هزيمة من؟ نقد المنهج الثقافوي في تحليل أسباب هزيمة 1967

جندي إسرائيلي يقود جنديًا أردنيًا في شوارع بيت لحم، في اعقاب انتهاء حرب حزيران. الغارديان، عن أرشيف بيتمان.

هزيمة من؟ نقد المنهج الثقافوي في تحليل أسباب هزيمة 1967

الإثنين 05 حزيران 2017

هذا المقال جزء من ملف مشترك في الذكرى الخمسين لهزيمة حزيران ١٩٦٧، تعده ثماني مؤسسات إعلامية عربية مستقلة هي: اتجاه، دون تردد، الجمهورية، حبر، صوت، مدى مصر، معازف، ومنشور.

كتب الكثير على أثر هزيمة حرب حزيران عام 1967 من أجل محاولة تفسير أسباب تلك الهزيمة التي يصادف هذا العام ذكرى مرور خمسين عامًا عليها. قلة هي الدراسات التي تناولت الهزيمة من زاويا سياسية أو عسكرية متعلقة ببنية الجيوش العربية أو طبيعة الأنظمة السياسية. في المقابل، تناول العديد من الكُتّاب والمثقفين بشكل مكثف الهزيمة من زوايا ثقافوية قائمة على جلد الذات حينًا واحتقارها أحيانًا. فالمكتبة العربية امتلأت منذ ذلك الوقت بخطابات تبحث عن الهزيمة في ثقافة وسيكولوجية «الإنسان العربي» أو «عقليته» أو تدينه أو عدم تدينه. ومن أجل ذلك، وُظفت مفاهيم مثل «التخلف» و«التقدم»، واعتُبرت الهزيمة هزيمة «حضارية» متعلقة «بذواتنا» و«مجتمعاتنا». وتم التعبير عن هذا الخطاب في حقول مختلفة كالشعر والرواية والقصة، بالإضافة إلى الفكر والسياسة.

لقد سيطر المنهج الثقافوي على فكر العديد من المثقفين منذ حرب حزيران وحتى يومنا هذا، وكلما مرت المنطقة بأزمة ما استعاد هذا الفكر عزيمته. فأحداث 11 سبتمبر والحرب على العراق وظهور داعش كانت شواهد عيان على تغليب دعاة هذا الفكر -سواء من وجهة نظر علمانية أم إسلامية- للثقافة كأداة رئيسية ومركزية في التحليل على الاقتصاد من جانب وبنية السلطة وعلاقات القوة من جانب آخر. لكن تبقى حرب حزيران -كما يشير العديد من نقاد هذا المنهج- لحظة مفصلية لصعود المنهج الثقافوي وانتشاره.1

سأحاول في هذا المقال تسليط الضوء على البنية المعرفية-الإبستمولوجية التي استند إليها خطاب العديد من المثقفين والكُتّاب في حقل الفكر والسياسة، والذين اتبعوا المنهج الثقافوي لتحليل أسباب الهزيمة، محاولًا إثبات عجز هذا المنهج في تحليل الظواهر الاجتماعية والسياسية من جهة، وتقاطع هذا المنهج مع خطاب السلطة من جهة أخرى.

أسباب الهزيمة من وجهة نظر علمانية

لم يخفِ العديد من دعاة المنهج الثقافوي عند حديثهم عن الهزيمة اعتقادهم بأن الذي هزم في الحرب هم «العرب»، وليس السلطة العربية أو الأنظمة العربية أو حتى طبقة معينة أو فئة مهيمنة على بنية الدولة العربية. يقول محمد النويهي في مقاله المعنون «والآن إلى الثورة الفكرية»  في مجلة الآداب اللبنانية إن «وزر تلك الهزيمة يعود علينا كلنا، نحن العرب، لا حكامًا فحسب بل محكومين أيضًا». ويتقاطع ميخائيل نعيمة في «درس الهزيمة الأكبر» مع «كلنا» الذي حمّلها النويهي مسؤولية الهزيمة، حين أشار إلى أن الدروس التي يجب على «العرب أن يتعلموها من هزيمتهم النكراء [هي] أن الدنيا لا تساس بالدين». ويقول الماركسي ياسين الحافظ في كتابه «الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة»: «في حزيراننا الأخير، كما في سائر حزيراناتنا، لم يكن المهزوم طبقة، بل مجتمعًا (…) كل واحد منا مهزوم، وكل واحد منا مسؤول عن الهزيمة».2 وامتعض صاحب كتاب «النقد الذاتي بعد الهزيمة» صادق جلال العظم من حسين مروّة واتهمه بأنه يحاول إزاحة مسؤولية الخامس من حزيران عن موضعها الحقيقي وهو في رأيه «العرب أنفسهم» حينما رفض مروة تحميل الإنسان العربي مسؤولية هزيمة عسكرية «لا يتحمل تبعاتها سوى أفراد قلة لا تربطهم بالإنسان العربي غير رابطة النسب وحدها»، على حد قوله.3

تقاطعَ خطاب هؤلاء المثقفين مع الخطاب العنصري الاستشراقي في الغرب، الذي ألصق الهزيمة بـ«العرب»، ثم بدأ ينتج صورة لهذا العربي المهزوم. يتحدث إدوارد سعيد عن كيف أنه في حفل لمّ الشمل العاشر لطلاب مدرسته في الولايات المتحدة الأمريكية، كان من المفترض بالمشاركين ارتداء زي عربي موحد، تم تغييره لاحقًا. ويقول سعيد إنه بعد حرب حزيران «كان بإمكانك ارتداء الزيّ العربي، وأنت حافي القدمين، مرفوع اليدين. أي أن العرب أصبحوا تمثيلًا للهزيمة والخضوع والهوان».

الإشكالية الأخرى في خطاب «كلنا» و«نحن» و«العرب» هي محاولة إسقاط مسؤولية الهزيمة عن أكتاف السلطة السياسية وتحميلها للـ«نحن»، بالتالي فإن الموضوع المعرفي الذي يسعى أصحاب هذا الخطاب من خلاله لتفسير أسباب الهزيمة يكمن في معرفة الخلل في «بنية وتركيبة» هذه الـ«نحن»، وليس في طبيعة السلطة نفسها وعلاقاتها وارتباطاتها.

لهذا استند العديد من مثقفي الهزيمة على «الثقافة» باعتبارها أداة تحليل مركزي لتفسير «ذواتنا» ومجتمعاتنا «المهزومة». هذه «الثقافة» القائمة على «التخلف»، الرافضة «للحضارة» و«التقدم»، من وجهة نظر أصحاب هذا المنهج، كانت العائق الأساسي أمام تحقيق النصر في حرب عام 1967. تساءل صادق جلال العظم باستغراب عن «تخلف» العرب عن «امتصاص مقومات الحضارة الحديثة» مع أن العرب -كما يقول- على تواصل مع هذه الحضارة منذ حملة نابليون على مصر، «ولم يتوقفوا عن إرسال البعثات إلى البلاد الأوروبية للاستفادة من عناصر الحضارة الحديثة وإدخالها في المجتمع العربي».4

تقاطع النويهي مع العظم حين أكد على أن «ما نحتاجه لتلافي آثار هذه الهزيمة، والمضي منها إلى الانتصار، ليس مجرد البناء العسكري، على أهمية هذا ولزومه، بل هو البناء الحضاري الشامل لكافة أركان حياتنا المعاصرة (…)  بناء يزيل كل مخلفات القرون المظلمة، ويتطرق إلى كافة أركان حياتنا، وزوايا تفكيرنا، ومجموع مفاهيمنا وقيمنا».

باعتقادي، يمارس أصحاب هذا الخطاب تضليلًا ممنهجًا لسببين رئيسين:

أولًا: يعتقد هذا الفكر بأن مفهومًا متأرجحًا في الهواء كـ«الحضارة» معرّفٌ مسبقًا ولا داعي لتفسيره. يرجع ذلك إلى موقع هذا الفكر، وإيمانه المطلق بمركزية «الحضارة الغربية» واعتبارها النموذج الأوحد الذي يمكّن المجتمعات العربية من التخلص من «التخلف»، دون أي إدراك لعلاقات القوة على مستوى الدول، وبتجاهل تام للدور المركزي للاستعمار والنظام الاقتصادي السائد في صياغة وتشكيل هذه العلاقات.

ثانيًا: يحاكي هذا الفكر خطاب السلطة القائم على تعميم الأزمات، أي تصويرها وكأنها أزمات عامة، لا أزمات خاصة بشكل معين من السلطة، مرتبط بدوره بشكل معين من الاقتصاد، كأن يقال إن غياب الديمقراطية مرتبط بعدم وجود ثقافة ديمقراطية في المجتمع، أو أن وجود داعش مرتبط بالإسلام. هذا المنهج هو منهج السلطة الذي هيمن على خطاب العديد من المثقفين.

هذا الفكر الثقافوي العلماني مغرق بالغيبيات كذلك وإن لم يستخدم خطابًا دينيًا.

 يشير مهدي عامل في رده على ندوة عقدت في الكويت عام 1974 تحت عنوان «أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي»، والذي نشر في كتابه «أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازية العربية»، إلى أن هذا الفكر الثقافوي سوف ينزلق بالضرورة إلى إضفاء صبغة جوهرانية أصلانية على «الذات». يقول عامل: «بما أن العلة «حضارية» -كما يعتقد دعاة المنهج الثقافوي- فهي إذن متأصلة في بنية «الإنسان العربي» أي في جوهره، ولا بد من الرجوع إلى الأصل لتلمس الداء».5

هذا تمامًا ما فعله مثقفو الهزيمة الثقافويون، حين اعتبروا هذه «الذات» موضوعًا لدراسة أسباب الهزيمة. هذا الفعل، باعتقادي، ما هو إلا إنتاج لـ«ذات» عربية، يعتقدون بأن لها جوهرًا واحدًا وخصائص محددة وثابتة، متقاطعين مع خطاب الاستشراق الذي يعمل على «خلق صورة خارج التاريخ لشيء ثابت وساكن وأبدي»، كما يقول سعيد.

حصر العظم المشكلة الأساسية في عدم قدرة الإنسان العربي على مواجهة تحديات الحاضر وأخطاره، مؤكدًا على أن «العقل العربي لا يزال يميل ميلًا شديدًا إلى الأخذ بأبسط التفسيرات لمجرى الأحداث التاريخية وأكثرها سذاجة». ويتحدث بإسهاب عن الشخصية العربية «الفهلوية» وعلاقتها بالهزيمة؛ هذه الشخصية التي تسعى -كما يقول العظم- إلى «إزاحة المسؤولية عن نفسها وإسقاطها على قوى خارجية»، والتي تنطوي على «شعور حقيقي بالنقص تجاه الآخرين» ولا «ترتاح للعمل الجماعي الطوعي». وتزدهر الشخصية «الفهلوية» -من وجهة نظر العظم- في مجتمعاتنا التقليدية التي تقوم على «مفاهيم الفروسية والرجولة والشرف والكرامة» وتنتج «إنسانًا محافظًا عقلًا وجسدًا يدور دومًا في فلك اتباعي يُبقي القديم على قدمه ويحافظ عليه لينقله إلى أبنائه».

يذهب صادق جلال العظم إلى أبعد من ذلك حين يحاسب الضباط المشاركين في الحرب كأفراد، لا كمؤسسة لها قيادة تتحمل هي وحدها مسؤولية تلك الهزيمة، من أجل أن يثبت صحة مقولاته. إذ يجزم بأن الضباط الذين شاركوا بالحرب يخافون من تحمل المسؤولية، ولا يتصرفون دون موافقة أولي الأمر، مؤكدًا أن المجتمع العربي هو الذي كوّن هؤلاء الضباط وأنتجهم، كونهم نشأوا «في مجتمع تقليدي وأسر محافظة، تخضع لسلطان الأب في كل صغيرة وكبيرة من شؤونها (…) ولم تتح لهم فرصة ممارسة حق الاختيار في الأمور الهامة في حياتهم، بما فيها الزواج، حتى يتعلموا معنى المسؤولية».6

وإذا اعتقد الماركسي -حينها- صادق جلال العظم أن الضباط هزموا لأنهم «أبناء أسر محافظة» فالماركسي المصري لويس عوض اعتقد بأنهم هزموا لأنهم «أبناء بوابين» ولم يكونوا «أولاد ناس» على حد تعبيره. يقول لويس عوض في أحد اللقاءات، مستخدمًا خطابًا موغلًا بالعنصرية تجاه فقراء مصر، وبالحنين إلى حقبة الملكية: «تعرف سيادتك لماذا استسلم الضباط أو هربوا من القتال في حرب حزيران؟ لقد هربوا وسلموا سلاحهم لأنهم أولاد بوابين، في حين أنهم كانوا سنة 1948 أولاد ناس، فيهم أبناء باشوات وبكوات يخجلون من الاستسلام والعودة مكسورين فيفقدون مكانتهم بين أهلهم وسائر الناس».

يتفق أدونيس طبعًا مع العظم ورفاقه في رد الهزيمة إلى مقولات ثقافية استشراقية مركزها «الإنسان العربي» و«طبيعته»، إذ يريد أدونيس كما يقول في مقال بعنوان «بيان 5 حزيران 1967» أن يعيد النظر «في هذا الإنسان، قبل إعادة النظر في الحياة العربية. فليست المسألة أن تتغير هذه الحياة أي المجتمع ومؤسساته، بقدر ما هي أن يتغير الإنسان العربي (…) شخصيته من داخل ما تزال كما كانت منذ خمسة عشر قرنًا، يلبس شكل الإنسان، يأكل، ينام، يتحرك، بمعجزة ما، في القرن العشرين».

يعتقد أدونيس وغيره من الثقافويين بأن الإنسان العربي هو ذاته ينتقل فكره من الماضي إلى الحاضر بالوراثة لكونه عربي فقط، دون اعتبار لفكرة أن الفكر لا يقوم بذاته، كما يقول مهدي عامل، بل بعلاقة اجتماعية-سياسية متغيرة ومركبة تلعب فيها القوى المهيمنة والسلطة السياسية -التي يتجنب الثقافويون التطرق لها- دورًا رئيسيًا في إنتاجه.

المصيبة في هذا الخطاب الثقافوي الكاره للذات تكمن في أن حتى فهمه للاستعمار هو فهمٌ ذاتوي يدور حول جوهر المستعمَر وخصائصه «القابلة للاستعمار»، ولا حول وحشية المستعِمر وطرائقه. ونرى ذلك بوضوح في تساؤل ياسين الحافظ «لماذا هذا التساقط السهل أمام الاستعمار، لو لم تكن بنى المجتمع العربي متآكلة ومفوتة، وبالتالي، قابلة للاستعمار؟». ويجيب الحافظ بنفس منطق العظم وأدونيس، إذ يلقي الهزيمة على ما يسميه بـ«الفكر العربي السائد التقليدوي (..) العاجز عن طرح الأسئلة وميله إلى تقديم أجوبة يقينية فقط، كونه فكرًا إيمانيًا، لا يميز بين حكم القيمة وحكم الواقع».

ينتقد دعاة هذا الفكر، الفكر الديني باعتباره فكرًا ميتافيزيقيًا غيبيًا، يرد الظواهر إلى مبدأ واحد أو علة واحدة. لكنني أعتقد أن هذا الفكر الثقافوي العلماني مغرق بالغيبيات كذلك وإن لم يستخدم خطابًا دينيًا، وإلا ماذا يعني تفسير الهزيمة بردها إلى «أصل» واحد لاتاريخي هو الذات، واعتبار هذه الذات -سواء كانت الشخصية أو المجتمع أو العقل- خالقة ومنتجة للوعي والقيم والمفاهيم من جهة، وواحدة لا تمايز فيها وثابتة لا تتغير من جهة أخرى، والتعاطي مع هذه الذات بمعزل عن الواقع والبنية الاجتماعية-السياسية وحركتها التاريخية المنتجة لها والمتموضعة فيه؟

أسباب الهزيمة من وجهة نظر اسلامية

يستخدم الخطاب الديني المعني بتحليل هزيمة حرب حزيران نفسَ المنهج الثقافوي الذي يستخدمه الخطاب العلماني، وإن كان قد افترض بأنه ينطلق من الموقع النقيض. وإذا كانت «الثقافة» أداة التحليل المركزية التي استند إليها الخطاب العلماني، فإن «الدين» هو المفهوم الرئيسي الذي استند إليه دعاة الخطاب الديني الثقافوي لتفسير الهزيمة.

اشترك الخطابان «النقيضان» في تغييب أو تهميش عوامل رئيسية عدة في تحليل أسباب الهزيمة، كطبيعة السلطة العربية والنظام الاقتصادي من جهة، ودور القوى الإمبريالية من جهة أخرى. واكتفى الطرفان برد الهزيمة إلى مفاهيم عامة كالثقافة والدين وتم التعامل مع هذه المفاهيم وكأنها مقولات نهائية. وكلا الخطابان ينطلقان من حتمية المسارات «الطبيعية» التي لها نقطة بداية ونقطة نهاية، فإذا كان الحل عند دعاة الخطاب العلماني هو التقدم نحو الحضارة، فإن الطريق عند دعاة الخطاب الإسلامي هو العودة إلى الدين.

كذلك، يتشارك الخطابان الثقافويان الديني والعلماني اعتبار الهزيمة هزيمتنا «نحن» جميعًا من جانب، والاعتقاد بأن «الذات» هي الموضوع والنقطة المركزية لفهم أسباب هذه الهزيمة من جانب آخر. إذ يجزم سعد جمعة، رئيس وزراء الأردن أثناء حرب حزيران، في كتابه «أبناء الأفاعي» بأن «الذل قد ساوى بين العرب، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، صعلوكهم وأميرهم، فلا حاكم ولا محكوم بل أناس أذلاء».7 وهذا يتوافق مع ما قاله صلاح الدين المنجّد في كتابه «أعمدة النكبة، بحث علمي في أسباب هزيمة 5 حزيران» من أن «الذنب هو ذنب العرب جميعًا». وإذا كان الخطاب الثقافوي العلماني يعزو ذلك إلى «تديننا»، كما قال ميخائيل نعيمة، أو عدم قدرتـ«نا» على اللحاق بالحضارة، فإن السبب عند سعد جمعة كما هو عند المنجّد هو «ترك الدين وتعاليمه وأوامره»، وأن العيب والعلة بالعرب نفسهم و«ليس من الدين».8

تقاطع خطاب مفتي المملكة الأردنية الهاشمية مع خطاب المنجّد حين صرح لصحيفة الدستور بعد ستة شهور على الحرب، في 22 كانون الأول 1967، بأن اليهود «ليس فيهم من القوة ولا من البأس ولا من الشجاعة ما يستطيعون معه أن يفعلوا فعلتهم هذه، ونحن من أعلم الناس بهم، ولكن الله أراد أن يسلط علينا هذه الفئة نتيجة بعدنا عن ديننا».9

لعل أسوأ ما في هزيمة حزيران هو تأبيد الهزيمة وتكريسها لا كهزيمة عسكرية في سياق الصراع مع «إسرائيل»، ولا بكونها هزيمة مرتبطة بالسلطة العربية، بل بكونها انعكاسًا لخلل في «ذواتنا».

أما الشيخ محمد متولي الشعراوي، فيقول في مقابلة تلفزيونية شهيرة أنه سجد وصلى ركعتين شكر لله فرحًا في هزيمة حرب حزيران، مفسرًا ذلك بالقول: «فرحت أننا لم ننتصر ونحن في أحضان الشيوعية، لأننا لو نصرنا ونحن في أحضان الشيوعية، لأصبنا في فتنة في ديننا، فربنا نجانا». إذا كان الاعتقاد عند مفتي المملكة بأن الهزيمة كانت عقاب «لنا» بسبب «بعدنا عن ديننا»، فإن الهزيمة عند الشيخ الشعراوي كانت انتصارًا للدين على الإلحاد. فالدين في كلا الحالتين هو ما استدعى أن يسلط الله «إسرائيل» علينا إما كعقوبة إلهية، كما قال مفتي المملكة، أو كمخلص يدفعنا للانتصار لديننا، كما قال الشعراوي.

باعتقادي، يظهر جليًا هنا عجز هذا الفكر التبسيطي في تحليل مسألة الهزيمة، إذ يقوم الفكر على منهج غيبي يرد الظواهر إلى «أصلها» أو ما يعتقد بأنه «أصلها». فالهزيمة بالنسبة لدعاة هذا الفكر المثالي هي مسألة ذاتية-دينية بامتياز، والدين بالنسبة لهم، موضوع مستقل عن الواقع الاجتماعي والسياسي، وكل كلام خارج هذا الموضوع هو كلام «جاهل وأهوج».

خير مثال على ذلك ما قاله القرضاوي بخصوص مهرجان أقامته منظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة القطرية الدوحة بُعيد الحرب، إذ يذكر القرضاوي أنه أثناء كلمة الشيخ عبدالله الأنصاري، الذي حث الشباب الفلسطيني على أن يعتصموا بحبل الله ويتمسكوا بالدين لكي ينصرهم الله على عدوهم، صاح بعض الشباب «الطائش»، «المفتون بعبادة الأوثان البشرية»، كما يقول القرضاوي، في وجه الشيخ: «لا دين إلا السلاح». يعلّق القرضاوي على ذلك بالقول: «كان لهذا الهتاف الجاهل الأهوج، أثر سيء في جمهور الحاضرين (…) ويدل على غباء قائله، وفقدان وعيه، بحقيقة هذا الصراع بيننا وبين بني صهيون، وأن الدين هو المحرك الأول لهذه الأمة (..) وأن إخراج الدين من المعركة هو الذي أضر بهذه القضية أبلغ الضرر؛ لأننا نجرد أنفسنا من أمضى سلاح يحاول عدونا أن يضربنا به».

وكما انطلق الخطاب العلماني من منطلقات ثقافية-علمانية لتحليل «الذات المهزومة» انطلق الخطاب الديني من منطلقات ثقافية-إيمانية لتحليل هزيمة الذات نفسها. وإذا عزا العظم «عجز» الضباط العرب عن المواجهة إلى أسباب متعلقة بمجتمعاتهم التقليدية وأسرهم المحافظة، أو لأنهم «أولاد بوابين» كما قال لويس عوض، فإن صلاح الدين المنجّد -الذي يعتقد جازمًا أن «المال والعلم والسلاح لا تفيد شيئًا إذا لم يكن هناك إيمان وأخلاق»، عزا ذلك إلى عدم إيمانهم بالله، مؤكدًا «أنه لم يكن الإيمان بالله في قلوبهم أيضًا، فأصابهم ما أصابهم، لأن الله وعد نصره للمؤمنين».10

ولم يكتفِ أصحاب المنهج الثقافوي الديني بالتعامل مع الدين بوصفه ميدانًا مستقلًا بذاته، بل أيضًا باعتباره مفسرًا للتاريخ وليس العكس. حيث سار سعد جمعة بنفس المسار القائم على جلد الذات وتحميلها مسؤولية الهزيمة من منطلق ديني وبمثالية أخلاقوية مطلقة، حين اعتبر في كتابه «أبناء الأفاعي» أنه «حين يفقد المرء إيمانه بربه وبأرضه، وبتراثه، وبمثله الحضارية، وقيمه الأخلاقية تهون عليه كرامته، وتضيع بلاده ومقدساته، وتصبح أرضه مرتعًا خصبًا لذيذًا لكل طارئ».11 ويذهب جمعة إلى أبعد من ذلك حين يربط المواطنة والنضال بالدين، إذ يقول «إن من لا دين له لا يمكن أن يكون مواطنًا شريفًا أو مناضلًا مخلصًا حتى لو تلفع وتطوق، وتمنطق بكل ما في الدنيا من أيديولوجيات».

باعتقادي، هذه النظرة الأخلاقوية تضفي على الدين صفات قدسانية جوهرانية قد تؤدي إلى تعريف الدين -كما فعل سعد جمعة- تعريفًا انتقائيًا نفعيًا وإلى التعامل معه والنظر إليه بعيون علمانية حداثية، أي كونه مجالًا منتجا للقيم والأخلاق حصريًا، وتعطي -أي القيم والأخلاق- معنى واحدًا شموليًا عابرًا للطبقات أو الفئات أو غيرها من التقسيمات.

خاتمة

لعل أسوأ ما في هزيمة حزيران هو تأبيد الهزيمة وتكريسها لا كهزيمة عسكرية في سياق الصراع مع «إسرائيل»، الذي يحتمل ككل الصراعات في العالم أن تنتصر في معركة منه وتنهزم في أخرى، ولا بكونها هزيمة مرتبطة بالسلطة العربية، بل بكونها انعكاسًا لخلل في «ذواتنا».

هذه الرؤية الثقافوية كثيرًا ما أدت إلى الإعجاب بالعدو والاستسلام له وإراحة السلطة من مسؤولياتها من جانب، وإلى الترويج إلى استنتاجات ومقولات رغبوية على شاكلة «علينا تغيير ذواتنا أو مجتمعاتنا أولًا»، وكأن المجتمعات تتغير بقرار يخضع لرغبات ذاتية عند بعض المثقفين، أو أن التغيير يحدث بالقسر والإملاء وفرض الأشياء من الخارج، دون المساس بالبنية الاجتماعية والسياسية التي تتحرك الثقافة داخلها.

هذا الفهم امتد خارج هزيمة حزيران، وما زلنا نرى توظيفاته عند الكثير من الكتّاب والمثقفين لتفسير أحداث وظواهر راهنة. خير مثال على ذلك كيفية تعاطي الكثير من المحللين مع ظاهرة صعود داعش في المنطقة. كثيرًا ما فُسر التطرف بتفسيرات ثقافوية، كأن يربط التطرف بالإسلام، أو بإحدى تأويلاته، ويُغض الطرف عن عملية النبش والعودة إلى «الأصول» التي يمارسها هؤلاء المحللون للبحث عن داعش هناك، مع تجاهل أو تهميش الأسباب المتعلقة بالواقع السياسي والاجتماعي الذي نشأت فيه داعش، كالاستعمار والتدخل الأمريكي في المنطقة، أو الاستبداد وإفرازاته الطائفية، أو الفقر، أو وجود «إسرائيل» في المنطقة، وغيرها من العوامل.

إن قراءة صعود داعش بالطريقة التي قرأت فيها هزيمة حزيران بعيون وأيديولوجيا السلطة السياسية التي تقوم على الرؤية الثقافوية في تحليل المسائل، ما هو إلا خدمة للسلطة نفسها التي طالما سعت إلى تحويل الأزمات من كونها أزمات متعلقة بطبيعة السلطة وتحالفاتها الاقتصادية والسياسية إلى كونها أزمات متعلقة بالمجتمع نفسه، بمعزل عن هذه السلطة التي ساهمت هي نفسها بصعود داعش وأبدت الهزيمة كضرورة لوجودها.


1- جوزيف مسعد، اشتهاء العرب، دار الشروق، ص 44.
2- ياسين الحافظ، الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة، دار الطليعة، ص 311.
3- صادق جلال العظم، النقد الذاتي بعد الهزيمة، دار الطليعة، ص 22.
4- صادق جلال العظم، مرجع سابق، ص 51.
5- مهدي عامل، أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية، دار الفارابي، ص 19.
6- صادق جلال العظم، مرجع سابق، ص 75-90.
7- سعد جمعة، أبناء الأفاعي، دار الكتاب العربي، ص 174.
8- صلاح الدين المنجّد، أعمدة النكبة، بحث علمي في أسباب هزيمة 5 حزيران، دار الكتاب الجديد، ص 29.
9- صادق جلال العظم، مرجع سابق، ص 19.
10- صلاح الدين المنجّد، مرجع سابق، ص 31.
11- سعد جمعة، مرجع سابق، ص 37.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية