الأرشيف في غزّة: حرب على ما تبقّى

الأربعاء 06 آذار 2024
آثار دمار المسجد العمري وفيه مكتبة الظاهر بيبرس التي تحتوي جزءًا من الأرشيف الفلسطيني، عقب استهدافه من الاحتلال. تصوير علي جاد الله. أ ف ب.

من أجل «إضفاء منظر جميل»، شيّد الصندوق القومي اليهودي عقب النكبة في مناطق كثيرة من فلسطين المحتلّة حدائق عامّة، وغرس حولها الكثير من أشجار السرو والصنوبر، اتخذت بعد سنوات شكل أحراجٍ صغيرة حول الحدائق عُرفت بـ«الرئات الخضر لإسرائيل».

اختيرت أماكن زراعة هذه الأشجار بعناية بالغة من أجل أن تكون: أوروبيّة المظهر، وخضراء، والأهم يهوديّةً، إذ زرعت فوق بقايا القرى الفلسطينية المهجرّة في النكبة وبقايا كروم الزيتون المجاورة لها مثل قرى: طيرة حيفا، الخالصة، المجدل.[1]

ورغم أن هذه الأشجار الجديدة لم تتواءم مع مناخ فلسطين، إلّا أن الصندوق القومي اليهودي ومعه الجيش والحكومة أصروا على زراعتها من أجل القول إن الأرض كانت خاليةً من السكّان أو غير مستغلّة زراعيًا.

بهذه الطريقة تكرّس سلب الأرض، وأعيد استخدامها بشكل جديد، وكذلك جرى التعامل مع التاريخ؛ إذ نهبت أرشيفات الدولة العثمانية، والانتداب البريطاني، والقنصليات الأجنبيّة،[2] والدوائر والمؤسسات والهيئات الفلسطينية[3] والبلديات[4] مثل: دفاتر الطابو، وسجلات الأملاك، والمحاكم الشرعية،[5] ودفاتر النفوس،[6] ما قدر حجمه بأربعة آلاف متر طولي ونقلت إلى أرشيف الدولة الذي أسّس أواخر سنة 1949.

أعيد استخدام هذه الأرشيفات بشكل جديد، من خلال إتاحتها بسخاء للباحثين والأكاديميين الصهاينة لإنتاج تاريخ جديد يستند إلى أجزاء منتقاةٍ منها قدّمت ما يظهر أنه الدليل العلمي على أحقية الصهيونية في أرض فلسطين لأنها: جلبت التحديث إلى فلسطين البدائية، وجعلت الصحراء جنّة، وأقامت دولة ديمقراطية هي الوحيدة في الشرق الأوسط لملايين اليهود والعرب، لكن العرب رفضوا بغباء هذا التحديث.[7]
ظلّ جزءٌ من هذه الأرشيفات ممنوعًا على الباحثين المشكوك في ولائهم للصهيونيّة، وجزءٌ متاح بسخاء للباحثين المرتبطين بالمشروع الصهيونيّ، وجزء ثالث ظلّ ممنوعًا على الفئتين.

 

View this post on Instagram

 

A post shared by 7iber | حبر (@7iber)

خلال اجتياحه جنوب لبنان ثم العاصمة اللبنانية بيروت العام 1982، نهب جيش الاحتلال الإسرائيلي بشكل ممنهج أرشيفات مقرّات مؤسسات منظمة التحرير، خاصة الأرشيف الأكبر الموجود في بناية من عدة طوابق في منطقة الحمرا ويتبع مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير.

كان المركز تأسس بدايات العام 1965 بعد وقت قصير من تأسيس منظمة التحرير وانتقل مع قياداتها إلى بيروت العام 1970 ليواصل عمله هناك كجهةٍ تنتج الدراسات والمنشورات، ويحتفظ بسجلات المنظمة نفسها منذ بداياتها، ولديه وثائق قديمة تختص بالحركة الصهيونية.

لفتت قصّة هذا الأرشيف الباحثين والمهتمين بسبب المصير المجهول لمحتوياته؛ إذ حرر في صفقة تبادل الأسرى العام 1983، وشحنت محتويات الأرشيف المحرر مع عدم القدرة على التأكد فيما إذا كانت هي كل الأرشيفات المنهوبة ليتنقّل في معسكرات جيش التحرير الفلسطيني في الصحراء الجزائرية، مثل معسكر الخروبة وتبسة ثم قاعدة البيَّض حيث استقرّ هناك عرضةً للتلف بسبب قوارض ورطوبة الصحراء الجزائرية لعدة سنوات.[8]

بالإضافة لهذا الأرشيف، دمّرت أو نُهبت الكثير من أرشيفات مؤسسات وهيئات فلسطينية في جنوب لبنان أثناء الاجتياح، منها أرشيفات مركز التوثيق، والإذاعة، ووكالة الأنباء الفلسطينية، ومؤسسة السينما الفلسطينية، ومركز التخطيط الفلسطيني وأرشيفات نهبت من مقرات منظمة التحرير والفصائل في جنوب لبنان.

وقد توصلت الباحثة هنا سليمان إلى أن هذه الأرشيفات استخدمت لأغراض أمنية أو من أجل تبرير شن الحرب على لبنان وظهر ذلك بعد أقل من عام على الاجتياح حين استخدم المؤرخ «الإسرائيلي» رفائيل يسرائيلي هذه الأرشيفات لإعداد وتحرير كتاب بعنوان «منظمة التحرير في لبنان» لتركيب صورة دعائيّة حول طبيعة عمل منظمة التحرير كمنظمة إرهابيّة لها صلات مع شبكة من الخارجين على النظام الدولي في البلاد العربية والإسلامية والكتلة الشرقية وأمريكا اللاتينية، وأن الجيش الإسرائيلي جاء من أجل تحرير جنوب لبنان من إرهابها.

ومن أبرز المراكز التي نهب أرشيفها أو دمر أرشيف مركز التخطيط. الذي تأسس بقرار من المجلس الوطني الفلسطيني العام 1967 ليتبع منظمة التحرير الفلسطينية، كهيئة تختصّ بتقديم الدراسات والبحوث والمعلومات بالقضية الفلسطينية، وعلى مدى سنوات شيّدت فيه مكتبة وأرشيف كبيرين لكنها دمرت أو نهبت في بيروت.

يمكن قراءة إبادة الأرشيف كجزءٍ مكملٍ للإبادة المكانيّة؛ دمّر جيش الاحتلال أكثر من نصف مباني غزّة وبنيتها التحتيّة. ثم دمّر الأرشيفات الإدارية التي تنظّم علاقات الناس بين بعضها، أو بينها وبين الحيّز المكانيّ الذي يعيشون فيه.

أعيد بناء الأرشيف والمكتبة في تونس العام 1985 في فترة وجود قيادات منظمة التحرير هناك، ثم انتقل بعد توقيع اتفاق أوسلو العام 1994 إلى غزّة ليواصل عمله من هناك ويراكم طوال هذه السنوات قرابة 100 ألف من وثائق الأرشيفات والمخطوطات النادرة لكنها دمّرت مرة أخرى في قصف طائرات جيش الاحتلال الإسرائيلي في الحرب الأخيرة على غزّة، مع أرشيفات 126 مركزًا حكوميًا، أبرزها الأرشيف المركزي في بلدية غزّة، وأرشيفات ومخطوطات كتب قديمة عمرها مئات السنين كانت موجودة في مكتبات 208 مسجد، وكنيستين.[9]

تقدّر الأرشيفات المدمّرة في هذه الحرب بمئات الآلاف من الوثائق، وهي أكبر عملية إبادة أرشيفات في غزّة بشقيها؛ الإداريّة الموجودة في الدوائر الحكوميّة التي تكون وظيفتها ضبط تعاملات الناس بين بعضها أو بين الناس والمؤسسات في قطاع غزّة مثل رخص المهن، وعقود الإيجارات، ووثائق ملكيّة العقارات والأراضي والمنشآت التجاريّة. والأرشيفات ذات الأهمية التاريخية التي تشكّل مصدرًا لدراسة تاريخ قطاع غزّة الاجتماعي والاقتصادي مثل قرارات المجالس البلدية القديمة، وإحصاءات السكّان، وقوائم تحصيلات الضرائب والملكيات القديمة، ومخطوطات ورسائل وكتب قديمة مثل تلك الموجودة في مكتبات مسجدي العمري والعبّاس، ومركز المخطوطات.

يمكن قراءة إبادة الأرشيف الإداري كجزءٍ مكملٍ للإبادة المكانيّة؛ دمّر جيش الاحتلال أكثر من نصف مباني غزّة، بما فيها أغلب المدارس والمستشفيات والبلديات، والبنية التحتيّة من شوارع وأرصفة وحدائق عامّة. ثم دمّر الأرشيفات الإدارية التي تنظّم علاقات الناس بين بعضها، أو بينها وبين الحيّز المكانيّ الذي يعيشون فيه.

يرى المهندس عاصم النبيه، مدير العلاقات العامة في بلدية غزّة، في تدمير واحد من أهم هذه الأرشيفات الموجود في مبنى بلدية غزّة المركزي، بوصفه تدميرًا يستهدف المدينة.

كذلك الأمر، يمكن قراءة إبادة الأرشيف القديم بوصفه محاولةً لاستكمال محو تاريخ هذا المكان وماضي الناس الذين يعيشون فيه؛ باعتبار هذا الأرشيف أحد المصادر الأوليّة في دراسة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، وبإبادته تتشكّل فجوات في كتابة التاريخ مستقبلًا في حال تناول فترة تاريخية محددة من تاريخ المكان، وهو بالمحصلة يعرقل كتابة هذا النوع من التاريخ «كلّ وثيقة نفقدها تفقد معها معلومة مهمة ونفقد تاريخًا مهمًا» كما يقول المؤرخ حسام أبو النصر ممثل فلسطين في اتحاد المؤرخين العرب.

صحيح أن إبادة شاملة لم تحدث في غزّة على غرار ما تركته القنبلة النووية التي أسقطت على هيروشيما صيف العام 1945 أو على غرار ما تمنّاه وزير التراث في حكومة الاحتلال، غير أنّ مجموعة الإبادات الجزئيّة هذه، أدت مهمة القنبلة النووية. إذ أبيد الإنسان بقتل وجرح عشرات الآلاف، وأبيد المكان بتدمير العمران وما يسيّر علاقة الناس به، وأبيد التاريخ بإتلاف الأرشيفات القديمة.
قصد من مجموعة الإبادات الجزئيّة هذه إبادة كليّة لما تبقّى من وجودٍ ناجٍ من النكبة والنكسة، أو تشكّل في الشتات أو تحت السنوات الطويلة تحت الاحتلال، وإن إبادته تفهم ضمن سياق أوسع تستهدف وضع حلّ نهائيّ لما تبقّى.

إن تدمير الأرشيفات عملٌ ممنهج وليس انتقاميًا، إنما له هدف يقصد منه حلّ معضلة أمام الرواية المضادة؛ وهي وجود حاضر وتاريخ ما زال قائمًا رغم التاريخ الطويل من الإقصاءات. فالأمم تاريخيًا، كما يشير إدوارد سعيد، عملت على سرد الروايات عن نفسها، أو إعاقة سرد روايات أخرى بديلة و منعها من التشكل والظهور، وهذا المنع عامل مهم جداً بالنسبة للثقافة والإمبريالية، بل تشكل أحد الارتباطات بينهما.

يحاول موظفون في بلدية غزّة جاهدين حصر الأضرار، يَطمئنُ النبيه للأرشيف الإداري الموجود في البلدية لوجود نسخة إلكترونيّة لأغلب وثائقه. لكن المصير المجهول يواجه أرشيفات إدارية أخرى موجودة في كثير من المؤسسات، سواءً الورقي منها أو الإلكترونيّ، بحسب المكتبة الوطنية الفلسطينية، ولا معلومات نهائيّة حول مصير هذا الأرشيف بسبب استمرار الحرب وصعوبة حصر الأضرار.

إن تدمير الأرشيفات عملٌ ممنهج وليس انتقاميًا، إنما له هدف يقصد منه حلّ معضلة أمام الرواية المضادة؛ وهي وجود حاضر وتاريخ ما زال قائمًا رغم التاريخ الطويل من الإقصاءات.

أما أرشيف البلدية القديم، فبعد الحرب ستبدأ محاولات البحث عن نسخ ورقيّة منه يمكن أن تكون موجودة في بيروت أو اسطنبول خاصةً تلك الوثائق التي تعود إلى فترة حكم الدولة العثمانية، أو في القاهرة فترة حكم مصر للقطاع، لكن كل ذلك مرتبط بانتهاء الحرب «نحن بحاجة إلى طواقم متخصصة في دراسة الأضرار، ومحاولة معالجتها إن أمكن، وهذا يتطلب مساعدة الجميع في التعاون مع بلدية غزّة». يقول النبيه.

كان أبو النصر شاهدًا على استهدافات الأرشيفات القديمة في غزة، ويتذكّر لحظات حرب العام 2014 حين خرج تحت القصف لمعاينة الأضرار التي لحقت بها مثل موجودات دائرة المخطوطات والآثار المحاذية لمسجد العبّاس.
في تلك الحرب، نُقلت الأرشيفات والمخطوطات المتضررة إلى مكتبة الظاهر بيبرس في المسجد العمري لتكون في مكان أكثر أمنًا، منها رسالة بعث بها شخص إنجليزي يقول فيها إنه أعاد نسخة مصحف مكتوب بخط اليد إلى غزة كان والده الجنرال في الجيش البريطاني قد سرقها في فترة الانتداب البريطاني.

لكن القصف طال كل شيء في هذه الحرب، ولا يعرف أحد مصير محتويات هذه المكتبة أو إن نجا شيء منها.
أخيرًا، بعد أكثر من سبعين عامًا على مشروع الصندوق القومي اليهودي في زراعة أشجار الصنوبر والسرو فوق بقايا كروم الزيتون التي زرعها سكّان القرى الأصليين، ظهرت أمراض في جذوع هذه الأشجار لم تفلح معها المعالجات المتكررة، من بين هذه الأمراض الغريبة تصدع جذوع الشجر إلى نصفين وبين التصدعات كانت تنمو، من جديد، شجيرات زيتون صغيرة.[10]

  • الهوامش

    [1] إيلان بابيه، التطهير العرقي في فلسطين، ترجمة أحمد خليفة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، ط1، 2007، ص 255

    [2] مثل: أرشيف القنصلية الألمانية والبريطانية في القدس، والنمساوية في فلسطين، وأوراق المندوبين الساميين التي تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر.

    [3] مثل أرشيف الدائرة القضائية، أرشيف اللجنة العربية العليا، أرشيف جيش الإنقاذ 1946-1948، ونوادي الشباب، والفتى العربي و النجادة والفتوة، والغرفة التجارية العربية بالقدس، ومقاولي البناء.

    [4] أرشيف البلديات مثل أرشيف بلدية حيفا والقدس.

    [5] مثل سجل محكمة الناصرة الشرعية، ومحكمة طبريا

    [6] محمود يزبك، الملف الفلسطيني في الأرشيفات الصهيونية، حوليات القدس، العدد(12) شتاء 2011، ص 86-90.

    [7] إيلان بابيه، فكرة إسرائيل: تاريخ السُلطة والمعرفة، ترجمة محمّد زيدان، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، ط 1،2015، ص 40

    [8] سميح شبيب، مقال «المصير المأساوي لمركز الأبحاث الفلسطيني»، ضمن كتاب «أنيس صايغ والمؤسسة الفلسطينية»، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 2010، ص 49.

    [9] إحصائيّة أوليّة لدائرة المكتبة الوطنية الفلسطينية حتى تاريخ 12 شباط 2024.

    [10] إيلان بابه، التطهير العرقي في فلسطين، ترجمة أحمد خليفة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، ط1، 2007، ص 255

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية