رأي

هل يجب أن نشارك في الانتخابات النيابية المقبلة؟

الخميس 23 حزيران 2016

كما في كل موسم انتخابي، يطفو على السطح سؤال المشاركة في الانتخابات البرلمانية من عدمها؛ نقاشٌ تتوزع على أساسه النخبة السياسية، ويقوم على ثنائية خوض الانتخابات أو مقاطعتها، بين من يعتقد بأن المشاركة في الانتخابات تكريس لفعل صوري وشرعنة لممارسات السلطة السياسية في ظل سيطرتها المطلقة على مؤسسات الدولة التي لم يعد التغيير من خلالها ممكنًا، وبين من يعتقد أن الإصلاح من الداخل يعتبر الخطوة الأولى للتغيير السياسي في البلاد.

شهدنا هذا النقاش في انتخابات 2010، وتكرر بشكل أكثر حدّية في انتخابات 2013، ونشهده اليوم قبل الانتخابات المنوي عقدها في أيلول 2016. وحالة الجدل هذه تقوم على ثنائية تبسيطية للفعل السياسي نفسه. تشبه هذه الثنائية إلى حد كبير ثنائية خطاب السلطة الذي يعمل على شرعنة أحد جانبي هذه الثنائية ونزع الشرعية عن الآخر باعتباره نقيض الأول. ما زلنا نذكر مقابلة الملك عبد الله الثاني قبيل انتخابات 2013 التي أشار فيها بوضوح إلى هذه الثنائية، عندما وجه رسالة إلى الحركة الإسلامية مفادها: «إما الانتخابات وإما الشارع». حينها رفعت الحركة الإسلامية في مسيرة 5 تشرين الأول عند الجامع الحسيني اليافطة الشهيرة التي كتب عليها آنذاك «نحن اخترنا الشارع».

لكن هل ثنائية العمل البرلماني مقابل العمل الشعبي هي انعكاس دقيق للواقع؟ أم أن العمل السياسي أكثر تعقيدًا وتركيبًا من هذه الثنائية والواقع متغيّر ومتبدل ولا يحمل صفة الثبات التي تتضمنها هذه الثنائية؟

تعتبر القوانين من الأدوات التي تستخدمها السلطة السياسية لإعادة إنتاج شكل العلاقات الاجتماعية في المجتمع التي تسعى السلطة الحاكمة إلى تكريسها. فقد ترك قانون الصوت الواحد أثرًا كبيرًا على بنية المجتمع الأردني، والأثر الأكبر كان لسياسة تصغير الدوائر الانتخابية التي طبقت لأول مرة في أول انتخابات أجريت في عهد الملك عبد الله الثاني. ساهم تصغير الدوائر بشكل كبير في تكريس العلاقات الاجتماعية وإعادة إنتاجها على أسس إقليمية، وعشائرية، ومناطقية. وفي بعض الدوائر كانت تُفصّل الدائرة على مقاس عشيرة أو مكوّن اجتماعي ما ليصبح أبناء الدائرة هم نفسهم أبناء العشيرة، وتتحوّل الدائرة الانتخابية من دائرة جغرافية إلى دائرة ديمغرافية. بذلك، كان القانون يمنع ابن العشيرة مثلًا من أن يتخيل نفسه سياسيًا خارج نطاق عشيرته، ولا خيارات لديه في ذلك.

بالإضافة إلى هذا، فتح القانون السابق وسياسة تصغير الدوائر الباب على مصراعيه أمام زعامات «البزنس» والمال لتدخل العمل السياسي، إمّا بقوة المال أو بشعارات فارغة عن فلسطين تتملق مشاعر الناس، أو بكليهما معًا. حدث هذا في ظل انسحاب القوى والأحزاب السياسية من المشهد تحت شعارات مقاطعة الانتخابات. وقد يكون من المجحف أن نحمل الأحزاب والقوى السياسية وزر تصدّر تلك الزعامات للمشهد، لكن في الوقت نفسه، فقد كان لانسحابها تداعيات سلبية على المشهد السياسي والاجتماعي الذي أنتجته وتتحمل مسؤوليته بالدرجة الأولى السلطةُ السياسية الحاكمة.

قد يكون من المهم التمييز ما بين الحق في الفعل السياسي وما بين الحكمة السياسية منه. ففي أي قراءة موضوعية للدورات التي قاطعت فيها الأحزاب والقوى السياسية المعارضة الانتخابات، قد نصل إلى استنتاج أنه كان من حق تلك الأحزاب أن تقاطع الانتخابات في ظل تعنّت السلطة السياسية الذي رافقته حالات من القمع والتضييق الأمني وغيره. لكن هل كانت المقاطعة مجدية سياسيًا؟ وماذا حققت المقاطعة في ظل فشل الأحزاب السياسية في تحويل المقاطعة من شعار يؤول في نهاية المطاف إلى شكلٍ من أشكال العزوف، إلى مشروع ذي برنامج سياسي يدفع المشهد إلى الأمام؟

باعتقادي، لم تجدِ المقاطعة نفعًا في معظم الحالات، بل كان لها آثار سلبية. فهي، أولًا، تركت الناس عرضة للخطابات والبرامج التقسيمية الما-دون-وطنية من جهة، ورجالات «البزنس» والمال السياسي من جهة أخرى. وقد ترك ذلك آثارًا على بنية المجتمع، حيث شكّل شبكات هائلة من الارتباطات المصلحية تجذرت اجتماعيًا بشكل كبير خلال العقد الماضي.

ثانيًا، كرّست المقاطعة ثنائية «الشارع – البرلمان» كاستراتيجية ينفي طرفها الطرف الآخر وكأنهما مشروعان متناقضان، بينما هما في حقيقة الأمر وسائل نضالية لمشروع سياسي واحد يخضع لتكتيكات مختلفة.

وثالثًا، أسس خطاب المقاطعة لعقلية إلغائية (تخوينية) أخذت أكثر أشكالها حدّية في انتخابات 2013، فأصبح من يشارك «خائنًا» ومن يقاطع «وطنيًا». وما زالت هذه العقلية مسيطرة على نقاشات الكثير من النشطاء السياسيين على وسائل التواصل الاجتماعي فيما يتعلق بالانتخابات النيابية المقبلة. إشكالية هذا الخطاب تكمن في أنه يتم من خلاله محاكمة قضايا سياسية بحتة -بعد أن ينزع عنها الغطاء السياسي- بمفاهيم أخلاقية نسبية ومقولات طهرانية تأخذ شكل اتهامات، وهذا ما يؤسس للانقسامات والاصطفافات داخل بنية المعارضة نفسها.

هل الانتخابات ورقة في صندوق؟

إن النخبة السياسية تحمل مسؤوليةً كبيرة في معرفة وإدراك بنية المجتمع بتركيباته ومكوّناته، في إطار قراءة سياسية لما يجري بالمنطقة. والالتزام بهذه المسؤولية يتطلب استغلالَ كل فرصة لبناء الجسور مع الناس وبينهم، وتقديم خطاب سياسي متوازن يعيد صياغة النسيج المجتمعي على أُسس سياسية، ويشكل بديلًا عن خطابات السلطة من جانب، وخطابات التجزئة والتقسيم من جانب آخر. وقد تكون المشاركة في الانتخابات فرصة لإعادة التواصل مع الناس التي توقف التفاعل معها فعليًا مع انتهاء الحراك. فممارسة العمل السياسي من خلال المشاركة بالانتخابات قد تغني البرامج والأفكار السياسية للأحزاب والتيارات والقوى السياسية، وتختبر مدى واقعيتها وقربها لهموم الناس وتجاوب الناس معها، بالإضافة إلى كسرها حالة الجمود وإخراج النقاش السياسي من الغرف المغلقة وإعادته إلى مكانه الطبيعي في الحيز العام.

وقد تكون المشاركة فرصةً لاستعادة وإعلاء صوت التيار الوطني الديمقراطي كنقيض للخطابات المتطرفة ومن يمثلها، ومساحةً لدخول أجيال وشرائح جديدة بهمومها ومشاكلها وتطلعاتها إلى الحياة السياسية. فالمجموعات الشبابية التي تطوعت بالمئات لتشكيل لجان شعبية لمراقبة الانتخابات المقبلة، هي مجموعات تحمل وجهة نظر سياسية ترغب بممارسة العمل السياسي مع إدراكها للظروف الموضوعية التي تحيط بالأردن، والتي قد تمنحها هذه الانتخابات الفرصة للتدرب على العمل السياسي وتشكيل آراء ومواقف وخلق حالة من الجدل السياسي فيما بينها. وقد تبلور هذه المجموعات نفسها لاحقًا على شكل حركات شبابية تشكل مُعطى جديدًا للعملية السياسية وقد تلعب دورًا في رسم الخارطة السياسية المستقبلية.

يعتقد البعض أن نتائج الانتخابات المقبلة سوف تفرز برلمانًا شبيهًا بالبرلمان السابق، وقد يكون هذا صحيحًا إلى حد كبير، مع وجود بعض الاختراقات للتيارات السياسية التي قد لا تؤثر كثيرًا على شكل البرلمان وبنيته. لن تغيّر المشاركة اليوم البرلمان، فتغييرٌ كهذا غير ممكن في ظل تعنّت السلطة السياسية وعدم قدرة المعارضة على إجبارها على تحقيقه. لكن العمل السياسي صيرورة مركبة تنضج وتتطور بتراكم الفعل السياسي، لا من خلال نتائجه المباشرة، وقد يُنظر إلى العملية الانتخابية بكونها جزءًا من هذه الصيرورة. فالانتخابات ليست أصوات في صناديق، بل وسيلة من وسائل النضال السياسي، ومواجهة من مواجهات الوعي التي قد يخوضها التيار الوطني الديمقراطي على عدة جبهات، والتي من الممكن أن يؤسس من خلالها للثقافة السياسية التي يريد.

هل تبنى الثقافة السياسية بمعزل عن الممارسة؟

تستخدم السلطة السياسية خطابات استشراقية تبيعها للغرب والمؤسسات المالية، تروج من خلالها لفكرة مفادها أن «الشعب» غير «جاهز» للديمقراطية، وكأنه يوجد «شعب» في تاريخ البشرية جمعاء «ولِدَ» ديمقراطيًا، ويصوّت لبرامج سياسية، ويغلّب مصالحه الطبقية والسياسية على المصالح الفئوية الضيقة، ويحمل آراء سياسية واضحة حول قضايا مختلفة. هذه أمور تكتسب بالممارسة، ومن المضحك أن تروّج السلطة السياسية لهذا الخطاب وهي، في الوقت نفسه، تمنع العمل السياسي، وترهب الشباب من العمل الحزبي، وتضيّق على العمل الطلابي والنقابي، وتقيّد حرية التنظيم السياسي والتعبير عن الرأي، وتستند في هذا كله إلى قوانين وأحكام تذكرنا بالشكل البدائي الأولي لمفهوم السلطة ووظيفتها.

التغيير ليس حلمًا ولا أمنيات بل هو برنامج سياسي مُنظم وواقعي، نسعى من خلاله جاهدين أن نمنح الفرصة للأجيال في أن يبنوا مؤسسات عابرة للتقسيمات الجهوية والمناطقية والإقليمية.

في المقابل، يُلقي بعض أبناء النخبة السياسية باللوم على ما يسمونه «وعي المجتمع»، ويروجون لأهمية «توعية» الشعب، على شاكلة ما كان يقوم به تنويريّو أوروبا كما يقولون، مع العلم بأن التنوير -بغض النظر عن رأينا فيه- لم يكن العامل الأساسي لخلق ثقافة سياسية، تحديدًا إذا اتفقنا أن معظم تنويريّي أوروبا كانوا نخبويين للغاية، وبالكاد وصلت نظرياتهم وأفكارهم إلى الطبقات الوسطى في المجتمع، بل أن الثقافة السياسية نشأت بالتعويد والتنشئة من خلال الممارسة السياسية القائمة على التجربة والخطأ، وتطور الصراع الاجتماعي، وانتزاع حق التنظيم السياسي والنقابي، وانتشار التعليم، وغير ذلك.

من الطبيعي أن تكون الآمال والتوقعات منخفضة من مخرجات الانتخابات البرلمانية المقبلة، فالدورة الأولى من عمر هذا القانون الانتخابي ستحمل رواسب ومخلفات قانون الصوت الواحد، مع فوارق بسيطة، منها أنه قد يواجه الكثير من المرشحين الأفراد صعوبة في تشكيل القوائم، وهذا أمر جيد، ويعتبر من إيجابيات القانون الحالي، لكن هذا لا يكفي، ومن الخطأ التعويل عليه لوحده. لذلك، فإن مشاركة أبناء التيار الوطني الديمقراطي بطيفه العريض، قد لا تضمن مقاعد لهذا التيار تمكنه من تغيير شكل البرلمان -مع إمكانية وجود اختراقات بسيطة لهذا التيار- لكن تستطيع أن تصعّب الطريق على مرشحي الخطاب الفئوي التقسيمي، وتقلل من فرصهم بالفوز، لتضعهم في الدورات القادمة بين خيارين: إما تشكيل القوائم على أساس سياسي- وحينها قد نختلف أو نتفق معه سياسيًا- أو الانسحاب من المشهد برمته. بالإضافة إلى هذا قد تمنح المشاركة الانتخابية على أساس القوائم النسبية المفتوحة الفرصة لتمهيد الطريق لبلورة خارطة سياسية جديدة تقوم على تشكيل ائتلافات وتحالفات انتخابية وكتل برلمانية في الدورات الانتخابية القادمة، والتي سوف تنعكس بالضرورة على فكرة وشكل التنظيم السياسي في البلاد.

إن المشاركة وتحشيد الناس والتصويت على أسس سياسية لتيارات أو تكتلات سياسية مسؤوليةٌ جماعية لدعاة التغيير، فممارسة العمل السياسي -الذي قد تعتبر الانتخابات وسيلة من وسائله- إحدى أهم مرتكزات هذا التغيير. التغيير ليس حلمًا ولا أمنيات بل هو برنامج سياسي مُنظم وواقعي، نسعى من خلاله جاهدين أن نمنح الفرصة للأجيال في أن يبنوا مؤسسات عابرة للتقسيمات الجهوية والمناطقية والإقليمية أو ينخرطوا فيها، وأن ينشطوا في تنظيميات سياسية ونقابات مهنية وحركات طلابية يمارسون العمل السياسي من خلالها. وقد يستطيعون حينها أن يفرضوا برلمانًا يعكس إرادة الشعب ويحاكي هموم الناس، أو أن يصنعوا هبة تشرين جديدة، وفي الحالتين قد تتغير قواعد اللعبة ويجلبون التغيير المنشود.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية