين الكثير من الفلسطينيّين للحيلولة دون قيام دولة يهوديّة، ولكن ليس ثمّة ما يكفي من اليهود الأصلانيّين الملتزمين بالصهيونيّة الاستعماريّة. 

كان وايزمان قلقًا من أن تُحيِّد «المشكلة العربيّة» المشروع الصهيونيّ السياسيّ والإقليميّ عن مساره في فلسطين. فقد آمن بأنّ الصداقة والتفاهم بين العرب واليهود في حين كانا ممكنين، لكنّهما ثانويّان وشرطيّان بالنسبة للغزو الصهيونيّ لفلسطين، وهما ممكنان على أساس الفصل القوميّ الكامل بين «العرب» و«اليهود». بنى الصهاينة -بحماية من الاستعمار البريطانيّ- مؤسّسات يهوديّة حصريّة للهجرة اليهوديّة، ومؤسّسات تعليميّة وعمّاليّة واقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة، وكذلك مؤسّسات يهوديّة تختصّ بالأراضي وسوق العمل. ومع كلّ دليل ملموس على نجاحها، كانت الصهيونيّة الاستعماريّة تسلب مستقبلًا يكون فيه من الممكن للعرب اليهود أن يكونوا جزءًا قابلًا للحياة داخل المجتمع العربيّ السياسيّ، ولكن ليس في فلسطين فقط. 

كان ملّول قد بدأ العمل لصالح «المجلس الوطنيّ اليهوديّ» بعد فرض الانتداب البريطانيّ الداعم للصهيونيّة على فلسطين، والّذي استمرّ حتّى عام 1948. وقد عملت القيادة الصهيونيّة في فلسطين على جمع المعلومات عن العرب وبثّ دعايتها في أوساطهم، وكغيره من اليهود العرب، مَوْضَعَ ملّول نفسه بشكل لا رجعة فيه داخل الصهيونيّة الاستعماريّة. ربّما كان اليهود العرب على مستوى فرديّ حميميّين اجتماعيًّا مع عرب آخرين من ديانات أخرى، وربّما أحبّوا العربيّة، ومع ذلك، فقد اعتنقوا الفرضيّة التاريخيّة المركزيّة للصهيونيّة الاستعماريّة الجمعيّة، والّتي تنصّ على أنّ فلسطين كانت الوطن القوميّ للشعب اليهوديّ. وموضعوا أنفسهم في تسلسل هرميّ عرقيّ في قمّته اليهود الأوروبيّون الأشكناز، يليهم المدمجون بشكل متناقض من السفارديم وغيرهم من اليهود الشرقيّين، وأخيرًا السكّان الأصلانيّون غير اليهود الّذين لم يكن لديهم مكان فعليّ داخل المشروع الصهيونيّ. 

فجّرت الميليشيا الصهيونيّة المعروفة بـ«الأرغون» خلال ثلاثينيّات وأربعينيّات القرن الماضي في حملة رعب الأسواقَ والمباني العامّة وقاعات السينما. وكانت أشدّ فظاعاتها مجزرتها بحقّ الفلسطينيّين في دير ياسين، في نيسان 1948. وقد أسّست «الإرغون» وحدة مؤلّفة من اليهود العرب واليهود الشرقيّين ممّن تحدّثوا اللغة العربيّة للتسلّل بين عرب فلسطين وإرهابهم. واستخدم الاستعمار الصهيونيّ العرب اليهود لدراسة ومراقبة واختراق وإدارة مواطنيهم السابقين، وفي النهاية مساعدة الصهيونيّة في الهيمنة عليهم. ومع ذلك، وبشكل متناقض، كان الاستعمار الصهيونيّ قد تأسّس على الرفض الكُلِّيّ للكائن اليهوديّ العربيّ. 

مدنيون فلسطينيون يغادرون عراق المنشية تحت مراقبة القوات الدولية، في آذار 1949. المصدر: مجموعة بينو روتنبرغ، الأرشيف الإسرائيلي.

تمثّلت مأساة العرب اليهود في أنّ عربيّتهم كانت قد وُظِّفَت واستُخدِمَت من قبل الصهيونيّة الاستعماريّة، الّتي رفضَتْ منحهم الشرعيّة لهويّتهم العربيّة اليهوديّة. فقد جُعِلُوا، وجَعَلوا من أنفسهم، مستوطنين استعماريّين، في خضمّ بحر من الظروف المتناقضة. إذ عملت الدولة الّتي هيمن عليها الصهاينة الأشكناز بعد النكبة عام 1948، على تجريد جموع المهاجرين اليهود العرب، الّذين وصلوا إلى الدولة الناشئة، حديثًا من عروبتهم. خشي ديفيد بن غوريون، أوّل رئيس وزراء لـ«إسرائيل»، من فكرة أن يُحوّل اليهود العرب الدولة الجديدة إلى «دولة شاميّة» أخرى مأهولة بما اعتبره -وغيره من المستعمرين الأوروبيّين- يهودًا شرقيّين «بدائيّين» ومنحطّين. «نحن غرباء عنهم وهم غرباء عنّا»، هكذا وصف بن غوريون هؤلاء اليهود الّذين اعتبرهم قريبين جدًّا من الثقافة العربيّة، ويهودًا «فقط بمعنى أنّهم ليسوا غير يهود».

ما بعد النكبة: الصهيونيّة ومحيطها العربيّ

رغم إصرار الصهيونيّة على الرواية التاريخيّة الّتي تفصل بين «العرب» و«اليهود»، إلّا أنّ قادتها ادّعوا علانيّة إمكانيّة التقارب مع العرب خارج فلسطين، شرط تخلّيهم عن فلسطين والفلسطينيّين. ومثال ذلك أنّ وايزمان كان يأمل بالوصول إلى اتّفاق مع «عرب الحجاز، الّذين هم أكثر إثارة للاهتمام من «البستريوك (Baystryuks)» المحلّيّين [من الكلمة الروسيّة (байструк)، والتي تعني اللقطاء]. وبدرجة الوضوح نفسها الّتي كان عليها الطموح السياسي  للصهيونيّة الاستعماريّة في فلسطين، كانت المسألة الفلسطينيّة تصبح مكوّنًا أساسيًّا للهويّة العربيّة الحديثة. 

في عام 1919 كان الأمير الهاشميّ فيصل، يائسًا ومستعدًّا لتوقيع معاهدة صداقة بين العرب واليهود في لندن، معاهدة على ما يبدو أنّها صيغَتْ من قبل وايزمان. وربما كان فيصل مقتنعًا بتأكيد وايزمان له بأنّ أيّ أذى لن يلحق بالسكّان الفلسطينيّين المحلّيّين. والأرجح أنّ فيصل أراد دعم الصهاينة لطموحه السياسيّ في الجارة سوريا. بعد عام من توقيع المعاهدة، تلاشت خيالات هذا النوع من الصداقة، وهي الخيالات المنفصلة عن واقع فلسطين والمشاعر السوريّة الغامرة والمعلنة المعادية للصهيونيّة الاستعماريّة. تلاشت هذه الخيالات على وقع الصدامات بين العرب واليهود في القدس والّتي عجّل وقوعها الاستعمار الصهيونيّ. 

وبحلول الوقت الّذي اندلعت فيه الثورة الكبرى ضدّ الانتداب البريطانيّ في فلسطين عام 1936، كانت المحاولات العربيّة للتمييز بين اليهوديّ والصهيونيّ تصبح أصعب في مواجهة الحقائق على الأرض. فقد جعل الإصرار الصهيونيّ على أنّ الشعب اليهوديّ بتنوّعه يشكّل جماعة دينيّة عرقيّة متفرّدة من هكذا تمييز ضروريًّا، ولكن في الوقت نفسه من الصعب الحفاظ عليه. كذلك فاقمت ردود الفعل العربيّة العنيفة المعادية لليهود، في سياق ردّها على عنف الاستعمار الصهيونيّ والإمبرياليّة الغربيّة، الهوّة الجديدة والمتنامية بين العرب واليهود؛ وتنكّر التاريخ في صورة القدر. 

يهود عراقيون لدى وصلوهم مطار اللد، قبل نقلهم إلى المخيمات، في أيار 1951.

كان جدّي مسافرًا في الولايات المتّحدة عندما وقعت النكبة عام 1948. وليس واضحًا إن تذكّر الأستاذ أنيس قصيدته الّتي كتبها قبل بضعة عقود، فمذكّرات سفره لا تأتي على ذكر القصيدة. بدلًا من ذلك، يشير في مذكّراته إلى ذهوله من مدى الدعاية الصهيونيّة في الولايات المتّحدة المتعلّقة بالقضيّة الفلسطينيّة. وفي طريق عودته إلى لبنان كان فزعًا من خبر اغتيال الصهاينة للوسيط السويديّ الكونت فولك بيرادوتي. في تلك اللحظة، كانت القضيّة الفلسطينيّة قد أصبحت فكرة جامعة لكلّ العرب، مسلمين ومسيحيّين، سنّة وشيعة، فقراء وأغنياء، في المغرب وسوريّا والعراق واليمن والسعوديّة. وبقدر ما كانت القضيّة الفلسطينيّة جامعةً للعرب كانت الصهيونيّة موضع كرههم المطلق. 

فقد لاحظ جدّي -على سبيل المثال- في كتابه «الاتّجاهات الأدبيّة الكلاسيكيّة في العالم العربيّ الحديث»، والّذي نُشِرَ للمرّة الأولى أوائل خمسينيّات القرن الماضي، أنّ «فلسطين تشكّل قضيّة وطنيّة عربيّة عامّة، وبالمثل كان الأدب العربيّ في كلّ جزء من العالم العربيّ يعبّر عن عاطفة عميقة لفلسطين وينشغل بمصيرها». أمّا بالنسبة للأقلّيّة اليهوديّة العربيّة الّتي بقيت في العالم العربيّ بعد عام 1948، فقد كان تعريف «فلسطين» مشوّشًا بالجهود الصهيونيّة الّتي حاولت إقناعهم بـ«العودة» إلى فلسطين، من خلال الدعاية الصهيونيّة، وبالعنف الّذي حوّل اليهود العرب إلى كبش فداء في أماكن مثل العراق. لكنّها ظلّت واضحة، بمثابة خيط رفيع لماضي ومستقبل تضامن ممكن يتعالى على الوطنيّة العرقيّة الدينيّة. 

لا يعود الوعي العربيّ بكارثة الصهيونيّة إلى كراهيّة متأصّلة في العرب لليهود، بل بالأحرى إلى حسّ عميق ومشترك بظلم لا يُطاق ما زال قائمًا ويتطلّب تعويضًا. لم يكن ممكنًا للقادة العرب بعد عام 1948 حتّى التفكير في تحالف علنيّ مع الصهيونيّة، كما فعل الأمير فيصل قبل ثلاثين عامًا. وبالنسبة للمثقّفين العرب، مثل قسطنطين زريق، فقد اعترفوا صراحة بحداثة المشروع الصهيونيّ في فلسطين، لكنّهم اعتبروه نظامًا شريرًا تجب دراسته وهزيمته. 

هدّد نجاح الصهيونيّة المستندة إلى قوميّة عرقيّة دينيّة في منطقة ملأى بالتعدّديّة الدينيّة أسس الوحدة والهويّة العربيّة العلمانيّة. لكنّ ذلك لم يوقف التواطؤ السرّيّ بين قادة عرب، مثل العاهل الأردنيّ الملك عبد الله الأول، شقيق فيصل، وبين الصهاينة، كما لم يوقف في النهاية، وتحت ضغط أمريكيّ هائل وبعد عدّة حروب أخرى حطّمت الجيوش العربيّة، معاهدات «السلام» بين القادة العرب المعادين للديمقراطيّة والمعتمدين على الولايات المتّحدة والقادة الإسرائيليّين العنصريّين. 

مات جدّي أنيس عام 1977، وهو العام الّذي شهد الزيارة المثيرة للجدل للرئيس المصريّ أنور السادات إلى القدس، حيث التقى عضو ميليشيا «الأرغون» السابق، غير النادم على فظاعاته، رئيس وزراء «إسرائيل» مناحيم بيغن، والّذي رفض كلّيًّا حقّ الفلسطينيّين في تقرير مصيرهم. وعندما مات السادات بعد بضعة أعوام في القاهرة، كان ثمّة طلقات احتفاليّة في بيروت الّتي عاش ومات فيها جدّي. 

لقد عاش العرب لوقت طويل جنبًا إلى جنب مع اليهود؛ لكنّ ذلك يختلف جذريًّا عن الإذعان أو حتّى الإجبار على قبول دولة عرقيّة دينيّة تأسّست بعنف على الأرض الّتي كانت وستظلّ دائمًا متعدّدة الأديان. مثل كلّ العرب، أدرك جدّي أنيس فداحة الظلم الّذي ارتُكِبَ في فلسطين عام 1948، لكنّه أيضًا تساءل ما إذا كان العرب آنذاك مستعدّين كفاية أو في موقع يمكّنهم من قلب الآية وردّ الظلم. كتبَ أنّ «فلسطين انتُزِعَت من أيديهم، والآن يكافحون لاستعادة أجزاء منها. هل نطلق دعوة لحمل السلاح، أم نقول إنّ الوقت في النهاية سيحكُمُ لصالح العدالة، لأنّ الوقت أعدل القضاة؟».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية