عن رفيعة و«أمّهات الشمس»: ماذا يحدث بعد انطفاء الكاميرات؟

الأحد 11 تشرين الأول 2020
رفيعة عناد الغياث التي أنشأت مشروعًا لتوليد الطاقة الشمسية في المفرق. تصميم ندى جفال.

بينما كانت السيّارة التي تُقِّل مدير كلية الحفاة في الهند، بنكر روي، تعبر الصحراء متجهةً إلى قرية منشية الغياث في المفرق، قال روي لمرافقه: «هل يمكنك أن تتخيّل امرأةً من قرية نائية تُصبح أول مهندسة طاقة شمسية أميّة من الأردن؟ سوف يكون الأمر رائعًا!». 

ظهر هذا المشهد في فيلم نساء الشمس، الذي عُرض في يوم المرأة العالمي في عمّان عام 2013. ويوثق تجربة سيدتين من البادية الأردنية سافرتا إلى الهند، وتحديدًا إلى كلية الحفاة، التي تقوم فلسفتها على إحداث «التنمية بقيادة المجتمعات»، وتركّز على تمكين النساء الريفيات من مناطق مختلفة في العالم. بحسب ما ذكره روي في الفيلم، فقد نجحت مقاربة الكُلية في جميع أنحاء أفريقيا، ومن ثم أرادوا التجربة في مناطق أخرى. 

هذا المقال ومقالات أخرى متاحة للاستماع عبر صفحات صوت.

في الأردن، تعاونت كلية الحفاة مع الجمعية الأردنية لأصدقاء البيئة لتنفيذ هذه المقاربة، ووقع الاختيار على سيدتين، كانت رفيعة عناد، والمعروفة باسم «أم قُمر»، إحداهما، لدراسة الطاقة الشمسية في الكلية. تسكن السيدتان في قرية منشية الغياث، التابعة للواء الرويشد في محافظة المفرق، والتي تقطنها عشيرة الغياث.

أنشئت القرية منتصف ثمانينيات القرن الماضي. وبحسب كتاب شاهد على الفقر للباحث أحمد أبو خليل، عندما ظهر مفهوم «جيوب الفقر» للمرة الأولى بعد إعلان نتائج دراسة للبنك الدولي في عام 2004، اعتبر القضاء أو اللواء الذي تزيد فيه نسبة الفقر عن 25% من السكان «جيب فقر»، فكانت منطقة الرويشد الأفقر في المملكة، إذ بلغت نسبة الفقر فيها 73%. ويبلغ عدد سكان اللواء 8280 نسمة بحسب تقدير عدد سكان المملكة لنھاية عام 2019.

عند زيارة روي للمنطقة، كانت رفيعة التي تركت المدرسة بعد الصف الخامس الابتدائي تبلغ من العمر 32 عامًا، وقد أصرّت على السفر للتعلم وتحقيق التغيير في حياتها. يقول رئيس الجمعية الأردنية لأصدقاء البيئة باسل برقان لحبر إنّ رفيعة اضطرت للعودة إلى الأردن قبل انقضاء مدة الدورة، وهي ستة أشهر، ثم عادت إلى الهند مرةً أخرى، ففاتها شهر من الدراسة، ولكن عندما أُجري امتحان للنساء المشاركات، وعددهن 28 امرأة من 14 دولة، «طلعت أم قُمر رفيعة الأولى».

ثم حان موعد بدء العمل على مشروع حلمت به رفيعة، تتلخص طبيعة عمله كما تقول بصناعة الأنظمة الشمسية والمصابيح، وبيعها، وتوزيعها على البيوت وتركيبها. يقول برقان إنه وعند وصول أول حاوية حملت أنظمة الطاقة الشمسية «صاروا يضحكوا عالموضوع أهل القرية، إنه شو يعني بدكم تعملوا أنتوا؟ شو بدكم تعملوا فيها؟ فإحنا أعطيناهم كجمعية قرار (..) إنه ركبوا هالأجهزة هاي وأعطوها مجانًا للمنازل (..) فأناروا 86 منزل». 

هكذا فعلت رفيعة، أنارت المنازل، ثم ابتعدت الكاميرات عن حياتها، وتُركت تُواجه واقعها مرّة أخرى. التقينا برفيعة، وحاولنا أن نتتبع ما حدث معها بعد مرور سنوات على بداية مشوار التغيير الذي أرادته لنفسها ولنساء قريتها يوم تركت بناتها الأربع آنذاك وسافرت إلى الهند.

بداية الرحلة

تقول رفيعة عن السبب الذي دفعها لخوض الرحلة، تاركةً بناتها الأربع وعمر صغراهنّ سنتان: «أنا ما تركتهن ورحت ودّي أتفسح أو أشم هوا، لأ، أنا تركتهن عشان أروح أحسّن وضعهن المادي، عشان أعيشهن».

لا تُنكر رفيعة أنها واجهت معارضة من محيطها الاجتماعي في البداية، فالفكرة بحد ذاتها كانت خارج حساباتها أساسًا، وعلى حد قولها «ولا فكرت بحياتي إني أطلع من بيتي، لأن عندنا كان كل شي عيب»، فهي أول سيدة بدوية من منطقتها تسافر إلى دولة ثانية، بحسبها. بيد أن والدها لم يكُن من بين المعارضين، كونه «من النوع المتفتّح» كما تصفه، ورد ببساطة على من انتقدها بأنه يثق بابنته وبتربيته لها وقال لها: «أي دولة اطلعي ولا تسألي عن حدا».

بعد انقضاء الدورة، عادت رفيعة وقد تعلّمت الكثير من تجربتها، فإلى جانب تغيّر نظرتها لدور المرأة والاختلاط بين النساء والرجال في أماكن العمل والدراسة، أصبحت مؤهلة في مجال الطاقة الشمسية وقادرة على تدريب نساء أخريات. كما اكتسبت خبرةً في تصليح الأدوات الكهربائية. تقول «صرت أعرف لمّا أفك التلفزيون وين الخلل بالتلفزيون، شو محروق بالتلفزيون، شو السلك المقطوع»، الأمر الذي استفادت منه عندما عادت وأصبح الناس من حولها يطلبون مساعدتها في تصليحها. 

بفضل المشروع، أصبحت رفيعة معروفة في المنطقة كـ«سيدة نشيطة»، يعرف الناس أنها تُدعى إلى لقاءات واجتماعات، وتتحدث باسم أهل منطقتها.

بعد فترة من عودتها إلى قريتها، درّبت رفيعة ثماني سيدات من المنطقة، بالإضافة إلى اثنتين من بناتها. ثم عملت على تركيب الأنظمة التي جاءت كتبرع من الهند، وكان الاتفاق أن تُمنح هذه الأنظمة مجانًا وتتقاضى النساء أجرة التركيب فقط، وهي خمسة دنانير مقابل النظام الواحد، فكنّ يركبن نظامين أو ثلاثة في اليوم الواحد تقريبًا. هكذا بدأت رفيعة بالمشروع الذي حلمت به. وتضيف بأنها والنساء اللواتي تدربن معها أرسلن 90 مصباحًا لعمّان من إنتاجهن. 

لاحقًا، واجه المشروع صعوبةً لم تكُن في الحسبان، بحسب برقان، إذ أن أنظمة المشروع التي تدربت عليها النساء «بدائية»، وقدرتها لا تتجاوز 40 وات للساعة الواحدة، بينما تحتاج المنازل لقدرة أعلى كي تشغّل الأجهزة الكهربائية المختلفة. كما يضيف عضو الهيئة الإدارية للجمعية الأردنية لأصدقاء البيئة رؤوف الدباس، وهو أول من التقى بممثل من كلية الحفاة، أن الحرب في سوريا عمَّقت أزمة التسويق لهذه الأنظمة، فالمنطقة برمتها كانت «متشنجة» واعتبرت «منطقة أمنية» نظرًا لموقعها الجغرافي وكان من الصعب الوصول إليها في بعض الأحيان. 

فوز بالتنافس 

في عام 2013، ترشحت رفيعة للانتخابات البلدية، ففازت بمقعدٍ في مجلس بلدية الرويشد الجديدة بالتنافس، وليس ضمن مقاعد الكوتا النسائية في منطقتها. لا تُنكر رفيعة أن الفضل في هذا النجاح يعود إلى حد كبير إلى عملها في المشروع. 

قبل أن تبدأ العمل به، تعترف رفيعة بأنها لم تُكن تمتلك الشجاعة الكافية لدخول أي مجال يتطلب العمل إلى جانب الرجال، ولكنها اكتسبت هذه الشجاعة بعد أن بدأته واختلطت بالناس بسببه، ورأت غيرها من النساء اللواتي يعملن ولا يتقيّدن بدورهن في المنزل، فـ«صارت عندي إرادة أني أتقدم أكثر». وبفضله أيضًا، أصبحت معروفة في المنطقة كـ«سيدة نشيطة»، يعرف الناس أنها تُدعى إلى لقاءات واجتماعات، وتتحدث باسم أهل منطقتها، فهي قادرة على الحديث بالنيابة عنهم، كما تقول.

رغم هذا، كانت رفيعة تعرف أن الناس من حولها ليسوا كلهم سواء، فمنهم من ظل يعتقد أن المرأة «لها بأولادها وزوجها وشغل بيتها بس براته ما لازم تطلع»، وتضيف بأنها كانت خائفة إلى حدٍ ما من ألا يتقبلوها فيقولوا «هاي يعني تتطاول علينا». ثم جاءت النتيجة، مئتان وخمسون صوتًا، فعرفت أنها اتخذت القرار الصحيح، وحذت نساء أخريات حذوها في السنوات التالية.

تذكر رفيعة أن أخاها الراحل دفع لها حينها رسوم الترشح، وأراد أن تكون قدوة لغيرها. ولا تُنكر أنها كانت قليلة الخبرة في هذا المجال في بداية الأمر، لكنها بذلت جهدًا للتعلم، إذ تخبرنا أنها ذهبت إلى مكتبة بالمفرق، وطلبت من الموظف فيها أن يعطيها الكتب المناسبة لتتعلم أكثر عن العمل البلدي، كما استعانت بآخرين من ذوي الخبرة وتوسعت مداركها شيئًا فشيئًا. 

تعلمت في تجربتها هذه أن إرضاء الناس «صعب» وأن عضو البلدية سيتعرّض للكثير من الانتقادات التي يجب أن يتقبلها بصدر رحب، وتعتبر أنها نجحت في تلك التجربة في تحقيق بعض المطالب. تقول: «طالبنا بتعبيد [وإنارة] شوارع وصار، طالبنا بحديقة وصارت بالرويشد، وطالبنا بشغلات كثيرة الحمد لله وأنجزنا». وتضيف «وظفنا كثير» في البلدية، لكنها وزملاءها كانوا يأملون بخلق فرص عمل على مستوى اللواء، وإنشاء مشاريع إنتاجية في المنطقة، مثل مصنع للأحذية ومصنع ألبان ومشروع خياطة لتشغيل الشباب والشابات في المنطقة، ولكنهم لم يتلقوا أي ردٍ من السلطات المعنيّة.

خلال الفترة التي قضتها في البلدية، إذا ما تزامنت جلسة من جلسات المجلس البلدي مع دورة تدريبية في الطاقة الشمسية، كانت رفيعة تبدأ التدريب في الصباح الباكر، ثم تستأذن للخروج وحضور الجلسة، فتنوب عنها زميلتها أثناء غيابها، وتعود إلى النساء بعد انتهائها.

رفيعة الغياث في الجمعية التي ترأسها. تصوير لينا شنك.

الرجوع للشمس مرة أخرى 

حصل القائمون على المشروع على منحة جديدة من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، كان أساسها أن يتم تدريب نساء أخريات من مختلف المناطق، ليقُمن بدورهن ببيع الأنظمة بأنفسهن.

يقول برقان «النساء موجودين بالرويشد (..) إذا أنا واحد بده يشتري النظام ويركبه بالغور، كيف بدي أجيب النساء من هون؟ فقلنا الحل الرئيسي إنه إحنا نتشارك مع جمعيات نسائية أخرى في مناطق أخرى بالأردن»، وهذا ما حدث، إذ عُقدت دورة تدريبية لنساء من المفرق، والكرك، والأغوار، وعراق الأمير ووادي السير ليُساعدن بالتركيب والبيع ويتقاضين المال مقابل ذلك. 

عُقدت آخر دورة تدريبية في عام 2017، ولكنهم عادوا لمواجهة مشكلة بدائية النظام ذاتها، ومن ثم كلفته العالية بالنسبة للفئات المستهدفة. يشرح برقان بأن «المناطق اللي إحنا بنشتغل فيها يقولك طب أنا بدي أدفعها أقساط، قديش قسط؟ قلنا 50 ليرة بالشهر، 50 ليرة غالي كثير! فصفّوا بدهم يقسطوا على 10 ليرات شهري وبدون يعني أي صفة قانونية لإلنا»، ممّا يصعّب مهمة التحصيل على النساء اللواتي يُفترض أن يعملن كمندوبات للمشروع. 

يعترف برقان بخيبة أمله، وبأن رفيعة لم تستفد من المشروع كما يجب، ويقول: «أم قمر يعني الفائدة الأساسية المرجوة إلها التمكين، المشروع ما مشي، ما تمكنت».

بالمحصلة، عُقد التدريب، ولكن المعدات اللازمة التي كانت جزءًا من المنحة ذاتها لم تُستخدم، فهي موجودة في مخازن تستأجرها الجمعية الأردنية لأصدقاء البيئة إلى حين إيجاد موظفين قادرين على التسويق والبيع والتحصيل. 

من جهته، يقول الدباس إنه لم «يتحمَّس» لإعادة إرسال النساء للتدرب على الأنظمة ذات القدرة الأعلى على الرغم من إبداء الكلية استعدادها المبدئي لتقديم هذا التدريب، فإذا كان المشروع قد فشل في تسويق الأنظمة الأبسط قدرةً، «فما بالك إذا فتنا على الأجهزة الأكبر من هيك؟».

توقع الدباس أن يكون هناك حاجة لوسائل لنقل هذه الأنظمة، الأثقل والأكبر حجمًا، الأمر الذي يحتاج إلى موارد إضافية لم تكُن متوفرة، كما يجب أن تكون هذه الأنظمة قادرة على منافسة الأجهزة المماثلة لها في السوق الأردني، فلم يتم الوصول إلى «نتائج ملموسة» مع الكلية بخصوص تنفيذ تدريب جديد للنساء.  

وبينما كان المشروع يتعثَّر للأسباب المختلفة المذكورة سابقًا، لم تجلس رفيعة مكتوفة الأيدي، فقد كانت دائمًا بحاجة إلى مصدر دخل، خصوصًا وأنها المعيل الوحيد لبناتها، ورُزقت بابنتها الصغرى بعد عودتها من الهند. جرّبت المشاريع الصغيرة، فعملت في بيع الملابس، التي كانت تشتريها من المفرق وتبيعها لأهالي منطقتها، وتقول إن الملابس تحديدًا كانت «توفّي»، خصوصًا وأن الناس يفضلون توفير «الديزل» الضروري لمشوار المفرق والشراء منها، إلا أنها اضطرت في بعض الأحيان لإعادة رأس المال الذي استدانته من سيدة أخرى، ما لا يترك معها ما يكفي لشراء المزيد.

أما ما لم يكُن مجديًا، فهو مشروع بيع المعجنات الذي جرّبته هو الآخر، وكانت تبيع أحيانًا بأربعة أو ثلاثة دنانير في اليوم الواحد، لكن المشروع لم ينجح. وتضيف أنها لا تزال مدينة بكلفة بعض المواد التي احتاجتها لصناعة المعجنات حتى هذا اليوم، ولكنّها تعلق مازحةً بأن صاحب الدكان من أقاربها ولن يشتكي عليها، بل قال إنه سيصبر إلى أن تزوّج إحدى بناتها فتدفع المبلغ من مهرها. 

خاضت رفيعة كل تلك التجارب في السنوات الثلاثة الأخيرة، وعادت أيضًا إلى الدراسة من المنزل، فوصلت إلى الصف التاسع الابتدائي. دافعها الأساسي كان أنها توّد لو تتقدم في حياتها، «قلت بلكي ألقى وظيفة». ولكنها تُدرك صعوبة أن تجد وظيفة وهي تبلغ اليوم من العمر 41 عامًا، بيد أن ليس لديها ما تخسره من مواصلة تعليمها، الذي قد يُكسبها على الأقل، على حد تعبيرها، لغة أجنبية تعينها على التواصل مع زوار أجانب يأتون لزيارتها بين الحين والآخر.

«ما بوقف عند إشي»

يعترف برقان بخيبة أمله هو الآخر، وبأن رفيعة لم تستفد من المشروع كما يجب، ويقول «أم قمر يعني الفائدة الأساسية المرجوة إلها التمكين، المشروع ما مشي، ما تمكنت»، فكان يُفترض أن تبيع ما بين نظامين إلى ثلاثة أنظمة بالشهر الواحد، مما سيوفر لها دخلًا يتراوح ما بين 300 إلى 400 دينار، ولكن هذا لم يحدث. 

في حوارها معنا، بدا واضحًا أن أم قُمر واجهت الكثير من المطبّات في كل مرة حاولت التقدم فيها، ولكنها لم تتوقف يومًا عن السعي في شتى المجالات. في بداية عام 2020، باعت رفيعة «قطعتين ذهب» لأختها، لكي تسجل جمعية خيرية جديدة في المنطقة ترأسها هي في الوقت الحالي، ولا تريد أن يقتصر عمل الجمعية على توزيع المساعدات، بل تحلم بأن تنشئ الجمعية المشاريع الإنتاجية لأهل المنطقة، فتقول «ودّنا نشغل أيدي (..) ودنا نقضي ع البطالة، نحاول عن طريق الجمعية نقضي ع البطالة». 

لم تتمكّن الجمعية من إنجاز الكثير بعد، إذ تزامنت ولادتها مع ظهور فيروس كورونا الذي عطّل الأعمال بطبيعة الحال، ولكن الأحلام لا تزال كبيرة، بحسب رفيعة، بخصوص مشروعها ومشاريع غيرها. كما لا تزال مسكونة بهمّ نقل صوت الناس في منطقتها، وتنوي خوض تجربة الانتخابات النيابية، وإن لم يُحالفها الحظ، فستترشح للانتخابات البلدية مرة أخرى، فهي كما تصف نفسها «من النوع اللي ما يوقف عند شي». 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية