السكري

القاتل الصامت: السكري كأزمة صحية عامة

تصميم محمد شحادة.

القاتل الصامت: السكري كأزمة صحية عامة

الجمعة 01 نيسان 2022

أكثر من نصف مليار شخص حول العالم مصابون بالسكري، أي واحد من كل عشرة أشخاص تقريبًا. ونصفهم لا يعرفون. مشكلة السكري هي أن الشخص يمكن أن يكون مصابًا به لسنوات عديدة دون أن يدري، وقد لا يكتشف الإصابة إلا في مرحلة متقدّمة، عند ظهور إحدى مضاعفاته التي يمكن أن تصيب القلب أو العيون أو الدماغ أو الكلى أو الأقدام. لذا، كثيرًا ما يوصف بالقاتل الصامت، لأنه أحيانًا بحلول تشخيصه، يكون الأوان قد فات على تفادي مضاعفاته والسيطرة عليه.

جاءت أزمة جائحة كورونا لتعيد تذكيرنا بكم هو السكري وباء قاتل، إذ إن إحدى أكثر الفئات عرضة للخطر في حال الإصابة بكوفيد-19 هم مرضى السكري والسكري الكامن. خلال الموجة الأولى من الجائحة، كان احتمال دخول مرضى السكري إلى المستشفى عند الإصابة بكوفيد-19 أعلى بـ3.6 مرّة من غير المصابين بالسكري، ولدى دخولهم المستشفى، كانت احتمالية وفاة مرضى كوفيد المصابين بالسكري أعلى بأكثر من الضعف من غير المصابين.[1] كما يرتبط السكري ارتباطًا وثيقًا بأمراض الأوعية الدموية والقلب، ويرفع احتمالية الإصابة بالجلطات. ويومًا تلو الآخر، تثبت الدراسات ارتباط السكري بعدّة أمراض أخرى، فهو يرتبط بعلاقة ثنائية الاتجاه (أي كلٌ يمكن أي يقود للآخر) مع الاكتئاب، ومع السرطان.

السكري هو مرض مزمن يحصل عند ارتفاع مستوى الغلوكوز في الدم لفترات طويلة. يحتاج الجسم إلى الغلوكوز لإنتاج الطاقة، وهرمون الإنسولين الذي ينتجه البنكرياس هو المسؤول عن إيصال الغلوكوز من الدم إلى الكبد والعضلات والأنسجة الدهنية، وبالتالي تقليل نسبته في الدم. أحيانًا، يكون البنكرياس عاجزًا عن إنتاج الإنسولين، وهذا ما يؤدي إلى السكري من النوع الأول (Type 1 Diabetes)، الذي يشكل نحو 10% من مجموع إصابات السكري وغالبًا ما يظهر عند الأطفال. وأحيانًا، لا تكون كميّة الإنسولين التي ينتجها البنكرياس كافية، أو لا تستطيع خلايا الجسم الاستجابة له (وهو ما يعرف بمقاومة الإنسولين)، وهذا يقود إلى السكري من النوع الثاني (Type 2 Diabetes)، وهو الأكثر انتشارًا حيث يشكل 90-95% من حالات السكري. في الحالتين، يكون مستوى الغلوكوز في الدم مرتفعًا، واستمرار هذا الوضع دون علاج يؤدي إلى تلف في الأوعية الدموية، الرئيسية والطرفية، مما يؤدي إلى ضرر وتلف في أعضاء الجسم التي تغذّيها هذه الأوعية.

يعتبر السكري من النوع الأول من أمراض الجهاز المناعي، ولا يمكن التحكم بالعوامل التي يمكن أن تؤدي للإصابة به، فهي غالبًا وراثية أو بيئية ناتجة عن الإصابة بفيروسات معيّنة. لكن عوامل الخطورة التي يمكن أن تقود إلى الإصابة بالسكري من النوع الثاني أكثر تعددًا، وجزء منها يمكن -نظريًا على الأقل- التحكم به. صحيح أن العوامل الوراثية تلعب دورًا في احتمال الإصابة بالسكري من النوع الثاني، لكنّها لا تفسّر سوى 10-15% من الإصابات.[2] بينما العوامل الأبرز هي السمنة (أو ارتفاع نسبة الدهون في الجسم حتى دون أن يعاني الشخص من سمنة واضحة)، وتناول أطعمة عالية السعرات الحرارية، وقلّة الحركة، إضافة إلى التدخين، وعدم الحصول على نومٍ كافٍ أو جيد، والتوتر المستمر، وارتفاع ضغط الدم (الذي يرتبط أساسًا بالعوامل السابقة). ترتفع كذلك احتمالية الإصابة بالسكري لاحقًا لدى النساء اللواتي يصبن بسكري الحمل، ولدى الأشخاص الذين يعانون ممّا يعرف بضعف تحمّل الغلوكوز (Impaired Glucose Tolerance)، لكن يمكن لتغييرات حياتية، مثل تخفيض الوزن وتغيير نمط الغذاء وممارسة الرياضة بشكل منتظم، أن تمنع إصابتهم بالسكري من النوع الثاني.

مع ما سبق، من السهل التفكير بالسكري على أنه حالة بيولوجية فردية، ومن الشائع التفكير بالعوامل المؤدية إليه على أنها «خيارات» فردية، يمكن ببعض الإرادة والالتزام التحكم بها وتحييدها. لكن مرض السكري هو مثال ساطع على المحددات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمرض، وعلى تفاعل العوامل البيولوجية والصحية والاجتماعية بشكل لا يمكن اختزاله سريريًا. ويمكن لتغيّر خريطة انتشاره عالميًا أن يخبرنا الكثير عن هذه المحددات. ثلاثة أرباع إصابات السكري والوفيات الناتجة عنه توجد في دول فقيرة أو متوسطة الدخل، وهذه الدول ستشهد ازديادًا مطّردًا أكثر في انتشاره في السنوات القادمة، حيث ستشهد إفريقيا أعلى نسبة ارتفاع بحلول العام 2045، ستبلغ 136%، تليها منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بنسبة ارتفاع من المتوقع أن تبلغ 87%. كما أن السكري من النوع الثاني بات أكثر انتشارًا بين الفئات العمرية الأصغر، ولدى أشخاص لا يعانون من سمنة واضحة.

يؤثر الفقر وما يرتبط به من توتّر واكتئاب بشكل مباشر على احتمال الإصابة بالسكري، وعلى تأخر اكتشافه، واحتمال المعاناة من مآلاته الأسوأ بسبب صعوبة توفير الرعاية الصحية ونمط الحياة الصحي اللذين يحتاجهما. كما يتضاعف تأثير الفقر عندما يتقاطع مع عوامل أخرى مثل العرق والجنس ومكان السّكن.

تؤثر كذلك السياسات العامّة تأثيرًا كبيرًا على السّكري، إذ يلعب الكشف المبكر عن المرض الدور الأكبر في السيطرة عليه وتجنّب مآلاته الأكثر خطورة. وهنا تبرز مركزية دور الرعاية الصحية الأولية في تقديم رعاية طبية وقائية وليس فقط علاجية، وفي التثقيف والمتابعة مع المرضى الذين يتم تشخيصهم. في الأردن، الذي تبلغ فيه نسبة الإصابة بالسكري واحد من كل سبعة أشخاص بحسب الاتحاد الدولي للسكري، ليست المشكلة بعدد المراكز الصحية الأولية، وإنما بتوفّر الكوادر اللازمة من أخصائيي طب الأسرة وتوفّر الموارد اللازمة، ونوعية الرعاية المقدّمة.

تأثير السياسات العامّة يتجاوز مسألة الكشف المبكّر والتثقيف والرعاية الصحية اللاحقة، على أهميتها، إذ تؤكد الدراسات أن الأشخاص في المجتمعات الأقل دخلًا أقل تأثرًا بالحملات التوعوية حول استهلاك الغذاء وممارسة النشاط الجسدي، وأكثر حساسية لما هو متوفر ومتاح. «نحن لا نتحرّك لأننا نختار الحركة، بل نتحرّك عندما يحفزّنا السياق على الحركة»، تقول الدكتورة بنته كلارلند بيدرسن، مديرة مركز أبحاث النشاط الجسدي وأستاذة الطب التكاملي في جامعة كوبنهاغن. خلصت دراسة حول تأثير البيئة المبنية على النشاط الجسدي شملت نحو 7000 شخص في 14 مدينة في عشر دول حول العالم، إلى أن هناك أربعة عوامل تؤثر بشكل إيجابي ومطّرد على الحركة والنشاط الجسدي، هي توفر الحدائق العامّة المجانية والمتاحة للجميع والتي يمكن الوصول إليها سيرًا على الأقدام من مكان السكن، كثافة أعلى لخطوط المواصلات العامة نسبة إلى المساحة، كثافة سكّانية أعلى، وعدد أكبر من الشوارع والتقاطعات الصديقة للمشاة. لا نبالغ عندما نقول أن الحركة والنشاط الجسدي المنتظم من أنجع الطرق في تفادي الإصابة بالسكري من الدرجة الثانية وأمراض القلب، وفي تفادي مضاعفاته لدى الإصابة به. لهذا فإن ما نحتاجه هو تغيرات بنيوية تجعل نمط الحياة الصحي متاحًا أكثر، بشكل يقلل من اللامساواة في الصحة.

خلال العامين الماضيين، سيطرت جائحة فيروس كورونا على المشهد العام وأعادت قضايا الحق في الصحة إلى الواجهة وكشفت عن الفجوة الهائلة في القدرة على الوصول إلى الرعاية الصحية سواء بين دول ومناطق العالم المختلفة أو داخل الدولة الواحدة. قادنا هذا في حبر إلى إعادة التفكير بقضايا الصحة وإدراك الحاجة إلى تناولها من منظور أوسع، بشكل يساهم  في الوصول إلى فهم أفضل لجوانبها العلمية من ناحية، ويشتبك مع تقاطعاتها مع السياسة والاقتصاد والمجتمع من ناحية أخرى. من هنا، نتناول في هذا الملف الموسّع هذا الوباءً الآخر، السّكري، الذي تسبب في العام الماضي وحده بنحو 6.7 مليون وفاة حول العالم.

كيف نفهم السكري وأنواعه المختلفة؟ وكيف نتجنّب مآلاته الأشد خطورة؟ وهل يمكن العلاج منه؟ ريما هديب تجيب عن هذه الأسئلة وغيرها في مادّة علمية موسّعة تساعد القارئ غير المتخصص على الوصول إلى فهم أفضل لهذا المرض. ماذا يعني أن تكون طفلًا مصابًا بالسكري؟ دلال سلامة تنقل لنا قصص ثلاث أمّهات، يشتركن في مرض أطفالهن بالسّكري، لكن وقوعهن على درجات مختلفة من السلّم الاقتصادي أخذ تجاربهن في اتجاهات مختلفة تمامًا من حيث نوعية حياة أطفالهن وشكل الرعاية والدعم الذي يمكن أن يحصلوا عليه. وتساءل دانة جبريل غياب الكشف المبكّر على انتشار السكري في الأردن وتأثير ذلك على فرص المصابين به بالسيطرة عليه وكبح مسيره باتجاه مرحلة تعطّل الأعضاء. كما تبحث في ضعف تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للتعامل مع مرض السكري، والتي أقرّتها الحكومة منذ أكثر من عشر سنوات. علاقة المدينة وتنظيمها بإمكانيات الحركة فيها هو موضوع تقرير رحمة حسين، التي تلتقي عددًا من مرضى السكري في عمّان وإربد ومادبا والعقبة، لتسلّط الضوء على علاقة مرضهم بالحركة وممارسة الرياضة من ناحية وتأثر ذلك بطبيعة المدينة ومساحاتها المتاحة من ناحية أخرى. وأخيرًا، تذكّرنا دعاء علي في مقالتها البحثية أنه لا يمكننا احتواء مرض السكري ومكافحته دون فهمه كنتيجة لعمليات اجتماعية متعددة، فالصحة هي «الحصيلة التراكمية لما تمر به أجسادنا من تجارب تتأثر بالنظم التي نعيش فيها» ومطلب تحسينها للجميع لا يمكن أن يكون إلا مطلبًا سياسيًا.

 

  • الهوامش

    [1] أطلس السكري الصادر عن الاتحاد العالمي للسكري، النسخة العاشرة، 2021، صفحة 68.

    [2] بحسب محاضرة للدكتور ألان فاغ، الطبيب المسؤول في المستشفى الوطني الدنماركي وأستاذ تخصص الغدد الصماء في جامعة كوبنهاغن.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية