الحياة في رفح: أن تموت من الجوع والبرد والقلق

الخميس 29 شباط 2024
من مخيم نازحين في مدينة رفح، تصوير محمد عبد، أ ف ب

ليس لدى النازحين في رفح أي وقت للحزن. هُجر نصف قطاع غزة قسرًا إليها هربًا من الموت. فقد معظمهم منازلهم وأحياءهم ووظائفهم. ترك كلّ منهم وراءه جثة أحد يعرفه جيدًا. لم يجدوا متسعًا لإدراك ما حلّ بهم بعد. فالحياة في بقعة جغرافية صغيرة معزولة، تضم أعدادًا هائلة من البشر، تعني أن ينخرط النازحون في دوامة من التفكير بعدد الطوابير التي ينبغي عليهم الوقوف فيها خلال اليوم الواحد، لتلبية احتياجات أساسية للحصول على الطعام والمياه والحمام والعلاج. عليهم أن يفكروا بالطريقة التي سيبقون فيها أحياء ليومٍ آخر. أصوات القصف فوق رؤوسهم تتصاعد يومًا بعد يوم، وتتملكهم حالة الترقّب أمام احتمال مواجهة اجتياح بريّ يحّذر منه العالم. 

رفح، المدينة التي استوعبت نحو 260 ألف نسمة في 2021، تستضيف اليوم أكثر من خمسة أضعاف هذا العدد، حيث وصل عدد النازحين فيها من كل أنحاء قطاع غزة إلى 1.3 مليون شخص، يقيمون في المدارس والمرافق العامة والخيام والبيوت الزراعية، ضمن مساحة صغيرة  نسبة لهذه الأعداد الهائلة. الشوارع مكتظة بالناس، والنازحون افترشوا الأراضي الرملية والزراعية بكثافة شديدة غرب ووسط المدينة، وجزء كبير منهم اتخذ منطقة الحدود المصرية مأوى له، حتى أن بعض أبناء رفح أنفسهم نزحوا عدّة مرّات داخل المدينة الحدودية بعد عمليات قصفٍ طالت مواقع مجاورة لهم منذ بداية الحرب.  

مع كل الظروف التي يعيشها المقيمون في رفح، تتوعد «إسرائيل» باجتياح بري، الأمر الذي دفع الأمم المتحدة وعددًا من الدول للتحذير من حمام دم في حال تنفيذ عملية عسكرية. لم تكن رفح قط منطقة آمنة كما تدعي «إسرائيل». فمنذ اليوم الأول من الحرب على غزة، لم تُستثنَ رفح من الغارات الإسرائيلية. ولا يزال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو يتوعد باجتياح رفح حتى في حال التوصل إلى اتفاق هدنة مع حركة «حماس»، معولًا على هذه العملية لتحقيق انتصاره الموعود خلال أسابيع، وذلك في سياق محادثات باريس لبحث التوصل إلى صفقة لتبادل الأسرى وتهدئةٍ في القطاع بمشاركة مصر وقطر والولايات المتحدة ووفد إسرائيلي.

بعد تكرار مثل هذه التصريحات، قررت كثير من العائلات النزوح إلى خارج رفح عودةً إلى خانيونس أو المنطقة الوسطى، وأغلبهم نزحوا عدة مرّات خلال الحرب. كذلك هو حال عائلة أم منصور، التي كانت هي وعائلتها يفكّون خيمتهم المصنوعة من النايلون والخشب، على عجالة قبل بضعة أيام. منذ بداية العدوان على غزة اضطرت عائلتها المكونة من 15 فردًا، هي وزوجها وأبناؤها وأحفادها، لمغادرة شمال القطاع، في عدّة رحلات نزوح قسري بحثًا عن مكان آمن، حتى وصلوا مؤخرًا إلى رفح واستقروا في خيام في منطقة خربة العدس جنوب شرقي المدينة. في 12 شباط، وبسبب القصف الكثيف على رفح على مدار ساعتين تقريبًا، إثر العملية التي قالت القوات الخاصة الإسرائيلية إنها نفذتها لتحرير رهينتين، سقط حوالي 100 شهيد، بعضهم وقعوا ضحايا أمام أم منصور وعائلتها في الخربة. لذلك قرروا الرحيل إلى مكان آخر. عندما غادروا خربة العدس كان قرارهم التوجه إلى منطقة دير البلح، إلا أن السائق اقترح عليهم البقاء في غرب المدينة، قرب إحدى الاستراحات على طريق البحر، وما إن هبط عليهم الليل حتى دمرت العاصفة خيمتهم، فلجأوا إلى خيمة جارهم. صباحًا، قرروا فك ما تبقى من خيمتهم من أجل التوجه إلى دير البلح.  

«لا يريد الناس سوى أن يعرفوا مصيرهم. هل سيبقون أحياء؟ هل سيتم تهجيرهم مرة أخرى؟ معظم النازحين شُلت قدرتهم على التفكير بمخرج من رفح، فالوضع في المناطق الأخرى ليس أكثر أمانًا، ومراكز الإيواء خارج رفح ليست افضل حالًا أيضًا».

يعد من وجد منزلًا للنزوح إليه في رفح أكثر حظًا من غيره، فالسكن في مأوى من النايلون لا يمكن مقارنته بجدران منزل. هذا ما تشعر به سهاد (26 عامًا)، إذ تقول إنها محظوظة أن أول وجهة نزوح لعائلتها كانت منزل جدتها في رفح، لذلك لم يُهجّروا كثيرًا كمعظم النازحين في القطاع، إلا أنهم مع ذلك يعانون كما هو حال البقية. عندما وصلوا إلى رفح منذ بداية العدوان، بقيت هي وعائلتها في نفس المكان لأسبوعين. بعد ذلك بدأ النازحون بالتوافد أكثر، ونزح أفرادٌ آخرون من أقاربهم ومعارفهم مع عائلاتهم لمنزل الجدّة الصغير. اضطرت عائلتها للانفصال، فغادرت هي وأخواتها إلى منزل خالتها، حيث تفتقد والديها طيلة الوقت رغم أنهم في نفس المدينة. لا تستطيع سهاد التفكير بمعزل عن أهلها، لذلك تقطع مسافة طويلة إليهم مشيًا على الأقدام كلما استطاعت، لتطمئن عليهم ولتسمع منهم ما الذي يفكرون به للأيام المقبلة.

لا يوجد إرسال في رفح، ولا يوجد إنترنت في منزل جدة سهاد، وهو الحال في معظم مناطق القطاع. يشتري النازحون ممّن لا يمتلكون هواتف تدعم الشرائح الإلكترونية ورقةَ «إنترنت شوارع»، أي نقطة توزيع إنترنت من أفراد آخرين لديهم خطوط إنترنت، بما يعادل ربع دينار كافية لـ 12 ساعة، ضعيفة السرعة وتتطلب قربًا من الشارع لفرصة وصول أكبر. لذلك، يصعب على سهاد التواصل مع والديها كلما أرادت. يوم العملية الخاصة التي أجرتها «إسرائيل»، عاش أهل رفح حالة صعبة من القلق وعدم اليقين. «لما تسمع صوت القصف ويكون قريب منك وتكون بدك تعرف وينه بس ما فيش وسيلة (..) هذا إشي بوترك وبضغطك نفسيًا»، تقول سهاد، التي بقيت تحاول الاتصال بعائلتها ليلتها بلا فائدة، وبقي الجميع مستيقظين خائفين. ظن الناس أن الاجتياح آت لا محالة. في الصباح جاء والدهم ووالدتهم مسرعين وأخبروا البنات أن يجمعوا حاجياتهم لينضموا إليهم مرّة أخرى في منزل الجدّة «لإنه لازم نكون مع بعض». خشيت سهاد أن تكون تلك الليلة الأخيرة دون أن يروا بعضهم. 

يومًا بعد يوم، تلاحظ سهاد اكتظاظًا أكبر في رفح كلما نزلت للشارع. الناس قرب بعضهم في كل مكان، حتى أن فرص الاصطدام بأحدهم وشيكة دومًا. تنتشر الخيام المكتظة على امتداد البصر، ورغم أنها غير مؤهلة للعيش في ظروف البرد، إلا أن الخيمة الواحدة، القادمة في الأصل عبر المساعدات، لا يحصل الناس عليها مجانًا كما ينبغي، بل تكلف حوالي 500 دولار. يقول زكريا الذي نزح مع 17 فردًا من عائلته من الشمال تسع مرات حتى وصلوا قبل شهرين إلى رفح، إن الخيم لا تحمي من السيول والأمطار، و«لما ييجي مطر كل الخيمة بتغرق». وبسبب انعدام الصرف الصحي وقلّة الحمامات، يضطر النازحون لصناعة حمام في الخيم على الرمل، «الله يعزك المجاري تحت الخيم بتبقى». أما الاستحمام، فشحيح بسبب انعدام الأماكن المناسبة له وصعوبة الوصول إلى المياه.

رفح، مياه شرب، غزة

يعاني النازحون في رفح، كما في باقي مناطق القطاع، من شح شديد في المياه الصالحة للشرب.

يشتري النازحون المياه للاستخدام والغسيل، وبأسعار أكبر مياه الشرب، التي كيّفوا أنفسهم على الاكتفاء بقلّتها رغم العطش. يشير محمد،* وهو رب أسرة من ستة أفراد، إلى سيارة تقف أمام موقع نزوحهم، يباع فيها كل 16 لترًا من المياه الصالحة للشرب بـ200 شيكل (40 دينارًا). وتمدّ كل عائلة أنبوبًا لاستخدام مياه البحر بـ50-90 شيكل (حوالي 10-18 دينارًا). يقول إن ملابسهم بعد أن تجف من الغسيل بالمياه المالحة تصبح معبأة بالملح. أما سهاد، فيعبئ أهلها مياه الاستخدام بالخزانات بمبلغ يصل إلى 300 شيكل (58 دينار تقريبًا) ليتمكنوا من استخدام الحنفيات.

يعاني النازحون الذين فقدوا أي مصدر للدخل منذ خمسة أشهر من غلاء فاحش، فبعد أن كانوا يشترون ثلاث بيضات بشيكل واحد، أصبح سعرها 12 شيكلًا، وتضاعف سعر الخضار، وافتقد الناس الفاكهة واللحوم بأنواعها. ولأن الغاز منقطع، أصبحوا يشترون الحطب للطبخ وتسخين المياه. ولو وُجد الطحين من المساعدات، تصبح مسألة إشعال النار بالحطب معضلة أكبر بكثير. لا يوجد في رفح سوى مخبز واحد، يصطف الناس أمامه ساعات طويلة للحصول على بضعة أرغفة، لذلك تفضّل النساء الخبز في أفران طينية. ظهرت بعد الحرب بعض المبادرات الشبابية والمؤسساتية التي تخبز للناس بأفران الطين. بعض النساء يعملن في أحد المشاريع من السادسة صباحًا حتى الرابعة عصرًا مقابل 15 رغيفًا للسيدة، ثم يعدن إلى الخيم منهكات من العمل، من أجل توفير الخبز لأطفالهن. فيما وصل سعر حفاظات الأطفال إلى ما يعادل 40 دينارًا، بعد أن كان يومًا ما بثلاثة دنانير، لذا تحاول الأمهات التقليل من غيارات أطفالهن قدر الحاجة. 

وكبقية القطاع، تعاني المدينة على المستوى الصحي، فلا يوجد بها إلا عدد قليل من المستشفيات أبرزها مستشفى رفح المركزي، ومستشفى الكويت التخصصي، ومستشفى الشهيد أبو يوسف النجار الحكومي، ومستشفى الهلال الإماراتي المعروف بمستشفى تل السلطان للولادة، وهي مستشفيات صغيرة نسبيًا وتعمل فوق طاقتها. وإضافة إليها، تم تدشين المستشفى الإماراتي الميداني أثناء الحرب. وجميع هذه المستشفيات ليست مؤهلة لاستقبال الأعداد الكبيرة من النازحين، تحديدًا مع تفشي الأمراض بينهم، ونقص الإمدادات الطبية، وغياب الكهرباء ومصادر الطاقة. ومع توجه المرضى والجرحى من المدن الأخرى لمستشفيات رفح كملاذٍ أخير، خاصة بعد توقف مستشفيات أساسية عن العمل في مناطقهم، باتت مستشفيات رفح تعاني من نسبة إشغال تصل إلى 279%. وبحسب وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، تعاني مستشفيات رفح نقصًا شديدًا في الأدوية والمستلزمات الطبية وخاصة أدوية التخدير وخيوط العمليات الجراحية. كما تعاني المختبرات نقصًا حادًا في وحدات الدم ومشتقاته وفحوصات الفصيلة الدموية وفحص التوافق، وغيرها من المستلزمات الأساسية. 

كما يقنن النازحون طعامهم وشرابهم، باتوا أيضًا يقننون ذهابهم إلى المشافي. في منطقة النزوح التي يستقر فيها محمد، تعيش طفلة عمرها 15 عامًا، استشهد إخوتها الأربعة أمامها. بسبب الصدمة، بات جسدها يتشنج وتفقد وعيها عندما تسمع أصوات الطيران والقصف. لا يتمكن النازحون كل مرّة من الذهاب بها إلى المستشفيات بسبب عدم توافر المواصلات. 

ولا يستطيع أصحاب الأمراض المزمنة الحصول على الأدوية التي اعتادوا عليها في السابق لعدم توافرها، وإن توافرت تكون أسعارها عشرات أضعاف سعرها الطبيعي. 

بعض الناس قرروا الفرار من رفح، فالاجتياح حاصل لا محالة بنظرهم، والبعض لا يملك خيارًا حتى اللحظة، حيث نفدت أموالهم وأعدموا أي فكرة نزوح قبل ولادتها، بعدما استنزف غلاء الأسعار قدرتهم على الحصول حتى على أساسيات العيش. يعزي هؤلاء أنفسهم بأمل عدم حدوث اجتياح. يعتقد محمد* أن بقاءه نازحًا بجانب الحدود المصرية يعتبر ضمانةً لبقائه وعائلته آمنين، «لإنه فش إمكانية ييجي الجيش يقصفلك الحدود أو يقصف الضباط أو يقصف مواقع عسكرية مصرية ويخش في حرب إقليمية وتفتح عليه جبهة» يقول، متأملًا أن تنجح الوساطات في التوصل لوقف إطلاق النار، ليرى الناس كيف سيواجهون مصيرهم بعد الحرب. في الحقيقة، يبدو أن «إسرائيل» لا تتجنب قصف الحدود كما يُصور لمحمد، فبعد يومين من مقابلته، قصف الجيش الاسرائيلي خيم النازحين المتاخمة للحدود وسط ذعر الجموع. وهذه ليست المرة الأولى منذ بدء الحرب. 

رغم الفرضيات التي يصبّر بها محمّد نفسه، إلا أنه يشعر بأن صبره هو وعائلته قارب على النفاد في ظل انعدام مقومات الحياة، فيقول «إلك خاطر تقبع السياج المصري». لا يريد الناس سوى أن يعرفوا مصيرهم، يقول محمد. هل سيبقون أحياءً؟ هل سيتم تهجيرهم مرة أخرى؟ معظم النازحين شُلت قدرتهم على التفكير بمخرج من رفح، فالوضع في المناطق الأخرى ليس أكثر أمانًا، ومراكز الإيواء خارج رفح ليست افضل حالًا أيضًا. يقول نتنياهو لشبكة «سي بي إس» إن هناك «مساحة» للمدنيين «شمال رفح في المناطق حيث أنهينا القتال» يمكن العودة إليها. لكن البعض ترعبهم فكرة العودة إلى مناطقهم. فمعظم النازحين من الشمال لا يعرفون ما حلّ بمنازلهم أو إن تبقى لديهم مكان يأويهم أساسًا.

لكن بعضهم مستعد للعودة بأي حال. تشغل مسألة التهجير من رفح نقاشات سهاد وأهلها. «لو رجّعونا عالشمال، على غزة تحديدًا، أنا بروح بعمل خيمة ولا بضل برفح. مش لإشي، لإنه إحنا اشتقنا (…) إحنا حرفيًا مش عارفين وين بدنا نروح. وخايفين كثير من الاجتياح البري».


*اسم مستعار

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية